قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الثاني عشر

رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الثاني عشر

رواية وادي النسيان للكاتبة شاهندة الفصل الثاني عشر

يرونك وحش قاس مخيف، بارد القسمات.
ترتعد قلوبهم لمرآك، ترتجف من الخوف الدقات.
وأراك أنا كما أنت، تعجز عن وصفك الكلمات.
أراك بريئ كطفل في المهد، رائع الضحكات.
تخفي روحك عن من حولك، تخشى نفوس تملؤها الظلمات.
تحيط نفسك بهالة من الثلج، تختفى خلف الغيمات.
ترهب الجميع لكنك لاترهبنى، فقد سبرت أغوارك وأدركت السمات.
تخبرنى نافذة روحك عن ما تخفيه عن الجميع، أتعمق في النظرات.

فأرى سحر يجذبنى، وأنا لطلاسم السحر من القارئات.

كان خالد يمشى في طرقات المدرسة الخاصة بريم ينظر إلى ساعته التي تشير إلى أنه قد وصل قبل ميعاد الحفلة بوقت كاف جدا ليراجع معها دورها، ليبتسم وهو يدرك كم سيسعدها وجوده، ثم مالبث أن إختفت إبتسامته وهو يدرك أنها سوف تفتقد والدتها، لا يعلم كيف تفوت شاهيناز حفلة إبنتها الأولى بتلك السهولة، توقف متجمدا وهو يراها، أغمض عينيه ثم فتحهما مجددا، ليتأكد من أنه لا يحلم أو يتوهم ذلك، ولكنه لم يكن كذلك، لقد كانت هناك، تجلس على ركبتيها أمام طفلة صغيرة تعدل لها فستانها، بينما تنظر إليها الفتاة الصغيرة بحب، أصابته غصة في قلبه، يتساءل بألم، هل تلك هي إبنتها الصغيرة؟هل هي متزوجة؟أم مطلقة؟وربما أرملة، هو حقا لا يدرى، لقد ظنها عزباء، إقترب منهما بهدوء، ليستمع إلى صوتها الرقيق وهي تقول:.

كدة بقى كله تمام ياروجي، عايزاكى بقا تقولى البارت بتاعك في المسرحية وتشرفينى.
إبتسمت روجينا قائلة:
أوعدك يامامى.

توقف قلبه تماما وضاعت خفقاته، إذا هي إبنتها حقا، تبا، لما يؤلمه ذلك؟توقف خلفها تماما، لتنظر إليه الطفلة الصغيرة في فضول، إنها رائعة ولكن ملامحها لا تشبه جورية، ترى هل تشبه أباها؟أصابته غيرة حارقة، لم يستطع السيطرة عليها، بينما إلتفتت جورية لتنظر إلى مايلفت إنتباه صغيرتها، لتتجمد كلية وعيونها تقابل عيناه، ظلت هكذا لثوان، لا تحيد بنظرها عنه، ثم نهضت ببطئ تطالعه بصمت، ليقطع هو هذا الصمت قائلا ببرود:.

إزيك يامدام جورية.
عقدت حاجبيها في حيرة من دعوته إياها بلقب (مدام)، لتصحح كلماته قائلة:
آنسة، آنسة جورية ياأستاذ خالد.
تصدعت وجهته الباردة وهو يعقد حاجبيه بشدة منقلا بصره بينها و بين الطفلة، لتفهم جورية سبب دعوته إياها بهذا اللقب لتقترب منه هامسة بهدوء:
روجينا، بنت كاتبة زميلة لية في الدار، للأسف مامتها متوفية، وأنا هنا بدالها، ربنا يرحمها.

رغم أنفاسها التي لفحت بشرته، ومافعلته به من زلزلة لكيانه بالكامل، ورغم بذله كل قوته ليحافظ على ثباته، إلا أنه لم يستطع أن يمنع ملامح السعادة التي ظهرت على ملامحه لإدراكه أنها ليست إبنتها وأنها ليست متزوجة، لتتراجع جورية وقد علت وجهها حمرة الخجل وقد لاحظت مدى قربها من خالد في تلك اللحظة التي إستدار لها بوجهه فيها، ينظر إليها بعينين مسرورتين، لا تدرى سببا لذلك السرور البادى بأعماقهما.

أفاقت من أفكارها على صوت روجينا وهي تقول بفضول:
مين ده يامامى؟
لتقول بهدوء تظاهرت به لتخفى خجلها:
سلمى على آنكل خالد ياروجي، ده يبقى، يبقى...
مال خالد يمد يده إلى الطفلة قائلا بحنان:
أنا أبقى صديق مامى ياحبيبتى، وكمان أبقى والد الطفلة ريم نصار، لو تعرفيها.
قالت روجينا بسعادة وهي تضع كفها الصغير داخل كفه الكبير:
عارفاها طبعا، دى صاحبتى في الكلاس، ومعايا في المسرحية كمان، انا وهي الساحرات الطيبات.

إبتسم خالد وهو يقرص وجنتها بخفة قائلا:
أجمل ساحرات.
إبتسمت جورية وهي تتابع تعامله مع تلك الفتاة الصغيرة بحنان، يذكرها في تلك اللحظة بفهد، حبيبها في الوادى، لتتشابك نظراتهما في تلك اللحظة، إعتدل ببطئ لا يحيد بنظراته عنها، لتتنحنح قائلة:
إحمم، طيب إحنا هنستأذن عشان...
قاطعها صوت يصرخ بمرح:
بابى.

إلتفتت جورية لترى طفلة صغيرة رائعة الجمال، تراها كثيرا في فصل روجينا حين تحضر إلى المدرسة في يوم الأربعاء، تمنحهم بعضا من وقتها وتمارس هوايتها في رواية الحكايات وتقليد أصوات الأبطال، أدركت الآن أن تلك الطفلة إبنة خالد فهي تشبه والدتها إلى حد كبير، تسرع إلى خالد ليجثو على ركبتيه يستقبلها بين أحضانه، لتقول بسعادة:
فرحانة أوى إنك جيت يابابى، فين مامى؟

نهض خالد وهو يحملها قائلا بإبتسامة أدركت جورية أنها مفتعلة:
مامى عندها ميتنج مهم ياريمو، هتخلصه وتيجى علطول.
إنتفض قلب جورية من خيبة الأمل التي ظهرت على وجه الطفلة وهي تقول:
يبقى مش هتيجى، ومش هتراجع معايا البارت بتاعى.
قال خالد:
هتيجى ياقلبى، متقلقيش.
حاولت جورى الخروج من هذا الموقف المحرج وإلهاء الطفلة عن حزنها لتقترب من الفتاة وهي تمد يدها إليها قائلة:.

إيه رأيك تيجى معايا أنا وروجي ياحبيبتى عشان نعمل بروفة نهائية على المسرحية قبل العرض؟
نظرت ريم إلى جورية ثم إلى روجينا التي أومأت لها برأسها مشجعة، لتمد يدها إلى جورية وقد إرتسم على ثغرها إبتسامة خلابة، لينزلها خالد وهو ينظر إلى جورية بإمتنان، لتومئ برأسها بهدوء ثم قالت:
عن إذنك هنروح مكان هادى عشان نتدرب.
أومأ برأسه موافقا، فكادت أن تغادر مع الفتاتين، ولكن إستوقفها صوته وهو يقول:
إستنوا.

إلتفتت إليه جورية والفتاتان ليقول بإبتسامة:
أنا جاي معاكوا.
علت البسمة ثغر جورية وظهرت الفرحة جلية على وجهها، لتخفيها بصعوبة ولكن ليس قبل ان يدركها خالد، ليبتسم بداخله، وهو يشعر بالراحة، وشعور آخر لم يحاول تلك المرة أن يقاومه، فقط تلك المرة.

رن هاتف ليلة برقم فراس، ليدق قلبها بقوة وهي ترى إسمه على شاشة هاتفها، لتفتحه وهي تحاول أن تتمالك أنفاسها بصعوبة، قائلة:
ألو.
قال فراس بإبتسامة إرتسمت على وجهه فور سماعه صوتها وظهرت في صوته وهو يقول بهدوء:
صباح الخير ياليلة.
قالت ليلة بإبتسامة إرتسمت على شفتيها:
صباح النور يا أستاذ فارس.
قال بهدوء:
قلنا إيه، فراس بس.
صمتت بخجل ليشعر هو بخجلها ليستطرد قائلا:
فاضية دلوقتى تيجى الدار؟
قالت بحيرة:
دلوقتى؟

قال بسرعة:
لو مش فاضية، خلاص.
قالت بهدوء:
أنا ورايا محاضرة بس ممكن أكنسلها، أنا كدة كدة، كنت جاية بعدها.
قال فراس:
أنا عارف، بس الحقيقة كنت حابب أتكلم معاكى شوية، قبل ما جورية تيجى.
قالت ليلة:
تمام، أنا جاية علطول، سلام.
قال فراس بهدوء يحاول أن يخفى به فرحته الطاغية بقبولها الحضور على الفور:
هستناكى، سلام.
أغلقت الهاتف لتقول لها لبنى بعيون ثاقبة:
ممكن أعرف بقى إيه حكاية فراس دى كمان؟
قالت ليلة بإضطراب:.

ولا حكاية ولا حاجة، أنا وهو بس بنحاول نجمع بين خالد وجورية زي ما قلتلك، متكبريش الموضوع.
رفعت لبنى حاجبها الأيسر قائلة:
علية أنا ياليلة، ده إنتى وشك كان فراولاية حمرا طول ما إنتى بتكلميه، وأول ما قالك تروحيله، سبتى محاضرة دكتور جمال اللي مبتفوتيهاش أبدا، وهتجرى جري عشان تقابليه.
نهضت ليلة تلملم أشيائها من على الطاولة وتضعها بحقيبتها قائلة بإرتباك:.

مفيش حاجة من اللي في دماغك دى خالص يالبنى، كل اللي بينى وبين فراس هو موضوع خالد اخويا وجورية وبس، لو فيه اكتر من كدة هقولك، سلام بقى عشان متأخرش.
غادرت بسرعة لتنظر لبنى في إثرها، وهي تقول:.

لأ فيه ياليلة، لهفتك اللي مش قادرة تخبيها، و رجليكى اللي طايرة من على الأرض وإنتى رايحاله، إنتى بس اللي مش عايزة تعترفى بمشاعرك، بس قريب أوى هتجيلى وهتقوليلى، أنا بحب فراس أوى يالبنى، أنا بس بتمنى إن فراس ده يكون حد كويس، ويكون بيحبك، عشان إنتى بجد تستاهلى قلب يحبك ويقدرك ويحافظ عليكى.
لتتنهد وهي تنهض، تأخذ كشكول محاضراتها وهاتفها متجهة إلى محاضرتها، بهدوء.

كانت لين تقف بجوار النافذة تتطلع إلى هذا المكان المقفر المحيط بالمنزل، تتساءل في حيرة كيف ستستطيع الهرب من هنا، لقد إختار مؤيد مكان حبسها بعناية، زفرت بقوة، تبغى فرارا لن تناله، تود لو كان كل ما مرت به منذ الأمس هو كابوس ستفيق منه بعد لحظات، ولكنها تدرك أنه واقع، أحضر مؤيد مجددا إلى حياتها، ويبدو أنه لن يغادرها بسهولة مجددا.

أفاقت من أفكارها على صوت الباب يفتح ودخول مؤيد بصينية طعام، تأملته ببرود ثم أشاحت بوجهها بإتجاه النافذة مجددا، شعر بالغيظ ولكنه تقدم منها بهدوء، يضع صينية الطعام على السرير قائلا:
مش هتيجى تاكلى؟
لم تجبه، ليخطو بإتجاهها بخطوات سريعة يسحبها من ذراعها قائلا بحنق:
لما أكلمك تبصيلى.

إرتطمت بصدره، فتمسكت به كي لا تقع، ليرتعشا سويا للحظة قبل أن ينتفض مؤيد تاركا ذراعها لتبتعد عنه على الفور، وقد إستعادت توازنها لتنظر إليه بغضب قائلة:
لو مسكتنى كدة تانى مش هيحصل طيب يامؤيد، مفهوم؟
نفض مشاعره التي ثارت في قلبه وهي بين ذراعيه وهو ينظر إليها بتحدى قائﻻ:
هتعملى إيه يعنى يالين؟
قالت بقوة لا تشعر حقا بها:
هعمل كتير، قلتلك إنى مبقتش لين بتاعة زمان، إتعلمت أجرح وأعلم بجرحى كمان.

نظر لها لثوان ببرود ثم قال:
وياترى جرحتى حد غيرى يالين؟
نظرت إليه ببرود قائلة:
ملقيتش حد غيرك يستاهل الجرح يامؤيد.
كتف ذراعيه وهو يقول:
والهانم شافتنى أستاهل الجرح بقى ليه؟شفتى إيه من منى من يوم ما إتجوزنا يخليكى تقولى الكلام ده.

أشاحت بوجهها عنه ولم تجبه، كم كانت تتمنى لو قالت له ما إكتشفته عنه بالماضى، ولكنها لن تستطيع، فقد وعدت شاهيناز أن لا تبوح بما اخبرتها به لأحد، إلى جانب كرامتها كأنثى والتي أغتيلت على يده وليس في نيتها أبدا أن تجدد الإغتيال أو أن تستمع مجددا لأكاذييه، فلن تصدقها، فلقد رأت دليل خيانته بعينيها، أفاقت من أفكارها على صوته المحتد وهو يقول:.

قوليلى أنا عملت فيكى إيه يخليكى تطلبى الطلاق، وتصممى عليه، تجرحينى في رجولتى وتقوليلى انك نفسك في أطفال وإنى مش هقدر أحقق حلمك، ده انا لو كنت عقيم فعلا وبتحبينى ولو شوية، كنتى متخليتيش عنى بالسهولة دى، أد إيه كنت ساذج زمان وسيبتك، فضلت سعادتك على سعادتى، مرضيتش اكون أنانى وأربطك بية، بس للأسف لما جينا وقت الجد ولقيتك هتكونى لغيرى مقدرتش أتحمل الفكرة، وصدقينى يالين، لغاية لما تعترفى إنك غلطتى في حقى، لغاية لما تركعى أدامى وتقوليلى سامحنى، مش هتخرجى من هنا ولا هتشوفى الشارع تانى.

نظرت إليه لين ببرود قائلة:
بتحلم ومسيرك في يوم هتصحى من الحلم ده وتعرف إنى مستحيل هعمل كدة، أنا لين نصار اللي مش ممكن حد يقدر يذلها أو يلوى دراعها وإن كنت ساكتة على المهزلة دى، فعشان بس أثبتلك إنك متهمنيش ومتهزنيش يامؤيد ياحسينى.

نظر إليها بوجه خال من المشاعر، ولكن لين أدركت مدى تأثير كلماتها عليه من خلال إختلاجة بسيطة في وجنتيه، لم يكن غيرها ليلاحظها، ولكنها لين، من تحفظ خلجاته وسكناته عن ظهر قلب، تبادل كل منهم نظرات التحدى لثوان، قبل أن يلتفت مؤيد مغادرا الحجرة بخطوات سريعة، لتقترب لين من السرير تنظر إلى صينية الطعام، شعرت بحنين، لأيام كانت هانئة فيها، لا تدرك كم هي مخدوعة، ولا تعرف أي نوع من البشر هو مؤيد، لا تعرف سوى انه زوجها وحبيبها وتوأم روحها، هذا فقط، و لا شئ غيره، رجعت بذاكرتها قليلا للوراء.

وقتها...
، إستيقظت لين على صوت المنبه لتمد يدها وتطفئه وقد أزعجها صوت رنينه، لتعتدل وهي تنظر إلى جانب السرير الخالى من مؤيد بحيرة، ليفتح الباب في تلك اللحظة ويدخل مؤيد منه يحمل صينية الطعام، لتلوح البسمة على ثغرها، بادلها إياها على الفور قائلا:
صباح الفل على عيون ست الكل.
قالت لين برقة:
صباح الخير ياحبيبى، شكلك صاحى من بدرى.

أومأ برأسه وهو يجلس على السرير ويضع صينية الطعام ثم يناولها شريحة من الخيار في فمها لتلوكها برقة وهو يقول:
أعمل إيه بس، حبيت أفاجئ مليكتى وأعملها فطار يليق بسموها.

تأملت لين الصينية وقد حملت عليها كل ما تحبه، إبتداءا من كريب الموز الذي تعشقه إلى جانب توست الجبن المختلط، والسلطة المفضلة لديها والتي تعشقها من يده فقط، ولم ينسى عصيرها المفضل (عصير المانجو اللذيذ)حتى زهرتها المفضلة (التيوليب)وضعها في فازة صغيرة بالوسط تماما ليمنح إفطارها طعما آخر، إنه طعم مؤيد، لتمرر لسانها على شفتيها بطريقتها التي يعشقها وهي تقول بإستمتاع:
كل ده علشانى؟
إبتسم قائلا:.

طبعا، بألف هنا ياحبيبتى.
نظرت إليه بعشق:
إنت أحسن زوج في العالم.
قرصها في وجنتها بخفة قائلا:
وإنتى أحلى زوجة، يلا بقى كلى ولا أكلك بإيدى؟
إبتسمت ومدت يدها لتأخذ قطعة توست ولكن يدها توقفت في الهواء وهي تنظر إليه بنظرة ذات مغزى وهي ترفع حاجبها المنمق قائلة:
مؤيد، كل ده لله والوطن، مش عشان حاجة تانية، صح؟
إبتسم قائلا:
هو لله وللوطن، بس لو حبيتى تهادينى بحاجة تانية، فأنا معنديش مانع، ده النبى قبل الهدية.

لم تستطع لين منع ضحكاتها ثم قالت من بينهم:
عليه الصلاة والسلام، انت ملكش حل يامؤيد.
نظر إلى عيونها بعشق وهو يبتسم قائلا:
كل ألغازى وحلولها وكل مفاتيحى بين إيديكى إنتى ياحبيبتى ومستحيل يكونوا في إيد حد غيرك أبدا، لين لمؤيد ومؤيد للين، للين وبس.
أفاقت من ذكرياتها عند تلك النقطة تردد بمرارة:.

كدبت علية يامؤيد، وكنت لغيرى كمان، إديتك كل نبضة في قلبى ومخدتش غير الألم والوجع، وبعد ما إفتكرت إنى خلصت من ذكرياتى معاك وخلصت من وجعك، رجعت لحياتى ورجعت معاك الوجع، وأنا قلبى ضعف، مبقاش يقدر يستحمل زي زمان، يارب، خفف عنى وريح قلبى، تعبت بجد.

أغمضت عيناها بألم، ثم فتحتهما، لتنظر إلى تلك الصينية التي ذكرتها بالماضى الأليم، ولكن هيهات لما شعرت به في الماضى وما تشعر به الآن، لتبتعد بإتجاه النافذة مجددا، تنظر إلى الخارج، تتأمل هذا المكان، الذي أصبح منفاها، وسجنها، على الأقل في الوقت الحالى.

صفق الجمهور بقوة لهؤلاء الأطفال الذين عرضوا مسرحيتهم بشكل رائع يخلب الألباب، نظر خالد إلى جورية التي كانت تصفق بفرحة شعت من عيونها ليتأملها قليلا، تخلب لبه ملامحها التي شعت بالضياء، حانت منها إلتفاتة إليه، لتتوقف عن التصفيق وهي تتجمد كلية.
تجذبها عيونه بقوة ليتوقف الزمن وكلاهما لا يحيد بعينيه عن الآخر، لتكون جورية هي أول من قطع تواصلهم وهي تتنحنح قائلة:
إحمم، مسرحية حلوة.

أومأ برأسه بهدوء دون أن ينطق بكلمة، لتشعر جورية بالخجل فإستطردت قائلة:
هي، إحمم، مامة ريم فين؟
أشاح بوجهه وقد قست ملامحه فجأة قائلا:
وراها ميتنج هتخلصه وتيجى.
لم تود جورية أن تتعمق في الحديث عن غريمتها، فمن الواضح أن خالد على خلاف معها، لذا قالت بهدوء:
أستاذ خالد، هو حضرتك لسة مصمم على إننا نغير أغلفة الروايات؟
نظر إليها للحظات دون أن يتحدث، شعرت أن جسدها كله ينتفض من تأمله الصامت لها، قبل أن يقول:.

هتصدقينى لو قلتلك مش عارف.
نظرت إليه بحيرة ليستطرد قائلا:
جوايا شخصين، واحد رافض الفكرة ومصمم على التغيير والتانى بيقول وفيها إيه يعنى؟، متكبرش الموضوع ياخالد، ومابين الإتنين أنا حيران، ومخنوق.
صمتت جورية تشعر بخالد يفتح لها قلبه لأول مرة منذ أن وجدته ثانية، لم ترد مقاطعته بل تركته يبوح بمكنون صدره وبالفعل تنهد خالد وهو ينظر إلى الأمام قائلا بهدوء:
تعرفى كمان أكتر حاجة محيرانى إيه؟

ظلت صامتة، لينظر إليها يتأمل ملامحها الرقيقة قائلا:
إنتى.
كلمة واحدة ولكنها هزت كيانها بالكامل لتقول بحيرة:
أنا؟
أومأ برأسه قائلا:.

أيوة إنتى، مش عارف أفهمك، كل حاجة تخصك محيرانى وقالبة كيانى كله، شخصيتك اللي مبقتش مناسبة للزمن اللي إحنا عايشين فيه، يعنى واحدة زيك إيه اللي يخليها تهتم بطفلة مش طفلتها لمجرد إحساسها بيتمها وإنها محتاجالها في حين ان بعض أمهات دلوقتى مبقاش يهمهم أطفالهم وبقى البيزنس عندهم أهم حاجة.
أدركت جورية أنه يتحدث عن زوجته الآن، ليزفر قائلا:.

مش بس كدة، حكاية أغلفة رواياتك والصدفة الغريبة اللي جمعتنا، مش صدفة واحدة، لأ، صدف كتيرة.
ليشرد قائلا:
وكأنه قدر ومصمم إنه يجمعنى بيكى.
قالت جورية بحزن:
مش قدر، لإن سكتنا مش واحدة، إحنا عاملين زي اتنين ركبوا قطرين وفى نقطة معينة إتلاقوا، وبعدين كل واحد هيكمل طريقه للنهاية وفى الأغلب مش هيشوفوا بعض تانى.
نظر إليها قائلا:
تفتكرى؟

أطرقت برأسها دون أن تنطق، لتنتفض حين أمسك كفه بيدها يتخلل أصابعها وهو يقول بحنان:
طب تفسرى بإيه إحساسى الأكيد دلوقتى، إن إيدك مكانها الطبيعى جوة حضن كفى؟

نظرت إليه بحيرة، يرتعش جسدها بأكمله من نظرته إليها، ويدها القابعة بيده، يضغط بأصابعه على أصابعها مؤكدا كلماته، لم تدرى بماذا تجيب؟ولم تقوى على سحب يدها من يده، تشعر بأن يدها مكانها الطبيعي أن تكون في يده بالفعل، ولكنها إضطرت لأن تتركها حين إندفعت ريم بإتجاه أبيها تحتضنه وهي تقول في سعادة:
بابى، الناس مبسوطين، وأنا كمان مبسوطة.
لتحتضن روجينا جورية قائلة بدورها:.

انا قلت البارت بتاعى زي ما حفظتينى بالظبط يامامى.
ليحمل كل منهما طفله يضمه بحنان بينما تلاقت أعينهما، يدركان بكل قوة، أنه لا مهرب من مشاعرهم بعد الآن، وأن مصيرهما واحد، ولكنهما مضطران الآن للإفتراق، ولو مؤقتا.

بينما تابعت عينان كل ما حدث ليرتسم فيهما حقد و قسوة، تنوى صاحبتهما أن تزيح تلك الجورى عن طريقها تماما، فهي تهدد زواجها بالكامل، ربما لا تهتم بهذا الزواج حقا ولكنها لن تدع لتلك الحقيرة فرصة بأن تفوز عليها ابدا، ربما ستترك خالد يوما ما إن إستطاعت إقناع حبيبها بوصلها والزواج منها، ولكنها بالرغم من ذلك، ستحرص على أن لا يكون خالد لتلك الجورية أبدا، فما لم يمنحه لها، لن يمنحه لغيرها أبدا، ستفعل المستحيل لتحقيق ذلك.

خرج خالد بصحبة ريم من المدرسة وبجواره جورية وروجينا ليقول بهدوء:
تسمحيلى أوصلك؟
قالت جورية:
معايا عربيتى...
لتصمت حين رأته يحدق بنقطة ما خلفها وقد تغيرت ملامحه، إلتفتت لترى ما ينظر إليه فوجدته ينظر إلى سيارته التي تقبع بها زوجته تحدقهما ببرود، أصابتها غصة في قلبها، لتنظر إليه مجددا قائلة:
عن إذنك يا أستاذ خالد، وأشوفك بخير.
أومأ لها برأسه بينما قالت ريم:
مش هتيجى معانا ياطنط جورى؟

مالت جورية تربت على رأسها قائلة بحنان:
مش هينفع ياريم عشان ورايا مشوار مهم ولسة هوصل روجي كمان.
اومأت الطفلة برأسها ببراءة، لتنظر جورية إلى خالد مجددا تومئ له برأسها محيية قبل أن تغادر ومعها روجينا، بينما اتجه خالد والطفلة إلى سيارته وما إن أدخل ريم إلى المقعد الخلفي وجلس هو خلف المقود حتى بادرته شاهيناز قائلة بحدة:
البنى آدمة دى إيه اللي جابها هنا؟وإزاي تسيبها تلمس بنتي؟ها؟

نظر إليها خالد قائلا في برود:
أظن لا هنا مكان الكلام ده، ولا ده وقته، والمفروض قبل ما تسألى أسئلة ملهاش معنى، تتطمنى على بنتك وتشوفى عملت إيه في حفلتها، ولا إيه؟
حدقته بحنق، ثم أشاحت بوجهها ولم تنطق بكلمة، فهز رأسه يأسا، قبل أن يشغل سيارته ويتحرك بها متجها بهدوء إلى منزلهم، حيث سيبدأ ما إن يدخلون حجرتهم شجارا، يدرك أبعاده منذ الآن.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة