قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والعشرون

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والعشرون

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والعشرون

تعالت البالونات الهوائية - بمختلف أشكالها وألوانها - في السماء بعد انطلاق الحفل الترفيهي الخاص بالمدرسة ليتسابق الطلاب بعدها في الاستمتاع بذلك اليوم المختلف عن طبيعة الأيام الدراسية، وقفت فرح بينهم تلتقط لهم صورًا عديدة تعبر عن ضحكاتهم البريئة والممزوجة بسعادة غامرة، شكرتها شيماء على معروفها الكبير معها، وتركتها تفعل ما تجيده دون مقاطعة منها، تراجعت لتقف في الخلفية لتتابع إشرافها على حركة الطلاب، أدارت رأسها للجانب لتتفاجأ بمن لم تتوقف مجيئه، تجهمت تعبيراتها بقلق حينما رأت الأستاذ بركات من ضمن المتواجدين، عفويًا تحركت عيناها نحو فرح التي كانت منهمكة في عملها، توترت أنفاسها وارتبك تفكيرها، خشيت أن تظن فيها الظنون وتعتقد أنها دبرت لها ذلك، لهذا أسرعت في خطاها ناحيته لتقول بامتعاض:.

-أستاذ بركات حضرتك جاي هنا النهاردة؟
تعجب الأخير من سؤالها الغير منطقي، أجابها باندهاش واضح عليه:
-عندي متابعة مع مدرسين ال...
قاطعته دون تفكير وهي تشير بيدها:
-بس، حضرتك شايف النهاردة يوم فان داي للطلبة و...
رد مقاطعًا بضيق:
-ما هو...
وقعت أعينه مصادفة على فرح التي كانت قريبة منه، شحب وجهه مرددًا بصدمة:
-مش هي دي...

وقع قلبها في قدميها خوفًا من تبعات ذلك اللقاء الغير متوقع، سدت الطريق بجسدها قائلة برجاءٍ كبير:
-أستاذ بركات من فضلك، أنا مش عاوزة مشاكل، فرح رفضت تقابلك وكده إنت بتحرجني!
رد بصوته الخشن وقد توهجت عيناه بإصرار ملبد للأبدان:
-أنا مش عاوز إلا 5 دقايق بس معاها
يئست من محاولة إقناعه بتحكيم العقل، فأضافت بتوسلٍ عله يصغي لرجائها
-أرجوك يا أستاذ بركات، إنت كده هاتعملي مشاكل، من فضلك
هز رأسه قائلاً بأسفٍ:.

-سامحيني يا مس شيماء، لازم أكلمها
-أستاذ...
بدأ في التحرك متجاهلاً رجائها المستعطف، فالمسألة بالنسبة له لا تحتمل التأجيل، حاولت شيماء إيقافه لكنها فشلت في اللحاق به، فقد عقد الأخير العزم على مفاتحتها مهما كلفه الأمر، وقف خلفها هاتفًا بنبرة أبوية وقد لمعت عيناه:
- فرح
التفتت نحوه غير متوقعة هوية صاحب ذلك الصوت الذي بدا لها مؤلفًا، ردت بابتسامة صغيرة:
-ايوه.

اتسعت حدقتاها في ذهول مصدوم حينما رأته، انقبض قلبها بقوة وهي تتذكر ما مرت به في فترة قصيرة تكبدت فيها العناء والظلم والقهر بالإضافة للحزن والألم، صاحت مرددة بنبرة شبه مغلولة:
-إنت
سألها بهدوء حذر مبتلعًا غصة مريرة في حلقه:
-عاملة ايه يا بنتي؟
عجزت عن الرد عليه بصورة طبيعية، عكست نظراتها نحوه الحنق الشديد، أدارت رأسها نحو شيماء التي هتفت قائلة بقلق:
-صدقيني يا فرح والله العظيم ما أعرف إنه جاي.

كانت نظراتها نحوها تحمل اللوم والعتاب، فهي بالأمس أخبرتها عن رغبته في رؤيتها والحديث معها لأمر هام، واليوم تلتقيه، حتمًا ستشك بها، نظرت لها شيماء بتوتر بائن آملة ألا تصدق سوء الحظ، دافع عنها بركات قائلاً:
-هي مالهاش ذنب، أنا كنت عاوز أشوفك ضروري
علقت فرح الكاميرا الخاصة بها على كتفها، ثم ردت بقسوةٍ:
-مش فاضية
اعترض طريقها هاتفًا برجاء وقد التمعت عيناه بعبراتٍ شبه متحجرة:.

-أرجوكي، 5 دقايق بس، بحق العِشرة بتاعة زمان
صاحت فيه باستنكار جلي وقد تشنجت تعابير وجهها:
-هو إنتو بقيتو على حاجة، ده إنتو أكتر ناس أذيتوني، إنتو عملتوا فيا اللي الغريب مايعملوش، عاوز 5 دقايق، بتاع ايه أوافق؟!
نكس رأسه خزيًا منها وهو يرد بحزنٍ طفيف:
-قولي يا بنتي، حقك، أنا مسامح في كل كلمة هاتقوليها
تدخلت شيماء في الحوار قائلة بجدية محاولة لملمة الأمور قبل تفاقمها:.

-أستاذ بركات من فضلك امشي، هي مش حابة تتكلم
رمقتها فرح بنظرات معاتبة وهي توبخها بضيق:
-شكرًا يا شيماء، كنتي خليكي من الأول صريحة
وضعت شيماء قبضتها على ذراعها لتوقفها عن السير مرددة بخوفٍ:
-قسمًا بالله ما ليا ذنب، استني بس يا فرح
استعطفها بركات قائلاً:
-عشان خاطري أنا يا بنتي، طب عشان خاطر الحاجة فوزية أمك!
عند تلك الكلمة تحديدًا تجمدت فرح في مكانها مستشعرة ألم فقدان الأحبة، همست بتنهيدة تحوي الأوجاع:.

-ماما
أصاب في مقصده حينما لمس ذلك الوتر الحساس الذي يخص والدتها المتوفاة، أضاف بحذرٍ علها تمنحه ما يتمنى:
-الله يرحمها ويحسن إليها، إديني بس من وقتك 5 دقايق
لم تستطع مقاومة فيض ذكريات والدتها الحنون، رغمًا عنها اضطرت أن ترضخ لتوسلاته الراجية إكرامًا لها فقط، سحبت نفسًا عميقًا حبسته في صدرها لتضبط بها انفعالاتها المتأثرة، ورمشت بعينيها عدة مرات لتمنع عبراتها من التجمع في طرفيها، هتفت بقسوةٍ جادة:.

-اتفضل، عاوز تقول إيه؟
تنفس الصعداء للين قلبها، أشار لها بكفه متابعًا بابتسامة باهتة:
-ممكن نتكلم بعيد عن الدوشة دي
ردت على مضض:
-طيب.

سار الاثنان سويًا نحو إحدى الزوايا الخالية تقريبًا من الطلبة، تابعتهما أنظار شيماء المتوجسة خيفة من ردود الفعل، ظلت تدعو الله في نفسها أن يمر اللقاء على خير، وزعت نظراتها بينهما وبين متابعة الطلبة، في حين وقفت فرح في مواجهة بركات ترمقه بحدة، زاد تشبثها بكاميرتها وكأنها وسيلتها المتاحة للتنفيس عن ضيقها وضبط هدوئها أمامه، سألته باقتضاب عابس:
-خير؟
ازدرد ريقها مجيبًا إياها بهدوءٍ:.

-الحاجة سميرة مراتي هتتسجن
زاد عبوس وجهها وتشنجه من مجرد تذكر ما فعلته معها من إهانات لاذعة واتهامات باطلة، صاحت فيه بنبرتها المنفعلة نسبيًا:
-ومطلوب مني إيه؟
تفهم من صوتها المزعوج ضيقها من تلميحه الغير صريح، ابتلع ريقه مستأنفًا حديثه بتردد:
-أنا عارف إنها غلطت في حقك وقالت وعملت حاجات مايصحش إنها تتعمل، بس هي ست كبيرة، حرام البهدلة ليها في السن ده.

احتقن وجهها من تبريره لموقف زوجته متناسيًا ما فعلته معها من تجاوزات تخطت الأعراف، صاحت مستنكرة:
-ومكانش حرام إنها ترميني بالباطل؟ إنها تسوء سمعتي؟
كانت محقة فيما تقول، حاول تلطيف الأجواء مرددًا بارتباك:
-الحكاية حصل فيها سوء فهم و...
قاطعته بصراخ متعصب وهي تلوح بيدها:
-كله كان من الأول كدب، جوازي من كريم كان أكبر كدبة، وطلاقي منه من غير ما أعرف كان...
رفع كف يده أمام وجهها ليقاطعها بأسفٍ:.

-ماتكمليش، أنا عارف ده كله، مش محتاجة توضحي أكتر من كده، احنا غلطنا كلنا في حقك
بدت كمن ينفث دخانًا من أذنيها بسبب غضبها المشتعل بداخلها، استأنف بركات حديثه بحذرٍ:
-بس عشمي في الله وفيكي كبير
ظلت ترمقه بنظراتها المحتقنة بحمرة غاضبة لكنه استجمع شجاعته ليواصل حديثه بنفس الهدوء علها ترفق به:.

-هي غلطت وأذنبت بس اللي عملته ده كان بدافع حبها لابنها، أي أم بتدور على اللي يسعد ابنها حتى لو الطريقة غلط، أنا صعبان عليا مرمطتها على أخر الزمن في المحاكم والأقسام
لم تتحمل المزيد من سخافاته عنها ليبرر خستها في التعامل، هدرت فيه بلا وعي:.

-ومصعبش عليك اللي ابنك عمله فيا؟ من أول ما خدعني ومفهمني إني مراته وهو متجوز عليا، وإنه يطلقني من غير ما أعرف؟ إني أفضل مصدقة إن فرحي خلاص قرب وهتجوز، وكلها فترة بسيطة ونخلص اللي ناقصنا، واتفاجئ إنه متجوز وعايش حياته عادي، أنا الوحيدة اللي اتظلمت منكم كلكم
تفهم موقفها العدائي نحوه، لم يستطع الدفاع أو التبرير أكثر من ذلك، نكس رأسه بخذلان واضح عليه وهو يستعطفها:.

-حقك عليا أنا يا بنتي، امسحي كل الغلط ده فيا، أنا برضوه سكت من الأول عن الحق وماتكلمتش
تهدجت أنفاس فرح بصورة ملحوظة نتيجة انفعالها الزائد، تجمدت نظراتها القاسية على وجه بركات وهو يقول لها متوسلاً:
-شوفي إيه يرضيكي وأنا مستعد أعمله، بس بأحلفك بالله ماتكونيش قاسية، خليكي أحسن مننا كلنا
كان على وشك الانحناء وتقبيل يدها قائلاً:
-أبوس إيدك سامحيها و...

سحبت فرح يدها مذعورة من حركته المباغتة تلك والتي لم تتوقعها مطلقًا منه، تراجعت خطوتين للخلف ترمقه بنفس النظرات المشتعلة التي لم تهدأ حدتها بعد، استشعر احتمالية رفضها لرجاواته، تنهد مرددًا بإحباط يائس:
-أنا هاسيبك لقلبك ولضميرك، واللي هاتعمليه بعد كده احنا راضيين بيه
لم تعلق عليه واكتفت بالتحديق فيه بنفس النظرات الحادة التي تبث كرهًا مسببًا، ابتلع ريقه مكملاً بنبرة مليئة بالخزي:.

-عن اذنك يا بنتي، سلامو عليكم
أولته ظهرها متجاهلة حتى رد التحية عليه ليشعر بالمزيد من القهر والعجز، ولماذا العجب من تلك المعاملة الجافة منها؟ فعائلته كانت الأسبق في ذلك بجدارة، لذا عليه ألا يلومها إن عاملته بفظاظة وتجاهل، رحل يجرجر أذيال الخيبة خلفه، انتظرت شيماء للحظات حتى ابتعد فأسرعت في خطواتها نحو فرح لتدافع عن نفسها قائلة:
- فرح، أنا معرفش إنه جاي.

رمقتها الأخيرة بنظرة تحمل الضيق، ضغطت على شفتيها مرددة بجمودٍ:
-لو سمحتي يا شيماء، سيبني في حالي
شحب وجهها كثيرًا واكتست نظراتها بالخوف القلق، توسلتها بتلهفٍ:
-اسمعيني بس، والله العظيم هو اللي...
وكأنها تحدث نفسها، لم تكن بها أي رغبة للمجادلة معها، تركتها منسحبة من المكان برمته رغم صياحها:
- فرح، استني، فرح!
امتقع وجه شيماء على الأخير مرددة لنفسها بتخوفٍ:
-أووف، أنا كده وقعت في مشكلة كبيرة!

تلفتت حولها محاولة البحث عن بديل عنها من الزميلات متابعة بقلقٍ:
-خايفة عليكي أوي، ربنا يستر ومايحصلش ليكي حاجة!

ألقت بثقل جسدها على الفراش بعد انتهائها من الاغتسال لتريح عقلها قليلاً من التفكير الذي أرهقه، أرادت فرح أن تمحو جميع الروابط التي تجمعها بشكل أو بأخر بتلك العائلة، حتى الذكريات تمنت أن تمسحها للأبد من بواطن عقلها، لم يتوقف هاتفها عن الرنين، ومع ذلك تجاهلته عن عمد، لم تكن تملك من الطاقة ما يجعلها تبوح بما يجيش في صدرها من أثقال وهموم، تقلبت على الفراش لتحدق في نقطة في الفراغ أمامها، تجسد في مخيلتها أطياف ذكريات جمعتها مع كريم، شعرت بإحساس الخيانة يجتاحها لمجرد التفكير فيه من جديد، انسابت منها عبرة بللت وسادتها، تنهدت بأسى، هي تكره ذلك الشعور الذي يوغر صدرها بالكره والبغض، حدثت نفسها قائلة بحرقة:.

-ليه مطلوب مني أنسى وأسامح وأنا أكتر واحدة اتأذيت!
تدفقت العبرات بغزارة من حدقتيها لتمتزج مع نواحها الباكي، تابعت همسها الموجوع:
-اشمعنى أنا اللي المفروض أتنازل؟

تذكرت قسوة وشراسة سميرة معها، حملتها في لحظتها المكلومة كل الذنب متناسية أنها مشيئة القدر، أساءت لها وعاملتها بوقاحة شديدة لم تعبأ وقتها بوجود الجيران والمعارف بالمنزل، وزادت قسوتها حينما علمت الحقيقة كاملة لينتهي الأمر باكتشاف الأكذوبة الكبرى، واليوم مطلوب منها أن تنسى وتصفح بكل بساطة، اعتدلت في نومتها صارخة:
-مش هايحصل.

دفنت وجهها بين راحتيها تبكي وتشهق بأنين، كانت بحاجة لمن يحتويها ويضمها إلى صدره فتشعر بالأمان، من يربت عليها برفق ليهون أوجاعها النفسية، من يخبرها أن كل شيء سيغدو على ما يرام، لكنها كانت وحيدة بالمعنى الحرفي، ليس لديها من تلجأ إليه، انهارت بجسدها على الفراش تضم ركبتيها إلى صدرها مقاومة تلك الرجفة التي تعتريها.

مرت الأيام ثقيلة عليها متشابهة إلى حد كبير، تقضي نهارها بروتينية في العمل، وفي الليل تعود إلى المنزل لتجلس بمفردها فيه تنهي ما لم تنجزه خلال ساعات العمل، تخلل يومها اتصالات متكررة من يزيد للسؤال عن أحوالها، وكذلك زيارة ودية من إيلين وابنتها، لكنها اعتذرت عن الخروج مع شيماء وفهمت الأخيرة سبب تهربها منها هو انزعاجها من الموقف الحرج الذي وضعت فيه كلتاهما، ظل وجه بركات المنكسر بكلماته المتحسرة النادمة تتردد في صدى عقلها، وكأنه يضاعف من مرارة خلوتها، فاض بها الكيل فقررت أن تتخلص من ذلك الثقل نهائيًا دون العودة لأي أحد ليشاطرها اتخاذ ذلك القرار الهام، ابتسم المحامي المنوط بمتابعة قضية سميرة قائلاً بامتنان:.

-حقيقي مافيش زيك يا مدام فرح، حد غيرك كان...
قاطعته فرح بجمود وقد ارتسمت علامات الجدية على ملامحها:
-مش حابة أحكي في الموضوع ده لو سمحت، في حاجة تانية مطلوبة مني
رد المحامي بهدوء:
-لأ يا فندم، أنا هاخلص باقي الإجراءات
أومأت برأسها متفهمة، وضعت نظارتها القاتمة لتخفي نظراتها وبدأت تستعد للانصراف لكن أوقفها صوت بركات القائل بحنوٍ:
- فرح.

التفتت برأسها نحوه تطالعه شزرًا من خلف نظارتها التي تحجب رؤية عينيها عنه، ردت بتأفف لم تحاول إخفائه:
-في ايه تاني يا أستاذ بركات؟
طأطأ رأسه قليلاً ليرد بحرج:
-أنا مش عارف أقولك ايه
أشارت بيدها قائلة بجفاء قاسٍ:
-كده انتهى أي رابط بيني وبينكم، يا ريت تشلوني خالص من دماغكم زي ما أنا عملت وشلتكم من دماغي وحياتي كمان
شعر بالمرارة والأسى في حديثها، زفر قائلاً بندمٍ:.

-حقك علينا، احنا هانفضل مديونين ليكي طول العمر
ردت بنبرة جليدية خالية من الرقة والعطف:
-لا دين ولا غيره، أنا عملت كده واتنازلت عشان أرتاح، فيا ريت تكون دي أخر مرة نتقابل فيها
ابتلع قسوتها مرددًا بابتسامته الباهتة:
-أنا هافضل فاكر معروفك ده، وهاكون في الخدمة لو عوزتيني في أي وقت
ثم مد يده المرتعشة نحوها ليصافحها متابعًا بحنو أبوي:
-أسيبك في رعاية الله.

أخفضت أعينها لتحدق في يده الممدودة، ترددت للحظة قبل أن تمد كفها نحوه، أجبرت نفسها على مصافحته هاتفة باقتضاب:
-مع السلامة
شكرها مجددًا محافظًا على بسمته:
-كتر خيرك يا بنتي.

لم تعلق عليه وأسرعت في خطاها قاطعة أي فرصة للثرثرة أكثر معها، لكنها تيقنت اليوم أنها أنهت كابوسًا نغص حياتها لوقت ليس بالقليل لتبدأ بعدها في متابعة حياتها التي ترتكز على توطيد علاقتها بزوجها يزيد الذي تحامل على نفسه الكثير مؤخرًا معها لتتجاوز أزماتها، هكذا هي اعتقدت...

كان يحترق شوقًا في كل يوم يمر عليه وهي بمفردها لا يعرف عنها إلا القليل مما تخبره هي بنفسها، لم تشبع كلماتها جوعه ولم تجعله يهنأ، كان يشعر من نبرتها أن بها خطب ما، لم يرغب يزيد في الضغط عليها حتى لا تشعر بحصاره المزعج لها، عمد إلى ادعاء الهدوء واللا مبالاة ليكسب ثقتها أكثر، وما إن نال تصريح العطلة حتى استقل سيارته عائدًا إليها، كانت أشواقه وتلهفه إليها تقود عقله وروحه إلى الجنون، وقف أمام باب المنزل يدس المفتاح في قفله بتريث حذر ليفاجئها بقدومه، تعذر عليه فتح الباب فانقبض قلبه خوفًا، للحظة ظن أنها تركت المنزل ولم تقم فيه طوال الفترة الماضية، لكن هداه عقله إلى احتمالية غلقها للباب بالمزلاق، قرع الجرس بلا تفكير ثانٍ آملاً في نفسه أن تكون بالداخل، تنفس الصعداء حينما سمع صوتها يقول:.

-حاضر!
وضع يزيد يده على صدره يتحسس نبضات قلبه المتلاحقة، وما إن فتحت الباب وطالعته بوجهها الناعس حتى اندفع نحوها يضمها إليه قائلاً بتلهفٍ:
-وحشتيني يا حبيبتي
ردت عليه بنبرة ثقيلة:
-إنت جيت؟
رد ساخرًا وهو يتراجع للخلف ليحتضن وجهها بين راحتيه:
-لأ لسه، أكيد أنا مش خيالي، صحصحي كده يا فرووح.

وضعت فرح يديها على قبضتيه لتبعدهما عن وجهها الذي يفركه لتحتفظ بسمات النوم، سألته بنبرة شبه واعية وهي محدقة فيه بنصف عين:
-هي الساعة كام دلوقتي؟
أجابها متعجبًا وقد انزوى ما بين حاجبيه:
-6 الصبح تقريبًا
تثاءبت قائلة بنبرة تبعث على النعاس والكسل:
-ياه، ده بدري أوي، أنا داخلة أنام.

فغر فمه مصدومًا من فتورها الذي قابلته به بعد ذلك الغياب، كان يتوقع لقاءً حميميًا عاصفًا، وأحضانًا تذيب جمود الجليد، لكنه وجد النقيض، رد مستنكرًا حينما رأها تنصرف مبتعدة:
-تنامي فين وتسبيني كده
لوحت له بيدها دون أن تستدير نحوه لتقول:
-مش قادرة والله، كان عندي شغل في الجرنال سهرت أخلصه، كمان ساعتين بقى أكون فوقت ونتكلم
ظلت علامات الدهشة مرسومة على محياه وتضاعفت حينما قالت عفويًا:
-تصبح على خير.

صفقت الباب خلفها متجاهلة وجوده، أشعرته في لحظة أنه ضيفًا في المكان وليس صاحبه، بل وأن وجوده غير مرغوب فيه، حك رأسه عدة مرات ليستوعب أنها بالفعل تركته وذهبت لتنام، عبست تعابيره هاتفًا بغيظ من بين شفتيه:
-ما أنا اصطبحت خلاص، أل وأنا عمال أقول هتاخدني بالأحضان إن مكانش فيها بوسة من إياهم، وفي الأخر تطلع العملية ناشفة!
هز رأسه بإيماءة متوعدة وهو يكمل بحنق مزعوج:
-ماشي يا فرح ليكي يوم، وهايكون قريب...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة