قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل السادس

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل السادس

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل السادس

وصل إلى مسامعه تفاصيل المحضر المقام ضدها، فهدأت أفكاره المتصارعة واستكانت لكونه لا يتعلق بأعمال الجريدة، جلس باسترخاء على مقعده مبتسمًا لإيلين التي كانت تطالعه بنظرات مزعوجة، طرق عبد السلام بأصابعه بثبات على سطح مكتبه للحظات ثم استطرد حديثه قائلاً بهدوء:
-طالما دي مسائل عائلية فاحنا مالناش دخل فيها
اعترضت عليه هاتفة باحتجاج قوي:
-بس يا مستر عبد السلام ده...
قاطعها بلهجة صارمة مشيرًا بسبابته:.

-أستاذة إيلين ركزي في شغلك أفضل، في حاجات أهم من خلافات فرح ومشاكلها!
توقف لالتقاط أنفاسه لثوانٍ قبل أن يكمل بهدوء مستفز جعل قسماتها تزداد عبوسًا:
-وبعدين هي تقدر تحل مشاكلها بنفسها، ده غير إني مديها أجازة مفتوحة لحد ما تهدى وترتاح
كظمت إيلين غيظها في نفسها مضطرة، فمحاولتها لإقناعه بدعمها في تلك المحنة الأسرية لن تؤتي ثمارها، ضغطت على شفتيها مرددة على مضض:
-ماشي يا مستر.

أولته ظهرها متجهة نحو باب الغرفة محدثة نفسها بتبرم:
-محدش هايحس بالغلب اللي هي فيه، بجد فرح ماتستهلش ده كله.

احتدم الجدال بينهما بداخل السيارة لرفضها الذهاب معه إلى منزله في مقابل إصراره على بقائها هناك حيث المكان الطبيعي لها، كانت في حالة تخبط رهيبة بعد اكتشافها للخدعة المحكمة التي وقعت في أسرها لفترة ليست بالقليلة، ولكون رأسه صلبًا وطباعه حامية أصر على رأيه وتمسك به، فتحولت محاولاته لإقناعها بالبقاء فيه إلى عناد من قبله، وما هي إلا لحظات حتى صارت مشاجرة حادة بينهما، ضربت فرح بيدها المتكورة على جانب المقعد كتعبير عن غضبها وهي تقول بحدة:.

-مش هاروح بيت حد
كز يزيد على أسنانه مغتاظًا من عنادها المزعج، شدد من قبضته على المقود ملتفتًا ناحيتها وهو يقول بتحدٍ:
-ده بيت جوزك، مالكيش مكان إلا هو
تابعهما آدم وزوجته بتوتر ملحوظ، فالمشادات على وشك اتخاذ منحنًا أخرًا، ربما نتائجة لن تكون محمودة أبدًا، فتدخل للفض بينهما قائلاً بمرح:
-بصوا، الليلة دي حلها عندي!

توقف يزيد عن الحديث مجبرًا ليصغي إليه حينما تابع بحماس ليمتص الأجواء الملتهبة بشرارات العصبية:
- كده كده احنا راجعين الوحدة البحرية، يعني فرح هاتقعد لوحدها، وشيماء نفس الكلام، احنا نلم شملهم ويقعدوا مع بعض يسلوا بعض، ها قولتوا إيه؟
وافقته زوجته الرأي فأضافت مؤكدة بابتسامة ناعمة:
-اه والله، ده حتى سلمى هاتفرح أووي
ثم وجهت حديثها إلى يزيد قائلة وهي تشير بحاجبيها:.

-واحنا كنا اتكلمنا في الموضوع ده قبل كده، فاكر يا سيادة المقدم
نظر لها آدم بضيق طفيف بسبب استخدامها للتعاملات الرسمية مع رفيقه بصورة مبالغ فيها فهتف معاتبًا بحذر:
-شيلي التكليف يا شيمو، مش لازم الاحترام الزايد ده
ردت عليه بدلال متعمدة استفزازه:
-مش كل واحد وقيمته
زوى ما بين حاجبيه متسائلاً بصرامة زائفة:
-قصدك ايه؟
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه لتقول ببرود:
-مش وقته
رد عليها متوعدًا بكلمات موحية:.

-ماشي يا شيمو، لينا اجتماع خلف الأبواب المغلقة!
فهمت المقصد من وراء حديثه العابث فحذرته:
-اسكت بس خلينا نشوفهم الأول!
أومأ برأسه موافقًا فحركت رأسها نحو فرح لتسألها باهتمام:
-ها قولتي ايه يا فروحة؟ دي أرض محايدة!
رد عليها يزيد بجدية دون أن ترتخي قسماته المشدودة بقوة:
-أنا موافق، خليكي مع شيماء الكام يوم دول
نظرت له بأعين محتقنة بسبب بقايا بكائها وهي تقول بتجهم:
-اوكي، بس برضوه...

قاطعها تلك المرة آدم ليمنعها عن الاعتراض مرددًا بصرامة محببة:
-خلاص يا فرح، قولتلك الليلة معايا، ماشي؟
لوت شفتيها لترد بعبوس:
-طيب
تنهد لعدة مرات محاولاً السيطرة على ضيقه، فما عرفه مؤخرًا وما حدث من استدعاء لزوجته بالمخفر سبب له ضيقًا كبيرًا، فزفر يزيد قائلاً بصوت خفيض لكنه مسموع لمن حوله:
-اللهم طولك يا روح
تنحنح آدم قائلاً بخشونة مستخدمًا يده في التلويح:
-شهيق زفيق عشان نهدى.

صححت له شيماء كلمته الخاطئة قائلة:
-اسمه زفير يا أندومي!
رد عليها غير مكترثٍ:
-أي حاجة، هو أنا هاشتغل مدرس
زمت شفتيها قائلة بعبوس طفيف وهي تغمز له:
-ماشي يا سي آدم، لينا بيت
ابتسم لها دون أن يضيف المزيد فيكفيه أن صرف أذهان الجميع عن الخناق والعتاب ليضفي هو بروحه المرحة أجواءً لطيفة عليهم.

منحتهما غرفة صغيرتها كمكان معزولٍ ليتحدثا فيه بخصوصية قبل أن يتركها ويعود إلى مهامه العسكرية، جلست فرح على طرف الفراش تهز ساقها بعصبية واضحة بينما وقف يزيد قبالتها يراقبها بأعين ثاقبة واضعًا كلتا يديه على منتصف خصره، تحرك نحوها مرخيًا ذراعيه وهو يقول بصوته الأجش:
-فرح أنا وعدتك هاكلم محامي يمشي في إجراءات القضية
توقفت عن تحريك ساقها لتنظر إليه بأعينها المحتدة وهي ترد بانفعال:
-ده مش موضوعك!

استشاطت نظراته من طريقتها الغريبة معه، وتضاعفت ثورته المتعصبة بداخله بعد أن أكملت بندمٍ:
-أنا من الأول اللي غلطت
قبض يزيد على ذراعيها يهزها منهما بعنف هادرًا بحدة:
-غلطتي في ايه فهميني؟
حاولت انتزاع نفسها من بين قبضتيه اللاتين تعتصران جسدها مرددة بصوتٍ شبه مختنق:
-إني حبيت من تاني واتجوزت، مكانش لازم أعمل كده
رفض تحريرها صارخًا فيها بقوة:
-ليه كل ده، فهميني يا فرح؟!

ترقرقت العبرات في مقلتيها سريعًا تأثرًا بكل ما تجابهه بمفردها من ضغوطات تفوق قدرتها على الاحتمال، واصل يزيد صراخه بها قائلاً:
-أنا من الأول عارف بحكايتك، إنتي مفكرة الجيش لعبة؟ لأ يا فرح قبل أي حد ما يلتحق حتى بالخدمة فيه بيتعمل عنه تحريات هو ذات نفسه مايعرفهاش!
أرخى قبضتيه عنها حينما رأى عبراتها تنساب ليقول بصعوبة محاولاً ضبط أعصابه من جديد:
-اللي مستغربه إن أهل ال، مرحوم يعملوا كده فيكي.

فركت فرح ذراعيها بكفيها مبررة تصرفهم:
-جايز لأن مامته كرهتني بعد اللي حصل، مع إن والله أنا كنت بأحبها وباعتبرها في مقام ماما
انزعج من حديثها المسترسل عن عائلة زوجها المتوفي وكأنهم لم يرتكبوا في حقها أي شيء، ابتعد عنها متجهًا نحو خزانة الثياب، ضرب ضلفتها بعنف مفرغًا غضبه المشحون فيها، انتفضت من عنف ضربته وانكمشت على نفسها، استدار ليواجهها قائلاً بقوة:.

-انسي اللي فات يا فرح زي ما بأقولك، وركزي في حياتنا أحسن
كفكفت عبراتها المنسابة على وجنتيها بظهر كفها لتقول بنبرة مختنقة:
-حياتنا انتهت قبل ما تبتدي!
أخرجته عن شعوره بجملتها الأخيرة تلك، انفلتت أعصابه المستثارة مسبقًا، لم يشعر بنفسه وهو يندفع نحوها من جديد ليمسك بها من كتفيها يهزها بعنف، تأوهت من ألمه الذي أحدثه بها، صرخ بها منفعلاً بغضب يصعب السيطرة عليه:
-فرح إنتي مجنونة؟ إيه الكلام ده.

حاولت أن تستجمع شجاعتها أمامه، أن تتحمل غضبه وقوته لتدافع عن اعتقادها، ردت بصلابة رغم اهتزاز نبرتها:
-لأ، أنا دلوقتي عقلت، لازم كل حاجة تتصلح وترجع زي الأول!
عادت نبرتها للاختناق حينما أكملت متذكرة والدتها الراحلة:
-مع إنه صعب أوي.

حدق فيها بأعين تشتعل غيظًا من تفكيرها الأحمق والمحدود، هي تنظر للأمور من أفق ضيق، تحصر نفسها في بوتقة الأحزان رافضة منح نفسها فرصة للتعامل مع ما تتعرض له بعقلانية، صرخ فيها باستياء دون أن يفلتها من قبضتيه:
-إنتي هاتجنني معاكي
ردت بقوة رغم تسرب العبرات من طرفيها:
-كفاية عليا حزني على ماما، أنا مش عاوزة حاجة تانية تكسرني.

أرخى قبضته عن كتفها الأيسر ليقبض على فكها، رفع وجهها إلى وجهه محدقًا أنظاره في عينيها اللامعتين:
-فوقي واسمعيني، الهبل اللي في دماغك ده لازم تنسيه
ردت بصوتٍ مختنق:
-هو بالعافية؟
رد متحديًا بصرامته المعهودة:
-اعتبريه زي ما تعتبريه، أنا سايبك تهدي هنا كام يوم، بس أما هارجع ه...
على إثر صراخه المرتفع دق آدم الباب قبل أن يفتحه ويلج للداخل ليردد مازحًا:
-مسا مسا يا يزيد، يالا يا باشا اتأخرنا.

تجمد في مكانه مصدومًا حينما رأى الالتحام بينهما على أشده، اضطر يزيد أن يحرر زوجته لتراجع مبتعدة عنه دون أن يتركها بنظراته المحتقنة، وقف آدم بينهما بجسده موزعًا أنظاره عليهما وهو يقول ساخرًا:
-كويس إني بأتدخل في الوقت المناسب بدل ما تولع وألاقيك مستدعي الفرقاطة باللي عليها هنا!
رد عليه يزيد بخشونة وقد قست تعبيراته على الأخير:
-بينا بدل ما أعمل حاجة أندم عليها.

ولجت شيماء هي الأخرى إلى داخل الغرفة لتجد الموقف محتدم وعلى أشده، استشعرت اشتعال الأمور بينهما من جديد، وقبل أن يدفعها فضولها للسؤال تحرك يزيد نحو الباب مندفعًا نحو الخارج بخطى سريعة، لحق به آدم تاركًا المسئولية بالكامل لزوجته لتتعامل معها بروية، وما إن تأكدت فرح من خروجهما حتى انهارت باكية وهي تجلس على الفراش، خبأت وجهها بين راحتيها قائلة بأنين حزين تشكوها تصرفاته المتعصبة معها:
-شايفة؟

جلست شيماء إلى جوارها تمسح على ظهرها برفق قبل أن تضمها إلى صدرها وهي تقول بهدوء في محاولة بائسة منها لتهوين الوضع عليها قليلاً:
-اهدي يا حبيبتي، كل حاجة هتبقى كويسة
استندت برأسها عليها مواصلة بكائها الحزين، همست بأسى:
-محدش حاسس بيا
حاوطتها بكلا ذراعيها لتشد من ضمها لها قائلة بتبرير:
-أنا فاهمة ومقدرة الظروف اللي إنتي فيها، بس إدي فرصة ليزيد يقف جمبك، صدقيني والله ده بيحبك.

رغم يقينها بأنه يكن لها من المشاعر ما يفيض ويغطي على جميع أوجاعها إلا أنها كانت تعاني من صراعٍ نفسيٍ جعلها تشعر بشيء يثير الشكوك بداخلها حول مصداقية مشاعرها نحوه، فقدت رغبتها في القتال والاستمرار مستسلمة لأحزانها الممزوجة بذكرياتٍ مخادعة لم تترك لها إلا بقايا مؤلمة.

رفض زوجها الذهاب معها وتركها تلاقي مصيرها، فتوجهت بصحبة أحد المحامين للمخفر، وبعد ساعات من التحقيق معها في المحضر المقام ضدها أُخلي سبيلها بضمان مالي كبير، جرجرت كريمة أذيال الخيبة ورائها وهي تخرج من مكتب وكيل النيابة مستندة بيدها على الحائط، هرولت كاميليا نحوها لتحدق في وجهها الذابل بنظرات متوترة، هتفت متسائلة بخوف وهي تزدري ريقها:
-خير يا ماما؟

رفعت والدتها رأسها المنكسة بخزي للأعلى لتنظر في عينيها بشرود، فالخطب جلل بالتأكيد، ولن يمر الأمر على خير مثلما كانت تتوهم، تخلى عنها قريبها ذو السلطة وباتت بمفردها، هي طاوعت شيطان رأسها وعاندت دون اكتراث بالعواقب الوخيمة لجريمتها فباتت متهمة بالكذب والتدليس بالإضافة إلى التشهير والتزوير، كم من القضايا الشائكة ظهرت لها من عدم لتقضي على ما تبقى من سنوات عمرها في محاولة النجاة منهم جميعًا، شعرت بوهن كبير يجتاح بدنها المرهق، لم تستطع الصمود أكثر من ذلك، همست لها بصوت مختنق وهو تشير بيدها:.

-أنا روحت في داهية خلاص!
تثاقل جسدها الذي لم يتحمل المزيد من الصدمات، فترنحت مهددة بفقدان وعيها، جزع قلب ابنتها فصرخت مستغيثة وهي تحاول إسنادها لتمنعها من السقوط:
-حد يلحقني، ماما!
على إثر صرختها المفزوعة تجمع الكثير من الأشخاص لمساعدتها بعد أن فقدت أمها وعيها وانهارت على الأرضية الصلبة.

ترك لنسماته الباردة مهمة تبريد صدره المثقل بالهموم محدقًا في أمواجه المتلاطمة بشرود عميق، عاد من جديد لنقطة الصفر معها بعد أن ظن أنه قطع شوطًا في علاقتهما المستقرة، تنفس بعمق طامعًا أن يتكفل البحر بإسكان العواصف المهتاجة بداخله، تابعه آدم من الخلف بعد أن أعطى أوامره لضباط الصف ليتحرك نحوه، وقف إلى جواره منتصبًا بجسده عند مقدمة الفرقاطة مستندًا على حافتها بيديه، التفت نحوه قائلاً بهدوء:.

-لسه بتفكر في اللي حصل؟
أجابه يزيد بتنهيدة دون أن يدير رأسه:
-أنا مبقتش عارف أعمل معاها إيه
رد عليه رفيقه بنبرة عقلانية
-الموضوع محتاج شوية وقت، وكل حاجة هاترجع زي الأول وأحسن
تحدث يزيد من زاوية فمه قائلاً بعدم اقتناع:
-مش باينلها
حاول آدم أن يبتسم وهو يضيف:
-طيب سيبك من مشاكل الستات وخلينا في شغلنا
التفت ناحيته مجددًا ليصغي له بانتباه واضح وهو يكمل بجدية:.

-دلوقتي عندنا أوامر بالتجهيز لمناورة مشتركة مع وحدات عربية
أومأ يزيد برأسه مرددًا باقتضاب:
-تمام
استأنف حديثه موضحًا أهمية الأمر:
-وهايكون فيها تدريب على تنفيذ معركة تصادمية في عرض البحر، ده غير عمليات الإنزال و...
قاطعه بحماسٍ مفاجئٍ:
-حلو أوي، محتاجين نجهز لكل ده
رد عليه آدم بثقة:
-رجالتنا جاهزين، وأنا إديت الأوامر خلاص
ضرب يزيد بيده على ذراعه قائلاً بابتسامة باهتة:
-كويس، فرصة نتلهى فيها شوية.

فرك آدم طرف ذقنه مازحًا:
-أكيد، ده احنا هنتنفخ، مش عارف أقولك ايه يعني، المرادي وصاية
وكأن عقله قد أضاء بفكرة ما اعتقد أنها ستفلح معها، هتف مفكرًا بصوتٍ مرتفع وقد تحولت تعابيره الجادة للحماسة:
-بأقولك ايه في دماغي فكرة كده، لو ظبطت تبقى فرصة
بدا آدم كمن يقرأ أفكاره بوضوح فهتف بنزق:
-اوعى تقول إنك عاوز تجيب فرح تغطي الليلة
التوى ثغره بابتسامة ماكرة وهو يرد:.

-احنا نحط اسمها ونوصي عليه عند القادة، تبقى المراسلة البحرية و...
قاطعه آدم بتوجس ملحوظ:
-شكلك ناوي تعيده تاني
لكزه بظهر كفه قائلاً بغرور وهو يغمز له بطرف عينه:
-بس المرادي بمزاجي أنا!
لم يبدو عليه التأثر بكم الحماس المريب على وجه رفيقه، بل على العكس كان مزعوجًا من فكرته تلك حتى وإن بدت له منطقية لإعادة لم الشمل، همس من بين شفتيه قائلاً:
-ربنا يستر...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة