قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل الثلاثون

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل الثلاثون

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل الثلاثون

لو كانت الوقاحة رجلاً لأرتده قتيلاً دون ندم أو تأنيب ضمير، للحظة شُل تفكيرها وهي تستوعب اقتحام تلك الفظة لغرفتها بطريقة سافرة مكملة استفزازها المستنفذ لهدوء الأعصاب متناسية آداب الضيافة، انتصبت فرح في وقفتها مخبئة ما كشف منها بقطعة الثياب هاتفة بتشنج:
-وهو من الأصول تخشي عليا الأوضة وأنا كده؟

رمقتها مفيدة بنظرة مطولة شملتها من رأسها لأخمص قدميها، رأت في نظراتها نحوها تأففًا جليًا، بل ونفورًا واضحًا على تعبيرات وجهها، تجهمت متسائلة بانفعال:
-قولي إني غلطانة يا حاجة مفيدة؟

تصرفت فرح بتلقائية مدافعة عن خصوصيتها فلم يطرأ ببالها أن تجد أعين الأخيرة القاسية والحادة مثبتة على ندوبها، تلك العلامات التي تركت أثرها على عنقها لتصبح سببًا قويًا في الإساءة إليها، تقوس فم مفيدة للجانب مبدية اشمئزازًا علنيًا منها وهي تقول:
-إيه الجرف (القرف) ده؟

اعتصر قلبها ألمًا من كلماته الطاعنة، عفويًا ارتخت يداها عن قطعة الثياب الممسكة بها لتضعهما على عنقها لتخفيه عن عينيها، اغرورقت حدقتاها بعبرات كثيفة حينما تابعت بقسوةٍ:
-ولدي واخد واحدة معيوبة؟!

اهتز بدنها كليًا مع شراسة حديثها الذي لم وأد مشاعرها فورًا، أغمضت فرح جفنيها بقوة وهي تتراجع مبتعدة للخلف ليلتصق ظهرها بضلفة الخزانة، لم تقوَ ساقيها على حملها، شعرت أنها على وشك الانهيار أمامها، أنجاها من شرها المستطر اقتحام تلك الشابة للغرفة، هتفت الأخيرة موبخة والدتها بنبرتها المزعوجة:
-إيه يامه اللي بتعمليه ده مع الضيفة؟
أجابتها بشراسة مهلكة لما تبقى من روح فرح:.

-تعالي يا سوسن شوفي اللي اخترها يزيد بدالك، واحدة استغفر الله، مُسخ!
شهقت ابنتها من لسانها السليط الذي بدا كالسياط وهي توصف ضيفة المنزل بأقذع الألفاظ، ارتفع حاجبي سوسن للأعلى باستنكار وهي تضع قبضتيها على كتفي أمها لتجذبها نحو باب الغرفة:
-مايصحش الكلام ده، بينا يامه من هنا!
نفضت مفيدة ذراعيها عنها مرددة بعبوس:
-أني خارجة ماتمسكنيش!

استمعت فرح إلى صوت بصاقها دون أن تكون بحاجة للنظر إليها، تعالت شهقاتها مع نحيبها المكتوم، لم تتعرض لمثل ذلك الإذلال المهين من قبل، هوى جسدها وهي تدفن وجهها بين راحتي يدها مطلقة لنفسها العنان لتبكي بمرارة وحرقة لتدخل من جديد في دوامة أحزانها التي لا تنتهي مجترة كأس ذكرياتها المؤلمة.

لم تستطع تحمل رؤيتها تذل وهي ضيفة عزيزة في منزل العائلة لمجرد ضغائن حملتها أمها ضد طليقة ابن عمها هايدي متوهمة أن فرح مثلها ستعاملهم بكل احتقار وحقد، وبخت سوسن - ذات البشرة الخمرية والأعين البنية – والدتها قائلة بعتابٍ كبير:
-حرام عليكي يامه، أبيه يزيد هايقول عنا إيه بس، احنا عازمينه على فرحي، وجايبين مرته نبهدلها
حدجتها مفيدة بنظرات نارية لترد بعدها بعدائية:.

-هتدافعي عن المصراوية جدامي (قدامي)؟
ثم زمت شفتيها متابعة:
-ما إنتي خلاص بجيتي (بقيتي) ترطني (تكلمي) بلغوتهم، ونسيتي عوايدنا
ردت عليها سوسن بقوة نابعة من أصلها الطيب:
-أنا اتعلمت يامه في أحسن الجامعات مش عشان أعوج لساني ولا أنسى أصلي، وعوايدنا علمتني إن إكرام الضيف واجب، فإزاي عوزاني أسكت عن ظلمك ليها؟
ثم تحولت لنكنتها للصعيدية وهي تضيف متسائلة بانفعال:
-من ميتى (امتى) بنعايرو الناس؟

ورغم كون ابنتها على حق إلا أنها رفضت الاعتراف بذنبها، اكتفت بالتحديق الصامت في وجهها وهي تزفر بقوة، هزت سوسن رأسها محتجة على أسلوبها ولم تتوان عن إشعارها بفداحة ذنبها.

ألقى ببقايا القشة التي كانت في يده بعد أن كسرها إلى جزئين ليلج إلى المنزل مستنشقًا رائحة العجين المخبوز الذي زكم أنفه بقوة، ابتسم يزيد بسعادة فقد كان يشتاق لتلك الرائحة التي عهدها منذ طفولته وصباه، منحته شعورًا جميلاً بالارتياح، لم يرغب في إضاعة الوقت دون أن يتجول كذلك في بلدته مستعيدًا ذكرياته القديمة، فكر في أخذ زوجته في جولة لترى الجمال الطبيعي بها لتشاطره ما يحب، أسرع في خطواته متجهًا نحو الدرج، لاحظ التوتر السائد بين ابنة عمه ووالدتها المتواجدتين بالرواق فتساءل باهتمام وهو يمر بينهما:.

-خير يا مرات عمي؟ حصل حاجة يا سوسن؟
توقفت كلتاهما عن نقاشهما المحتد، وتجمدت أنظار سوسن عليه مبتلعة ريقها بقلق مقروء في عينيها، نزعت مفيدة فتيل الصمت لتنفجر صائحة بتهكم:
-بقى تتجوز المُسخ دي يا يزيد
نزلت جملتها الصادمة كوقع طلقة نافذة أصابته في مقتل، شحب وجهه متسائلاً بفزع:
-قصدك مين؟

ارتبكت سوسن من ملامحه التي تحولت للقساوة ومن نظراته المحتقنة نحو والدتها، شعرت أنه سيفتك بأحدهم إن لم تتصرف هي، حاولت أن تخفف من وطأة الأمر عليه فردت بتلعثم:
-مافيش حاجة يا ابن عمي
بدا غير مقتنع بما تقول، استشعر وجود ما تخفيه عنه، بالطبع لم تضيع مفيدة الفرصة لتحرق الأرض بمن عليها، التفتت نحو ابنتها ترمقها بنظراتها الساخطة، حذرتها بعصبية بائنة في صوتها:
-اسكتي ساكت يا بت.

لم ينتظر يزيد في مكانه كثيرًا ليفهم ما ترمي إليه، خمن بذكائه أنها تقصد زوجته، وأنها ربما أساءت لها بطريقة ما، ركض نحو غرفته باحثًا عنها بداخلها، انقبض قلبه بقوة حينما وجد المكان خاليًا منها، قفز قلبه بين قدميه معتقدًا ذهابها، لكن صوت نحيبها طمأنه نسبيًا وأعاد إليه روحه، استدار بجسده نحو المرحاض الموصود بابه متنفسًا الصعداء، دق الباب عليه مرددًا بصيغة آمرة وهو يدير مقبضه محاولاً فتحه:.

- فرح، سمعاني، افتحي الباب!
ارتفع أنينها فتضاعفت مخاوفه عليها، هتف بقوةٍ وهو يقاتل لانتزاع المقبض:
-أنا هاكسر الباب، ابعدي عنه يا فرح!

تراجع خطوتين للخلف شاحذًا قواه ليندفع نحوه ضاربًا إياه بعنف قاصدًا خلعه من مفصله، كرر تلك الفعلة مرتين حتى فُتح على مصراعيه، وقف عند عتبته يلهث وهو يجول داخله ببصره، وجدها منزوية بجوار المغطس الصغير فهرول ناحيتها، جثا على ركبتيه أمامها يهزها من ذراعيها الملتفين حول ركبتيها المضمومتين إلى صدرها قائلاً بلهفة مضاعفة:
- فرح، ردي عليا.

لم تكن في حالة واعي كاملة، لف ذراعه حول ظهرها ومرر الأخر أسفل ركبتيها ليحملها دون انتظار ردها، خرج بها منه واضعًا إياها على الفراش، جلس بجوارها يمسح وجهها المتورم بيديه مرددًا بتلهف مرتعد:
- فرح، إنتي كويسة؟
مرر أنظاره على جسدها ليتأكد من عدم وجود أي إصابة به، وخاصة ندوب عنقها، شعرت بالارتياح لأنها لم تقدم على شيء متهور، رفعها إليه ليحتضنها هامسًا بصوته المختنق:.

-أنا أسف، حقك عليا أنا، حبيبتي ردي بس عليا وطمنيني
ترددت سوسن في الدخول للغرفة بعد أن رأت الحالة العصبية المبررة لابن عمها، كورت أصابع كفها لتضغط عليه وهي تتلج بحذرٍ إليه، أرادت أن تتفقد تلك الضيفة التي قاست القليل من عدائية والدتها دون ذنب فعلي، ضغطت على شفتيها قائلة بحرج وهي تقدم قدمًا وتؤخر الأخرى:
-إن شاء الله تبقى كويسة
رفع يزيد وجهه الملتهب بحمرة غاضبة نحوها ليصرخ بها:
-عملتوا فيها إيه؟

دافعت عن نفسها قائلة نافية أن يكون لها أي يد فيما أصاب زوجته:
-والله ما أنا يا أبيه، دي أمي دخلت عليها وأنا حاولت أمنعها
صاح بها بصوته الجهوري الغاضب مستخدمًا يده في التلويح:
-إنتو مستكترين علينا أكون مع مراتي؟ للدرجادي مضايقكم وجودها؟ عاوز أفهم الكره ده كله ليه؟ هو أنا اللي اتجوزتها ولا أنتو؟
ابتلعت ريقها قائلة بتوجسٍ:
-أنا ماليش ذنب، بالعكس أنا حابة أقوم معاها بالواجب
واصل صراخه المتعصب بها قائلاً:.

-لو فرح جرالها حاجة مش ه...
قاطعته ببسمة باهتة طامعة في نفسها أن تهدأ ثورته:
-مش هايحصل إن شاء الله
شدد يزيد من ضمه لزوجته، كانت شبه واعية لكلماته الثائرة المدافعة عنها، وجودها الآن معها أشعرها بالأمان الذي افتقدته في غيابه، هدر متسائلاً باهتياج:
-عاوز أفهم بتعايروها بإيه بالظبط؟
التفت ناحية فرح يرمقها بنظراته الآسفة، احتضن وجهها براحة يده ماسحًا على بشرتها برفق وهو يقول بصوتٍ شبه مختنق:.

-أنا السبب في اللي حصلها من البداية، لو بتقروا جرايد وبتابعوا أخبار هتعرفوا إن مراتي كانت هاتموت بسببي أنا!
استدار بتعابيره المحقونة غضبًا نحو سوسن هادرًا بنبرة عازمة:
-أنا مش هاقعد هنا ثانية واحدة
هتفت ابنة عمه بقلق وهي تحاول منعه مما عقد النية على فعله:
-استنى بس
كانت نظراته نحوها تحمل العتاب القاسي، وزاد من إحساسها بالذنب حينما عنفها قائلاً:
-متشكر يا بنت عمي، كنت فاكرك هتكرمي مراتك، بس طلعت غلطان.

دنت منه حتى بلغته، وضعت يدها على كتفه تتوسله برجاءٍ كمحاولة بائسة منها لرأب الصدع:
-اسمعني يا أبيه، أنا هاجيبلها حقها بس ماتمشيش
وقبل أن تضيف المزيد كانت والدتها تقف عند عتبة الباب تطالع ثلاثتهم بنظراتها الغير مريحة، هتفت صائحة بنبرة صلبة مجبرة إياهم على التحديق بها بغرابة صادمة:
-متزعليش يا بتي، حجك (حقك) عليا.

صدمة جلية اعترت أوجههم وهي تعتذر بهدوء وكأنها لم تفعل ما يُشين، رمشت سوسن بعينيها لتتأكد أنها لا تحلم، بينما بقيت نظرات يزيد المشتعلة على ملامحها القاسية رافضًا تمرير الأمر ببساطة، فأثر معايرتها لزوجته لن يكون بسهولة اعتذارها...!

ساد صمت متوتر ينذر بانفجارات وشيكة في الأجواء، لم يرتخِ ذراع يزيد عن فرح المرتجفة في أحضانه رافضًا بعنادٍ قبول اعتذار زوجة عمه وكأنها محت ببساطة إساءتها الفجة لها، بدا على أهبة الاستعداد للقتال من أجل حبيبته، تشنجت عروقه وهاجت الدماء في شرايينه حينما هدر بعصبيةٍ:
-بعد إيه؟
خطت مفيدة نحو الداخل بخطوات حذرة مقتربة من الفراش، حافظت على هدوئها أمام بركان غضبه وهي ترد بأسفٍ:
-أنا مقصُدش يا ولدي.

اهتاج صارخًا فيها بعصبية كبيرة:
-وأنا مش هاقبل مراتي تتهان
قست نظراته متابعًا بحدة وهو يشير بسبابته:
-لا في غيابي ولا في وجودي
هب يزيد واقفًا دون أن يفلت زوجته، ثم انحنى نحوها ممررًا ذراعيه أسفل جسدها ليتمكن من حملها، شهقت سوسن مصدومة، ونظرت إلى والدتها بتوجسٍ، حتمًا سيرحل عن هنا، اعترضت مفيدة طريقه لتمنعه من التقدم نحو الأمام هاتفة بقلق انعكس في نظراتها إليه:
-استنى يا ولدي، رايح فين؟

رمقها بعينيه الحمراوتين قائلاً بحسم:
-ماشي من هنا، ومحدش هايمنعني
-يا ولدي استهدى بالله الأول
رد صارخًا:
-محدش يكلمني السعادي
راقبت سوسن الموقف المتأزم بنظرات متوترة للغاية، حاولت أن تستعطف قلبه فتوسلته بنبرة الأخت التي تتوق لوجود أخيها بجوارها في أهم ليلة في حياتها:
-وأهون عليك تسيبني يا أبيه قبل فرحي بيومين
التفت بأعينه نحوها ليرد بتعنيفٍ قاسٍ:
-وحلال اللي اتعمل في مراتي يا سوسن؟ ردي عليا.

نكست رأسها خزيًا منه، فقد كان محقًا في ادعائه، وجه حديثه إلى زوجة عمه متابعًا بشراسة وقد برزت عروقه:
-إنتو مش شايفين بقت عاملة إزاي؟ عاوزيني أستنى هنا لحد ما يجرالها حاجة؟
ضمت سوسن قبضتي يدها معًا لتقول بتوسلٍ شديد:
-نتفاهم بس
أصر على رأيه العنيد هادرًا:
-مش هايحصل، أنا هاخدها وهانقعد في أي فندق
ردت عليه مفيدة باستنكارٍ:
-وأهل البلد يجولوا علينا إيه؟ ده حتى عيبة في حقنا.

اغتاظ من اهتمامها الزائد بأقاويل الغرباء عن ذهابه هكذا فجأة دون مراعاة ما فعلته عباراتها اللاذعة بزوجته وتأثيرها المدمر على نفسها، صاح منفعلاً وهو ينظر لها بازدراء متعمدًا ضم فرح أكثر إلى صدره والضغط على كل كلمة يتلفظها:
-عيبة في حقكم، لكن مراتي مالهاش كرامة عندكم؟
توترت تعبيراتها وارتبكت أمام عناده القوي، ابتلعت ريقها موضحة:
-اصبر أفهمك الأول
بينما أضافت سوسن برجاءٍ:.

-اسمعنا يا أبيه، الكل جاي يبارك ويهني ومايصحش يشوفوا واقعين في بعض
رد عليهما بغلظة وهو يوزع أنظاره الغاضبة بينهما:
-خايفين من كلام الناس ومش خايفين على مشاعر مراتي اللي اتهانت في بيت جوزها؟!
شبت سوسن على قدميها لتطل كتفه، ومن ثم قامت بتقبيل طرفه وهي تستعطفه:
-حقك عليا أنا يا أبيه، مقامكم والله محفوظ وعلى راسنا
لم تتوقف مفيدة هي الأخرى عن استمالة عقله المتصلب للعدول عن رأيه فأردفت قائلة:.

-سامحني يا ولدي، أني غلطت!
تراجع يزيد بزوجته التي يحملها بعيدًا عنهما هاتفًا بجمودٍ:
-مش هاستنى أكتر من كده
ردت عليه مفيدة بحزنٍ:
-عاوز تكسر بخاطري؟
كظم غضبه رغمًا عنه حينما أمعن النظر في عينيها ورأى الدمعات تتجمع فيهما، راقبت سوسن ردة فعله بترفس، فكرت أن تلجأ إلى حيلة أخرى متعشمة خيرًا أن تجبره بذلك على البقاء، هتفت قائلة بنزقٍ وهي تدعو الله في نفسها أن يتخلى قليلاً عن عناده:.

-طيب استنى لحد ما نبعت حد من الرجالة يشوفوا فندق تقعدوا فيه، مش هاتلف بيها في البلد وهي كده يا أبيه، عشان خاطر مصلحتها هي، خليها في السرير، واحنا هنخليهم يعملوا كل اللي إنت عاوزه.

للحظة أخفض نظراته ليحدق في وجه فرح الذابل، كانت بحاجة للبقاء في الفراش بالإضافة إلى متابعة من طبيب ما ليطمئنه على وضعها الصحي، تضاعف إحساسه بالذنب لإيصالها لتلك الحالة حتى وإن لم يكن بطريقة مباشرة، أعطى صمته الفرصة ل سوسن لتكمل بحذرٍ:
-فكر بالعقل يا أبيه، ومحدش هايجي جمبها، وأنا هاراعيها لحد ما تفوق وتبقى كويسة
استغلت مفيدة الفرصة لتظهر حسن نيتها فأضافت بتلهفٍ:.

-في ضاكتور موجود في الوحدة إهنه، هانبعتوا نجيبوه علشانها يا ولدي، ها جولت إيه؟
رفع وجهه المحقون بدمائه الثائرة لينظر لهما مطولاً، فكر بجدية في حديثهما، حبست مفيدة أنفاسها مترقبة قراره النهائي، زادت تعابيره تعقيدًا وهو يقول بخشونةٍ:
-ماشي، هاستنى لحد ما أطمن عليها!
تنفست زوجة عمه الصعداء لاستجابته لرجائها حتى وإن كان الوضع مؤقتًا، لكنه منحها بارقة أمل للتفاوض معه من أجل المزيد.

باستعطاف رقيق وتوسلٍ مبالغ فيه أجبرته سوسن على الانتظار بالرغم من رفضه الصريح، اصطحبته بعد ذلك للخارج ليجلس مع والدتها التي طلبت الحديث معه على انفراد، كان عابس الوجه متجهم النظرات، رمقته مفيدة بنظرات مطولة تحمل الأسف وطالبة للمسامحة والغفران، لم ترغب في إنهاء زيارته العزيزة بتلك الطريقة المأساوية، اعتصرت عقلها لتفكر في طريقة تسترضيه بها، نظرت له من طرف عينها فوجدته شاردًا في عالم أخر، تنهدت محدثة نفسها:.

-سامحني يا رب!
انتهت من صب القهوة التي أعدتها على الموقد الصغير لتضعها في فنجانه، مدت يدها بها نحوه لتناوله إياها، تردد لثوانٍ قبل أن يأخذها ثم أسندها أمامه، أدركت أنه مازال غاضبًا منها، أحنت رأسها على كتفه تقبله قائلة بخفوت:
-وأدي راسك أبوسها يا ولدي
سحب نفسًا عميقًا حبسه في صدره ليضبط به انفعالاته قبل أن يفسد الأمور، التفت ناحيتها متسائلاً بعتابٍ:
-ترضيها يا مرات عمي ل سوسن؟

هزت رأسها بالنفي وهي تجيبه:
-لع
ثم ضغطت على شفتيها متابعة بنبرة شبه مختنقة:
-بس أني معذورة، غضبي كان عاميني
سألها محتجًا على مبررها الواهي:
-هو إنتي شوفتي فرح قبل كده ولا اتعاملتي معاها؟
امتعض وجهها وهي ترد:
-لع، بس افتكرتها زي المخفية الأولى
انفلتت أعصابه من وضعها دومًا في تلك المقارنة المجحفة، لذا رد بعصبية متهورة:
-مليون مرة أقول فرح مش زيها، ليه الكل بيقارنها بيها؟ ليه؟!

عللت موقفها قائلة بحزنٍ وهي تطرق رأسها للأسفل:
-اللي اتلسع يا ولدي من الشوربة بينفخ في الزبادي، أني خوفت منها، بس..
ازدردت ريقها مكملة بندمٍ حقيقي:
-بس ظلمتها!
رفع حاجبه يرمقها بنظراته الجادة وهو يسألها:
-فكرك الكلام ده هيراضي فرح؟
هزت رأسها متفهمة غضبتها هي الأخرى منها، فالمسامحة لن تكون بالخيار المتاح معها خصيصًا، سألته مفيدة بانكسار بادٍ في نبرتها:
-شوف الترضية اللي هي عاوزاها وأنا هاعملها علشانها.

كان موقفها حرجًا للغاية، فهي المتسبب الرئيسي في افتعال كل تلك المشكلات منذ لحظة وصولهما إلى منزل العائلة، فقط لاعتقادها الخاطئ بأن فرح تشبه هايدي في تصرفاتها الفظة وفي إساءتها لها، لكنها كانت مجحفة في حقها وظلمتها، أصدرت حكمها عليها دون أن تعرفها أولاً أو حتى تتحرى جيدًا عن أخلاقها، ناهيك عن حقيقة هامة غفلت عنها، ألا وهي أن يزيد لن يتزوج مطلقًا من تشبه تلك الوقحة المتمردة في أي شيء، حاولت أن تختلق الأعذار لتدعم موقفها، فتنهدت مضيفة بنبرة تحمل المرارة:.

- يزيد يا ولدي، من يوم ما اتطلجت (اتطلقت) وأنا كان بودي أجوزك سوسن، بس إنت مرضيتش
رد بجدية رافضًا أي تلميح في ذلك الأمر:
-هو في حد يتجوز أخته يا مرات عمي، ده أنا مربيها على إيدي
-أني استخسرتها في الغريب
-ربنا يصلح حالها ويكرمها مع زوجها
-يا رب، ها يا ولدي مسامحني؟

جمد أنظاره عليها دون أن ينطق، ثم التفت برأسه ليحدق في الفراغ أمامه، صمت كلاهما لبعض الوقت مانحين أنفسهما الفرصة للتفكير في تبعات كل شيء، قطع يزيد هذا السكون مرددًا برجاء لكنه جاد:
-مقدرش أزعل منك يا مرات عمي، بس علشان خاطري محدش فيكم يضايق فرح، هي، هي اتعذبت كتير واتبهدلت معايا
أومأت برأسها قائلة وهي تربت على ظهره:
-اللي تؤمر بيه يا ولدي.

هز ساقه بحركات عصبية قبل أن ينهض من مكانه لتسأله الأخيرة بتوجسٍ قلق:
-هاتروح فين؟
أجابها وهو يدير رأسه في اتجاهها:
-هاشوف عم نصر سأل في اللوكاندة اللي هنا
هبت واقفة من مكانها تتوسله بأعين تسربت إليها العبرات وهي تقبض على ذراعه بكفيها:
-ورحمة الغاليين كلهم ما تمشي
سحب ذراعه ببطء من بينهما قائلاً بإصرار:
-مش هاينفع أستنى بعد كده
احتضنت وجهه براحتيه تستجديه:.

-أحب على راسك يا ولدي، خليك إهنه، وأنا هابوس على راس مرتك وأصالحها
نظر لها بجمود لكنها لم تتحمل أن ينفذ ما قاله، انهمرت عبراتها لتؤثر بقوة في جموده الزائف نحوها، أخرج زفيرًا مخنوقًا من صدره وهو يرد:
-القرار ده راجع لفرح
كفكفت دمعاتها لتضيف:
-إنت جوزها وليك كلمة عليها
رد عليه بلهجة صارمة حتى لا تستخدم طريقتها في استرقاق قلبه:
-المرادي هي اللي هاتقرر يا مرات عمي، مش أنا.

كانت كمن ألقى بثقل جسده على الفراش بعد أن مارس تمارينًا رياضية مكثفة فتصلبت عضلاته بالكامل، شعرت فرح بالتيبس مسيطرًا على ما بقي من جسدها، أخرجت أنينًا موجعًا وهي تتقلب على جانبها، فتحت جفنيها على مهل لتجد ذات الوجه البشوش والباسم تطالعها بنظرات مشرقة مليئة بالحيوية، رمشت فرح بعينيها رامقة إياها بنظرات استغراب، فوجهها بدا مؤلفًا لها رغم كون هويتها مجهولة، ابتسمت لها سوسن قائلة بلطفٍ:.

-مساء الخير
اعتدلت فرح قليلاً لترفع جسدها على الوسادة وهي تتأوه بصوت خفيض، ثم تابعت أسئلتها بنبرتها الناعسة:
-إنتي مين؟
أجابتها بنفس الود المندمج أيضًا مع نظراتها:
-متقلقيش، إنتي في بيت جوزك.

بدأ عقلها يستوعب ما دار معها مؤخرًا، إهانات وصراخ محتد، ندوب وآلام جسدية، إساءات لم تستطع تحملها، وقاحة منقطة النظير، انتفضت فرح في نومتها بطريقة مفزعة وهي تتلفت حولها لتتأكد أنها بالفعل في نفس الغرفة التي شهدت تلك اللحظة القاسية، ارتعد جسدها وارتعشت أطرافها، سحبت الغطاء لتغطي به جسدها وقد زاغت أبصارها، خافت سوسن من حالة الهلع التي سيطرت عليها، مدت يديها نحوها قائلة بخوفٍ:.

-متخافيش، أنا سوسن، محدش هايجي جمبك
سألتها بفزع جلي في نظراتها إليها:
- سوسن مين؟
ظلت الأخيرة محافظة على الابتسامة الودودة المتشكلة على ثغرها وهي تقول:
-أنا العروسة
ارتبكت وهي تكمل بحذرٍ:
-وأمي تبقى الحاجة مفيدة
مجرد لفظ اسمها جعلها تشعر بمدى كراهية تلك السيدة لها، صاحت بلا تفكير وهي مطبقة بيديها المرتجفتين على طرف الغطاء:
-أنا عاوزة أمشي من هنا، فين يزيد؟
أشارت لها بكفيها قائلة:
-موجود، اهدي بس.

صرخت فيها بهيسترية:
-ناديله، مش هاقعد هنا، إنتو...
قاطعتها برجاءٍ:
-عشان خاطري اسمعيني
انكمشت فرح أكثر في الفراش محاولة الذود عن نفسها من أي تهديد قد يطالها، أسرعت سوسن بالاعتذار علَّها بذلك تهدئ من روعها وتلطف الأمور قليلاً:
-أنا بتأسفلك عن أي حاجة حصلت، وعن أي كلام اتقال غلط في حقك
ركزت أبصارها المرتاعة عليها، بينما تابعت بتوترٍ مستخدمة يديها في التوضيح:
-بصي أنا غير أمي خالص، صدجيني!

تعجبت فرح من لهجتها المتحولة ما بين الصعيدية والمحلية العادية، ربما حيرتها تلك منحت عقلها لحظات ليهدأ فيها ويفكر في ذلك الأمر المحير نسبيًا والمناقض لطبيعة المكان الذي تتواجد به، استمرت سوسن في تبادل أطراف الحديث الجدي معها قائلة:
-مايغركيش إني صعيدية، أنا متعلمة وخريجة تجارة.

لم ترف عيني فرح وظلت محدقة بها متخذة الصمت كردٍ أساسي، حفز ذلك سوسن على الجلوس إلى جوارها على طرف الفراش، التفتت نحو الكومود لتمسك بدورق المياه الموضوع عليه، أفرغت القليل منه في الكوب المسنود بجانبه، ثم استدارت بجسدها لتعطيها إياه وهي تقول بلطفٍ:
-اشربي يا فرح.

زوت الأخيرة ما بين حاجبيها مبدية استغرابها من معرفتها لاسمها، هي لم تلتقِ بها من قبل لتتحدث أولاً معها بتلك الألفة، ولتسهب ثانيًا في الحديث معها وكأن بينهما رابط صداقة قديم، تفهمت سوسن حيرتها الظاهرة على وجهه المرهق، ابتسمت لها قائلة وهي تعيد وضع الكوب على الكومود:
-أنا هافهمك سبب كره أمي ليكي إيه، جايز تعذريها، بس بأحلفك بالله ما تحكي لأبيه يزيد حاجة، هو ميعرفش باللي حصل لحد النهاردة.

ارتابت أكثر من كلماتها الغامضة والتي تبعث الشك في النفوس، ظلت تطالعها بتلك النظرات المتوترة، تنهدت سوسن مطولاً مخرجة زفيرًا ثقيلاً من صدرها، ثم استطردت قائلة:
- هايدي طليقة أبيه يزيد الأولى، أكيد إنتي سمعتي عنها؟

ارتسم في مخيلة فرح صورة طيفية لتلك القاسية التي أوقعت بها سابقًا في ملعوب محكم جعلها تتجرع الكثير وأوصل علاقتها مع حبيبها إلى لحظة فارقة كادت تخسر فيها الكثير، بل إنها كانت بطريقة أو بأخرى ضلعًا في إصابة والدتها الراحلة بأزمة قلبية، بدت تعبيراتها مشدودة وهي تستمع إلى صوت سوسن القائل:.

-هي جت مرة زيارة هنا معاه، أمي قامت بواجب الضيافة كيف ما احنا متعودين نعمل، وشالتها زي ما بتقولوا كده يا مصاروة على كفوف الراحة
صمتت للحظة لتجذب انتباهها ثم أكملت بصوت خفيض لكنه كان مزعوجًا:
-بس هي قابلت ده بالبهدلة والإهانة وقلة القيمة لأمي، دي شتمتها و، بلاش أقولك عملت ايه، واحنا صعايدة مانقبلوش الغلط
خرجت فرح عن سكوتها صائحة بتشنج:
-وده يديها الحق إنها تهيني؟!
أطرقت سوسن رأسها قليلاً وهي ترد بحرجٍ:.

-هي فكرت إن كل المصاروة واحد
حاولت أن تلطف الأجواء فتابعت بمزاحٍ:
-يعني زي ما بتقولوا دبحتلك القطة من الأول علشان تعمليلها حساب
عبس وجه فرح على الأخير، وامتعضت نظراتها، تنفست سوسن بعمقٍ لتقول بعدها بابتسامة رقيقة:
-بس قلبها أبيض وزي البافتة البيضا.

شجعها سكونها على وضع يدها على كتفها لتضغط عليه برفق وهي ترمقها بنظراتها المطمئنة، انتبهت فرح ليدها الموضوعة عليها فركزت بصرها معها، ولكنها لم تزحها، أبعدت سوسن كفها لتضعه أسفل طرف ذقنها فتتمكن من رفع وجهها إليها، ثم نظرت في عينيها مكملة بجدية:
-والله العظيم مش علشان هي أمي أنا هدافع عنها، بس فعلاً هي ندمت على اللي عملته معاكي.

خشيت أن يكون في صمتها المقلق تلميحًا صريحًا لرفضها تصديق ما باحت لها به من أسرارٍ عاهدت والدتها قديمًا على كتمانها ودفنها مع الماضي، اضطربت أنفاسها وهي تنتظر بقلب مضطرب في دقاته ردها عليها...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة