قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني

أعانقك خلسة بين سطور أوجاعي، فيرسمك الحنين فِي كُل الزَّوَايا، فعشقك يَغزُو الشرايِين، ويرنو صبابة لناظزي ولحلمي يسْتبيح، فيأتيني محملًا بِعقيق الورد، ليزرع بداخلي حلم ينبض بغرامك الذي أشعل مصباح وجداني، ليعود إليه ضوئه الشارد، فسكنة جسدي حاربها لساني حينما خفق بهمسٍ بين واقعه وحلمه بحروف اسمك:
آسر!

فتحت عينيها وهي تتفحص الفراش بخوفٍ، فأزاحت الغطاء عنها ثم هرولت تبحث عنه في الغرفة بأكملها، فاهتدت نظراتها عليه يغفو على المقعد الموضوع بالشرفة، وعلى ما بدى إليها بأنه لم يذق النوم طوال الليل، اقتربت منه تسنيم ثم جذبت أحد المقاعد لتقربها منه، تتأمله عن قربٍ ومازال عقلها لا يستوعب كونه منحها السماح بتلك السهولة، بل أنصت إليها ولجرح قلبها النازف، ومع ذلك ضمها لصدره، أمسكت بيديه وكأنها تفتقد إحساس الأمان بقربه منها، وعينيها قد ملأتها الدموع، مازالت حائرة بالإنطباع الذي كونه عنها، وما ينوي فعله، فتح آسر عينيه ليجدها تجلس مقابله، فما أن التقت الأعين بنظرة خاطفة حتى سحبت يدها ونهضت وهي تردد بارتباكٍ:.

آ، أنا كنت، آآ..
أعاد المقعد للخلف ثم نهض ليقف مقابلها، فرفع ذقنها بيديه ليجبرها على التطلع إليه، تلك النظرة نفذت لأعماقها، فاستطاع أن يلامس ما بداخلها، فمرر يديه برفقٍ على خديها ثم قال بصوته الرخيم:
صباح الجمال.
انعقد حاجبها بذهولٍ من طريقته، وخاصة حينما استطرد قائلًا:
مش عايزك تفكري في أي حاجة تانية يا تسنيم، أنا جنبك ومستحيل هسمح لمخلوق يمس شعرة منك.

وضمها لصدره وهو يربت على ظهرها بحنوٍ أزاح تلك الآلآم العالقة بوجدانها، فودت لو ظلت هكذا للأبد حينها لن يهاجمها تلك الهواجس.

بسرايا المغازية
لم تصدق فاتن ما أخبرتها به الخادمة، فهبطت للأسفل سريعًا لتتأكد بنفسها من الضيف الذي ينتظرها، فجحظت عينيها في صدمةٍ حينما رأت ابنتها هي من تنتظرها، فاستكملت الدرج لتقف مقابلها وهي تردد بدهشةٍ:
ناهد!

لم تمنحها فرصة لإستيعاب الأمر، فهرولت لأحضانها، الا يكفيها غياب أعوام عن منزلها وعائلتها، فلم تكن تتخيل تلك المعاملة الباردة من والدتها، وخاصة حينما أخرجتها من أحضانها وهي تعنفها بغضبٍ:
انتي ازاي تتدلي على مصر من غير ما تعرفينا؟
حدجتها بعينيها الفيروزية بنظرة حزينة، ليتبعها لهجتها المعاتبة:.

دي مقابلة تقابليني بيها بعد كل السنين دي يا ماما!، وبعدين يعني لو كنت قولت لحضرتك إني نازلة مصر كنتي هترضي أنتي أو أيان؟
احتدت حدقتيها بغضبٍ قاتم، اتبعه صراخها:
أني مش عارفة انتي ليه مش قادرة تفهمي اللي بنمر بيه، وجودك اهنه في الوقت ده مش في صفنا يا بتي.
ابتسمت بتهكمٍ وهي تجيبها بسخرية:
ليه!، عشان خايفة الكره والحقد اللي زرعتيه في قلب ابن اختك يبقى نتيجته انا الضحية..
واقتربت منها وهي تستطرد بحزن:.

مهو اكيد محدش منهم هيسكت بعد اللي هتعملوه في بنتهم، وهيبقى ليهم ردة فعل صح ولا أيه؟
صاحت بها بانفعالٍ:
انتي برة اي حسابات، ده تار أيان ويخصه هو.
استحقرتها بنظراتها قبل أن ترد عليها بسخطٍ:
لا يا ماما اللي بيحصد شر مبيجنيش غيرها، وانتي باللي زرعتيه جواه هتجني علينا كلنا، وبعدين مش كنتي دايما بتقولي انه ابنك مش ابن اختك، ومن حبك فيها سمتيني على اسمها، خلاص يبقى تستحملي كل اللي جاي.

زلزل صوتها اركان السرايا:
انتي بتعدلي على مين يابت فاتن، اللي بتتكلمي عنها دي كانا بتي قبل ما تبقى اختي الصغيرة، كنتي عايزاني اعمل ايه يعني وانا شايفاها قدامي غرقانة في دمها، كان لزمن أيان يفتكر اللي حصلها في كل ثانية وكل دقيقه عشان يقدر يأخد تارها من اللي اذوها.

تطلعت لها بانكسار، فكلما حاولت تغيرها فشلت في ذلك، مازالت والدتها محتفظة بتفكيرها التقليدي الباحت، حتى بعدما ارسلت ابنتها تستكمل دراستها في أكبر الدول المتقدمة.

الظلام يستحوذ عليه فجعله لا يرى شيئًا من أمامه، كل ذرة في جسده تؤلمه، وكلما يحاول تحريك يده أو حتى ساقيه عجز عن ذلك، فتأوه بألمٍ شديد من فرط ما تعرض له من ضربٍ مبرح فمازال لا يتذكر أي شيء مما حدث، أخر ما يتذكره هو انجراف تلك السيارة لتقطع عليه الطريق، فهبط منها رجال ذو أجساد عتية، فسأله واحدًا منهما هل هو عباس المهدي؟، فأكد له بأنه هو، ومنذ ذلك الحين لم يرى أمامه شيئًا من فرط اللكمات التي تلاقها وحينما فتح عينيه وجد نفسه بذلك المكان الغريب، فحاول جاهدًا أن يرفع صوته عل أحدًا ينجده، ولكن لم يستمع إليه أحدًا، وكأنه بنهاية العالم، فردد بصوتٍ شاحب حينما شعر بصوت أقدام تقترب منه:.

أني فين؟، وانتوا مين؟
لم يتحرك من يقف أمامه، بل كانت نظراته الصقرية مسلطة عليه بثباتٍ قاتل، دقائق يتفرس ملامحه، ليشير بيديه لمن يقف جواره، فأسرع تجاه أزرر الإنارة وهو يقول في طاعة:
أوامرك يا كبيرنا.

انطلق الضوء بأرجاء المخزن المتهالك، لينير العتمة التي اختبارها منذ دخوله لذلك المكان القبيح، فحاول فتح عينيه لتتصلب على مصرعيها حينما وجد من يقف أمامه، يطالعه بكل غرور وعنجهية، فبات مشتتًا لا يعلم ما الذي يحدث بالتحديد، حتى أن نطقه للكلمات خرجت مذبذبة:
آسر!
سحب نظراته القاتمة عنه، ثم استدار تجاه صالح ورجاله، ليشير إليه بخبثٍ:
إخص عليك يا صالح، بقى تعمل في الخال كده! لا لا زودت العيار.

ابتلع عباس ريقه الجاف بصعوبةٍ بالغة، وهو يراقبه بخوفٍ، وكأنه يشك في نواياه، فقطع آسر المسافة بينهما، حتى بات ينطاحه رأسًا برأس، فلف ذراعيه حول رقبته ليدفعه بعنفٍ وهو يردد بصوت ثابت انفعالاته:
شكله مكنش يعرف ان بينا نسب يا خال، حقك عليا أنا.
استحضر كلماته المهاجرة وهو يحاول الصمود أمامه:
في أيه وليه مخليهم جايبني هنه.

حك طرف أنفه بهدوءٍ عجيب، ثم استدار برأسه تجاه صالح ليؤمره بالخروج، ثم وقف في مقابلته، طالت لحظات الصمت والاخير يترقب ما سيقوله، فانحنى على اذنيه ومن ثم همس بصوته الشبيه بفحيح الأفاعي:
أنت تعرف أيه هو عقاب اللي يبص لحريم بيت الكبير؟
وضم شفتيه معًا وهو يستسكمل بمكر:
لا أكيد متعرفش، بس اللي هتعرفه الوقتي اللي يقرب لشيء يخصني عاقبه هيبقى أيه..

ورفع ساقيه ليهوى بها على جذعيه فصرخ الاخير بألمٍ حينما طقطقت عظامه، ومن ثم عاد ليكسر اليد الاخرى وهو يصيح به بغضبٍ فتاك:
أنت هنا عشان أعاقبك على كل اللي فات واللي جاي، زمان مكنش في حد يقفلك ويدافع عن تسنيم دلوقتي في اللي هيخليك تكره حياتك وتتمنى الموت..

وهوت بساقيه ليكسر قدميه، والاخر يصرخ كالنساء ويطالب بالرحمة التي لم تشفع له مثلما لم يشفع لتلك الصغيرة ذات الجدائل الصغيرة، صرخ وهو يتعهد له بالا يفعل ذلك مجددًا، ولكن لن يبرد تلك النيران المشتعلة بداخله..

اجتمع الجميع على المائدة بمنزل الكبير لتناول الغداء، بينما كانت تجلس ماسة على الأريكة تلهو بدميتها لامتناعها بتناول الطعام في ذلك الوقت، فلم يرغب يحيى بالضغط عليها لذا تركها لجواره وجلس يتناول طعامه، سقط بين يد ماسة سيارة صغيرة باللون الأحمر، أعجبتها للغاية، فأخذت تحركها يمينًا ويسارًا، استحوذت على انتباهها وتركيزها، لا تعلم لما تشعر بأنها رأتها من قبل، فلم يخب أمالها حينما عمى عينيها ضباب طفيفي ليدفعها لرؤيتها تقود سيارة كبيرة الحجم باللون الأحمر، وفجأة انقلبت بها عدة مرات وصراخها كان يصم اذنيها باسمه، ارتجفت اصابعها وانتفضت بجلستها لتسقط السيارة عنها وهي تصرخ بشكلٍ جنوني:.

يحيى! لا، لا..
وسقطت أرضًا مغشي عليها، ليهرع إليها يحيى فحملها بين ذراعيه وهو يلطم وجهها برفقٍ ويناديها بقلقٍ سيوقف قلبه حتمًا:
ماسة!
وحملها للاريكة والجميع في حالة من الفزع، وترقب لما سيقوله الطبيب الذي أتى به بدر على الفور.

كان مهمومًا، يشعر ولأول مرة بأنه بحاجة لوجود أحد أبناء عمه لجواره، عله سيهون عنه كثيرًا، يشعر بأنه مغلوب على أمره بما فعلته به روجينا، فكم تمنى أن لم تمت له بصلة عله يتخذ قرار يرضي غروره كرجلًا يسري بعروقه دمائه الشرقي، أفاق أحمد من عتابه لنفسه الذي طاله بجراحه على صوت دقات باب شقته، فنهض عن مقعده ثم اتجه ليفتح بابه ليرأها تقف أمامه، تلك الفاتنة التي أنبضت بداخله في ذلك الوقت شعاع لحبٍ لطالما كان يتهرب منه، ويظنه ليس من حقه، بات الآن على علم بأنه كان يمتلك كل الحق، نظراته الساهمة بها جعلته تقرأ ما تكتبه عينيه بين سطورها، فتملكتها ربكة أخفق لأجلها قلبها دون توقف، فلعقت شفتيها بتوترٍ وهي تقدم له ما تحمله من طبقٍ يملأه الشطائر وعصير البرتقان باليد الاخرى، لتخبره بارتباكٍ لاحظه أحمد:.

أنت مأكلتش حاجة من الصبح فعملتلك حاجة خفيفة.
ابتسم بتهكمٍ ثم قال بصوتٍ رق بحبها:
طول عمرك بتركزي في أصغر تفاصيلي يا حور.
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ، فوضعتهما بين يديه ثم كادت بالعودة لشقتها، فاوقفها حينما قال:
حور.
وضعت يدها على صدرها وهي تجاهد ضربات قلبها العنيفة، فسحبت نفسًا مطولًا قبل أن تستدير إليه، فوجدته يضع ما بيديه ويقترب ليقف مقابلها، ثم بكلماتٍ مبهمة قال:.

أوقات كتير الظروف اللي حوالينا بتبقى أقوى من أي مشاعر لطيفة ممكن تكون بين اتنين عمر ما قلوبهم اعترفت بحبهم لبعض لان ده بالنسبالهم شيء مخالق لاخلاقهم ومبادئهم اللي اتربوا عليها، بس النظرات والافعال بتبقى عكس اللي جواهم، ويمكن اللي يقدروا يكنوه لبعض هي المحبة والاحترام اللي هيفضلوا في ذكرياتهم للأبد.

ترقرقت عينيها بالدموع وقد تسنى لها فهم لغز كلماته التي لامست وجعها، فنقلت لعينيه لمعة بدمعة عزيزة شفقت على حالهما، فارتسم ابتسامة افتكت برجولته الجذابة وهو يقول:
كده يبقى فهمتيني.
هزت رأسها ومن ثم رفعت عينيها تجاهه لتجيبه بصوتٍ مزق قلبه فعليًا:
فهمتك يا أحمد.
ثم كادت بالتوجه لشقتها، ولكنها توقفت رغمًا عنها، ثم استدارت لتقف مقابله مجدداً قائلة بابتسامةٍ ترسمها بالكد:.

مش محبة واحترام بس، دعوات صافية بالسعادة اللي ممكن نلاقيها حتى لو مع ناس غيرنا..
وبألم اخترق صوتها قالت:
خليك متأكد اني هفضل ادعيلك على طول، عن أزنك.
وتركته وهرولت للداخل وتلك المرة انسحبت قوتها الزائفة، لتخر أرضًا خلف باب غرفتها باكية، ويدها تكبت شهقاتها علها لا يستمع لأنينها أحدًا، ولكن كيف لقلب عاشق الا يستمع لنصفه الأخر؟

عقلها كان مشتت بين تلك الذكريات التي تهاجمها، والأغرب بأنها لا تعود لأحدًا أخر، بل خاصة بها هي، فكيف وهي لا تتذكر ذلك، فلم يسبق لها أن قادت سيارة بنفسها، كانت ماسة في تلك الحالة مشوشة للغاية، فلم يكن الطبيب مخصص لحالتها فبرع بمجاله حينما أخبرهم بما يخص جنينها الذي أتم عهده الخامس، ولكنه لم يستطيع أن يفيدهما حينما أخبروه عن حالتها، ونصحهم بزيارة طبيبها المتخصص، فاتبعه بدر للخارج وهو يشكره بإمتنانٍ، أما يحيى فالقى بثقل جسده على الخزانة من خلفه، ليكتفي بتأمل ريم وهي تناولها الدواء، ثم جذبت الغطاء عليها ورحلت من الغرفة بعدما شيعته بنظرةٍ حزينة، دنا منها يحيى، ثم جلس لجوارها على الفراش، فوجدها تتطلع إليه بصمتٍ على غير عادتها، فبدأ هو بمناغشتها حينما قال:.

في حد بيتعب بيبقى زي القمر كده يا ماستي!
وجدها لا تعايره أي انتباهًا لما يقول، بعد تطلعت إليه نظرة ساكنة، صافية، تتبعتها سؤال جعله في حالةٍ من الصدمة:
هو أنا بعرف أسوق عربية يا يحيى!
السيطرة على صدمته كان أمرًا لا يستهان به، فاستحضر هدوئه وهو يسألها باهتمامٍ:
ليه بتساليني السؤال ده؟

كان هناك شيئًا لا يستطيع فهمه، طريقتها بطرح سؤالها والحديث معه كانت أكثر اتزانًا من حوارها الطفولي، وكأنها كبرت عدة أعوام، حتى وإن لم تهيأها للعودة لطبيعتها، ولكنها اشارة جيدة بأن ما تتذكره من طيف ماضيها يدفعها لاستعادة ذاتها، اتكأت ماسة على الوسادة لتجلس بشكلٍ مريح ثم قالت بحزنٍ:
أنا بقيت بخاف من اللي بشوفه يا يحيى، بشوف حاجات غريبة ووحشة، بشوف ماسة قدامي وشكلها غريب وبتعمل حاجات غريبة.

خاب ظنها في سماع اجابته السريعة التي ترضي فضولها على الدوام، ولكنه كان متخبطًا لا يملك ارشادات تمنحه تصرف مفروض بما يفعله معها مثلما يتلقى من طيبيها، لذا كان حائرًا للغاية، وبعد فترة من صمته، أجلى صوته المنقطع قائلًا:
يمكن يا حبيبتي ده حلم!
قوست حاجبيها وهي تجيبه بشكٍ:
بس أنت قولتلي أننا بنحلم وإحنا نايمين بس!

ابتسامة زرعت على معالمه المرتبكة، فضمها لصدره وهو يطبع سيل من القبلات على جبينها، ليهمس بحنان:
صح يا روحي، كلامك صح.
رفعت ذراعيها لتتشبث به، فبات مندهشًا من تلقائية فعلها الذي يعود لسابق ما تفعله، فابتسم بفرحةٍ وهو يشدد من ضمها وبداخله الف رجاء وتوسل بأن تكون مؤشرات عودتها، فقد طال انتظاره ولم يمل بعد، مازال يترقب عودتها في شوقٍ ولهفة.

بعدما اطمئن الجميع لاستقرار حالة ماسة صعدوا لغرفهما، كذلك صعدت تسنيم لتستريح قليلًا بغرفتها، فما أن ولجت للداخل حتى وجدت هاتفها يعاود الاتصال، فاتجهت لترى من المتصل، فابتسمت بسعادة حينما وجدتها والدتها، فرفعت الهاتف قائلة بفرحة:
ماما، عاملة أيه وحشاني أوي..
أتاها صوتها الذي لمح طيف من الحزن:
الحمد لله يا حببتي، طمنيني انتي اللي أخبارك ايه؟
استطاعت لمس القابض بصوتها فقالت بخوف:.

انا الحمد لله، مالك كده صوتك متغير في أيه؟
مفيش والله يا بتي، خالك عباس مرجعش البيت من امبارح، ومرته هتتجنن كل دقيقة تتصل بيا مفكراه اهنه.

تقوست معالمها في دهشةٍ، قلبت لشكٍ حينما وجدت آسر يدلف من باب الغرفة، سلطت نظراتها عليه وكأنها لمست وجود شيئًا ما من اختفائه الغريب، وخاصة بأنها أخبرته بالأمس، انتبه آسر لشرودها المتعلق به، فخلع قميصه ثم جلس على الاريكة يخلع حذائه وهو يحاول أن يستعلم سر شرودها هذا، أفاقت تسنيم على صوت والدتها فقالت بتوترٍ:
ها، لا معاكي يا ماما، طيب خالي يعني هيروح فين ده أول مرة يعملها.

تعمدت أن تلمح بالموضوع المتبادل بينهما وبين والدتها أمامه، حتى تستكشف بذلك ما هناك، ولكنه كان يتحرك أمامها ببرودٍ، فسحب الملابس من الخزانة، ثم ارتدائها دون أن يتطلع تجاهها، ومن ثم اتجه لمكتبه الصغير، ليجذب حاسوبه ويتابع تصفحه، فما أن أغلقت الهاتف معاها حتى اتجهت إليه، فظلت تراقبه بلحظاتٍ صمت حائرة، الى أن تجرأت باستجماع ما ستقول:
ماما بتقولي إن خالي مرجعش بيته من إمبارح، غريبة أول مرة يعملها!

بدى مسترخًا بجلسته وكأنه لم يستمع لشيئًا، حاولت خلق أي حجة لاستدراجه بالحديث، ولكن هدوئه جعلها تخوض حربًا باردة زرعت بداخلها الغيظ والارتباك من تفكيرها الخطير، لذا عادت لتردد بهلعٍ:
أنت قتلته يا آسر؟
رفع عينيه عن حاسوبه، ليتطلع لها بنظرةٍ زادت من حيرتها، إلى إن قرر قطع ربكتها تلك حينما قال ساخرًا:
ليه متجوزة سفاح!
شعرت بإنجازها العظيم حينما استدرجته للحديث، فقالت بشكٍ:
يعني أنت مالكش علاقة بإختفائه؟

تأرجح بمقعده حتى بات مقابلها، فنهض ليقف أمامها بنظرةٍ صلبة، تشمل سخطًا عظيمًا، فقال بنبرة خشنة:
لا ليا، وهيفضل كده في حضن رجالتي كام يوم يتربى وبعدها نرجعه لأمه.
صعقت تسنيم مما استمعت اليه، فكادت بالحديث، ولكنه كان أسرع منها حينما قال بصرامةٍ وحزم تعهدهما لأول مرة:
مش عايز كلام كتير في الموضوع ده يا تسنيم، انتي سألتيني وأنا جاوبتك انتهينا.

وتركها واتجه للفراش، فألقى بثقل جسده عليه، فاتبعته حتى باتت قريبة منه، وخشيت أن تخطو خطوات أخرى منه، ترقرقت الدموع بعينيها وهي تراقبه عن ذاك البعد، فشلت في تحديد ما يلزم خوضه في تلك اللحظة، هل تتحلى بالسعادة لما سيناله هذا الحقير من عقاب يستحقه، أم عليها بالخوف من أن تزداد الامور سوءًا وحينها سيكن زوجها في وجه المدفع، شهقاتها الباكية وصلت إليه، فانقلب بجسديه تجاهها، ففتح ذراعيه وهو يردد بصوته الحنون:.

تعالي يا تسنيم.
كانت بحاجة لقربه في ذلك الوقت، فلم تتردد في ذلك، فأسرعت لتتمدد جواره بين دفء ذراعيه، فشعر بانتفاض جسدها الذي تكبت من خلفه حزن ودموعًا ليس بحاجة لرؤياها حتى يعلم بأنها تبكي، مرر آسر يديه على جسدها برفقٍ، ثم همس لها بحبٍ:
متفكريش في حاجة ونامي، طول ما أنا جنبك مفيش مخلوق هيمسك بالسوء، لا هو ولا غيره.

ابتسمت رغم بكائها، فتشبثت به وهي تنصاع لنصيحته، وسرعان ما غفت هي الأخرى، تاركة من خلفها صفحة الماضي الذي يعبئ أسطره الآلآم، ومرارة وجع الذكريات.

الأيام تمضي والعمر يمضي والهموم لا يزيحها لا وقتًا يمر ولا عهد يتبعه، فهناك أوجاعًا تلازمنا حتى ولو عشنا قرنًا، أوجاعًا تعاستها كانت بيدنا، لذا يكن وجعها قاتل، فربما إن كان غيرك من تسبب لك بذاك الألم ستمضي وأنت تلقي باللوم عليه، ففكرة العيش كمظلوم تناجي أفضل ألف مرة من تعيس يلوم نفسه التي أوقعته في ذلك الفخ، هكذا كان حال روجينا التي جعلت من غرفتها حبس منفرد لها، فطوال تلك الأيام كانت حبيسة لأوجاعها، ولكن لا مفر اليوم من الهروب، فاليوم هو المحدد لسفرهما باكرًا قبل حفل الحنة، جلست أمام المرآة تنظر لإنعكاس وجهها الباهت، فأفاقت على دخول حور لغرفتها فدنت منها قائلة بدهشةٍ:.

أنتي لسه ملبستيش يا روجينا، ده أحمد واقف تحت من زمان هنتأخر كده لازم نتحرك عشان نكون هناك على الصبح ان شاء الله.
هزت رأسها وهي تحاول عقد حجابها:
خلصت أهو..

أصابعها الممسكة بطرف حجابها كانت ترتجف للغاية، فانحنت حور تجاهها لتعقده لها بحزنٍ على ما حدث لها، انطفأت كالمصباح الذي فقد حقه بالأنارة مجددًا بعدما أصبح تالف، جسدها فقد تقريبًا أكثر من نصف وزنها، فالحزن يزيد العمر عمرًا، وينهش بالجسد كالسرطان الخبيث، تحركت معها للأسفل وقلبها يخفق خوفًا وترقب، بداخلها شعورًا قوي بأن أيان من المستحيل أن يدعها وشأنها، ورغم ذلك تشعر بالشفقة تجاه أحمد الذي لم يستحق منها ذلك الفعل الشنيع الذي ارتكبته بحقه، هبطت روجينا بصحبتها حتى وصلت للسيارة، فجذب أحمد منهما الحقائب ليضعها بشنطة السيارة، ثم صعد للمقعد الأمامي، فصعدت كلًا منهن بالخلف، تحرك عائدًا للصعيد في تمام الساعة الثالثة فجرًا، فاليوم سيكون مخصص لحفل الحنة وغدًا الزفاف، رفع عينيه تجاه المرآة فرأى دمعات روجينا مازالت تنتحب بصمتٍ، يشعر بما ستلاقاه خلال تلك الرحلة، تخشى من الف شيء يخشاه هو أيضًا، وبعد ما يقرب الساعتين من القيادة انتباها دوار مفاجئ فشعرت بأنها ستتقيء بأي لحظة، مالت روجينا برأسها تجاه حور فوجدتها قد غفت على مقعدها من فرط الاجهاد، فكزت بأسنانها على شفتيها السفيلة من فرط الألم، فلم تجد. مفر منا يهاجمها، خرج صوتها الشاحب ليهمس بتعبٍ شديد:.

أحمد!
استدار برأسه للخلف فوجدها في حالةٍ لا يرثى لها، فعادت لتهمس بصوتٍ متقطع:
وقف العربية.
انصاع لها على الفور، ثم هبط ليسرع بفتح بابها، فحاولت الهبوط ولكنها كادت بالتعثر، فساندها أحمد وعاونها على الجلوس بالاستراحة القريبة من السيارة، وجلس جوارها ثم سألها باهتمامٍ:
انتي كويسة؟
مالت برأسها على حافة الأريكة الخشبية وهي تشير له بالنفي، فعاد ليتساءل مجددًا:
فين ادويتك؟
رددت بصوتٍ يكاد يكون مسموع:
بالعربية.

تركها أحمد وأسرع للسيارة، ففتح الباب الخلفي ليبحث بحقيبة يدها، فوجدها بكيس صغير، حمله وأعاد غلق الحقيبة ثم عاد إليها، ففتح محتوياته ووضعه بيدها ثم قدم له زجاجة مياة، تناولت روجينا الدواء ثم مالت برأسها مجددًا، فجلس جوارها يترقب ما سيحدث، انهمرت دمعاتها لتصاحب نبرتها المذبذبة:
مش هقدر يا أحمد، هيكشفوني.

رق لحالتها، فكانت تبعد كل البعد عن تلك الفتاة العنيدة، صعبة المنال، من يرأها مجرد فتاة منكسرة، هزمها قدرها ليجردها من كل طاقة قوة امتلكتها يومًا، فرفع يديه ليربت على يدها الممدودة ليخبرها بهدوء صوته العذب:
متخافيش، حتى لو ده حصل فأنا اللي هتحمل المسؤولية، مش عايزك تفكري في حاجة عشان متوتريش.
خذلتها تلك الدمعة البائسة، فقالت بخذلان:.

أنا مش عارفة أقولك أيه يا أحمد بجد، اللي أنا عملته معاك صعب أي حد يتقبله.
لم يرغب في سماع المزيد، أو بالمعنى الصريح يرفض تذكر الأمر، فالحرب الذي سيخوضها كل مرة يستعيد بها تنشيط ذكرياته تدمره نفسيًا، لذا نهض من جوارها وهو يشير بيديه على السوبر ماركت القريب منهما:
هجيب عصير وهرجع.

أومأت برأسها بهدوءٍ، فتركها واتجه ليشتري بعض الأغراض، أما هي فتحكمت بدوارها العنيف حينما أغلقت عينيها لفترةٍ مطولة علها تستطيع محاربة اعيائها الشديد.

أصابعه تضغط بقوةٍ على شاشة الهاتف، وهو يرأها مغلقة العينين، مازالت مكالمة الفيديو مستمرة بينه وبين أحد رجاله المسؤولين عن مراقبتها، تمنى لو كانت قريبة منه فيتمكن من صفعها لقربها من أحمد بالرغم من تحذيراته لها سابقًا، ألقى أيان هاتفه أرضًا وهو يصيح بانفعالٍ:
ماشي يا روجينا، هانت وهتشوفي عواقب اللي بتعمليه ده.
ثم نهض عن مقعده وبسمة خبيثة تزور وجهه ذو المعالم المبهمة:.

مش أنتي وبس، أنتي وكل عيلتك وأولهم أبوكي، خلاص يا فهد وقت الحساب مبقاش بعيد!

بمنزل الكبير..

ازدحم المطبخ بالنساء والأقارب، ليتعاونا على طهي عدة أصنف من الطعام الفاخر احتفالًا بابنة كبيرهم، حتى رواية فقد حرصت أن تعد كل شيئًا بيدها وعاونتها تسنيم و نادين وباقي الفتيات، وبمجرد وصول روجينا و حور، شرعت تالين و رؤى بتجهيزها، فلم يكن متبقي على الحفل سوى القليل، شعرت روجينا في تلك اللحظة بأنها تسابق الوقت الذي ستصمد به بصحبة النساء في قاعة المنزل، كانت ترى الجميع من حولها في حالة من السعادة الا هي تغمرها تعاسة لا نهاية لها، لم يعنيها وجود اسرتها من حولها فأي منهما لن يستطيع تخفيف ما تشعر به في تلك اللحظة، جذبتها تالين وهي تهمس لها بمكرٍ:.

تعالي نطلع نتفرج من فوق السطوح مع البنات.
كادت بالتعثر من خلفها من شدة ركضها، فساندتها حور في محاولة لتغطية الامر، لتعنف تالين بمرحٍ:
يا بنتي مش كده فستانها طويل وهيوقعها.
لم ينتبه أحدًا لما حدث، فكانت حور تنتبه لأصغر تفاصيلها حتى لا ينكشف أمرها، اتبعتهن للأعلى، فوقفن جميعًا جوار بعضهن البعض، فاختلسن النظرات لما يحدث بالأسفل.

جاهد لرسم ابتسامة زائفة، تخفي من خلفها خيبة أماله بشريكته الذي استقر به القدر بمخضعها، ولكنه كان يقنع ذاته بأنه يفعل شيئًا عظيمًا تجاه العائلة، انسجم أحمد مع الشباب على إيقاع المزمار البلدي، فكان آسر يمسك بأحد ذراعيه، ويديه الاخرى تلوح بعصا والده العتيقة، وكأن فهد يتعمد بكل لحظة أن تعود إليها، ليثبت لكبار عائلته بمن أحق بها من بعده، كان يبدو وسيمًا للغاية حتى رقصه الهادئ سلب عقل من تراقبه من الأعلى بابتسامةٍ رقيقة، لا تعلم لما شعرت بالضيق لوقوف الفتيات من جوارها تراقبه أعينهن مثلما تراقبه هي، بداخلها خلق شعور بالتملك، تود أن لا يراه أحدًا سواها هي، قلبها ولهان بعشقه وماضيها التعيس يرفض قربه الرحيم برغباتها، باتت كجمرة مشتعلة من النيرانٍ تكاد تضرم ما يلامسها ومع ذلك تحرص أن لا ينطفئ شعلتها..

على عكس روجينا التي تراقب أحمد بحزنٍ، فيقال أن الظروف القاسية التي تحيطك تجعلك تلمس معدن من ستجاوره، ليت ما تعرضت له كان أمرًا هين ربما كانت ستفق باكرًا وستتمكن من منحه قلبها، نعم هي الآن تعلم مغزى حديث والدها عن أحمد، فهمت لما كان ينتباها الجنون حينما تطلب بالانفصال عنه، ترقرقت الدموع من عينيها وهي ترى ذاتها متسخة بعدما اختارت من كسر غرورها وحطم كبرياء الأنثى العاشقة بداخلها، بينما أزاح عنها هذا اللطخ من سمي رجلًا بكل ما عهدته الكلمة من حروف مقدسة، تمنت لو عاد بها الزمان للخلف علها ستمنحه حبًا وإحترامًا يستحقه منها.

انتهت ساعات الحفل الأولى، وانتقل أفراد العائلة للداخل، لاقتباس لحظات خاصة تخصهما سويًا بعدما رحل المدعون على موعد لقاء الغد، فجلس فهد، و سليم، و عمر، والشباب بالأسفل يراقبن ما يحدث بسعادة، فكان آسر يمسك يد روجينا ويتحرك بها وقدميه تدب الأرض على الايقاع، ولجواره أحمد ويحيى، حتى بدر أمسك بيد زوجته وحور ورقص بصحبتهم، شقت الابتسامة الوجوه وكلًا منهما يرى حصاد ما زرع، الوحدة تظل صامدة أمام كل ظرف مرت به العائلة، بالفرح والحزن كلًا جوار الأخر، أدمعت عين روجينا حينما قبل آسر جبهتها وهو يهمس لها بفرحةٍ:.

الف مبروك يا حبيبتي، ربنا يهنيكِ يا رب.
تشبثت بأحضانه لدقائقٍ مطولة وكأنها تود أن تفرغ ما يضيق به صدرها إليه، ولكن ماذا ستخبره؟، ما حدث قد وقع بالفعل، اخباره الآن لا يصب بمصلحتها ولا بمصلحة أحدًا، أبعدها آسر عنه ثم أزاح الدمعات العالقة بأهدابها بحنانٍ، ثم قال بخشونة نبرته المتعمدة وهو يطبطب على ظهرها:
أهو ده الهبل بقى.
ثم أشار لها بيديه:.

يا عبيطة هو انتي هتسبينا وهتخلعي، انتي هتفضلي معانا في نفس البيت، يعني في وشنا لزق.
ثم لف يديه حول رقبة أحمد الذي أسرع تجاههما بشكٍ زرع بداخله فور رؤية الدموع تنساب من عينيها فخشى أن تفضحهما، ليجد ذراع آسر الأقرب اليه:
شوفتي بقى ميزة الجواز من العيلة!
رسمت بسمة باهتة تخفي من خلفها وجعًا عظيم، بينما احتضن آسر، أحمد قائلًا بجدية:
الف مبروك يا عريس.

منحه ابتسامة هادئة، وتحرك معه بعدما أمسك يد روجينا، فجذبت تسنيم التي تقف جانبًا وتصفق بيدها تشجيعًا للجميع، ارتبكت للغاية حينما أصبحت عالقة بينه وبينها، فمد لها آسر يديه بعدما أمسكت روجينا بالأخرى، قدمتها له ليجبرها على التحرك معهما، فابتسمت بتسليةٍ وهي تتبع خطاه، انسجمت نظراتهما وكأن لا أحدًا يشاركهم الرقص، فاستغل أحمد انشغال آسر، ثم أسرع بجذب روجينا حينما شعر بأنها ستسقط بين ذراعيه من فرط الدوار الذي تتعرض إليه، ليسرع بها تجاه أقرب أريكة، ثم جلس جوارها ليفصل بينها وبين الأَرَائِك التي تضم أفراد العائلة، ظل لجوارها لعدة دقائق حتى تغلبت عما يهاجمها، فسألها بلهفةٍ:.

لسه تعبانه؟
هزت رأسها بالنفي، ثم تطلعت لعينيه وهي تتعمد التعمق بنظرتها تجاهه، ومن ثم قالت بامتنانٍ:
شكرًا..
باتت كلمتها حائرة عن تقديم الف مبرر لشكره، فما فعله لا يقدر بكلماتٍ ستجتهد لتقديمها إليه، استقام بجلسته وهو يجيبها بحرصٍ بالا يسمعه أحدًا:
لازم نكون حذرين لحد ما على الأقل بكره يعدي، فبلاش تعملي مجهود كبير خليكي قاعدة مكانك على قد ما تقدري.

هزت رأسها وهي تتابع المنصة التي اشتعلت بالرقص الشعبي، فحانت منه نظرة خائنة تجاه حور التي تتحرك برفقة أخيها وزوجته، سكن الحزن الطابق الأول من عينيه بينما خيم الخذلان والوجع بالطوابق الأخرى، فمازال يجابه ذاك القلب الذي يحتفظ بحبها الغير معترف به، فكيف سيلفظه وهو لا يقوي على الاعتراف به لنفسه حتى، حبًا محرم وغير مقبل له بالمرةٍ، خاصة بهذا اليوم الذي يعد خطوة مسبقة لحياته التي ستجمعه بأخرى، لذا سحب نظراته عنها بهدوءٍ لن يشعر به أحدًا مثلما إعتاد، أن يخفي ما يدور بداخله عن الأعين..

لم تحظى بفرصة كهذة حتى بزفافها، فمازالت ترقص بصحبته لدقائق طالت ويديه مازالت متشبثة بيدها، حتى نظراته لم ترأف بها فكانت مسلطة عليها لتحاوطها من كل اتجاه، وكأنه يخبرها بأنها مرغمة على عشقها له، مرغمة على تقبله لجوارها وبداخلها، كلًا منهما يلخص عشقه للأخر بكلماتٍ موجزة، ولكن تلخيصها يشمل بالأمان الذي يتعمق بداخلها يومًا تلو الأخر، لا تعلم لما شعرت بتلك اللحظة بأنها قادرة على تخطي حواجز الماضي بأكمله، كيف لا وهو بذاته خلصها منه وصدق ما أخبرته به بصدرٍ رحب، رجلًا غيره كان ليقيم قيامتها في تلك اللحظة، وربما كان سيشك بعفتها، ولكنها لم تجد منه الا ما هو نبيل، وجدت ما يجعلها تعشقه حتى أخر أنفاسها، توقفت تسنيم عن تتبع حركاته، فانعقد حاجبيه حينما وجدها توقفت، ومن ثم أشارت له بأن يقترب، فما بجسده تجاهها ليستمع لهمسها بوضوحٍ:.

خلينا نخرج برة شوية، حاسة إني تعبت من الصوت.

أومأ برأسه وأمسك بيدها ليحيط بها حتى لا يرطم بها أحدًا من الشباب دون قصدًا منه، فمنحها مساحة شكلت بجسده الذي بات حائلًا بينها وبينهم، حتى مرت من جوارهما ليخرج بها للخارج، فقادتهما قدميهم للاسطبل، تركته تسنيم واتجهت تجاه الغرفة الصغيرة التي تضم برق، فاخذت تمسد بيدها على ظهره برفقٍ، فاحنى رأسه أرضًا براحةٍ لوجودها الذي بات يعتاد عليه، بينما استند آسر بجسده على الباب الخشبي الذي يفصل غرفته عن الاسطبل بأكمله، فرفعت رأسها تجاهه وهي تخبره بحماسٍ:.

كبر عن أخر مرة شوفته فيها.
منحها ابتسامة مهلكة وهو يجيبها بصوته الرخيم:
مفيش حاجة بتفضل على حالها.
ثم ولج للداخل ليتجه للدرج الخشبي الموضوع جانبًا فتسلقه للأعلى، حملت تسنيم طرف فستانها الوردي ثم نهض لتتأمله ومن ثم تساءلت باستغرابٍ:
انت رايح فين؟
أجابها آسر وهو يلقي بثقل جسده على الفراش المصنوع من القش:
اليوم كان طويل وحقيقي مش قادر، تقدري تكملي قعدتك مع عم برق براحتك وأنا هرتاح هنا شوية.

غلبها الفضول لرؤية ما وضعه بالأعلى، فرفعت طرف فستانها ثم صعدت الدرج الخشبي وهي تحني رأسها حرصًا بالا تصطدم بسقف الغرفة، فما أن وصلت اليه حتى دعست بقدميها طرف فستانها فشلت حركتها وكادت بالتعثر، أمسك بها آسر ليجذبها إليه فضحك وهو يخبرها بمشاكسة:
مش أي حد يعرف يطلع هنا يا حبيبتي.

رفعت وجهها عن صدره وهي تتأمل المكان الذي يستقر به، فوجدته بسيطًا للغاية، كومة من القش مصنوعة على شكل فراش، ولجوارها كشاف صغير يمنح المكان ضوءًا خافتًا، اتجهت نظراته تجاهه ثم قالت بضجرٍ:
ده مكانك السري اللي بتختفي فيه!
ابتسم وهو يجيبها بمرحٍ:
في الحقيقة مش مكاني لوحدي، ده مكان عم صالح المفضل وقت الراحة..
تعالت ضحكاتها فابتسم وهو يخبرها:.

مكان مش سري يعني تقدري تقولي استراحة لطيفة ليه وقت شغله في الاسطبل، وانا بنوب عنه بليل.
ابتعدت بنظراتها عنه، فشملت المكان مرة أخرى بنظرة متفحصة ثم ردت عليه قائلة:
مكان جميل.
أومأ برأسه وهو يتأملها بنظرةٍ خبيثة:
فعلًا.
انتبهت لوضعها الذي طالت هي به فحاولت النهوض عنه ولكن ثقل فستانها منعها، جذبها لجواره وهو يتساءل بخوف مصطنع:
مرتاحة كده ولا أيه؟

ثم أشار بيديه للاسفل على السيف وبعض الادوات الخاصة بالاراضي الزراعية ليسترسل بمزحٍ:
في هنا اسلحة خطيرة وأنا لازم أضمن نفسي، فالله يكرمك خلي بينا مساحة أمنة يا بنت الحلال.
على الرغم من أن غرضه أن يمازحها، ولكن عينيها امتلأت بالدموع، فاستدار آسر بجسده تجاهها، ليرفع وجهها تجاهه ثم تساءل بلهفةٍ:
أنتي زعلتي من كلامي!، أنا بهزر معاكي.
تهربت من التطلع اليه، فقالت بصوتٍ مهتز:
أنا آسفة والله مكنتش أقصد.

وضع يديه أمام شفتيها وهو يمنعها عن استكمال ما ستقول:
مش عايز أسمع أي مبرر عن اللي حصل، وأنا اوعدك مش هفتح سيرة الموضوع ده تاني حتى لو هزار.

رفعت عينيها ببطءٍ تجاهه، لتمنحه نظرة عاشقة لسماله التي تذيب حواجزه، حاجز تلو الأخر، فشعر برعشة شفتيها أسفل يديه، فظن بأنها ستواجه هواجس خالها الأرعن لذا سحب يديه عنها ثم استقام بنومته بتوترٍ من قربها الذي أهلك جوارجه، ابتسمت تسنيم وهي تراه يبذل أقصى ما يمتلك حتى يمنحها الراحة والأمان، فتحركت بجسدها تجاهه، ثم وضعت رأسها على صدره، ابتسم وهو يحاوطها بذراعيه ثم أغلق عينيه في محاولةٍ للاستسلام للنوم، فوجدها تتشبث بجاكيت بذلته السوداء وصوتها الناعم يخبره بخجلٍ:.

بأحبك.
أغلق عينيه في محاولةٍ بائسة لمحاربة تأثير تلك الكلمة التي تستهدف مشاعره المكبوتة، فمرر يديه على خصرها ثم نطق بحروفٍ ثقيلة:
وأنا معرفتش الحب الا في جنتك يا تسنيم.
ضغطت باصابعها الممسكة به، ثم رفعت عينيها الباكية تجاهه، ظلت تتأمله لدقائقٍ، ونظراته تمنحها حنان يطوفها كرداء صنع من صوف فمنحها دفء في ليلة قارصة البرودة، فعجزت عن الانسحاب من ذاك الدفء فأجبرت لسانها على نطق ما يتردد بداخلها:.

ساعدني أنسى كل اللي اتعرضت ليه يا آسر، أنا عايزة أبدأ حياتي معاك وأرمي كل ده ورا ضهري.
نقلت بصوتها المتقطع أوجاعها إليه، فتركته يمتص ما بداخلها من ألمٍ، اقترب بوجهه منها ليطبع قبلة رقيقة على عينيها الباكية، ثم ابتعد ليستند بجبهته على جبهتها هامسًا بصوته العذب:
لو باختياري كنت اختارت أكون موجود معاكي وأواجه ماضيكِ بنفسي، مكنتش هخلي مخلوق يمس شعرة منك.
منحته ابتسامة هادئة، وردت عليه قائلة:.

بس المهم إنك معايا دلوقتي ومش هتسبني.
قربها اليه وهو يؤكد لها:
معاكي ومش هتخلى عنك أبدًا.

وقطع المسافة التي تجمعهما حتى بات لا يفصلهما شيء، فلم يجد منها اعتراض بقربه لذا سمح لرغباته بأن تحتضنها، فتعمقت المشاعر فيما بينهما، وتلك المرة حرص بالا يتركها لغيمات الماضي المؤلمة، كلما شعر بأنها ستلتهمها أسرع بايفاقتها على طرب غرامه العتيق، فسقط أخر حاجز بينهما لتصبح ملكه مثلما رغبت ورغب بذلك، حطم ذاك الخوف بداخلها وهواجسها تجاه الرجال، أخبرتها أفعاله بأنه مختلف عن معشرهم، وليس فريدًا من نوعه بل هناك رجال تستحق ألقابهم، لا ذنب لهما بما فعل السفهاء منهم، ربما حالتها كانت تستدعي لطبيب نفسي يعالجها ولكن بوجود زوجًا يضمها إليه ويحتويها ليست بحاجة لأي علاج نفسيًا بعد ذلك، فكثير من النساء تحتمل مشقة وصعاب لا وصف لاوجاعهما ولكن بمجرد كلمة معسولة أو كف يد حنون يطبطب جرحها تنسى كل شيء، بل تحارب عالم بأكمله لأجله، فالمرأة تمتلك قلبٍ رقيق، تحواطه المشاعر من كل اتجاه، وهاشة كلوح الزجاج تكسرها أي كلمة.

اليوم غفت بين أحضانه، بعدما صارت زوجته، فشعر آسر بأنه انتصر بمعركة أرهقته ذهنيًا، فكم ظل بائسًا لتوتر علاقتهما وازدادت الامور سوءًا بمعرفة الحقيقة، وها هو اليوم يحقق انتصارات عظيمة حينما قتل شبح ماضيها بيديه، وحينما اتاحت له الفرصة حق الانتقام مما فعله ذاك اللعين بها، اليوم سينال قسطًا من الراحة لم ينالها من قبل، هنا في المكان الذي جمعهما جوار الفرس الذي احبته ومنحته اسمًا عشقه من عشق تفاصيلها..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة