قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

مسح بنعومة على بشرتها قبل أن يتراجع بظهره للخلف لينتصب أكثر في جلسته الغير مريحة، أغمض يزيد عينيه مستعيدًا في ذاكرته ما حدث قبل وقت سابق عندما انتهت مراسم العُرِس واعتقد أن الأمور كلها قد مضت على خير، وَدَّع آدم وزوجته بعد أن استقلا السيارة ليذهبا في طريقهما لتبدأ حياتهما الزوجية معًا، تشكل على ثغر فرح ابتسامة خجلة، وظلت تعبث بباقة الورد المسنودة على حجرها بارتباك ملحوظ، بينما لم تختفِ ابتسامته السعيدة عن محياه، وزع نظراته بينها وبين الطريق، بدا باله مشغولاً بسبب كيفية إبلاغها بما حدث لوالدتها، أتعبه إنكار عقلها لتلك الحقيقة المفجعة، ظل يفكر في طريقة تمكنه من ذلك تكون متضمنة أقل الخسائر.

بين جنبات نفسه أراد ألا يفسد روعة اليوم، ولكن لا مفر من الحقيقة، أخرجه من شروده الحائر صوتها الهامس وهي تقول بتنهيدة:
-كان نفسي ماما تكون حاضرة، أنا مش عارفة هي ليه مجاتش!
تحاشى النظر نحوها وهو يبتلع ريقه بصعوبة، حافظ على ثبات ملامحه الهادئة أمامها متسائلاً بحذر:
-هو إنتي مش فاكرة هي راحت فين؟
أجابته برقة وهي تداعب الباقة المسنودة في حجرها:
-بصراحة لأ، حاسة إن في حاجة غلط، غيابها المفاجئ ده قلقني!

حدق فيها بنظرات متفرسة دون أن يعقب على كلماتها التي شكلت خنجرًا حادًا أوخز صدره بشدة، فإن أراد إخبارها برحيلها عن عالمهم الحسي عليه أن ينتقي الوقت المناسب، والآن ليس بالجيد على الإطلاق، رغب أولاً في توطيد علاقته بها، خاصة أنها أصبحت زوجته وبعد برهة ستتلاحم روحيهما سويًا، أكملت فرح حديثها قائلة بنعومة:
-أنا معرفش حاجة عنها من ساعة ما كنا في اسكندرية!
حركت فرح رأسها في اتجاهه لتضيف بعتاب:.

-وقت الخناقة بينا! فاكر؟
تنهد يزيد بعمق وظل مسلطًا أنظاره على الطريق وهو يفكر بجدية في كيفية التصرف معها، حالة الهروب من الواقع التي تعيشها تؤرقه كثيرًا، بل وشغلت كامل تفكيره، لاحظت هي شروده الدائم وصمته الذي طال، فسألته مستفهمة:
-مالك؟ ساكت ليه؟
رد عليها بخشونة قليلة:
-مافيش يا فرح.

انتبه هو لصوت رنين هاتفه المحمول معلنًا عن قدوم رسالة نصية، فمد يده ليلتقطه، ثم قرأ فحواها بنظرات سريعة، تضمنت الرسالة كلمات مقتضبة من رفيقه آدم توصيه بها، عاود قرأتها محدثًا نفسه:
-خلي بالك من فرح، بلاش تعرفها حاجة دلوقتي!
ضغط على شفتيه بقوة، ونفخ بضيق وهو يلقي بهاتفه على (تابلوه) السيارة، راقبت هي تصرفاته المريبة، وسألته وهي محدقة فيه بغرابة:
-مين؟
أجابها بفتور:
-ده آدم، بيحب يرخم كعادته عليا.

لم تقتنع بإجابته، فتعابير وجهه توحي بالعكس تمامًا، ورغم هذا ردت باقتضاب:
-اوكي!
حركت فرح رأسها للجانب لتحدق في الطريق وتتأمل تفاصيله بشرود، لاحظت تبدل وجهتها المعتادة للعودة إلى منزلها، فسألته بتعجب:
-هو احنا مش رايحين على البيت؟
أجابها بجدية وهو يدير عجلة القيادة:
-لأ رايحين
أمعنت النظر في الطريق جيدًا، وردت معترضة:
-بس مش دي السكة!
ابتسم بألفة قائلاً:
-ما هو احنا طالعين على بيتنا!

انعقد ما بين حاجبيها باستغراب مرددة بتعجب قليل:
-بيتنا؟!
هز رأسه بإيماءة خفيفة مجيبًا إياها بهدوء:
-ايوه، عندي!
ارتبكت سريعًا من جملته المقتضبة، كما توردت وجنتاها بحمرة خجلة، وابتلعت ريقها قائلة بهمس متلعثم:
-هاه، عندك!
غمز لها يزيد قائلاً بعبث:
-إنتي ناسية إن احنا متجوزين وعرسان جداد!
عضت على شفتها السفلى بحياء، وردت بنبرة مضطربة وهي تعبث بأناملها بالباقة:.

-أها، بس كنت عاوزة أكلم ماما الأول، وأشوف هي فين و آآ...
قاطعها يزيد قائلاً بجدية:
-فرح!
حدقت فيه بتوتر مرددة:
-نعم
مد يزيد يده ليمسك بكفها المختبئ في حجرها، ثم جذبه نحو فمه، وقبله بعشق، فارتجفت من لمسته، بادلها نظرات متيمة، وهمس لها:
-عاوزك متفكريش في حد خالص واحنا مع بعض، متفقين؟
هزت رأسها بخجل وهي تسحب كفها من بين يده:
-اوكي
ابتسم يزيد لزوجته، وردد بصوت رخيم:
-بأحبك يا فراشتي!

جلست على طرف الفراش لتنزع حذائها عن قدميها، ثم بدأت في فركهما بتمهل، كان اليوم مرهقًا بالنسبة لها فقد تكفلت بإتمام الكثير، أطلقت آنات موجوعة وهي تدير رأسها في وجه زوجها آدم الذي استرخى على الفراش، ضاقت نظراتها نحوه فرأته عاقدًا لساعديه خلف رأسه ومحدقًا في سقفية الغرفة، هتفت شيماء قائلة بقلق:
-أنا خايفة يا أندومي، مش مطمنة للي ممكن يحصل بعد كده!
رد عليها بفتور:.

-يعني هأعمل ايه أكتر من اللي عملته؟ ما هو على يدك بعتله رسالة أوصيه!
نهضت عن الفراش، وبدأت تنزع سحاب ثوبها للأسفل متابعة حديثها بنبرة متوجسة:
-شكلها مش مريحني خالص، ده ولا في بالها موضوع مامتها!
اعتدل آدم في نومته مسلطًا أنظاره عليها ثم رد بنبرة عادية:
-ماهي مش على طبيعتها يا شيمو!
نزعت ثوبها عنها، وجذبت منامتها الحريرية لترتديها، تنهدت بعمق لتضيف بعدها:
-ربنا يستر!

تعلقت أنظار آدم بجسد زوجته، وجاب بعينيه على قسماتها المغرية، التوى فمه بابتسامة متسلية مرددًا:
-يزيد واعي وهيعرف يتعامل زي ما أنا بأتعامل
عاودت شيماء الجلوس على طرف الفراش، وحدقت في زوجها قائلة بنبرة متعبة:
-كان نفسي نكون معاهم!
انتصب في جلسته، وحدجها بنظرات قوية مردداً بسخرية:
-طب بذمتك ده ينفع؟ لأ وفي يوم زي ده، جرى ايه يا شيمو؟ خلي عندك فيلنج (إحساس)
عبست بوجهها وهي تهتف بعصبية قليلة:.

-الله، مش قلقانة عليها!
دنا أكثر منها متفرسًا في مفاتنها الأنثوية باشتياق، مال على رأسها ليهمس لها بعذوبة:
-بس إنتي حلوة النهاردة!
لكزته شيماء في كتفه بدلال لتزداد محبتها في قلبه، أشاحت بوجهها للجانب بعد أن فهمت مقصده اللاهي، وردت عليه بضيق مفتعل:
-يووه يا آدم، وده وقته!
وضع آدم أصابعه على كتفها متحسسًا إياه برفق، ثم همس متسائلاً بمكر:
-أومال وقته امتى بالظبط؟

دفعته بقوة قليلة من صدره، وهبت واقفة من مكانها، نظر لها بضيق مبديًا انزعاجه من تصرفه، غمزت قائلة وهي تتغنج بجسدها:
-حاسب كده أما أشوف بنتك!
اغتاظ من تجاهلها له، ورد عليها بنبرة ممتعضة:
-لومة في سابع نومة دلوقتي، ماحبكتش يعني!
زفرت بصوت مسموع، فنهض من مكانه، واقترب منها، ثم حاوطها من خصرها بذراعيه، فأصبحت محاصرة في أحضانه، نظر آدم مباشرة في عينيها، وتنهد قائلاً بحرارة:.

-تعالي احنا نقول كلمتين كده على السريع
حاولت شيماء تحرير نفسها منه، ولكنها فشلت، فقد تمكن منها كعادته، ثم هتفت بدلال:
-إنت فايق وبتهزر؟!
ضمها أكثر إلى أحضانها صائحًا بجدية تحمل بين طياتها المرح:
-يا بت خليكي ناصحة واستغلي الفرص، تعالي بقى! ده موضوع حيوي تقوم عليه حروب!

صف سيارته أسفل البناية التي يقطن بها، وأخفض رأسه قليلاً ليحدق في مدخلها، تلفتت فرح حولها بنظرات سريعة وشمولية محاولة اكتشاف المكان الذي أتت إليه معه، بدا التوتر الممزوج بالخجل واضحًا على تعبيراتها، لم يحالفها الحظ أن تراه من قبل، فقد حدث كل شيء بصورة سريعة للغاية، هي تعرفت عليه في فترة قصيرة، تعاملت معه بحذر لكن اندلعت شرارة الانجذاب بينهما رغم إنكار الاثنين لذلك في البداية، تودد هو إليها، وتطورت العلاقة بينهما من مجرد علاقة عمل رسمية إلى ارتباط شرعي في فترة زمنية محدودة، سيطر عليها إحساس داخلي بالخوف والقلق، فهي لم تعرفه جيدًا، ودومًا يتكرر الصدام بينهما في أي شيء، ومع ذلك هي تثق في حدسها الذي أنبأها بطيبته ورجولته، تذكرت كلمات والدتها عن شهامته وأخلاقه الكيسة ومدحها المتواصل له، فاستغلت ذلك في تشجيع نفسها على المضي قدمًا في حياتها معه، عفويًا ترجلت من السيارة لتتحرك نحو أقرب مدخل للبناية الواقفين أسفلها، ولكنها استدارت برأسها للخلف حينما سمعت صوت يزيد يأمرها.

-استني يا فرح!
ردت عليه متسائلة باستغراب:
-في ايه؟
اقترب منها بخطى متمهلة وهو يرمقها بنظرات رومانسية مطولة، ثم لف ذراعه حول خصرها، وانحنى بجذعه قليلاً للأسفل ليحملها قائلاً بخشونة محببة:
-هو يصح برضوه عروسة تدخل بيتها لأول مرة على رجليها؟!
شهقت مصدومة من فعلته الجريئة، وتلفتت حولها بخجل بعد أن اكتسى وجهها بحمرة شديدة لتعاتبه بخوف:
-إنت بتعمل ايه؟
تقوس فمه بابتسامة عابثة وهو يجيبها:
-بأرحب بيكي.

سار هو بها حاملاً إياها نحو المصعد الموجود بالطابق الأرضي، بينما ركلت فرح بساقيها في الهواء قائلة باحتجاج خجل:
-يزيد، نزلني مايصحش كده!
مال بجسده على مفتاح المصعد ليضغط عليه، ثم حدق فيها عن كثب مردداً بصوت خفيض:
-الله! قوليها تاني!
ردت عليه بحدة قليلة وهي تحاول إجباره على تركها:
-نزلني!
هز رأسه نافيًا وهو يصحح لها:
-لأ اسمي، يزيد!
يئست من تخليص نفسها منه، وردت بضجر بعد أن زاد شعورها بسخونة وجنتيها:.

-لو سمحت!
أمال يزيد رأسه على أذنها ليهمس لها متسائلاً بعتاب لطيف:
-ينفع الرسميات دي بينا!
عضت على شفتها السفلى بخجل كبير، فتابع بنبرة صادقة:
-بأحبك يا أحلى فرحة في حياتي
اضطربت من تأثيره القوي عليها، وردت بخجل وهي ترمش بعينيها:
-وأنا كمان!

فُتح باب المصعد على مصراعيه، فحدق كلاهما بصدمة في السكان الخارجين منه، أطرقت فرح رأسها خجلاً بسبب ذلك الموقف المحرج، فمازال زوجها يحملها دون اكتراث لمن حوله، لم تتبدل تعابير يزيد، بل ظل متشبثًا أكثر بها غير مهتم بنظراتهم، تحرك بها للداخل بعد ابتعادهم، وضغط على زر غلقه، قاومته فرح محاولة إنزال نفسها عنوة وهي تقول بضجر:
-عاجبك كده، الناس بتبصلنا وآآ...

قاطعها قائلاً بنبرة غير مبالية وهو يحكم قبضته عليها:
-ولا يفرقوا معايا، المهم إنتي وبس يا أجمل فراشة خطفت قلبي
أخفضت نظراتها خجلاً من غزله الصريح، بينهما أسبل هو عيناه نحوها متأملاً بشغف واشتياق حياءها المثير لمشاعره المشتعلة بحبها.

بعد لحظات خرج كلاهما من المصعد، فتوجه بها يزيد نحو باب منزله، رفض تركها حتى يلج بها للداخل، أنزلها برفق لتقف على قدميها، ثم لف ذراعه للخلف ليبحث عن مفتاح الإنارة ليضيء الصالة، تأملت فرح المكان بنظرات خاطفة. كان منمقًا ومرتبًا للغاية، أثاثه على الطراز الحديث، يخلو من أي لمسة أنثوية، فهو قد استبدل محتويات منزله بالكامل بعد أن انفصل عن هايدي - زوجته الأولى – ليبقى بمفرده فيه لسنوات متتالية،.

شعرت بالخوف رغم إحساسها بمشاعرها العميقة نحوه، لكن التحول المفاجئ في حياتها أربكها كثيرًا، لا تعرف لماذا تحديدًا خالجها ذلك الشعور الآن، لكنها هكذا دومًا حينما تخوض تجربة جديدة عليها، ابتلعت ريقها بتوجس، وتنفست بعمق محاولة الحفاظ على ثباتها الانفعالي أمامه فهي اليوم مقبلة على مرحلة جديدة في حياتها، لاحظ يزيد شرودها، وكذلك اضطرابها، فاقترب منها، ثم انحنى برأسه على كتفها ليطبع قبلة ودودة عليه، فانتفضت فزعة في مكانها من حركته تلك.

ابتسمت بتكلف له، وهمست معتذرة:
-سوري، اتخضيت شوية
وضع يده على ظهرها ليضمها إلى صدره، ثم سألها بود وهو يشير بعينيه:
-ايه رأيك في منزلي المتواضع؟
أجابته بابتسامة صغيرة:
-حلو!
أضاف قائلاً بحماس وهو يتحرك معها:
-إن شاء الله هنعدل فيه حاجات كتير على ذوقك!
هزت رأسها متفهمة، فتابع متشجعًا:
-أنا غيرت أوضة النوم وجبت حاجة كده مودرن، يا رب يعجبك ذوقي!
عضت فرح على شفتها السفلى بارتباك كبير هامسة باقتضاب:
-اوكي!

غمز لها قائلاً بمكر:
-تعالي شوفيها!
حاولت التملص منه قائلة بجدية:
-أنا عاوزة أشوف باقي البيت الأول!
جذبها من ذراعه إليه، وهز رأسه محتجًا:
-لا، مش وقته خالص!
خجلت من تلميحاته الضمنية، فابتسم لحيائها، وأكمل متسليًا وهو يرمقها بنظرات ذات مغزى:
-دي يا فروحتي أهم حاجة في البيت، والأولويات تقتضي نبدأ بيها!
وقبل أن تعترض عليه، أمسك بكفها، وسحبها منه خلفه، سارت فرح بخطوات متعثرة بسبب ثوبها، وهتفت بضيق قليل:.

-استنى بس!
التفت نحوها ليقول بابتسامة عريضة ونظراتها الشغوفة تطالعها بتلهف لتذوق طعم السعادة من على شفتيها:
-هنستنا احنا الاتنين جوا، يالا يا فراشة!

قطمت قطعة كبيرة من البيتزا لتشرع في مضغها بشراهة قبل أن تسحب الحاسوب المحمول لتضعه على حجرها، ظلت تطالع ما يظهر على شاشته بتركيز شديد فلم تنتبه لنداءات زوجها لها، فرقع أمير بإصبعيه أمام وجهها لترفع رأسها نحوه وهي قاطبة لجبينها، سألها مهتمًا:
-بتعملي ايه يا إيلي؟
أجابته زوجته إيلين بهدوء وهي تشير بعينيها:
-باظبط كام حاجة كده في اللاب بتاع فرح.

انزوى ما بين حاجبيه باستغراب من استحواذها عليه، هتف متسائلاً:
-وهو بيعمل ايه معاكي؟
عبثت بخصلات شعرها ونفضتها للخلف، ثم أجابته دون تردد:
-يزيد جوزها ادهوني عشان التقارير اللي كانت كتباها فيه
هز رأسه متفهمًا فتابعت موضحة:
-المفروض كانت تسلمها من فترة، ومستر عبد السلام سأل عليهم!
أكمل متسائلاً:
-وإنتي بتكملي شغلها، مظبوط كده؟
هزت رأسها نافية وهي تقول:.

-لأ، هي عاملة كل حاجة، ومجهزة التقارير، بس أنا بأرتبهم على حسب الأولوية و...
قاطعها مشيرًا بكف يده:
-تمام
نظرت له بأعين لامعة، ثم أخفضت نبرة صوتها لتبدو رقيقة وهي تضيف:
-معلش يا حبيبي، ربع ساعة وهاكون معاك
فرك أمير مؤخرة رأسه قائلاً:
-براحتك يا إيلي، وأنا هابص على مارسيل وأرجعلك
أرسلت له قبلة في الهواء قائلة بابتسامة مشرقة:
-بأحبك.

ابتسم لها زوجها بود وتركها تكمل عملها دون مقاطعة أخرى، فعكفت هي على إنهاء ما بدأته في أقرب وقت مدعمة تلك المقالات الصحفية بما التقطته عدسات رفيقتها الاحترافية من لقطات مميزة، أبدت إعجابها بمهارتها قائلة:
-برافو يا فرح، طول عمرك شاطرة!

توقفت عند عتبة غرفة النوم مترددة في الدخول، حاولت أن تشتت تفكيرها المتوتر في تأمل الأثاث الأنيق الذي امتاز بألوانه الداكنة، تحركت أعينها نحو الفراش فتجمدت نظراتها عليه، إنه ذلك الشيء الذي سيجمعها بزوجها بعد دقائق، ارتجف بدنها من مجرد تخيل الوضع، لوهلة شردت في كلمات كريم المعسولة لها وهو يداعب أذنيها بمعسول الكلام، كان جيدًا في ذلك، نفضت عن عقلها جبرًا ذكراه، وعاتبت نفسها لتفكيرها فيه بعد زواجها من غيره، تابعها يزيد من الخلف بنظرات فضولية، لم يقاطع تأملها الذي طال لكنه ضجر من الانتظار، دنا منها بخطوات متمهلة وهو يسألها بهدوء:.

-ها عجبتك الأوضة؟
انتبهت لصوته ورسمت على ثغرها ابتسامة مرتبكة وهي ترد:
-ايوه، حلوة!
سلط أنظاره عليها متابعًا بغزل صريح:
-بس مش أحلى منك!
وقف قبالتها ومد يده ليلتقط كفيها بيديه، ارتعشت قليلاً من لمساته الحذرة ونظرت له بتوتر، تقوس فمه للجانب بابتسامة سعيدة، ثم سحبها إليه ببطء حتى باتت شبه ملتصقة به، تنهد قائلاً بنبرة تحمل المزيد من الأشواق:
-أخيرًا اتقفل علينا باب واحد!

ابتسمت له بحياء له مسبلة عينيها خجلاً منه، نظر لها بتمعن أكثر، ومال برأسه نحوها محاولاً نيل أول قبلة من على شفتيها، لكنها سحبت يديها فجأة من قبضتيه لتفسد عليه الأمر، انسلت من بين أحضانه قبل أن يتمادى معه قائلة بتلعثم خجل:
-اليوم كان لطيف
حدجها بنظرات شبه مغتاظة من فرارها العابث منه، وضغط على شفتيه بقوة ليقول:
-اه، كان ظريف وخفيف.

أولته فرح ظهرها، ولفت ذراعيها حول نفسها محاولة بث شعور الاطمئنان لنفسها المضطربة، وقف يزيد خلفها ثم طوق خصرها بذراعيه ليحاصرها بداخل أحضانه، أسند طرف ذقنه على كتفها، واقترب بفمه من أذنها ليهمس لها بعشق:
-مش هاتهربي مني يا فروحة!
قشعريرة لطيفة داعبت بشرتها، فارتكبت أكثر وحاولت التخلص منه، أحكم قبضته عليها جيدًا كي لا تفلت منه، وتابع قائلاً بصوت خفيض للغاية:
-حبك ليا إجباري، مش اختياري!

تسارعت دقات قلبها من نبرته المؤثرة، شعر بتهدج أنفاسها واضطراب حركة صدرها، فتدفق الأدرينالين المتحمس في خلاياه وازداد رغبة في التعبير عن مشاعر حبه لها، تملكها أحاسيس مختلفة في آن واحد، ما بين الرغبة والشوق، الحب والخوف، التردد والإقدام، شعرت بسخونة تلهب وجنتها وهو يطبع قبلة صغيرة عليها ليشعل أتون مشاعرها، سرت قشعريرة استمتاع في خلايا جسدها، أدارها ببطء نحوه دون أن يفلتها، وحدق فيها بنظرات مليئة بالعشق، مال عليها يزيد أكثر ليطبع قبلة أخرى ولكن على شفتيها، أغمضت عينيها مستسلمة لتأثير المشاعر الغريبة التي اجتاحتها وعصفت بكيانها، ظل يعمق من قبلاته لها بعد أن استشعر تجاوبها معه، للحظة اقتحم عقلها طيف صورة والدتها، فابتعدت فجأة عنه لتقول بصوت شبه لاهث:.

-يزيد، أنا عاوزة أكلم ماما الأول!
تصلبت عروقه وتخشب جسده من جفائها الغريب، لم يكن راغبًا في إفساد ليلته معها، فرد بحذر:
-فرح مش هاينفع دلوقتي، خلينا نركز في...
قاطعته بإصرار وقد عبست بوجهها:
-لأ، قلبي مشغول عليها.

حاول إقناعها بالعدول عن تلك الفكرة فرفضت الانصياع له، وقف يطالعها بنظرات حائرة يفكر فيما سيفعله معها، شعرت بالريبة من تجنبه المتعمد لكل ما يخص والدتها، كذلك أثار حفيظتها تحججه بأعذار واهية ليمنعها من مهاتفتها حتى، عاندته مرددة:
-مش هاسمع أي حاجة منك، خليني أكلمها الأول، ولا أقولك أنا هاروحلها
همت بالتحرك فاعترض طريقها بجسده قائلاً بحدة:
-استني يا فرح
نظرت له بحدة وهي تقول:
-لو سمحت خليني أعدي.

حسم أمره بالبوح بكل شيء، فإن استمر في إخفاء الأمر عنها سيتعقد كل شيء، سحب نفسًا عميقًا لفظه دفعة واحدة، جمد أنظاره عليها قائلاً:
-طب اقعدي الأول
تسمرت في مكانها رافضة التحرك مما دفعه للإمساك بها من رسغها لإجبارها على الجلوس على طرف الفراش، زفرت بصوت مسموع وانتظرت بترقب حديثه الغامض، فرك طرف ذقنه عدة مرات ثم أشار لها بسبابته موضحًا:.

-أنا عاوزك تبقي فاهمة إنك أغلى حد في حياتي، صعب أسيبك أو حتى أفرط فيكي
قطبت جبينها وهي تطالعه بنظرات غريبة، جثى يزيد على ركبته أمامها، والتقط كفها بيده ليداعب أصابعها برفق، استصعب الأمر كثيرًا فاستجمع شجاعته ليقول بجدية تامة:
-فرح، مامتك الحاجة فوزية...
توقف عن إتمام جملته عاجزًا عن الاعتراف بحقيقته وفاتها، تنفس مجددًا ببطء ثم ضغط على شفتيه متابعًا بترقب متوتر:
-ماتت.

تجمدت أنظارها عليه ولم تبدو متأثرة بما قالته، ظنت أنها مزحة سخيفة منه يرددها على مسامعها ليزعجها فهتفت بلا تفكير تعنفه:
-إنت بتهزر؟
سلط عينيه على تعبيرات وجهها المتشنجة مبتلعًا ريقه بتوتر، تابع قائلاً بتوجس وقد شعر ببرودة كفها:
-أنا مكونتش عاوز أقولك، بس مش مستحمل أشوفك كده ومش هاستنى إنك تفكري إني مانعك عنها
هبت واقفة من جلستها لتصرخ فيه بانفعال طفيف:
-دي نكتة بايخة على فكرة!

نهض واقفًا من مكانه ليمسك بكفها الأخر رافضًا تحريرها وهو يقول بنبرة جادة:
-لأ، للأسف دي الحقيقة اللي إنتي مش عاوزة تصدقيها
استشعرت جدية حديثه فانقبض قلبها بقوة، ارتجفت أطرافها من مجرد التفكير في احتمالية صدق ما قاله، دق قلبها بعنف وهي تعاتبه:
-يزيد بلاش تخوفني، أنا مش بأحب كده
سحبها إلى أحضانه ليضمها بقوة ليحتوي انفعالاتها قبل أن تطفو على السطح، همس لها مؤكدًا:.

-حبيبتي، هي دلوقتي في مكان أفضل، ادعيلها بالرحمة
تهدجت أنفاسها على صدره وشعرت بأن روحها تقتلع منها، استعاد عقلها سريعًا مشاهدًا متداخلة من لحظات معرفتها بوفاتها، بدأت الصورة تتضح تدريجيًا، لم تكن أوهامًا، هي رحلت بالفعل، تجمعت العبرات سريعًا في مقلتيها مع اكتمال معرفتها بالحقيقة، اعتصر فؤادها ألمًا لفراقها الأبدي، وانتابتها نوبة من الصراخ الباكي فشدد يزيد من ضمه لها، توسلها قائلاً:.

-عشان خاطري اهدي، ماينفعش اللي بتعمليه ده!
تضاعفت أحزانها بفجيعتها فيها، تشنجت بجسدها صارخة:
-ماما! ليه سبتيني لوحدي؟ ماما!
أرخى ذراعيه عنها ليحتضن وجهها بكفيه، حدق مباشرة في أعينها الباكية هاتفًا برجاء:
-حبيبتي، اهدي، ده قضاء ربنا!
وضعت كفيها على يديه محاولة انتزاعهما عنها وهي تصرخ فيه بجنون:
-ابعد عني، أنا عاوزة أروح لماما
رفض تركها متفهمًا حالتها الغير طبيعية، نظر لها بإشفاق وهو يرد:.

-لأ مش هاسيبك، إنتي مش في وعيك والصدمة كبيرة عل...
أجبرته على قطم عبارته بصراخها القائل:
-إنت السبب، إنت اللي موتها!
اتسعت حدقتاه مدهوشًا من كلماتها الخطيرة، استخدمت قواها الغاضبة لتدفعه عنها متابعة بتشنج:
-إنت اللي عملت فيها كده، أنا افتكرت كل حاجة!
أحزنه تلميحها الصريح وابتلعت ما قالته بمرارة، تعامل مع انفعالاتها المهتاجة قائلاً بحذر:
-أنا مقدر اللي إنتي فيه، بس صدقيني أنا...

وضعت يديها على أذنيها لتمنع نفسها من الإصغاء إلى صوته وتابعت بصوت لاهث:
-ليه حرمتني منها؟ ليه؟

فاقت الحقيقة الموجعة قدرتها على الاحتمال وضاعف من تأثير ذلك عليها، لم يتمكن عقلها من الصمود كثيرًا والمقاومة، أتعبها تذكر كل شيء، اجتمع في عقلها كل الذكريات الحزينة التي أضنت قلبها، ظلت تصرخ بصورة هيسترية حتى بدأت قواها تخبو تدريجيًا، شعرت بالظلام يغلف عينيها بقوة، فاستسلمت له وغابت عن الوعي رغمًا عنها، تهاوى جسدها فأسرع يزيد بإسنادها قبل أن تسقط وترتطم بالأرضية، رفعها إليه حاملاً إياها ثم وضعها برفق على الفراش، ركض باحثًا عن هاتفه المحمول، عبث بأزراره قبل أن يضعه على أذنه ليقول بعدها بخوف بائن في نبرته:.

-آدم تعالى عندي بسرعة، فرح عرفت بالحقيقة...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة