قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والعشرون

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والعشرون

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والعشرون

تشبثت بمقعدها تفكر بذهنٍ صافٍ لتبعد عن عقلها مؤقتًا أي ضغوطات تزيد من توترها الحرج في ذلك الوقت العصيب، أغمضت فرح جفنيها لكن ظلت شفتيها مضغوطتين بتشنج طفيف، التفت يزيد إليها يرمقها بنظراته الفضولية، بدا مزعوجًا من حالتها تلك، نهض من مكانه ليبحث لها عن حل سريع، اتجه إلى المرحاض ليتفقده، كان كل شيء به نظيفًا، فقط تلك الحشرات المزعوجة التي تتجول بأريحية فيه وكأنها قد ملكته، تمتم مع نفسه قائلاً:.

-ما الحمام زي الفل أهوو، كانت تمشيها زي ما يكون وخلاص
فرك طرف ذقنه بحيرة محدثًا نفسه:
-طب إيه العمل دلوقتي؟

ظل ماكثًا به لبعض الوقت ليدعس ما به من حشرات، ركلها نحو البالوعة الصغيرة، ثم عاد إليها ليتباهى بإنجازه العبقري في ذلك الموقف البسيط، فإن كان الأمر يخصه فقط لم يكن ليكترث أبدًا وتجاهل وجودهم، عقد ما بين حاجبيه متعجبًا حينما وقعت أنظاره على الموظف الذي كان واقفًا إلى جوار مقعدهما، أسرع في خطاه يسأله:
-في حاجة؟
وجد فرح ترمقه بنظرات حادة لا تبشر بأي خير وهو يدنو منها:
-الأستاذ حل المشكلة خلاص.

ضاقت أعينها عندما تابعت بنبرة ذات مغزى:
-فمافيش داعي تتعب نفسك
تجهمت ملامحه عقب جملتها تلك ولم يعلق عليها، أضاف الموظف موضحًا:
-يا مدام الحمامات نضيفة، وفي عمال بينضفوها أول بأول
ردت عليه بجدية مستخدمة يدها في الإشارة:
-أنا مش بأتكلم على النضافة، بالعكس كل حاجة كويسة، أنا اعتراضي كله على الحشرات والصراصير الموجودة فيه
جذب الموظف طرفي ياقتي قميصه معًا للأمام قائلاً بنبرة رسمية:.

-صعب نسيطر على الموضوع ده، احنا بنقف في محطات وسط الغيطان والأراضي الزراعية، طبيعي تلاقي حشرات وحاجات تانية، المهم إن الخدمة موجودة
ابتسمت له مجاملة وهي ترد:
-عمومًا شكرًا على اهتمامك بالموضوع
أومأ برأسه مرددًا:
-تحت أمرك
عادت لتجلس على مقعدها واضعة حقيبة يدها على حجرها، نظرت بوجه عابس إلى وجهه توبخه بلطفٍ:
-شايف الناس؟
رمقها بطرف عينه بنظرة مزعوجة، زفر قائلاً بضيقٍ:
-مكانش كام صرصار يعني، هانعملها أزمة!

ردت عليه بتأفف وهي تدير رأسها في اتجاه النافذة
-قفل على السيرة دي، كفاية قرف!
نظر لها شزرًا للحظة قبل أن يضيف بازدراء بائن في نبرته:
-هو أنا اللي فاتحته من الأول؟ شوفي مين اللي عمل من موضوع تافه زي ده ظيطة وهوليلة، وفرج علينا الناس!
التفتت ناحيته ترمقه بنظرات مشتعلة غيظًا منه، خاصة أنه يحملها الذنب، ردت بحدة:
-بقى أنا اللي غلطانة؟
لم يلتفت ناحيتها، أمسك بطرفي سماعة الهاتف ليضعهما في أذنه قائلاً ببرود:.

-أقولك على حاجة، اعتبريني مش موجود!
احتدت نظراته متمتمة بحنق مضاعف:
-اوكي يا يزيد!
بدا وجهه خاليًا من التعبيرات وهي تبرطم بجواره بكلمات مبهمة تحمل الغيظ والضيق متعمدًا التصرف ببرود كي يخمد اشتعال النقاش بينهما قبل أن يتفاقم إلى أكثر من ذلك، استمع إلى صوت رنين هاتفه في أذنيه، فضغط على زر الإيجاب ليرد بابتسامة متسعة:
-سلامو عليكم، أخبارك ايه يا مرات عمي؟
كركر ضاحكًا مضيفًا بعدها:.

-كله تمام، هانت، فاضل حاجة بسيطة ونوصل إن شاء الله
أنهى معها المكالمة نازعًا السماعات عن أذنيه موجهًا حديثه إلى فرح وهو يقول بحماسٍ:
-مرات عمي عاملة عزومة على حِسنا
نظرت له بنظرات جامدة مبدية عدم اهتمامها بما يقول، تنحنح قائلاً بجدية:
-بصي يا فرح، يا ريت تخلي أي خلافات بينا على جمب واحنا هناك، بلاش ننشر غسيلنا قدامهم؟
هتفت بعصبية رغم خفوت نبرتها:.

-هو أنا خلاص بقيت بتاعة مشاكل، وإنت مش بتعمل حاجة أبدًا، ملاك قاعد جمبي
رد عليها مشيرًا بإصبعه:
-أهوو ده اللي بيضايقني منك، عصبيتك على الفاضية والمليانة، اهدي شوية
أشارت إلى نفسها مرددة بسخطٍ:
-بقى أنا اللي أهدى؟ اومال إنت تبقى ايه؟
هز رأسه بالإيجاب مبررًا:
-منكرش إني عصبي، وبتفلت مني ساعات، بس أديني بأحاول أتحكم في نفسي
كتفت ساعديها قائلة:
-يعني مش لوحدي
زفر مطولاً بصوت مسموع ليرد بعدها:.

-خلاص يا فرح، احنا نعمل اتفاق من دلوقتي، نفكنا من العصبية ونتصرف كزوجين طبيعين
-طيب
قالتها باقتضاب ممتعض وهي تحدق أمامها منتظرة بضيق انتهاء رحلة القطار المطولة لتصل إلى وجهتها التي لا تعرف بالضبط أين هي.

صدحت صافرة القطار عاليًا لتعلن عن وصولها إلى محطة أخرى جديدة، كانت فرح قد غفت مرة أخرى في مقعدها فلم تشعر بزوجها وهو يستعد للنزول، هزها برفق من كتفها قائلاً:
- فرح
تثاءبت وهي تمط ذراعيها مرددة بخفوت:
-إنت رايح فين؟ هاتجيب حاجة؟
أجابها بابتسامة ودودة:
-يالا يا حبيبتي، احنا وصلنا
اعتدلت في جلستها لتتمكن من التحديق من النافذة وهي تقول بحماسٍ قليل:
-أخيرًا
سحب حقائبه متابعًا بصيغة شبه آمرة:.

-اتأكدي إن معاكي حاجتك، ويالا بينا!
-اوكي
جمعت سريعًا متعلقاتها الخاصة وهي تجوب بأعينها المقعد لتتأكد أنها لم تنسَ أي شيء، لحقت بعدها ب يزيد الذي ترجل أولاً من العربة لتتفاجأ بعدد الرجال الذين ينتظرونه في المحطة، تابعت ترحابهم الودود - والحميمي أيضًا – باهتمام حتى قدمها إليهم قائلاً:
-ودي مراتي
رسمت ابتسامة مصطنعة على ثغرها وهي تمرر نظراتها الخجلة على وجوههم الجادة، رد عليه أحدهم بابتسامة:.

-يا مرحب بيها
قربها يزيد منه مشيرًا لها بعينيه لتبادلهم التحية خاصة حينما هتف أحدهم:
-امنورة يا ست الكل
ردت بخفوت وهي تبتسم:
-شكرًا على ذوقكم
صاح أحدهم وهو يسرع في خطواته:
-العربية جاهزة يا باشا، هنطلعوا على دوار الحاج جلال طوالي!
أومأ برأسه قائلاً باقتضاب:
-ايوه
حمل أحدهم الحقائب عنه ليبدأ الجميع بعدها في السير نحو بوابة المحطة، تساءلت فرح بفضول:
-مين دول؟
أجابها يزيد بتفاخر:
-معارفي.

رفعت حاجبها للأعلى مرددة بإعجاب:
-ماشاء الله، وأنا اللي كنت مفكرة إن مافيش حد عارفك هنا
رد عليها بنبرة متباهية تبعث الفخر على النفس:
-إنتي لسه شوفتي حاجة، دي بلدي يا فرووح، يعني أهلي وعزوتي كلهم هنا.

بعد أن استقلت السيارة بجوار زوجها في المقعد الخلفي، أبقت فرح أعينها مركزة على الطريق كي لا تفوت فرصة تأمل أي منظر طبيعي، تمنت لو أخرجت الكاميرا الخاصة بها من حقيبة السفر لتسجل تلك المشاهد حتى تظل محتفظة بها في ألبوم للصور بالإضافة إلى ذاكرتها العقلية، مالت على يزيد تهمس له:
-بصراحة ماتوقعتش المكان يكون كده
ضيق عينه اليسرى متسائلاً
-كنتي مفكراه ازاي؟
أجابته بحرجٍ وقد تورد وجهها:.

-يعني على حسب ما بأشوف في المسلسلات
أومأ برأسه متفهمًا مقصدها المنتشر عند أغلب الناس حيث يعتقدون أن صعيد مصر ما هو إلا منطقة نائية خالية من الخدمات الأساسية كالمرافق والصحة وحتى الخدمات التعليمية، عبست ملامحه تلقائيًا وهو يرد بسخطٍ:
-أها، نظام الأفلام القديمة والجو بتاع جاي من ورا الجاموسة ومخه قِفل
رمشت بجفنيها هامسة بخجلٍ أكبر:
-بصراحة أه.

أشار لها بيده لتنظر نحو النافذة لتتأمل التصاميم الحديثة للبنايات وكذلك الطرق المرصوفة والمطلية بألوان زاهية قائلاً:
-أديكي هتقعدي يومين هنا وتشوفي الحال عامل ازاي
مطت فمها للأمام كتعبير عن إعجابها بما تراه، أردفت قائلة بحماسٍ:
-أنا مبهورة بصراحة
استمرت جولتهم بالسيارة قاطعين الطرق الرئيسية حتى ظهر أمامهم طريقًا فرعيًا، انحرف قائد السيارة نحوه ليكمل باقي الطريق إلى وجهته الأخيرة، حيث منزل العائلة.

بالطبع لم يختلف المشهد كثيرًا عما كانت تتخيله فرح في عقلها من وجود منزل كبير يتوسط عدد لا بأس به من الأراضي الزراعية على مرأى البصر، شعرت لأول مرة أنها تتنفس هواءً نقيًا منعشًا رغم حرارة الجو المرتفعة نسبيًا، لكن مشهد الخضرة مع السماء الصافية أضفى بهجة خفية إلى روحها، التفتت إلى يزيد تسأله:
-ده البيت؟
أجابها ببسمة سعيدة لحماسها الواضح:
-اه هو
ردت بحيوية ظهرت أيضًا في وجهها الذي ازداد توردًا:.

-ما شاء الله، شبه القصور بتاعة زمان
لف ذراعه حول كتفيها قائلاً بجدية واضحة في نبرته وتعبيرات وجهه:
-عشان ده بيت العيلة.

انتبه كلاهما لصوتٍ أنثويٍ أتى من على بعد، أدارت فرح رأسها في اتجاه صاحبة الصوت لتجد امرأة مسنة متشحة بالسواد لكنها تملك من النشاط ما يجعل وقفتها ومشيتها كالشباب، نظرت لها بتفرس متأملة قسمات وجهها الذي لم يخلو من التجاعيد، شعرت بقلقٍ طفيف مع اقترابها، ربما لأنها فرضت وجودها قبل أن تنطق بترحابٍ:
-يا أهلاً بالغالي، والله وليك شوقة يا ابن الغاليين
انحنى يزيد أمامها ليقبل يدها قبل أن يحتضنها قائلاً:.

-مرات عمي
ابتعد عنها فمسحت بيدها على رأسه، ربتت على كتفه متسائلة:
-كيفك يا ابني؟
أجابها بابتسامة راضية:
-الحمدلله يا مرات عمي
تساءل أحدهم من الخلف بنبرته الخشنة:
-نودي الشنط فين يا حاجة مفيدة؟
أجابته بلا تفكير وهي تشير بذراعها:
-على أوضة الغالي، أنا مخلية البنات ينضفوها وخلوها زي الفل
مالت فرح على يزيد وهي تشب على قدميها لتسأله بفضول:
-هو إنت كنت قاعد هنا؟
أجابها باقتضاب موزعًا أنظاره بينها وبين زوجة عمه:.

-أيوه
سألته من جديد:
-ودي صغيرة ولا كبيرة كده
-دلوقتي هتشوفيها
-طب و...
قاطعها محذرًا بصوت خفيض:
-يا ريت تبطلي أسئلة المخبرين دي دلوقت لحد ما ندخل جوا
عبس وجهها من صرامته التي ظهرت على تعابيره قائلة على مضض:
-ماشي
تساءلت مفيدة بهدوء مريب وهي تركز أنظارها الحادة على وجه فرح:
-دي مرتك؟
حرك رأسه بالإيجاب قائلاً:
-اه، فرح.

ابتسمت لها مفيدة نصف ابتسامة مسلطة أنظارها التي جعلتها تتوتر منها لتقول بعدها بنبرة لم تستسيغها:
-يا أهلاً بيكي يا بتي...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة