قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الخامس

رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الخامس

رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الخامس

قل للحواجز و المسافات فلتفرقي بيننا
كأنها تتآمر سرا بعد غيابك لأزداد تعلقا
كيف تموت ذكراك و قد أخذت لب الفؤاد
أتسلم روح وتينها معقود بين أضلع الآخر؟
بين أجفان عيني أخبئك صورة لا تتزحزح
كيف أنساك وأنت تجول في كل الخلايا
أودعتك للخلاق يحفظك عسانا يوم نسعد...
بقلم، نور محمد.

إقتربت جورية من سرير هذا المريض الذي تتحدث عنه جميع العاملات بالمستشفى، لقد سمعتهن يتحدثن عن وسامته التي تخطف الأنظار وعيونه التي بزرقة السماء وحالته الغريية تلك، فقد نجا من حادث طائرة، بإصابات بسيطة برأسه وقدمه، ولكنه أفاق لا يتذكر شيئا عن نفسه ولا حتى إسمه، لتطلق عليه الممرضات إسم الوسيم المجهول.

لا تدرى جورية لما إنتابها الفضول لرؤية هذا المريض بعد ماسمعته من هؤلاء الممرضات، ولما لم ترحل على الفور بعد تسليم الهدايا للمرضى في هذا اليوم الذي تقصد فيه جورية المستشفى لبث البهجة في نفوس المرضى بتقديم بعض الدعم المعنوي والمادي لهم، لا تدرى لما أخذتها قدماها إليه؟ بالفعل، هي حقا لا تدرى.

توقفت جورية أمام سرير هذا المريض تماما، لتراه لأول مرة، نائما مستكينا، تأملته بخجل، إنه وسيم حقا، يستحق فعلا كل مايقال عنه، ولكن ليس هذا ماجذبها إليه فحسب، وإنما نسيانه ماضيه هو ما شغلها حقا وأثار شفقتها، فهي لا تتخيل أن ينسى شخص ما ماضيه، ذكرياته، إسمه وأحباؤه، لا تتخيل أن تصحوا هي يوما لا تتذكر جدها عزيز أو خالتها جليلة، أو فرستها مهرة، لا تتخيل هذا مطلقا.

إقتربت من وجهه تلاحظ جرحا في رأسه، مدت يدها لتلمس الجرح ولكن يدها تجمدت في الهواء، وهي تراه قد فتح عينيه فجأة يطالعها، أخفضت يدها، وقد تخضب وجهها بحمرة الخجل، لا تستطيع إبعاد ناظريها عن عينيه الساحرتين واللتان تنافسان في لونهما زرقة السماء الصافية، تجذبها عيناه بقوة خاصة وهو ينظر إليها الآن بحيرة، لتبتلع ريقها بصعوبة وهي تقول:
صباح الخير.

إعتدل قليلا في جلسته ليظهر الألم على ملامحه، ثم إختفى ما إن إستوى جالسا، وهو يقول:
إنتى الدكتورة النفسية اللي قالولى إنها هتابع حالتى؟
هزت رأسها نفيا قائلة بإرتباك:
لأ، مش أنا.
إزداد إنعقاد حاجبيه وهو يقول بحيرة:
لما إنتى مش الدكتورة الجديدة، أمال حضرتك تبقى مين؟
نظرت إليه لا تدرى ماذا تقول، ليشع الأمل في عينيه وهو يقول بلهفة:
إنتى حد من أهلى، صح؟

أصابتها لهفته بالألم في قلبها، هل يشعر بالوحدة؟هل يفتقد أن يكون له عائلة تحتوى حيرته وخوفه من ماض أسدل السواد ستاره عليه؟هل يشتاق إلى عائلة لا يتذكرها؟ربما حقا هذا ما يشعر به الآن، أفاقت من شرودها على صوته يستحثها قائلا:
من فضلك قوليلى إنتى مين؟طمنينى.

نظرت إلى عمق عينيه تشعر بعذابه فيهما، بحيرته وإرتباكه وشعوره القوي بالضياع في خضم ذلك الفراغ الأسود الذي يحيط بعقله، لتتخذ قرارها، ربما كان قرارا متسرعا وغير محسوب بالمرة، ربما قلب جدها الدنيا وأقعدها لإتخاذها مثل هذا القرار، ولكن بداخلها تشعر بأن ما تفعله هو القرار الأصوب في حياتها، قلبها يخبرها بذلك، لتقول بهدوء وبنبرات ثابتة:.

يمكن مفيش بينا قرابة ويمكن دى أول مرة اشوفك فيها في حياتى، وإنت أكيد متعرفنيش زي ما أنا كمان معرفش عنك حاجة، بس قلبى بيقوللى إنك إنسان كويس وحد ممكن أثق فيه، وأنا قلبى عمره ماكذب علية، وعشان كدة هعرض عليك عرض.
نظر إليها في حيرة، لتستطرد قائلة:.

تيجى تشتغل و تعيش معانا في المزرعة، أنا عايشة فيها مع جدى عزيز وخالتى جليلة وشوية عمال، لو ترضى ممكن تعتبرنا زي عيلتك لغاية ما ترجعلك الذاكرة، وساعتها تبقى ترجع لعيلتك.
نظر إليها بشك قائلا:
وإنتى هتعملى كدة ليه؟هتستفيدى إيه يعنى؟
قالت بحيرة:
مش عارفة، صدقنى أنا مش هستفيد حاجة غير إنى أساعد واحد مريض، غريبة يمكن، أنا نفسى مستغربة نفسى بس حاسة انى لازم أعمل كدة.

نظر إلى عيونها في حيرة للحظات قبل أن يقول بهدوء:
طيب ممكن أسألك سؤال تانى؟
أومأت برأسها إيجابا دون أن تنطق بكلمة ليستطرد قائلا:
ليه بتعملى المعروف ده مع حد متعرفيهوش؟
قالت برقة:.

هو مش معروف أوى يعنى، إحنا مزرعتنا صغيرة وفى حتة بعيدة عن العمران، يعنى ممكن تمل فيها بسرعة، بس هدوءها ده ممكن يكون سبب لرجوع الذاكرة ليك، أما عن أسبابى، فصدقنى أنا نفسى معرفهاش، يمكن لإنك بتفكرنى بنفسى، بلحظة في طفولتى مات فيها بابايا ومامتى، وحسيت إنى وحيدة وضايعة من غير حد، ولولا جدي اللي أخدنى في حضنه وراعانى أنا كنت ضعت فعلا، وإنت كمان دلوقتى ومن غير ذاكرة زي طفل صغير محتاج إيد تقف جنبك وتساندك، تحسسك إنك مش لوحدك، ولغاية ماترجعلك الذاكرة دى، هكون أنا وجدى الإيد دى، ها، إيه رأيك؟

أطرق مجهول الهوية هذا رأسه يفكر في كلماتها، ليرفع إليها وجهه بعد لحظات وقد إنفرجت أساريره يهز رأسه موافقا، لتنفرج أساريرها بدورها وهي تنهض قائلة بحماس قائلة:
أنا إسمى جورية الفيومى على فكرة، وهاجى آخدك بكرة الصبح على المزرعة، بس لازم نسميك.
لتفكر وهي تقضم إصبعها بيدها بطريقة محببة قائلة:
ياترى إيه الإسم اللي ممكن يناسبك؟
لتصمت للحظة قبل أن تلمع عيناها قائلة:
فهد، إسمك فهد، لايق كتير عليك.

إبتسم موافقا بصمت لتمد يدها إليه قائلة:
إتفقنا، سلام مؤقت يافهد.
مد يده يضم يدها محييا، ليرتعش جسدها وتتسارع دقات قلبها رغما عنها، لتترك يده على الفور وهي تبتلع ريقها بصعوبة قبل أن تبتسم إبتسامة مهزوزة، وتهز رأسها ثم تغادر بخطوات هادئة تخفى إضطرابها تتابعها عيناه بنظرة حملت إعجابا لم يستطع إخفاؤه.

قال عزيز بحدة:
إنتى إزاي تعملى كدة قبل ما ترجعيلى، من إمتى بتتصرفى بدماغك ياجورى؟
قالت جورية وهي تمسك كتفيه بيديها قائلة:
إهدى بس ياجدى، أنا...
قاطعها وهو ينفض يديها عن كتفيه قائلا في حنق:
إنتى إيه بس؟أنا اللي غلطان، دلعتك زيادة عن اللزوم، وسيبتك تعملى اللي إنتى عايزاه كله، وفى الآخر جاية تجيييلى البيت راجل غريب، منعرفش أصله من فصله.
لينظر إليها بحنق قائلا:.

للأسف، إنتى خدتى من جدتك الشكل بس مخدتيش العقل أبدا.
تدخلت جليلة التي ظلت تراقب ما يحدث بصمت قائلة:
إسمعها بس ياعزيز وبعدين...
قاطعها عزيز قائلا بصرامة:
إسكتى إنتى ياجليلة، مش بعيد تكونى إنتى اللي شجعتيها على الهبل ده.
إتسعت عينا جليلة بإستنكار بينما أسرعت جورية تقول:
خالتى جليلة مكنتش تعرف حاجة عن الموضوع ده ياجدى، هي لسة عارفة حالا وأنا بحكيلك.

أشاح عزيز بيده حانقا، لتترقرق الدموع في عينيها، وهي تقول بضعف:
ياجدى، عشان خاطرى، إسمعنى الأول وبعدين قرر، ولو رفضت وجوده مش هتكلم خالص ولا هعارضك.
أوجعته دموعها، كاد أن يأخذها في حضنه ويربت عليها مواسيا ولكنه توقف في اللحظة الأخيرة رافضا، يبغى سماع سبب تصرفها بتلك الرعونة قبل أن يقرر مايفعل، لتبتلع جورية ريقها بصعوبة وهي تقول:.

أنا لما شفته إفتكرت نفسى وأنا صغيرة، إفتكرت روحى وهي تايهة مش لاقية حد لية، لا مكان يإوينى ولا أهل يساندونى ويقولولى إنتى مش لوحدك، إفتكرت غربتى وأنا جوة بيتى، ولولا وجودك جنبى ساعتها، لولا جتنى وضميتنى لحضنك، كنت ضعت ياجدى، فاكر قلتلى إيه ساعتها؟قلتلى متخافيش، إنتى مش لوحدك، أنا جنبك وهفضل قربك، مش هسيب إيدك ابدا، وطول ما إيدى في إيدك مش هتقعى، وده وعدى ليكى، وفعلا ده اللي حصل، النهاردة لما شفته إفتكرت إحساسى زمان، حسيته محتاج إيد تساعده، بقوله بيها إنت مش لوحدك، وفى وسط السواد اللي انت فيه انا وجدى هنكون شعاع نور، ينورلك طريقك، لغاية ما في يوم شمس زكرياتك تنور حياتك وساعتها هترجع لعيلتك، ولحد ما ده يحصل مش هنسيبك تايه تخبط في طريقك لوحدك، هنكون معاك لآخر لحظة، فاهمنى ياجدى؟

تأملها جدها للحظات ثم ربت على يدها قائلا بحنان:
فهمتك يا بنتي، فهمتك، بس برده ده ميمنعش إنك إتهورتى وطلبتى من حد غريب يكون معانا في المزرعة، إفرضى طلع مش كويس أو هربان من جريمة، إفرضى...
قاطعته جورية قائلة بحزم:.

متقلقش ياجدى، أنا واثقة إنه مش ممكن يطلع مجرم او إنسان وحش، سميها الحاسة السادسة، سميها ثقة في إحساس قلبى اللي عمره ما خيب ظنى، سميها زي ما تسميها، بس صدقنى ياجدى، انا واثقة إن فهد إنسان كويس ومش ممكن يإذينا.
عقد جدها حاجبيه قائلا:
فهد مين ده؟
إبتسمت لأول مرة منذ ان تركت فهد في هذا المستشفى وهي تقول لجدها:
فهد يبقى الراجل اللي حكيتلك عنه ياجدى، وأما بالنسبة للإسم.
فأشارت إلى نفسها بفخر مستطردة:.

فأنا اللي إخترتهوله.

تأمل جدها ملامحها المشرقة ليتسلل إلى قلبه القلق رغما عنه، وهو يشعر أن هذا الفهد قد حاز على إعجاب فتاته الصغيرة حتى وإن لم تشعر بهذا بعد، ليخشى أن تتكرر تجربة إبنته مجددا، ولكن مع حماسها ذلك لا يستطيع أن يرفض لها طلبها، سيوافق على حضوره إلى المزرعة، ولكنه سيضعه تحت رقابة شديدة وإن ثبت له كذب إدعاءاته، إن تأكد من أنه مخادع سيتأكد بنفسه من أنه سيلقى جزاؤه العادل، وسيكون مصيره أسوأ من الموت نفسه.

ذهبت جورية إلى المستشفى فوجدته هناك، أخبرها أنه لم يكن يتوقع عودتها فإبتسمت مخبرة إياه أنها حين تعد لا تخلف وعودها أبدا، ليتأمل إبتسامتها الرقيقة فيبتسم لها بدوره وفى إبتسامته ضاعت هي كلية، غرقت في بسمته تلك والتي إمتدت إلى عينيه الجميلتين فسحرت قلبها ورسمت بداخله طلاسم إحتارت في تفسيرها، تعثر وكاد أن يقع فأسندته بكل قوتها، وهنا وفى تلك اللحظة، مثلما تشابكت أيديهم، تشابكت نبضات قلبهم، ففى تلك اللحظة بالذات والتي إلتقت فيها العيون، أدرك كليهما أن مصيره إرتبط بالآخر وأن ما يحدث بينهما هو شئ فريد، فروحيهما تستكينان فقط بسماع نبض الآخر والذي يصل إلى مسامعهما بكل وضوح، تطرق قلبيهما بقوة دقاته، لتستكين إبتسامة راحة على ثغريهما ويتجهان إلى خارج المستشفى ولدى كل منهما يقين بأنه لم يعد روحا تائهة وحيدة، بل صار هناك من يؤنس وحدته ويطمئن تلك الروح، ربما للأبد، أو هكذا كانت تظن.

، في داخل المزرعة...

كانت تعلم أن جدها لن يرتاح لذلك الغريب على الفور، وأنها ستجد صعوبة في إقناعه بأنه ليس بسئ أبدا، ولكن ما حدث كان عكس توقعاتها تماما، فمنذ اللحظة الأولى لوصولهم إلى المزرعة وإلتقاء جدها بفهد، وجدها يبدو مرتاحا لهذا الضيف الجديد، وكأنه قد توسم فيه الطيبة والرجولة وحسن الخلق، وإزداد إعجابا به مع مرور الأيام، فلم يكن فهد أبدا برجل كسول فما إن سكن في هذا الكوخ بجوار المنزل والذي أعدته له جورية بنفسها وجعلته رائعا حقا، حتى نهض في اليوم التالى باكرا ليشمر عن ساعديه ويعرض على الجد رغبته في العمل مع بقية العاملين بالمزرعة، مظهرا قوة وجلدا وصبرا، ورغم طلب الجد منه الراحة كي تلتئم كل جراحه إلا أنه أبى قائلا أن جراحه بسيطة وقد إلتأمت بالفعل، وأن دواءه هو العمل حتى لا تشغله أفكاره السوداء وحيرته من صفحة ماضيه البيضاء، ليثبت لجدها أنه حقا رجل يعتمد عليه، وليس هذا فقط بل صار صديق جدها الذي يشاركه في لياليه لعبته المفضلة، الشطرنج، يظهر ذكاءا بلا حدود في تعلمها بسرعة بل والتفوق على جدها بها وكأنه يلعبها منذ الصغر.

كانت جورية سعيدة للغاية بوجود فهد في مزرعتهم، وإندماجه السريع، خاصة مع جدها، فقد أضفى فهد على المزرعة جوا رائعا، فلم تعد أبدا مملة كما كانت، كانت تقف بالساعات تعد الطعام مع خالتها جليلة فقط كي يأكل منه فهد، تعد الكوخ كل يوم وتضع فراشه في الشمس فقط كي يرتاح فهد، تفكر وتفكر في أشياء تشغله بالمساء فقط كي لا يمل فهد، وفى لياليها تمسك أوراقها تكتب فقط عن فهد...

لتدرك ذات ليلة أن فهد قد أصبح محور حياتها، وأنها قد وقعت في غرامه، تتساءل دائما هل وقع في عشقها بدوره؟أم أنها مجرد فتاة عادية بالنسبة إليه؟لطالما عاملها بأدب وإحترام، لم يصدر عنه أبدا ما يوحى بالإعجاب بها، ربما هي مرة واحدة ضبطته يتأملها خلسة، ولكن غير ذلك لم ترى منه أبدا أنها تثير إعجابه، أو إهتمامه بأي شكل من الأشكال، حتى كان هذا اليوم الذي إكتشفت فيه مشاعره...

كانت ترتب له الكوخ كعادتها، لتقع يديها على قميصه، مدت يدها تأخذه، ترفعه إلى أنفها تشتم رائحته المميزة والتي يعبق بها هذا القميص الخاص به، إبتسمت وهي تتذكره البارحة وهو يرتديه، كم كان وسيما به وهو واقفا تحت الشمس، تلوح بشرته بأشعتها الحارقة، يمسك الفأس بيده يزرع الأرض، ثم يقف فيمسح عرق جبهته بكمه، ثم يعاود حرث الأرض بكل قوة، وكانت هي تتأمله من بعيد، تتمنى فقط لو إقتربت منه، ولكن ما بين أمنية تحدوها وقيود تمنعها هي حائرة، أسيرة، تود لو تحطم تلك القيود، ولكن ماباليد حيلة.

إنقطعت الكهرباء فجأة لتترك جورية القميص بسرعة فأكثر ما تخشاه هو الظلام، لتتحسس الطاولة بقلق حتى وجدت الثقاب، حاولت أن تشعل عودا، فلم تستطع، حاولت مرارا وتكرارا حتى نجحت بالفعل، ولكن وقع منها عود الثقاب على هذا القميص ليشتعل بسرعة، حاولت أن تطفئه بغطاء جانبي فإشتعلت النيران أكثر، خشيت من ذلك الحريق الذي إنتشر بسرعة، لتندفع مغادرة الكوخ ولكنها تعثرت لتقع أرضا ويرتطم رأسها بقوة ثم لفها السواد الكامل.

كان فهد عائدا إلى الكوخ، ليرتاح قليلا، فأمامه اليوم عمل كثير وهو ينوى أن يكد ويكد حتى يستطيع إنهاء حرث قطعة الأرض الشمالية قبل مساء هذا اليوم، توقف في مكانه حين رأى دخانا متصاعدا من الكوخ كاد أن يتجه إلى الإسطبل القريب لإحضار خرطوم المياه والإستنجاد بالجميع هناك لإطفاء هذا الحريق ولكنه لمح هذا الشال الملقى على المقعد خارج الكوخ، ليتعرف عليه على الفور ويدرك أنه الشال الخاص بها، ليرتجف قلبه رعبا عليها، إنها بالداخل والكوخ يحترق، ربما أصابها مكروها، ليسرع بإقتحام الكوخ دون تفكير لتقع عينيه عليها على الفور، مغشيا عليها ومسجاة على الأرض، أسرع يحملها إلى الخارج، يهرول بها إلى المنزل القريب، حيث إستقبلتهم جليلة بجزع، صرخ بها أن تحضر العطر بسرعة، ثم نظر إلى وجه جورية الشاحب بجزع يربت بيده على وجنتها وهو يقول بهلع:.

فوقى ياجورى، فوقى ياحبيبتى، عشان خاطرى فوقى، انا مقدرش أعيش من غيرك.
جاءت جليلة ومعها العطر وجاء معها عزيز الذي راقب ما يحدث بقلب واجف، لينثر فهد العطر على رسغه ويقربه من أنفها، ليتجعد انفها قليلا، مشيرا إلى أنها على وشك الإستيقاظ، زفر فهد براحة وعيون جورية البنية تنفلج ببطئ، لتراه وتقول بضعف:
فهد.
إبتسم فهد بينما أغروقت عيناه بالدموع قائلا:
قلب فهد وعمره كله.

تجمد الجد تماما وأصابت جليلة الدهشة، بينما إتسعت عينا جورية بذهول، وهي تقول:
إنت قلت إيه؟
تأملها بعشق قائلا:
قلت اللي خبيته جوة قلبى بقالى سنة بحالها، كنت مستنى أعرف أنا مين، وأصلى إيه، بس الظاهر إنه مش باين إنى هفتكر حاجة، وبصراحة اكتر وبعد إحساسى النهاردة، و إنك كان ممكن تضيعى منى، مش مستعد أضيع ثانية واحدة من غير ما أقولك أد إيه بحبك.
أغروقت عينا جورية بالدموع وهي تقول:
أنا كمان بح...

هدر صوت جدها بإسمها يمنعها من الإستطراد في إعترافها بعشقه، لينتبه فهد إلى وجود جدها، وينهض ببطئ ناظرا إليه في ترقب، بينما إعتدلت جورى جالسة ناظرة إليه بوجل ليقترب الجد منهما ينقل بصره بين الإثنين بملامح خالية من التعبير، حتى توقف أمامهما تماما، ليقول بهدوء موجها حديثه إلى فهد قائلا:
وتفتكر آخرة الحب ده إيه يافهد؟
قال فهد بثقة:
الجواز طبعا، انا بحبها ياجدى، ومستعد أعمل أي حاجة عشان تكون مراتى.

لم يهتز لجدها جفن بينما رقص قلب جورية طربا لسماع كلماته الواثقة العاشقة، ليقول الجد بصرامة مقاطعا أفكارها السعيدة:
وهتتجوزها إزاي وإنت مش معاك أي حاجة تثبت إنت مين، أو إسمك إيه؟
ظهرت الحيرة ممتزجة بالحزن وقلة الحيلة على وجه فهد، بينما إنفطر قلب جورية حزنا وهي تدرك مايؤول إليه حديث جدها في النهاية، ولكن كلمات فهد التالية أحيت الأمل في قلبها وهو يقول بكل ثقة:.

يبقى هنزل مصر وهجيب أوراق تثبت هويتى، مش هرجع غير وأنا معايا الورق اللي هيجمعنى مع جورى.
لينظر إلى جورية وقد رقت نظراته قائلا:
وده وعد منى.
إبتسمت برقة، ليعود بنظراته إلى جدها قائلا بقوة:
وعد ياجدى.

وبالفعل سافر فهد بعد يومان وبعد وداع رقيق من جورية، ولكنه لم يعد أبدا، ولم يتصل بها حتى، إنتظرته عاما كاملا، رسمت وجهه في كل صورة قامت برسمها، وجدته في كل كلماتها، لم تيأس أبدا من عودته إليها مجددا، ولكنه لم يعد، لتدرك أن في الامر خطب ما، ربما تذكر ماضيه ونسيها أو ربما لم يحبها من الاساس؟، أحست بالحزن ولكنها لم تترك نفسها أسيرة للألم، بدأت تشغل بالها عن التفكير فيه بكتابة الروايات، لتبعثها إلى دور النشر، وذات يوم جاءها خطاب دار نشر المبدعون يخبرونها بأنهم على إستعداد تام لنشر قصتها إن جاءت إلى القاهرة حيث المكتب الرئيسي للدار، وبالفعل سافرت، تاركة هذا الوادى اللعين الذي يذكرها بفهد، وتاركة جدها الذي أبي ان يترك مزرعته ومنزله، لتلتقى بفراس وتنشأ بينهما صداقة قوية، ومنذ ذلك اليوم وهي تكتب الروايات وتنشرها، تصمم على جعل بطل غلاف رواياتها فهدها، فهي عندما تكتب الرواية تراه أمامها، يلهمها بسحره، بعشقه، بكيانه القابع بوجدانها، أو ربما يوما ما رأى فهد غلاف رواية لها ليدرك أنه مازال بقلبها يحيا، وقد حدث هذا بالفعل اليوم...

لقد عاد لحياتها بقوة، بألم، عاد رجلا متزوجا ولديه إبنة صغيرة، عاد لحياتها ليجبرها ما عرفته عنه أن تخرجه هي من حياتها تلك، من كيانها، من قلبها، من ذكرياتها للأبد، عليها أن تنساه كلية، فهل ستستطيع؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة