قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع عشر

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع عشر

رواية هي و الربان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع عشر

تصلب جسده كليًا وتشنجت عروقه حينما أبلغته القيادات بالمكيدة التي تم تدبيرها للإيقاع بتلك الجاسوسة، شخصت أبصار يزيد وشحب لون وجهه بطريقة مفزعة، لم يتصور أن توضع زوجته قليلة الخبرة - بل وحتى ضعيفة الحيلة في موقف كهذا -يفوق قدرتها على التعامل مع شخصية إجرامية مثلها، التفت نحو قائده هاتفًا باعتراض وهو يقاتل للحفاظ على هدوء انفعالاته:
-ده خطر عليها يا فندم
رد القائد بجدية:.

-المركب متأمنة يا سيادة المقدم
احتدت نبرة يزيد قليلاً وقد اشتعلت نظراته:
-بس ده مش كفاية
تنفس القائد بعمق مرددًا بهدوء محاولاً طمأنته:
-في ناس تبعنا عليها، أكيد مش هانسيبها كده، وبعدين إنت فاهم إن دي محاولة لإلهائها لحد ما يتقبض على باقي الشبكة
كز على أسنانه محدثًا نفسه بحنق:
-يعني مراتي تروح فيها عشان ال، دي!
زفر بتمهل كي لا يخرج عن سكونه الزائف متسائلاً:
-طيب يا باشا افرض حصل...
قاطعه قائلاً بجدية:.

-اطمن، وده مش كلامي، القيادات كلها شغالة على الموضوع ده من فترة، وخلاص الموضوع قرب ينتهي
ازدرد يزيد ريقه متمتمًا بتوجس كبير وقد شردت أعينه:
-ربنا يستر.

في بقعة أخرى، وبالقرب من إحدى التجمعات السكنية الهادئة، تحركت القوات الأمنية في اتجاه ذلك المبنى يتبعون تعليمات قائدهم الصارمة، لم يحدثوا جلبة كي لا يلفتوا الأنظار نحوهم، لكن أشارت تحركاتهم المتسللة إلى خطورة الوضع، رفع أحد الضباط الملثمين ذراعه للأعلى ليشير بإصبعيه نحو المدخل، فانشق البعض منهم متجهين نحوه، خطى قائدهم بحذرٍ أشد نحو زاوية أخرى، ثم همس في رجاله محفزًا إياهم:.

-استعدوا للهجوم يا رجالة.

تأهب من معه واتخذوا وضعية القتال، أكملوا سيرهم الحذر حتى بلغوا الطابق المنشود، تم إحكام السيطرة عليه من كافة الجهات، وعند اللحظة المناسبة اقتحم الجميع في وقت واحد ذلك المبنى محدثين فيه فوضى عارمة، اشتد الوضع تأزمًا بإطلاق النيران والعبوات الغازية، حاول من بالداخل الفرار قبل أن يُلقى القبض عليهم، باءت محاولتهم بالفشل وأصيب بعضهم بالأعيرة النارية، وألقي القبض على البعض الأخر، بالإضافة إلى سقوط بعض الضحايا من الجانبين، وفي خضم ذلك نجح أحدهم في إرسال رسالة نصية إليها هي تحديدًا، لتهرب قبل فوات الأوان.

شعرت بقلبها يهوي في قدميها مع تلك الاهتزازة القوية للقارب، تشبثت فرح أكثر بحافته كي تحافظ على اتزانها، بالطبع كان الأمر يسيرًا بالنسبة لديما لتستفزها حتى تخرج عن حذرها المبالغ فيه معتقدة أنها بذلك ستهلكها حتمًا، انتبهت لرنين هاتفها، فأخرجته من حقيبتها، أتاها صوتًا يحذرها بإحدى اللكنات الأجنبية التي تجيدها، تحولت قسمات وجهها للشدة ونظراتها للقتامة حينما عرفت بحقيقة الوضع، عمدت إلى إخفاء ذلك التوتر الشديد الذي اعتراها لتبدو هادئة، رسمت ابتسامة زائفة على ثغرها مدعية استمتاعها بالأجواء المحيطة بها، بدأت تتلفت حولها بنظرات متفحصة لأوجه المحدقين بها، ارتابت في أحدهم ممن يطالعها بطريقة غامضة، أشاحت بوجهها بعيدًا عنه تفكر في الخيارات المتاحة لها، وقعت أعينها على فرح المرتجفة بجوارها، التوى ثغرها بابتسامة عابثة وهي تقول لنفسها:.

-هالغبية تذكرتي للخروج من هون!
تنحنحت ديما بصوت خفيض لتقول بعدها:
-فرح، أنا بلشت أتعب، بدي أنزل
ردت عليها الأخيرة بنبرة مهتزة:
-أه وأنا كمان
ثم نهضت بحذر من مكانها لتضيف:
-هاروح أكلم أكلم المراكبي يرجع بينا على الشط
وقفت ديما هي الأخرى معها قائلة بهدوء مريب:
-راح إجي معك.

وبالفعل توجهت الاثنتان نحو صاحب القارب لتبلغاه برغبتهما في العودة إلى الشاطئ، امتثل لطلبهما وأدار الدفة في الجهة العكسية، جلست فرح من جديد في مكانها وهي تتنفس الصعداء لمرور الأمر على خير، بينما ظلت ديما متحفزة لما يمكن أن يحدث معها، اعتقد الضابط المراقب لديما بوجود خطب ما خاصة بعد أن لاحظ التصرفات المريبة لها بالإضافة إلى عودة القارب للشاطئ قبل انتهاء الجولة البحرية، كذلك لاحظ تعبيراتها التي تبدلت، فمال على زميله الجالس بجواره مغمغمًا بصوتٍ خفيض:.

-خدت بالك منها؟
رد بجدية شديدة رغم خفوت صوته:
-ايوه، مش لازم نفارقهم للحظة
-تمام.

ذرع الرواق جيئة وذهابًا وهو يحاول جاهدًا الاتصال بزوجته، تعذر عليه الوصول إليه وظلت تلك الرسالة المسجلة تتكرر باستمرار، أطلق يزيد سبة نابية من بين أسنانه ضاربًا بكفه الحائط بعنف، دنا منه آدم يراقب تشنجاته المتوترة، حاول طمأنته رغم القلق الذي يسيطر عليه هو الأخر، استطرد قائلاً بهدوء مصطنع:
-متقلقش يا يزيد، هاتكون بخير
ضرب يزيد بقبضته الحائط من جديد وهو يصيح بحنق:.

-أنا هاتجنن، أكيد جرالها حاجة، مش بترد عليا
-القائد قال إنهم متراقبين وفي حراسة و..
قاطعه منفعلاً وقد برزت مقلتاه:
-مش كفاية يا آدم، فرح هاتروح مني، وأنا واقف عاجز هنا مش عارف أعملها حاجة
نكس آدم رأسه قليلاً ليقول:
-مش عارف أقولك ايه
فرك يزيد وجهه كليًا براحة يده وهو يتمتم مع نفسه بصوتٍ مزعوج:
-استر يا رب!
عاود مهاتفتها قائلاً بنبرة متصلبة وهو يضغط على أسنانه:
-ردي يا فرح، طمنيني عليكي!

بعد دقائق وصل القارب للمرفأ، فنزل من على متنه بعض الجالسين به، وكان في مطلعهم فرح التي أرادت وبشدة أن تلامس قدماها الأرض لتشعر بالأمان من جديد، ما لم تضعه في حسبانها أنها ستواجه الأخطر هنا، تبعتها ديما بخطوات حثيثة لا يفصلها عنها أي شيء ثم تأبطت في ذراعها بشكل غريب، التفتت فرح نحوها متسائلة باستغراب:
-ليه كده؟

ابتسمت لها ديما دون أن تعطيها الجواب المناسب مما أثار ريبتها أكثر، واصلت الاثنتان سيرهما المتعجل حتى باتتا في منطقة شبه خاوية من المارة، لحق بهما الضابطان وهما مسلطان أنظارهما عليهما، استدارت ديما برأسها للجانب لتلاحظ مراقبتهما المستمرة لها، تيقنت أنهما سيلقيان القبض عليها، لذلك حسمت أمرها بإنهاء كل شيء الآن، تأهبت سريعًا للانقضاض على فرح، توقفت عن السير ولفت ذراعها حول عنقها لتطوقها منه، تفاجأت الأخيرة بما تفعله بها فصاحت مستنكرة:.

-هو في إيه؟
هتفت بها ديما بصيغة آمرة وهي تضغط على فقرات عنقها:
-ما تفتحي تِمك
حاولت مقاومتها لكن شددت الأخيرة من قبضتها عليها، أخرجت من حزام خصرها مدية صغيرة كانت مخفية فيه، ثم وضعتها على عنقها، شعرت فرح بنصل حاد يحز جلدها فتأوهت متألمة، حذرتها ديما من جديد بصرامة وهي تهمس لها في أذنها:
-ما تصرخي وإلا راح اقتلك.

مُنعت جبرًا من الاستغاثة أو طلب النجدة، لكن بتصرفها الملفت للأعين جعلت الضابطين يتدخلان على الفور، صاح أحدهما بنبرة عالية وهو يشهر سلاحه أمام وجهها:
-سيبيها يا ديما!
تراجعت الأخيرة مستديرة بها للخلف وصارخة بتهديد مخيف:
-ما حدا فيكم يقرب مني، راح اقتلها
ارتعدت فرائص فرح منها، وضعت يدها على قبضتها محاولة إبعاد نصل المدية الحاد عن عنقها وهي تسألها بهلع:
-هو في إيه؟ إنتي بتعملي كده ليه؟

لوهلة اعتقدت أن ما تفعله ما هو إلا انتقام أهوج منها لتصرفها السابق معها، فتابعت متسائلة بخوفٍ:
-احنا مش حلينا كل حاجة بينا؟
شددت ديما من قبضتها وهي تعنفها باستهزاء:
-لك شو غبية!
أصدرت فرح أنينًا مكتومًا بسبب الوخزات الحادة التي تزداد إيلامًا مع استمرار ضغطها عليها، هتف الضابط بجدية وهو يقترب بخطوات محسوبة منهما مركزًا فوهة سلاحه على ديما:
-اهدي يا مدام فرح، كل حاجة هتبقى تمام.

أراد أن يبث فيها نوعًا من الأمان كي لا تتهور ويحدث ما لا يُحمد عقباه، أضاف رفيقه بتريث محاولاً التفاوض:
-ديما اسمعينا، آ...
قاطعته الأخيرة صارخة بانفعال:
-إنتو ما بتعرفوا مين بأكون
اخترق نصل المدية عنق فرح فصرخت بألم واضح على تعبيراتها، التقطت أنفاسها اللاهثة هاتفة بصوتها المختنق:
-ابعدي عني!
بدأت الدماء تنساب من أسفل المدية، فأكملت صارخة بخوفٍ وهي تسلط نظراتها المذعورة على الضابطين:
-الحقوني، هاتموتني!

دفعت توسلاتها المستغيثة الضابط للصياح بتهديد أشد لهجة:
-أحسنلك تسلمي نفسك وتسبيها، الشبكة اللي بتحميهم اتقبض عليهم خلاص، واللي بتعمليه ده هيزود في عقوبتك
جمدت ديما أعينها المتوهجة غضبًا على وجهه مستشعرة قرب نهايتها، تحرك بؤبؤاها مع صوت الضابط الأخر حينما هدر بصرامة وقد بات على بعد عدة خطوات منها:
-لأخر مرة بنقولك سبيها يا ديما
نظرت له باستخفاف وهي تسأله:
-وإلا شو؟

تبادل الضابطان معها نظرات تحمل الكثير من الترقب والخوف والقلق والحدة، كانت فرح في نفس الوقت في وضع لا تحسد عليه، رأت شريط حياتها يمر أمام ناظريها، ومضات سريعة وخاطفة من ذكريات عاشتها مليئة بالفرح والحزن، بالبكاء والضحك، ظنت أنها النهاية حتمًا، ازداد خوفها، ورغمًا عنها بكت متأثرة، انسابت عبراتها بغزارة لتشق طريقها حتى عنقها، امتزجت مع تلك البقع الصغيرة من دمائها التي تسربت من أسفل جلدها، لم يكن أمام ديما أي فرصة للهرب، أصبحت تعد ما تبقى لها من فرص متاحة للنجاة، بنظرات سريعة وشمولية تلفتت حولها لتحدد خطوتها التالية، لم يستغرقها الأمر سوى ثوانٍ لحسم أمرها، فقامت بالخطوة التي تمنت فعلها مسبقًا للخلاص ممن نصبتها عدوتها، ومن أجل إلهاء الضابطين عنها، غرزت المدية أكثر لتنحر عنق فرح بلا رحمة فتضاعف مع ذلك صراخها الهائج، أرخت ذراعها عنها فوضعت فرح يدها على القطع مانعة الدماء من التدفق، تحشرجت أنفاسها واختنق صوتها وهي تحاول استيعاب ما حدث لها توًا، شحذت بعد ذلك ديما قواها بالكامل لتدفعها من ظهرها بكل ما أوتيت من قوة في اتجاه الضابطين لتفر راكضة بعدها، تلقفها أحدهما بين ذراعيه ومددها على الأرضية، بينما ركض الأخر خلف ديما ليمسك بها...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة