قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

اعتقدت لوهلةٍ أنها نجت من الخطر المحدق بها، تكفلت بتعطيل من يلاحقها بإلقاء فرح في اتجاههما لتفر هاربة من المكان، لكن أعاقتها تلك الطلقة النارية التي استهدفت قدمها من الخلف، ثنيت ساقها وطرحت أرضًا متأوهة بألم شديد، جاهدت لتزحف على يديها في محاولة بائسة منها للهروب، لكن اعترض طريقها الضابط الذي أشهر سلاحه في وجهها ليصيح بها بنبرة آمرة:
-اثبتي مكانك!

استندت ديما بكفيها على الأرضية كاتمة آلامها داخلها، رفعت رأسها في اتجاهه تطالعه بنظراتها المغترة، فرغم سقوطها إلا أنها احتفظت بذلك الكبرياء الزائف وتلك الابتسامة المستفزة على ثغرها، تابع الضابط مضيفًا بلهجة شديدة مهددًا إياها:
-حركة زيادة وهاتكون الطلقة الجاية في دماغك
أشارت له بكفها قائلة بصوتٍ شبه مختنق:
-ما تقلق، راح أضل هون!

على الجانب الأخر تمددت فرح على الأرضية الإسفلتية واضعة يدها على عنقها لتمنع الدماء النازفة من التدفق منه، وضع الضابط الأول يده على قبضتها ليزيد من ضغطه على القطع الشديد، ورغم خطورة الموقف إلا أنه طمأنها قائلاً:
-هتعدي على خير
أخرج من جيبه هاتفه المحمول ليستدعي سيارة الإسعاف، نظرت له فرح بأعين زائغة وهي تقاتل للبقاء حية، تحشرج صوتها أثناء محاولتها للحديث، حذرها الضابط بجدية:
-بلاش تكلمي!

ظل جسدها ينتفض بقوة، فتابع بقلقٍ كبير:
-مدام فرح مافيش داعي لأي مجهود، الإسعاف جاي في الطريق!
تجسد أمام عينيها طيفه متخيلة لهفته عليه، زاغت أبصارها وهي تهمس بنبرة متقطعة:
-ي، يزيد!

لحظات وبدأت قواها تخبو تدريجيًا فتوجس الضابط خيفة أن تكون على وشك فقدان حياتها، استدار برأسه للخلف حينما سمع الصوت الشهير لسيارة الإسعاف يصدح في المكان، كانت أخر ما التقطته أعينها تلك الأطياف التي دنت من رأسها وامتزجت أصواتهم مع صوت نبضات عجيبة لم تستطع تفسيرها.

انهار كليًا حينما بلغه خبر تعرضها للاغتيال رغم ما التأكيدات المتواصلة من توفير الحماية لها بكافة السبل، هرول يزيد إلى المشفى العسكري حيث تم نقل زوجته إليه، انتظر على أعصاب متلفة في الرواق المؤدي لغرفة العمليات وبدنه يرتجف بدنه من تخيل فقدانها خاصة بعد أن علم بتفاصيل قتلها، تجمدت أعينه التي اغرورقت بالعبرات على الباب المعدني، وشرد يفكر في لحظاته معها، اعتصر قلبه ألمًا وأنبه ضميره للزج بها في أمر مهلك كهذا باتت هي ضحيته في النهاية، لم يقاوم عبراته التي انهمرت من طرفيه على وجهه، فمن غيرها سيبكيها بكل تلك اللوعة والحزن؟ خاف يزيد أن يفجع فيها، أن يخرج إليه أحد الأطباء ويبلغه بوفاتها، تضاعف نحيبه الذي امتزج مع شهقاته، شعر بتلك اليد توضع على كتفه لتشد من أزره، التفت بعينيه الباكيتين للجانب ليجد آدم إلى جواره، هتف الأخير بصوتٍ خفيض:.

-ادعيلها يا يزيد
تهدل كتفاه بإحباط جلي، استشعر خسارتها فانقبض قلبه أكثر، رد عليه من بين بكائه الموجوع:
-خايف تروح مني
أخفض آدم قبضته على ذراعه ليقول بجدية محاولاً بث القوة في روحه الهائمة:
-ثق في الله هايكون معاها ويشفيها.

استعاد في ذاكرته ومضات خاطفة من مشاهد مقابلته مع قادته ليضع معهم خطط الإيقاع بتلك الجاسوسة المحترفة، ازداد ألم قلبه وشعر به يكاد يخترق ضلوعه وهو يتذكر تزكيته باسمها لتكون المرشحة الأولى للتغطية في تلك المناورة الزائفة، بدا يزيد وكأنه يفكر بصوت مسموع حينما نطق قائلاً:
-أنا بإيدي وديتها للموت، وصدقت إنهم هيحموها
رد آدم مبررًا ما حدث لها قائلاً بنبرة عقلانية:.

-إنت عارف إن أكتر من جهة مشتركة في العملية دي، يعني متقدرش تلوم حد بعينه، وبعدين كان لازم يحسسوا ديما إنها مش متراقبة عشان تتصرف بحرية وتغلط، ولحد أخر وقت كله كان تمام
شعر يزيد أنه عاجز عن الوقوف فاستند بظهره على الحائط، نكس رأسه بخزي وهو يقول من بين حزنه العميق:
-هما وعدوني هيحموها
تنهد آدم هاتفًا:
-نصيبها كان كده، خليك مؤمن بقدر ربنا.

رفع يزيد أبصاره للأعلى ليهتف بنبرة تدمي القلوب والدمع يفيض من عينيه:
-يا رب نجيها!
ظل الصمت سائدًا لبعض الوقت إلى أن تخلله صوت يزيد المتسائل بتشنج:
-وبنت ال، عملوا فيها ايه؟
أجابه رفيقه بحذرٍ متوقعًا ردة فعلٍ غاضبة منه:
-اتقبض عليها
صدق حدسه واستشاط يزيد غضبًا لبقائها على قيد الحياة مقارنة مع زوجته التي تصارع الموت بالداخل، صرخ فيه باهتياج:
-ليه ماموتهاش ساعتها؟
أجابه آدم موضحًا:.

-الظابط قال إنه كان خايف على فرح، ديما كانت محمية فيها، وفي اللحظات الحرجة دي إنت بتدور على الأسلم!
كور يزيد أصابع يده ضاغطًا بعصبية عليهم ثم ضرب بقبضته بعنف على الحائط ليقول بعدها بغل ووعيد وهو يكز على أسنانه بشراسة:
-أه لو كنت موجود
-لا يمنع حذر من قدر يا يزيد
-عندك حق، بس مش هاسكت عن حق مراتي!

عاد الصمت من جديد يخيم على الأجواء، ويزيد يتجول بين الحين والأخر في الرواق محاولاً التنفيس عن ضيقه المشحون بداخله، لم يتوقف لسانه ولا قلبه الملتاع عن الدعاء، انتصب في وقفته حينما لمح قائده المباشر يقترب من على بعد، وصل إليه الأخير متسائلاً باهتمام واضح:
-إيه الأخبار يا سيادة المقدم؟
استراح في وقفته بعد أن أشار له بالتخلي عن الرسمية في تلك المواقف، ثم أجابه بنبرة حزينة للغاية:.

-لسه جوا، مش عارف عنها حاجة
ربت القائد على ذراعه عدة مرات وهو يحفزه قائلاً:
-أنا عاوزك تطمن، معاها أكفأ الأطباء
رد عليه يزيد بحنق بائن في نبرته وهو ينظر إليه بأعينه الملتهبة:
-يا باشا سيادتك وعدتني هتحميها، بس اللي حصل...
قاطعه القائد معللاً:.

-وارد يوقع خطأ يا سيادة المقدم، بس زي ما فهمتك قبل كده، كل جهة مسئولة عن مهمة معينة وملتزمة تنفذها على أكمل وجه، والرجالة اللي بيأمنوها بذلوا جهدهم عشان ميعرضوهاش للخطر ولا يثيروا الشبهات كمان، لكن ديما عرفت باللي حصل لشبكة الجاسوسية وبناءً على المعلومات دي قررت تتخلص منها
سأله يزيد بنبرة منفعلة وقد تشنجت عروقه:
-طب ليه مقتلوهاش قبل ما تموت مراتي؟
أجابه بهدوءٍ محاولاً تفسير الموقف برمته له:.

-جهات سيادية محتاجاها عشان تاخد منها معلومات عن الجهات اللي مشغلينها وبتتواصل مع مين، إنت فاهم إن المسائل دي مش تخصصنا، بس أكيد قتلها مكانش هيفيد
اغتاظ من حرصهم على سلامة شخصية خائنة لأوطانها مثل تلك في مقابل التضحية بزوجته، وكأن حياتها لا تشكل فارقًا عندهم، انفعل بصوتٍ شبه حاد:
-وموت مراتي مش هايفرق مع حد، صح؟

جمد القائد أنظاره عليه متفهمًا طبيعة عصبيته المبررة، سحب نفسًا مطولاً لفظه بتمهل ليضيف بعدها:
-أنا مقدر الوضع اللي إنت فيه
تدخل آدم في الحوار ملطفًا:
-اعذروه يا فندم، دي برضوه مراته
التفت القائد برأسه نحوه ليرد بجدية:
-أنا فاهم ده كويس وهاكون على تواصل مع إدارة المستشفى والدكاترة هنا عشان أعرف الأخبار أول بأول!
عاود التحديق في وجه يزيد وهو يكمل بنفس النبرة الجادة:.

-مش عاوزك تقلق حتى لو علاجها احتاج إنها تسافر برا، القيادة هتتحمل كافة التكاليف
أدمعت عيناه من جديد وهو يرد:
-أطمن إنها عايشة بس الأول.

استمر الحوار الحذر بينهما للحظات قبل أن يستأذن قائده بالانصراف ليقف يزيد من جديد بجوار باب غرفة العمليات مترقبًا خروج من يطمئنه عنها، دفن وجهه بين راحتيه مستشعرًا حرارة أنفاسه على كفيه، تأهبت حواسه وتصلب جسده حينما انتبه لدفع الباب، انتصب في وقفته ليهرول نحوه متسائلاً بلا ترددٍ:
-خير يا دكتور؟
أطرق الطبيب رأسه قليلاً ليجيبه بهدوءٍ:.

-مخبيش عليك، الوضع كان حرج في البداية، بس احنا عملنا اللي علينا والباقي على ربنا
بدت كلماته المنتقاة بحذرٍ كتمهيد أولي عن وجود ما لا يبشر، تقطع صوت يزيد وهو يسأله بتلهفٍ:
-يعني فرح هاتعيش؟
أجابه بروتينية:
-ادعيلها تعدي الساعات الجاية على خير.

ثم ربت على كتفه كنوع من المواساة والدعم لينصرف بعدها مبتعدًا عنه وتاركًا إياه في حالة نفسية سيئة، تضاعف إحساسه بالذنب والضيق، هو من ألقى بها في تلك الهوة السحيقة لتتحمل بمفردها نتائج اختياره، انهار باكيًا من جديد فأشفق عليه رفيقه، وضع يديه على ذراعيه هاتفًا:
-اجمد يا يزيد، ماتقدرش البلاء قبل وقوعه.

لحظات وفتح الباب من جديد ليطل الممرضون وهم يسحبون الناقلة الطبية الراقد عليها جسد فرح، انتفض قلبه بين ضلوعه وهو يراها على تلك الحالة المخيفة، ركض نحوها محاولاً المرور بينهم ليراها وهو يصرخ باسمها بطريقة هيسترية:
-فرح، ردي عليا، فرح!
انفطر قلبه حزنًا عليها، احتضن كفها بين يديها متوسلاً لها:
-إنتي هاتبقي كويسة، قوليلي ده!
تشبث أكثر بها مما أعاق حركة الممرضين وهو يكمل بصوته المختنق:
-أنا اللي ضيعتك!

تدخل آدم ليبعده عنها محاولاً تهدئته، أبعده بصعوبة للخلف وكأن في فصله عنها انقطاع أنفاسه وهلاك روحه، صرخ بكل قوة وبجنون يصعب السيطرة عليه:
-فرح...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة