رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والعشرون
في تلك المواقف تحديدًا، ادعاء الإغماء هو الأسلم لتنجو بنفسها من ردة فعله القاسية، نظرت فرح إلى يزيد الذي كان يرمقها بنظرات غامضة أجفلت بدنها مستشعرة خطورة مهلكة من ناحيته نحوها، عمدت إلى إجبار جسدها على التراخي والتثاقل لتبدو كما لو كانت على وشك فقدان وعيها، ترنحت بقوة وأغمضت عينيها بقوة، تمنت في نفسها أن تنطلي عليه الخدعة ويصدق ذلك الأمر، وحدث ما تمنته، انتفض يزيد فزعًا في مكانه يسندها وهو يهتف بها بخوفٍ:.
- فرح! مالك يا حبيبتي؟ حصلك إيه بس!
وضع يده على وجنتها يربت عليها برفق هاتفًا بها:
-مش هاعملك حاجة والله، بس ردي عليا!
قبض على فكها وهزه بقوة أكبر صارخًا بها بتوتر كبير:
- فرح، سمعاني!
جاهدت لتبدو مقنعة ولم تصدر صوتًا أو تظهر أي استجابة وهو يهز جسدها بالكامل علها تتجاوب معه، جزع لسكونها المفاجئ، خشي من تدهور حالتها فانحنى ليحملها بين ذراعيه متجهًا بها إلى غرفة نومهما بخطوات مهرولة، أسندها برفق على الفراش ثم حل وثاق معصميها، واندفع نحو التسريحة ليبحث عن عطر ما يستخدمه في إفاقتها وهو يبرطم بكلمات غير مفهومة لكنها تضمنت بعض السباب، حبست فرح أنفاسها مترقبة خطوته التالية، لم تتبين ما يفعله بسبب إغماضها لعينيها، لكن حثها فضولها على اختلاس النظرات نحوه، رأته بنصف عين وهو يبعثر في محتويات التسريحة، عاودت إغلاق جفنها قبل أن يراها مواصلة ادعائها الزائف، جلس يزيد على طرف الفراش ونثر بعض العطر على راحة يده، ثم مرر ذراعه الأخر من خلف عنقها ليرفع رأسها إليه، قرب كفه من أنفها لتزكمه الرائحة القوية فتحث حواسها على الاستجابة، هتف قائلاً بقلق كبير:.
-حبيبتي، فوقي الله يكرمك، أنا بأهزر معاكي.
لم يجد منها أي ردة فعل فتضاعفت مخاوفه نحوها، أسند رأسها برفق على الوسادة لينهض بعدها من جوارها وهو يفكر في كيفية التصرف في موقف كهذا، وضع يديه على رأسه ضاغطًا عليها بقوة، بدا عاجزًا وهو يدور في الغرفة ذهابًا وإيابًا محاولاً ترتيب أفكاره، سلط أعينه نحوها يطالعها بنظراته المتوجسة لكنه لمح شيئًا ما أثار ريبته، توقف عن الحركة بعد أن اقترب منها وجمد أنظاره عليها للحظات يتفرس تعابير وجهها بدقة، لاحظ حركة جفنيها العصبية وكذلك تشنج قليل في زاوية فمها، استشعر وجود خطب ما بها، فإن كانت فاقدة للوعي لم تكن لتضغط على شفتيها بتلك الصورة العصبية، كان سيبدو على تعابيرها الارتخاء، خمن الأمر سريعًا، هي تلاعبه على طريقتها، أرادت أن تفلت من عقابه الزائف لها بإقلاقه أكثر عليها، عبست ملامح وجهه لاستغلالها له، فكر بتسلية ومكر في الاستفادة من ذلك الموقف لصالحه، فهي تستحق أن يلاعبها هو الأخر بتكنيكيات محترفة، راودته أفكارًا تمزج بين اللهو والجموح، فأخفى بصعوبة تلك الابتسامة اللاهية التي تشكلت على ثغره.
جلس يزيد على طرف الفراش مدعيًا ضيقه من عدم تمكنه من التعامل مع حالته المريبة، زفر مرددًا بامتعاض:
-مش عارف اللي حصلك ده من إيه
تنهد مجددًا بصوت مسموع وهو يتابع حديثه:
-طيب أغيرلك هدومك الأول جايز تكون كاتمة على نفسك!
استمعت إلى كلماته بآذان صاغية وهي تبذل أقصى طاقاتها لتظل ساكنة، ارتجفت مع شعورها بملمس يده على بشرتها، أحست بأنامله تتحرك هبوطًا نحو عنقها بطريقة تغري الحواس فانتفض من نومتها المصطنعة لتنكمش على نفسها وهي تزحف بعيدًا عنه، هتفت بتوتر بعد أن فهمت مقصده العابث:
-متقربش مني
نهض من مكانه لكتف ساعديه أمام صدره، رمقها بنظرات مطولة غامضة وهو يسألها بجمود مقلق:
-يعني مش مغمى عليكي أهو؟
ضمت ركبتيها إلى صدرها ثم ردت مبررة تصرفها وهي تنظر له بنظرات مفزوعة:
-لأ، أنا عملت كده عشان ماتمدش إيدك عليا وتضربني!
قست تعبيراته على الأخير مصدومًا مما تفوهت به، لم يتخيل أن تتصوره هكذا، هتف غير مصدق وقد انزوى ما بين حاجبيه على الأخير
-أضربك؟
هز رأسها بإيماءة صريحة وهي تجيبه:
-أيوه، أنا مش هاستحمل إهانة منك، كفاية اللي حصلي منك لحد دلوقتي.
وضعت يدها عفويًا على عنقها المغطى بالشاش تتلمسه بحذرٍ، احتدت نظراته وتشنجت تعبيرات وجهه، كور يزيد قبضته ضاغطًا على أصابعه بكل قوة، بدت وسيلته المتاحة حاليًا للتنفيس عن ضيقه الزائد بداخله، هي تظن فيه شخصًا همجيًا يهوى الاعتداء على النساء ليثبت رجولة زائفة، هو لم يكن أبدًا بمثل تلك التصرفات المشينة، حتى مع طليقته السابقة لم يتطاول عليها إلا مرة واحدة حينما أهانته وكان بالصفع، لم يتجاوز الأمر ذلك ولم يصل أبدًا إلى الضرب الوحشي أو العنيف، تنفس بعمق لعدة مرات بعد أن ساد صمتًا حذرًا بينهما، ف فرح ظلت تنظر إليه بتوجس تفكر فيما سيفعله معها، دار في خلدها الكثير من الهواجس تنتهي جميعها بالقتل، جمد أنظاره عليها وهو يشير بسبابته متابعًا بهدوء رغم حدة نبرته:.
-ماشي، مانكرش إني عصبي شوية
استنكرت جملته فهمست بارتباك لتصحح له مفهوم الانفعال لديه وهي ترمش بعينيها:
-شوية بس؟
ضغط على شفتيه قائلاً بامتعاض:
-شويتين
نظرت له بحدة وهو يبرر أغلب تصرفاته في إدارة مواقفهما معًا بأنها تعود إلى عصبية طفيفة تظهر على السطح في وقتٍ خاطئ، هتفت مستنكرة وهي تعتدل في جلستها:
-لأ كتير أوي، إنت مش بتشوف نفسك بتبقى عامل ازاي، كله عافية وبالدراع
سحب نفسًا مطولاً لفظه على مهل وهو يقول:.
-طيب معاكي حق في ده!
جلس على طرف الفراش متابعًا:
-جايز طبيعة شغلي مأثرة عليا، بس موصلش بيا الحال أضرب واحدة!
ثبتت أعينها المتوترة عليه، التقت بحدقتيه اللاتين تبثان أشواقًا وحبًا شغوفًا وهو يضيف:
-وخصوصًا لو مراتي وبأحبها!
ارتبكت من كلماته التي تتغلغل في أعماقها وتصيب حواسها بالانهيار، هي فقط بحاجة للتركيز على ما ستفعله لاحقًا، بحاجة لاستعادة ثقتها من جديد، بحاجة لإعادة بناء نفسها والخروج من بوتقة الأحزان التي تجذبها دومًا إلى أعماقها فتظل حبيسة ذكرياتها الموجعة، لمعت عيناها بعبرات قوية، مسحتهم قبل أن يتكاثروا في مقلتيها لتقول بنبرة مختنقة:.
-يزيد أنا تعبانة من جوايا، محدش قادر يفهمني ولا يحس باللي فيا، أنا عاوزة أكون لوحدي، محدش يضغط عليا ولا يقولي أعمل ايه ومعملش إيه
أزعجه أن تفكر في ذلك فقط، ألا تمنحه الفرصة ليكون إلى جوارها يدعمها، رد باستنكار شديد:
-بس إنتي مش عايشة لوحدك، ليكي بيت وزوج!
نكست رأسها باستياء جلي، لن يفهم أبدًا ما تريده، لكن تصلب جسدها حينما أكمل بابتسامة صغيرة:
-وجايز ربنا يكرمنا بطفل يملى حياتنا و...
قاطعته مرددة بنبرة مصدومة وقد اتسعت حدقتاها برعبٍ:
-طفل! ودلوقتي؟!
أومأ برأسه مؤكدًا:
-طبعًا، مش احنا متجوزين
ردت باحتجاج جلي أصاب في نفسه الريبة:
-بس أنا مش مستعدية للموضوع ده خالص!
شعر بانقباضة عنيفة تعتصر قلبه بقوة، فكلماتها –رغم عفويتها وترددها المبرر- ذكرته ب هايدي ورفضها التام للحمل والإنجاب، تزاحم في عقله ذكريات متداخلة من تلك المشادات الحامية التي نشبت بينهما فأنهت زيجتهما بنهاية مأساوية، سيطر على أعصابه بمجهود مضاعف كي لا يظهر تأثره بما قالت، رد باقتضاب وقد أظلمت نظراته:
-مش هانكلم فيه!
لم تشعر بما يختلج صدره الآن من مشاعر موجعة، ردت بتوسلٍ:.
-يزيد افهمني، بلاش تضغط عليا!
رفع وجهه لينظر نحوها بجمود جليدي مقلق، ابتلعت ريقها متابعة:
-أديني وقتي ومساحة أحس فيها إني مش مضغوطة من حد، أو إني بأتوجه لحاجة معينة
سألها مستنكرًا إصرارها على الابتعاد عنه:
-حتى أنا؟
هزت رأسها بإيماءة خفيفة مترددة وهي تجيبه:
-ايوه، حتى إنت كمان!
قست نظراته على الأخير من جملتها الصادمة، وما زاد الطين بلة عندما همست بتوترٍ:
-أنا ساعات بأخاف منك!
هدر منفعلاً:
-تخافي مني؟
بدا كما لو كان يكتشفها لأول مرة، يتعرف عليها من جديد، ربما تلك هي المصارحة الأولى الحقيقية بينهما بعيدًا عن تأثيرات الحب والمشاعر والعاطفة، تنهدت مكملة حديثها بنبرةٍ مهتزة:
-أيوه، إنت بتحسسني إني لو غلطت هت...
بترت عبارتها بخوفٍ واضح عليها، نظر لها دون أن يطرف وهو يأمرها:
-قولي.
انفجرت فيه صارخة من أسلوبه الآمر الذي يشعرها في أغلب الأحيان كما لو كانت أحد جنوده المجبرين على الانصياع لأوامره الصارمة وإلا تلقوا جزاءً وخيمًا:
-هتموتني، هتنتقم مني، هتحبسني، معرفش هاتعمل ايه بالظبط!
تأملها مدهوشًا انفعالها، كان على وشك الاقتراب منها لتهدئتها لكنها أوقفته بإشارة من كف يدها قائلة:
-متقربش!
تضاعفت رجفتها وهي تملي عليها ما قد يذيقها إياه من ألوان العذاب إن خالفته، فغر شفتاه مدهوشًا مما تقول، لم يكن ليجرؤ على فعل أيًا من ذلك، اعتصر الألم قلبه وهو يقول بأسفٍ:
- فرح أنا مقدرش أعمل كده، مين خلاكي تفكري في ده؟
بكت دون الحاجة للتبرير، كانت تحتاج لذلك لتشعر بالارتياح وبأنها أخرجت من صدرها ثقلاً يجثو عليه ويصيبها بالتعب، امتص غضبها قائلاً برومانسية عاشقة:.
-أنا بأغير عليكي وبأحبك، مش إنتي بتحبيني ولا خلاص الحب ده انتهى وكان وهم؟
عاد من جديد لتلك النبرة التي تشعرها بتأنيب الضمير والضيق، هي تبادله مشاعر الحب لكنها بحاجة لفسحة من الوقت لتقرر بنفسها ماذا تريد، توسلته ألا يضغط عليها فهمست له برجاءٍ:
-يزيد، من فضلك
سيطر عليه الإحباط من صدها له، فرك وجهه بيده مرددًا بتجهم:
-طيب، هاعملك اللي إنتي عاوزاه، وهاسيبك على راحتك.
لم تصدق أذنيها فنظرت له بأعينها الباكية وهي تسأله:
-بجد؟
تفاجأ من تلك الحماسة العجيبة التي انعكست على تعبيراتها الحزينة، هي حقًا في أمس الحاجة لذلك، التوى ثغره بابتسامة باهتة وهو يضيف مؤكدًا:
-ايوه، حتى ممكن نستغل دُخلة بنت عمي وتغيري جو
زوت ما بين حاجبيها مرددة بحيرة وهي تكفكف عبراتها:
-مش فهماك
تابع موضحًا:
-مرات عمي الكبير اتصلت بيا ساعة ما كنتي بتحاولي تهربي مني تعزمنا على دخلة بنتها.
نظرت له بحيرة جلية وهي تسأله مستفهمة:
-طب وأنا مالي؟
رد مبتسمًا:
-مش إنتي مراتي ولازم تعرفي كل جديد، أظن ده الطبيعي
أومأت برأسها قائلة بابتسامة صغيرة مصطنعة:
-أها، مبروك
-الله يبارك فيكي
تابعت متسائلة بفضول:
-بس ده علاقته إيه بيا؟
أجابها بزفير مطول:
-على حسب عوايدنا مش هاينفع نبارك من بعيد لبعيد
-يعني ايه؟
-أقصد يعني لازم هنسافر يومين الصعيد
ارتفع حاجباها للأعلى مرددة بصدمةٍ:
-الصعيد؟!
هز رأسه بالإيجاب وهو يقول:
-ايوه، فرصة تشوفي مكان جديد وتبعدي عن كل اللي هنا
عبست قسماتها متمتمة بحذرٍ:
-بس أنا مش عاوزة أسافر
حبست أنفاسها مترقبة ردة فعله، نظر لها يزيد بوجهٍ خالٍ من التعبيرات متسائلاً بامتعاض:
-ليه طيب؟
-مش حابة أختلط بحد ولا...
قاطعها بهدوء جاد وهو يشير بيده:
-بصي يا فرح، عشان مانضيعش وقت كتير في رغي على الفاضي احنا هنسافر، وده إجباري مش اختياري!
اغتاظت من استمراره في امتهان ذلك الأسلوب التسلطي معها، صاحت بحدة:
-برضوه بتاخد قرار من غير ما تخليني...
قاطعها مجددًا بجدية أشد:
-ده أحسن لينا
ردت مصححة:
-ليك إنت مش أنا
بدت من تعبيراتها المزعوجة أنها رافضة للأمر، عمد سريعًا لتغيير أسلوبه للين، ابتسم لها بصفاء وهو يقول مازحًا:
- فروحة يا حبيبتي، أنا هاسيبلك المساحة اللي إنتي عاوزاها هناك، إن شاء الله ترمحي في البلد كلها
لوت ثغرها مرددة بتهكمٍ:.
-بس ده معناه إني هافضل تحت عينك
حافظ على ابتسامته وهو يقول:
-مش أوي يعني!
جلس على طرف الفراش متابعًا بحماسٍ شديد:
-بأقولك ايه سيبك من رغي الستات الفاضي ده ووجع الدماغ، واعمليلنا أكل بإيدك، نفسي أدوق طعمه منك
عقدت ساعديها معًا وهي ترد بعبوس:
-مابعرفش أطبخ
لوح لها بيده قائلاً بنبرة غير مبالية:
-يا ستي عكي أي حاجة، أنا راضي
استشعرت سخرية واضحة في نبرته فصاحت تعنفه:
-بتتريق؟
غمز لها مؤكدًا بمزاحٍ:.
-هو أنا بتاع كده، وبعدين هو حد يكره إنه ياكل من إيد مراته، إلا إن كانت هتسممه!
التوى ثغرها بابتسامة متحدية وهي ترد:
-ماشي، بس مترجعش تقول بطني وجعتني
هتف مهللاً لتجاوبها معه:
-وماله، هنديها أنتينال!
وقفت فرح حائرة في منتصف المطبخ تفكر فيما ستعده له، لم يعطها أي خيارات محددة بل ترك لها الحرية لتقرر ما تشاء، اتجهت إلى البلكونة الجانبية الصغيرة -والمعزولة عن باقي المنزل ببابٍ خشبيٍ سميك - حيث اعتاد وضع ثمار البطاطس الجافة والبصل به، بالإضافة إلى بعض الأشياء القديمة والغير مستخدمة، أنارت المصباح لتتمكن من رؤية المحتويات بالداخل، سعلت قليلاً بفعل الأتربة العالقة، ألقت نظرة خاطفة سريعة على المناور الجانبية موزعة أنظارها بين النوافذ الصغيرة التي تطل على بلكونتها، أخفضت أعينها لتبحث عن ثمار البطاطس، التقطت واحدة بيدها وضعتها في الوعاء الذي بحوزتها، سحبت أخرى لكنها بدت غريبة من الجانب، قربتها من أعينها لتتفحصها باهتمام، تساءلت مع نفسها بحيرة:.
-هي مالها عاملة كده ليه؟
لم تلقِ لها بالاً وتابعت بعدم اكتراثٍ:
-هابقى أشطفها كويس.
سحبت ثالثة وكانت أكثر غرابة، حاولت ألا تفكر في شيء مريب، بل ربما قد يكون مقرفًا إن صدق حدسها وكان كما ظنت، جمعت سريعًا ما كانت تريده وخرجت من البلكونة وأطرافها ترتجف نسبيًا، ارتدت قفازًا بلاستيكيًا وهي تغسل الثمار وتقطعها، لم تشعر ب يزيد وهو يراقبها من الخارج متأملاً إياها بشغف، كانت منهمكة فيما تقول به فلم ترى نظراته المتلهفة لضمها إليها بذراعيه والارتشاف من نهر حبها لتشعر بعمق مشاعره نحوها، تحرك بحرصٍ شديد ليدنو منها، ثم لف ذراعيه حول خصرها ليطوقها من الخلف، شهقت مفزوعة من حضنه المفاجئ، عنفته بجدية:.
-ماينفعش كده
تراجع عنها قليلاً كي لا يفسد الأمر، اشرأب بعنقه ليفحص ما تصنعه متسائلاً:
-ها طابخة إيه؟
ردت بحدة أكبر وهي تدير جسدها في اتجاهه:
-يزيد لو سمحت، أنا كده مش عارفة أركز!
غمز لها قائلاً بهمس عابث:
-طب بلاها طبيخ ونقضيها...
قاطعته بصرامة بعد أن فهمت سريعًا المغزى من حديثه الغامض:
-بقى ده كلامك إنك هاتسيبلي مساحة من الخصوصية و...
اقتطع حديثها قائلاً بعبوس زائف وهو يشير بيده:.
-ما أنا بعيد عنك أهوو 2 سم
تحولت تعبيرات وجهها للصرامة، لوحت بيدها الممسكة بسكين الطهي قائلة بتهديد شبه علني:
-يزيد
نظر إلى ما في يدها مرددًا بتوجسٍ:
-احنا فينا من سكاكين، أنا بأقول الطيب أحسن.
لم تستطع إخفاء تلك الابتسامة العذبة التي تسللت إلى شفتيها لتجبرهما على التقوس، ودعها مؤديًا التحية العسكرية بدون أن يضيف كلمة أخري، أولاها ظهره ملتقطًا إحدى ثمار التفاح من البراد ليتناولها بالخارج وهو يمني نفسه بوجبة دسمة ستملأ معدته، مر بعض الوقت حتى انتهت فرح كليًا من إعداد كل شيء، هتفت بنبرة عالية وهي ترص أخر صحن على الطاولة:
-الأكل جاهز
أتى يزيد على إثر صوتها إلى غرفة الطعام قائلاً بمرحٍ:.
-أخيرًا
ابتسم لها قائلاً بامتنان:
-تسلم إيدك، الأكل ريحته حلوة
-ميرسي
جاب بأعينه على أوعية الطعام الشهية وهو يسحب المقعد للخلف ليجلس عليه، بدأ في دس لقيمات مختلفة من صينية البطاطس بالفرن في جوفه، نظرت فرح إلى تعابير وجهه لتتأمل رده فعله وهي تسأله باهتمام:
-ها عجبك البطاطس؟
ابتلع ما في جوفه قائلاً:
-هو طعمه غريب شوية بس شغال
اتسعت ابتسامتها وهي ترد بارتياح:
-طب الحمد لله.
انتظرت حتى فرغ من صحنه حتى تطلب منه بحرجٍ:
-أنا كنت عاوزة منك خدمة عشان أنا قرفانة
نظر لها مليًا وهو يسألها باهتمام:
-خير
أشارت بإصبعها للخلف لتجيبه بتأفف معكوس على تعابيرها:
-سبت الخضار اللي في المطبخ عاوز يتنضف
قطب جبينها باستغراب أكبر وهو يسألها:
-ليه، فيه حاجة؟
-معرفش، بس البصل والحاجات التانية شكلها مقروم كده ومش مريحني!
نهض من مكانه مرددًا بتوجسٍ:
-اوعي يكون عندنا فيران
هزت كتفيها قائلة:
-جايز.
أسرع يزيد في خطاه متجهًا نحو البلكونة الصغيرة الملحقة بالمطبخ، بينما انتظرته فرح على أعتابه، شبت بقدميها محاولة رؤية ما يفعله لكنها لم ترَ شيئًا، فقط أصوات جر وسحب بالداخل، لحظات وعاد إليها ممسكًا ببعض الحبات المتآكلة، رفعها أمام عينيها متسائلاً:
-إنتي طبختي من البطاطس دي؟
هزت رأسها بالإيجاب وهي ترد:
-اه
هزها بانزعاج واضح عليه معيدًا سؤالها:
-اللي اكلها الفار؟
أومأت مؤكدة:
-ايوه
شحب وجهها متابعًا:.
-وأنا كلتها
زمت شفتيها هامسة بترددٍ:
-أكيد يعني!
صاح بها مصدومًا:
-جالك قلب؟
وضعت فرح يدها على كتفه تربت عليه، ثم قالت بارتباك:
-إنت قولتلي عكي أي حاجة
-بس ده مش معناه أكل مع الفار
رمشت بعينيها، ثم ضغطت على شفتيها بقوة لإخفاء ضحكتها من ردة فعله، سحبت نفسًا عميقًا لتضبط به نفسها وهي تسأله:
-مش إنت كويس، مجرالكش حاجة، يعني بطنك مش بتوجعك؟
خرج من المطبخ يغمغم بضيق مبرر:.
-أنا مش فاهم دماغك فيها ايه، لاقتي البطاطس شكله عجيب تطبخيلي منه، لأ وأنا زي الجاموسة كلته كله
تبعته إلى الخارج قائلة بنفس الحدة
-على فكرة محصلش حاجة لكل ده، اعتبره زي راتيتولي
توقفت عن السير فجأة ليستدير نحوها وهو يقول بغضبٍ ظاهر في نبرته ونظراته:
-نعم ياختي
تنحنحت هامسة بترددٍ:
-قصدي الفار الطباخ، إنت مش عارفه
-محصليش الشرف.
-ده بقى مشهور، و كان بيطبخ الأكل للناس وبياكلوه وهما مبسوطين ومحدش اشتكى وفي الأخر فتح مطعم لوحده
رد بتهكمٍ:
-ده على أساس إن أنا من بقية عيلته؟!
هزت كتفيها في عدم مبالاة مما استفزه أكثر، صاح بها منفعلاً:
- فرح
ردت ببرود:
-خلاص بقى يا زوزي، ده فار، مش حاجة يعني
-ماشي هاتشوفي
توجست خيفة من جملته الغامضة تلك فسألته بقلق وهي تراه يندفع عائدًا نحو المطبخ:
-هاتعمل ايه يا يزيد؟
التفت ناحيتها قائلاً بوعيدٍ:.
-هاجيبهولك، مش الطباخ بتاعك
شخصت أبصارها مذعورة مما ينتوي فعله، لم تنتظر لترى إن كان سينفذ تهديده أم لا، صرخت بهلعٍ وهي تركض في اتجاه غرفة النوم:
-لأ، مش عاوزاه...!