قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والعشرون

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والعشرون

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والعشرون

بعبوسٍ لم تستطع إخفائه أعدت حقيبة السفر بكل ما تحتاج إليه لتلك السفرة القصيرة لقُطر يشغل حيزًا كبيرًا من أرض الوطن؛ إنه صعيد مصر بكل ما فيه من جمال وثورة طبيعية، استقلت فرح القطار برفقة زوجها الذي كان متحمسًا لتلك الزيارة العائلية، جلست إلى جواره تنفخ بصوت مسموع متعمدة أن يشعر بما يعتريها من مشاعر مزعوجة، نظرت إليه فوجدته هادئ الملامح مسترخيًا في جلسته، ضاقت نظراتها نحوه، فمنذ لقائها الفاتر عند عودته وهو يتعامل معها ببرود عجيب أثار في نفسها الريبة، توقعت حينما تستيقظ من نومها أن تجده على نفس درجة التلهف والشوق، لكن على عكس توقعاتها تعامل يزيد معها بفتورٍ شديد أزعجها حقًا، وكذلك حينما أعلمها بحجزه لتذاكر القطار، كان كمن يبلغها بالشيء لمجرد العلم ليس أكثر، كل ذلك أجج في نفسها شعورًا بالحنق تجاهه، صاحت فجأة متسائلة بتذمر لتخرجه من سكونه:.

-هنوصل امتى؟
انتفض يزيد في جلسته مرددًا باستنكار:
-بالراحة يا فرح، مش كده يعني، في حد يزعق بالشكل الغبي ده
فرك عينيه عدة مرات ليصرف النعاس منهما، بينما تابعت بنفس التبرم العابس
-ما هو لما تكون مطنشني لازم أرد كده!
أخرج زفيرًا مطولاً من صدره وهو يسألها بجمود:
-مطنشك ازاي ممكن أفهم؟
أجابته بوجهها المتعصب في تعبيراته:
-مش معبرني ولا سأل فيا
تثاءب وهو يمط ذراعيه قائلاً ببرود استفزها على الأخير:.

-عادي، تعبان، لما أبقى أفوق هابقى أرجع لطبيعتي
-إنت بتردهالي عشان اليوم إياه؟
سألها بجمود أكثر استفزازًا:
-يوم إيه؟
أجابته بنبرة متشنجة:
-لما إنت رجعت و...
قاطعها بصوتٍ شبه ثقيل مدعيًا رغبته في النوم:
-مش فاكر، أنا كنت نايم ساعتها
استثيرت أعصابها من أسلوبه الجاف فلكزته في جانب كتفه بقضبتها لتقول بعدها بتحذيرٍ قوي:
- يزيد، بلاش الأسلوب المستفز ده معايا.

أمسك بقبضة يدها المتكورة ضاغطًا عليها قليلاً بأصابعه مرددًا بنفس اللهجة التحذيرية التي اتبعتها معه:
- فرح، اهدي كده شوية على نفسك، لسه السكة طويلة، مش هانعمل هوليلة على الفاضي، ماشي؟
جذبت يدها عنوة من أصابعه، نظر لها بعدم مبالاة، تثاءب من جديد ليقول بعدها بنبرة تحمل السخرية:
-أقولك اشربي بيبسي يروق دمك
نهض من مقعده متلفتًا حوله وهو يضيف بابتسامة سخيفة:.

-بصي أنا هاروح أجيبلك واحدة مشبرة، ومن الجردل كمان!
اشتعلت نظراتها غيظًا منه لكنه كان يتعامل بأقصى درجات البرود إن لم يكن قد بلغ ذروة التجاهل وعدم الاهتمام، دندن بصافرة خافتة وهو يتحرك صوب المقاعد الخلفية ليأتي لها بمشروب بارد، كزت فرح على أسنانها متمتمة بسخطٍ:
-غلس!

ظل على تلك الوتيرة معها أغلب الوقت، يتعامل بجفاء أهلك أعصابها حينما تحدثه أو تطلب منه شيئًا ما، حتى أجبرها على الانفعال والثورة على أتفه الأمور، كان يرمقها بطرف عينه وكأنها نكرة ليزيد من استفزازها، بدا غير مكترث بما تفعله، وكانت ردة فعله فاترة للغاية إن لم تكن غير موجودة بالمرة، هتفت مستسلمة بإحباط:
-أنا جبت أخري معاك.

وضع سماعات الهاتف في أذنيه ليكتمل مشهد تجاهله لها، التوى ثغره للجانب مشكلاً ابتسامة متغطرسة عليه وهو يحدث نفسه بغرورٍ:
-هو إنتي لسه شوفتي حاجة، ده أنا لسه بأقول يا هادي!

تابعت فرح المناظر الطبيعية المتلاحقة لتلك المحافظات التي يمر عليها القطار حتى بدأ جفناها يثقلان، قاومت رغبتها في النوم لتظل متيقظة الحواس، لكن لا يقف أي شيء أبدًا أمام سلطان النوم، مالت برأسها للجانب بعد أن غفت في سبات قصير، أسند يزيد رأسها بحذر على كتفه كي لا يتألم عنقها من وضعية نومها الغير مريحة، أحنى شفتيه على جبينها طابعًا قبلة صغيرة وهو يهمس لها:
-هانت، قربنا نوصل، وأوعدك هتتبسطي هناك.

تيبست عضلاتها من نومتها المرهقة فأصدرت أنينًا خافتًا وهي تحرك عنقها، أدارت فرح رأسها في اتجاه يزيد فوجدته مستغرقًا في النوم، عاودت التطلع إلى النافذة المجاورة لها لتتبين أين هي، مالت برأسها للأمام لتنظر بتمعن مفصل إلى طبيعة ما حولها، كانت الحقول الزراعية هي الشيء المشترك في كل المحطات التي مر عليها القطار، تراجعت بظهرها للخلف لتبحث عن هاتفها المحمول في جيبها، أخرجته لتنظر إلى التوقيت فيه، مضى أكثر من 6 ساعات منذ أن استقلا القطار، تنهدت بصوت مسموع وهي تلتف برأسها نحو زوجها لتوقظه هامسة:.

- يزيد
بدت قسمات وجهه ساكنة للغاية، أعادت تكرار سؤالها وهي تهزه برفق تلك المرة لينتبه لها:
-هو احنا هنوصل امتى؟
فتح عينيه بتثاقل ليحدق فيها مطولاً وبطريقة غريبة، رمشت بعينيها متعجبة من طريقة تحديقه بها، سألته مندهشة:
-في حاجة، إنت بتبصلي كده ليه؟
أشار لها بسبابته مجيبًا إياها بصوته الناعس:
-إيه ده اللي على راسك؟
قفز قلبها في قدميها متسائلة بارتباك خائف:
-هو في حاجة على راسي؟

أجابها ببساطةٍ وكأنه أمر طبيعي:
-اه، صرصار تقريبًا
عند تلك الكلمة تحديدًا خرج منها صراخًا مفزوعًا مصحوبًا بحركات عصبية متشنجة من أطرافها:
-عااااا
هبت فرح واقفة من مكانها تنفض ما علق بخصلات شعرها دون أن تتوقف عن الصياح الصارخ بهيسترية مقلقة، صدم يزيد من ردة فعلها التي لم يتوقعها مطلقًا، حاول تهدئتها ليتمكن من التصرف لكنها كانت تصيح فيه بهياج:
-صرصار، إبعده عني.

ثبتها من كتفيها ليتمكن من انتزاعه بإصبعيه قائلاً:
-اركزي بس خليني أشوفه
بصعوبة بالغة حاولت إجبار جسدها على عدم التحرك حتى يزيحه عنها، أغمضت عينيها بقوة وهي تنتفض من شدة الرعب، تمكن يزيد من الإمساك به ثم ألقاه أسفل قدمه ليدهسه فورًا، تابع قائلاً بصوته الأجش:
-خلاص موته
فتحت عينيها على الأخير مواصلة حركاتها الهيسترية وهي تبعثر شعرها في كافة الاتجاهات مرددة بذعرٍ:
-أنا عليا صرصار، يع بجد!

قبض على ذراعها ليجذبها إلى الأسفل لتجلس من جديد على المقعد قائلاً بصوتٍ خفيض وهو يكز على أسنانه:
-الناس اتفرجت علينا، اقعدي بقى
اعترضت عليه محتجة:
-لأ، مش هافضل هنا جمب الصرصار ده
-يا ستي بأقولك موته، مفضلش منه إلا الشنب.

ضمت فرح قبضتيها إلى صدرها لتستشعر تلك الدقات العنيفة بداخل صدرها، حاولت أن تهدئ من روعها لكنها وجدت صعوبة في فعل ذلك، فمازال جسدها يرتعش، وقلبها ينتفض من كل لمسة أو حركة، نظر لها يزيد باستنكار واضح عليه، أشار لها بيده مضيفًا بسخطٍ:
-يا بنتي احنا بنشوف بلاوي في الوحدة، مش عاوز أقولك على ال...
قاطعته بنبرة مهتزة وهي ترمقه بنظراتها الخائفة:
-مش عاوزة أعرف حاجة، كفاية التجربة الشنيعة اللي مريت بيها.

بدا وصفها مبالغًا فيه، خاصة ذلك المصطلح القوي الذي استخدمته للتعبير عن حالة لحظية مرت بها، زم فمه مرددًا باستغراب:
-شنيعة؟!
تهدجت أنفاسها وهي تواصل وصف تجربتها:
-أنا قلبي كان هيقف فيها، كل ما أفتكر، لالا، أنا...
قاطعها مرددًا باستخفاف:
-مش للدرجادي يا فرح، أومال لو كان حنش ولا عقرب أصفر كنتي عملتي ايه؟
وضعت أصابعها على قبضة يده تتوسله:
-خلاص بقى، هاموت منك والله.

نظر إلى يدها المرتجفة القابضة عليه للحظات، تفهم حالة الذعر المسيطرة عليها ليقول مبتسمًا:
-حاضر، هاسكت
هزت فرح ساقيها بعصبية مستشعرة حاجتها للدخول إلى المرحاض، سلطت أنظارها على يزيد قائلة بصوت هامس:
-أنا هاروح التويلت، مش قادرة خالص!

لم تنتظر رده عليها، فتحركت بخطوات شبه مهرولة إلى المرحاض الموجود في نهاية المقطورة، لف رأسه ليراقبها حتى ولجت إلى الداخل، حيث كان في انتظارها مفاجأة من العيار الثقيل، شخصت فرح بأبصارها فزعًا حينما رأت ذلك الصرصور الطائر الذي يتجول بداخله، ازداد جحوظ عينيها حينما لمحت أخرًا يأتي من الخلف ليدعمه، تجمدت أنظارها المرتعدة على شواربه التي يهزها بخيلاء، رأت جناحيه يتحركان بتلقائية مهددًا بتحركه بين لحظة وأخرى، تراجعت بحذرٍ نحو الباب محاولة ألا تصدر جلبة لكي لا ينتفض من مكانه قاصدًا وجهها، كتمت شهقة صارخة بكف يدها مانعة إياها من الخروج، وبيدٍ مرتعشة أبعدت المزلاج لتخرج منه ووجهها محتقنًا بحمرة مضاعفة، عادت إلي يزيد بحالتها المفزوعة تلك ليسألها باهتمام:.

-مالك؟ وشك عامل كده ليه؟
أشارت له بيده هامسة بصوتٍ شبه مبحوح، وبكلمات غامضة:
-جوا
قطب جبينه متعجبًا من جمودها المريب، تعقدت تعابيره متسائلاً بجدية رغم مزاحه:
-في إيه جوا؟ محدش شد السيفون؟
أخفى ابتسامة عابثة مرددًا بمرحٍ:
-طبيعي تشوفي العجب في المواصلات العامة، وأنا من الأول قايلك ده، خلي سقف طموحك واقعي
هزت رأسها نافية وهي ترد:
-لأ مش، مش كده، ده باقي عيلته جوا
سألها باقتضاب:
-مين ده؟
ردت بتأفف مشمئز:.

-الصرصار
لوهلة صدم مما قالته، اتسعت ابتسامته قائلاً:
-لأحسن يكونوا جايين ياخدوا بتاره منك، ما احنا في الصعيد، ماتنسيش ده!
نظرت له شزرًا، فتابع بصرامةٍ:
-بس متخافيش معاكي راجل، هجيبهوملك تحت جزمتي
ثم أخفض نبرته ليضيف القليل من التوجس وهو يضيف:
-إلا إن كانوا بيطيروا، معرفش هايحطوا على راس مين!
رفعت سبابتها أمام وجهه تحذرها:
-ولا كلمة!
داعب طرف دقنها قائلاً بابتسامته العريضة:.

-بأهزر معاكي يا فرووح، ماتخديش الموضوع على صدرك أوي
كزت على أسنانها هاتفة بحنق كبير:
-بس، مش عاوزة حد يكلمني، خليني كاتمة نفسي لحد ما أوصل أي استراحة تانية
استشف من كلماتها الغاضبة أنها لم تستطع إتمام ما قامت لأجله، مال عليها متسائلاً:
-أوبا، هو إنتي لسه ما...؟
قاطعته بغيظٍ:
- يزيد!
تراجع عنها ليجلس باسترخاء مستمتعًا بتعذيبها نفسيًا وهو يقول:.

-عندك حق، مايصحش الصراصير تطلع على الأسرار العسكرية، دي فيها خراب بيوت، يعني الواحد ياخد راحته ازاي وفي صراصير بتبص عليه
اشمئزت من حديثه قائلة:
-ارحمني شوية
ربت على يدها قائلاً:
-حاسس بيكي، زمان أيام مركز التدريب كنت...
أمسك بيده تقبلها وهي تقاطعه برجاءٍ متوسل ليكف عما يفعله:
-عشان خاطري، أبوس إيدك كفاية!
لف يده الأخرى حول عنقها ليقرب رأسها منه وهو يقول مبتسمًا:
-حاضر يا فراشتي، مقدرش أرفضلك طلب.

لمحت فرح أحد الموظفين المسئولين عن التفتيش عن عربات القطار، فهتفت تناديه:
-لو سمحت يا حضرت
التفت الأخير نحوها قائلاً:
-ايوه
تابعت قائلة بتقزز واضح على تعبيرات وجهها:
-في صراصير في الحمام، ممكن تموتوها
فغر الموظف شفتيه مرددًا باندهاش:
-افندم
تنحنح يزيد قائلاً بحرج وهو يبرر مطلبها:
-معلش المدام بتخاف، ومحرجة تدخل وهما هناك، إنت عارف تفاصيل الحريم كتير، والحاجات دي عكوسات بالنسبالهم.

رد الموظف بامتعاض متأفف ظاهر على محياه:
-القطر مليان منهم، مجاتش على دول
اغتاظت من رده الغير مسئول، هتفت معترضة بشدة:
-عادي كده، مش هاتصرف يعني
مسح طرف أنفه متابعًا ببرود غير مبالٍ:
-هانبقى نبلغ المكافحة، وكل سنة وإنتي طيبة
رد عليه يزيد بابتسامته المرحة:
-وإنت بالصحة والسلامة، متشكرينلك يا أخ
استفزها عدم اهتمامه بشكواها فرددت بتذمر تتوعده:.

-الخدمة حقيقي سيئة، لازم نشتكي ونبلغ عن التقصير ده، ازاي يسمحوا بوجودهم في الحمامات، أنا هاعمل تقرير وأرفعه و...
رفع يزيد حاجبه للأعلى متعجبًا مما تتنوي القيام به، قاطعها قائلاً بجدية:
-وهو هيعملنا ايه يا فرح؟ هايعلقلك مثلاً يافطة على البلاعات يكتب عليها الصراصير يمتنعون؟ قولي كلام يدخل العقل!
اشتعلت نظراتها من عدم اكتراثه بتلك المشكلة المنتشرة في أغلب القطارات قائلة:
-إنت معاه؟

شبك كفيه معًا مسترخيًا في جلسته، أدار رأسه نحوها ليغمز لها بطرف عينه وقد اتسعت بسمته المرحة:
-لأ مع الصرصار...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة