قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل الثاني عشر

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل الثاني عشر

فجأة...
هب الجميع من مقاعدهم فزعين وعلامات الذعر تنهش ملامحهم.
فما ظهر أمامهم على تلك الشاشة دب الرعب بأوصالهم، تزلزلت الأرض تحت أقدامهم.
لتدب رجفة قوية بجسد "نجلاء"، ويختل توازنها، فتهوي على مقعدها مرة أخرى.

علامات الدهشة تنهش ملامحه لما يراه من فزع بوجوه عائلته، ليلتفت نحو تلك الشاشة.
إستنفرت جميع حواسه، حتى برزت عروق رقبته، ويتحول لتنين غاضب، فيكور قبضته ويضغط عليها بقوة غاضبة.
رغم كل هذا مازال محتفظًا بثباته وصرامته، كبريائه وشموخه.
من تجرأ على فعل تلك الفعلية؟!... فقد بدأ بإعداد وتجهيز ساعة التوقف لحياته، فقد بدأ العد التنازلي... فليستعد لمواجهة ذلك الثائر.

ركض جميع أفراد العائلة نحوه، ليلتفوا حوله وقد تملك القلق والتوتر من أرواحهم، جميع العيون موجهةً نحو بتوسل أن يبث إليهم إشارة إطمئنان.
فمن تجرأ أي يضع مثل هذا المقطع بتسجيلات تحمل بصمة "ثائر السيوفي"؟!
... بل من لديه مثقال ذرة من عقل أن يجسد "ثائر السيوفي" بتمثال بلاستيكي وينهال عليه بوابل من الطلقات النارية؟! .

إن كان ذعرهم جميعا مما مر أمام أعينهم من لقطات، فغضبه الأكبر من إختراق قصر وحياة "السيوفي" ... فالمقطع أعمق مما شاهدوا بكتير، فتلك إشارة إختراق القصر وجميع نظم التأمين والحماية به.

آلاف الأسئلة والعبارات خُطت بأعينهم، لكن عيناه كانت بمكان آخر، كانت تحتضن من هوت وسقطت رعبًا لأجله.
ليخرج من تلك الدائرة دون أن ينبس ببنت شفة، فيقترب منها بخطواته الثابتة. ويجلس أرضًا مستندًا على قدماه تحت أقدامها، رافعًا عيناه نحوها. ويلتقط يداها المرتجفة بين راحتيه، ليبث دفء يداه إلى أوتارها.
حتى خرج صوته أخيرًا محملًا بكثيرٍ من الأمان والإطمئنان، ليردف بصوتٍ فخيم:
تفتكري إن لعب عيال زي ده هيخوفني؟!
للدرجة دي بتستقلي بإبنك؟!

وينحني نحو يدها دامغًا قبلةً بث بها كثير من الأسف لما مرت به لحظات، مغمضًا عيناه بتوعد لذاك الوغد الوضيع، ليرفع عيناه نحوها مرة أخرى، مردفًا بصرامة:
وحياة الرعشة اللي في إيدك، حتى وهي بين إيديّا، وحياة الخوف اللي سكن قلبك وشايفه ساكن عنيكي، لدفعه التمن غالي قوي.
وينهض منحنيًا بجذعه نحوها، فيقبل رأسها بحنان، مستنشقًا عطرها الذي إحتبسه بين ثنايا روحه.
وإلتفت بأنظاره نحو "خالد"، ليرمقه بنظرات إتجه على إثرها نحو ملكة وأميرات مملكة "السيوفي" لإصطحابهن إلى داخل القصر بصمتٍ قاتل.

توجهت "فريدة" و "نجلاء" التي لازلت أنظارها متعلقة بثائرها، وكذلك "هيا" وإنضمت إليهم "منة" إلى داخل القصر .
بينما خطى"حمزة" و"حاتم" خطواتهم المتوعدة بجحيم منتظر لمن تجرأ على بث الرعب في نفوس عائلتهم.
ليرمقه "حاتم " ونيران الإنتقام تستعر بحدقتاه، مشددًا على كل حرفٍ تفوه به:
مين اللي إتجرأ وإخترق القصر؟!
اللي عمل كده مش لازم يطلع عليه نهار.

بينما تشدق "حمزة" بأحرفٍ من جحيم:
الرسالة، مش المشهد اللي ظهر في الفديو، الرسالة الأصلية بيقولنا فيها:
أنا أهو، وأقدر أوصل ليكم في قلب مملكة "السيوفي"، اللي بتحلفوا بحصونها المنيعة .

ليتوجه "ثائر" نحو غرفة التحكم بكاميرات المراقبة، وتبعه "حاتم" و"حمزة"، ولحظات وإنضم إليهم "خالد" أيضًا.

غرفة "فريدة"
جلست بفراشها تضم إلى أحضانها" هيا" و"نجلاء" وكلتاهما ترتجفان بين ذراعيها بشدة، لتربت بيديها عليهما وقلبها ينتفض رعبًا لأجل حفيدها، لكن لابد أن تقوم بدورها ككبيرة هذه العائلة،و أن تبث لهم ولو القليل من الإطمئنان والأمان، فأردفت مؤكدة بقوله تعالي:
"قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون"

لتهتف "نجلاء" بأنين: صدق الله العظيم.
وتكمل "فريدة" بيقين:
و إحنا الحمد لله ولادنا رجالة، مايتخافش عليهم و"ثائر"... مش لعبة هبلة زي دي اللي تأثر عليه أو تفرق معاه... وإن شاء الله هيوصل للي عمل كده.
لتردف" هيا" ببكاء يختنق كلماتها:
ليه يا تيتة؟!... ليه الأذى للدرجة دي؟!
إشمعنا إحنا؟!
ليه مستكترين علينا الناس اللي بتحبنا، وتخاف علينا ؟!
ليه عايزين يكسرونا، ويذلونا؟!
ليه؟!
بينما رمقتهم "منة" بنظراتها المتألمة لأجلهم، وقلقها من ظنهم بها بأنها نذير سوء وشؤم.

غرفة المراقبة.
إستعاد الرباعي السيوفي جميع التسجيلات الخاصة بذلك اليوم، يدققون بكل تفصيل صغير أو كبير. يراقبون تحركات جميع عمال تنظيم ذلك الحفل بترقب وتركيز كامل .
لكن الأمر بدا لهم طبيعيًا، فلا توجد أي حركة مريبة بينهم. ليُعيدون تلك التسجيلات مرات عديدة، لكن النتيجة دائمًا ما تكون واحدة.

جلس "حمزة" و"حاتم" كل منهم بمقعده، ليميل "خالد" بجذعه نحوهم، أما ذلك البركان الثائر فيستقيم بوقفته عاقدًا ساعديه أمام صدره كمن يحتجز قلبه خشية القفز من بين أضلعه من فرط النيران المتأججة به، بنظرات حادة كالصقر يتابع جميع تلك الشاشات المتراصة أعلى الطاولة.
Stop وقف اللقطة دي... وهاتها من الأول.
هذا ما تفوه به "ثائر" بثبات.

ليضغط "حاتم" زر التأخير مسترجعًا تلك اللقطات مرة أخرى.
لكن تلك اللقطات لا تحتوي على شئ سوي الباب الزجاجي لمكتب ثائر!،
ليهتف "خالد" مستنكرًا:
مفيش حاجة! ... الدنيا فاضية قدامنا، محدش عدي من قدام الكاميرا حتى.

أحابه "ثائر" بغموض:
ركزوا في الإنعكاس اللي في الباب.
إتسعت حدقاتهم بتركيز، ليهتف "حمزة" مستنكرًا:
ده المنظم المسئول عن الحفلة!، بس بيعمل إيه ورا الشاشة؟! .
زفر "ثائر" بقوة، لتنفر جميع عروق وجهه ورقبته، فيردف بصرامة:
كان بيحط فلاشة عليها المقطع الأخير... إنت عارف الشاشة دي فيها مدخلين USB، فأكيد برمجها إنها تشتغل مباشرة بعد الفلاشة اللي أنا حطتها بنفسي... وطبعا كان سايب المدخل القريب لإيدي لأن ده الطبيعي إن أي حد يستخدمه، وإستخدم هو المدخل الخفي ... يعني لو دورنا دلوقتي هنلاقي الفلاشة التانية موجودة .

ليوجه نظراته نحو "حمزة" هاتفًا بحزم:
عايز كل حاجة عن الراجل ده... أنا متأكد إنه وسيط، بس أكيد هنوصل من خلاله لحاجة.
إلتقط "حمزة" هاتفه بجدية ليجري إتصاله بسكرتيرته الخاصة، لتقصي المعلومات عن ذلك المنظم، حتى أنهى إتصاله زافرًا بغضب:
هتبعتلي كل حاجة عنه حالًا.
ليصدح رنين هاتفه بإستلام رسالة على إيميله الخاص، يستكشفها مسرعًا ولكن سرعان ماتحولت ملامحه إلى الكثير من الصدمة المصحوبة بالأكثر من الإستنكار.

فيهتف "ثائر" بثبات، لتأكد شكوشه:
مش هو اللي كان موجود هنا الصبح... .
فرك "حاتم" وجهه بكفه صارخًا:
الكلاب... دول مخططين لها من بدري بقا... يعني خطواتنا كلها تحت المراقبة.
بينما بدأ "خالد" الضغط على أزرار الحاسوب أمامه بمهارة وإحترافية، ليقتص صورة ذلك المنظم، ويدخلها على أحد البرامج والتطبيقات الإلكترونية، وماهي إلى لحظات وظهر أمامهم إسمه كاملا.. ورقم هاتفه.

ليراسل إحدي صديقاته بإحدى شركات الإتصالات للكشف عن صاحب هذا الرقم والتوصل لجميع المعلومات الخاصة به، على الرغم من سرية المعلومات الخاصة بالعملاء، لكن أمام كلمات "خالد" المُهلكة ووعد صغير بمرافقتها إلى إحدى الحفلات، كانت جميع المعلومات بين يديه من خلال رقمه القومي.
نهض من مقعده ليكون مقابلًا لإخوته، هاتفًا بصرامة:
كل المعلومات عنه في الورقة دي... يلا مفيش وقت.
إلتقطها "حاتم" من بين يديه، مردفًا بحزم:
أنا و"ثائر" هنروح نخلص الموضوع ده... إنت و"حمزة" ماتسبوش القصر عشان البنات.

ليهتف "ثائر" بجدية:
عينكم ماتتشالش عنهم، وأنا هزود الحراسة، هسيب الحرس كله هنا... أنا و"حاتم" كفاية.
ليغادرا سويًا نحو سيارة "ثائر". فيتولى "ثائر" القيادة، ويستقل "حاتم" المقعد المجاور له.
تنطلق سيارته متوعدة بالهلاك لذلك الوغد اللعين.

منزل "عبد العزيز"
جلست "همس" بفراشها محتضنة تلك الوسادة بقوة، طارحةً رأسها للخلف، ويقابلها "عمر" بطرف الفراش محاولًا إخراج شقيقته من تلك الحالة، ظنًا منه أن حديث تلك الحمقاء هو كل ما يضايقها،
لكن توعد ذلك الوقح هو من إعتصر قلبها بقبضة حديدية.
لينضم إليهم "عبد العزيز" و" حنان"، فينهض "عمر" واقفًا، وتعتدل "همس" بجلستها إحترامًا لوالديهما.
أردفت "حنان" بأسي:
ماتزعليش من كلامها الأهبل ده يا حبيبتي، دي ست كيادة ومتضايقة إننا رفضنا المحروس إبنها... إنتي ست البنات وألف مين يتمناكِ.

فيلتفت نحوهما "عبد العزيز" مردفًا:
ممكن تسبونا مع بعض شوية.
إتجهت "حنان" نحو إبنتها لتقبل رأسها بحنو، ويربت "عمر" هو الآخر على كتفها ويغادرا الغرفة بهدوء تاركين المجال لتوجيهات الأب وأمانه.
ليلتقط "عبد العزيز" يد إبنته الباردة بين يديه، فيدلكها بحنان علّه يبث الدفء لشريان قلبها المضطرب قبل يدها.
ويثبت أنظاره الحنونة بحدقتيها الزائعة، مردفًا بصوتٍ دافئ:
عمري أجبرتك على حاجة في حياتك؟!

حركت رأسها نافية بدمعات منهمرة بصمت.
ليكمل هو بود:
عمري ضيعت حقك يوم من الأيام؟!
فتحرك رأسها أيضا دون أن تنبس بحرفٍ واحد.
ليكمل بصرامة:
موضوع "قاسم" ده موضوع منتهي، عمري ما أفكر أوافق عليه لو آخر راجل في الدنيا... مش ده اللي أسيبك أمانة بين إيديه ويحافظ عليها ويتقي ربنا فيها.
أنا عارف إنك فسرتي سكوتي ضعف أو موافقة على الموضوع.

أومأت تلك المرة بإشارة تأكيد على كلام
والدها، فإبتسم بحنان مربتًا على يدها التي مازال يحتويها بيديه القوية، وأردف:
إنتي متخيلة إني ماكنتش أقدر أقول لأ؟!، ومن غير تفكير كمان ... بس لما الموضوع يكون بين الأخوات بيبقى أصعب.
كنت أقدر أوقف مرات عمك عند حدها ... بس كنت ههين عمك وأبين ضعفه قدامكم، ودي حاجة عمري ماأقبل بيها. لكني وقفت "عمر" عند حده وسكت إحترامًا لكلمتي، بس لما ماما إتكلمت سيبتها بما إنه كان كلام حريم زي مرات عمك ما قالت ...

تسمعت إلى كلمات والدها التي هدأت كثيرًا من روعها، فإنتظمت أنفاسها، وتوقف فيضان دمعاتها.
ليكمل مازحًا:
وكلام مرات عمك كان كلام حريم فاضية... وكل واحد عارف تمامه إيه.
ويشير نحو أذنها بسبابته هاتفًا:
يعني الهبل بتاعها ده يدخل من هنا، يخرج من الناحية التانية... مانفكرش فيه لحظه.

إرتمت بأحضان والدها وقد سكنت روحها، وإنتعش بها الأمان والإطمئنان، فشددت من إحتضانه هاتفةً:
ربنا يخليك لينا يا بابا ودايما تكون سند وضهر لينا يارب .
قبل رأسها بحنان، هامسًا:
ويخليكوا ليا يا قلب بابا.
لتبتعد عن أحضانه محمحمة بخجل:
ممكن أطلب من حضرتك طلب.

"عبد العزيز" بعبوس مصطنع:
شكلك داخلة على طمع بقا ... ها قولي.
تعالت ضحكاتها المرحة:
وأنا ليا غيرك أطمع فيه يا "زيزو"؟!
أردف "عبد العزيز" بمشاكسة:
إضحكي عليا يا بنت "عبد العزيز"... عمومًا أنا موافق، عارف إنك هترتاحي أكتر في عالمك الخاص ... يلا يا حبيبي.. وإقفلي الباب عليكي كويس، وأنا شوية وهطلع أطل عليكي.

إرتفعت بجذعها قليلًا، لتستند على ركبتيها، و تميل نحوه بقبلة سريعة، قافزةً من فراشها، وملتقطة حجابها لتغطي به شعرها كاملًا، وتبحث عن مفتاح عالمها لتلتقطه وتغادر إليه، علّها تستنشق بعض النسيم الذي قد يُثلج صدرها.

قصر "السيوفي" - تحديدًا غرفة "فريدة"
دلفا سويًا بثبات يعاكس الجحيم المتأجج داخلها، وعلامات الثبات والجديدة تكسو ملامحهما. ليجلس "حمزة" بطرف الفراش مجاورًا لوالدته، فتميل برأسها نحوه وتستند على كتفه متنهدة بقلق:
إخواتك فين يا"حمزة"؟!

"حمزة" مربتًا على كتفها:
ماتقلقيش يا حبيبتي... زمانهم جايين
ليقاطعه" خالد" مازحًا في محاولة منه للتخفيف عنهم:
إيه يا "نوجا " إنتي مخلفة "سوسن" ولا إيه؟!
لتهتف مستنكرة:
أخص عليك يا "خالد "، عيلة "السيوفي" كلها رجالة تشيل حمل جبال ماعدا الأميرة بتاعتنا دي (مُشيرة برأسها نحو هيا)

أردف "خالد" بمشاكسة:
أميرة مين دي يا "نوجا"؟!
ويقترب منها قارصًا وجنتيها برفق، وهي يهتف:
فيه أميرة كئيبة كده؟!... دي تقولي عليها تفيدة، بكيزة، زغلول، لكن أميرة دي مش موجودة هنا .
لتلكمه" هيا" بغضب، صارخة بإستنكار:
إيه زغلول دي؟!...

تعالت ضحكات "خالد" الساخرة:
يعني "زغلول" بس اللي مزعلاكي... وتفيدة دي عادي؟!
لتردف "فريدة" بصرامة:
" خالد" عيب مايصحش كده... "تفيدة" دي تبقي مامي...

طوفت نظراتهم المنصدمة وجوه بعضهم البعض، لتستقر نحو ملامحها الصارمة، بحالة من الذهول والدهشة، محاولين السيطرة على ضحكاتهم المستنكرة، لكن ليت كل ما يتمناه المرء يدركه، فتنفرج إبتساماتهم تدريجيًا لتتحول إلى ضحكات تدوي أصدائها بأرجاء القصر.
وسط نظرات خجل من "منة" فتأبي الإفراج عن تلك الضحكات المدوية، وتكتفي بإبتسامات خفيفة، ومراقبة سعادتهم.
فيهتف "خالد" بسخرية:
منورة يا مدام "منة"...

"عالم همس"
دلفت إلى عالمها الخاص، لتملأ رئتيها بنسيمه المحمل برحيق زهورها المتمايلة بدلال مع هبات ذلك النسيم البارد. وأوصدت الباب خلفها جيدًا، لتستلقي بتلك الأرجوحة الشبكية شاردة بتلك النجمات المتلألئة بوهج مثير.
فكم منهن إختلست النظرات، وشهدت ميلاد عشق متيم بين عاشقين جمعهما الهوى، فإزداد توهجها إشتعالًا، فذلك الهوى إكسير الحياة لهن.

قربت معصمها الذي إحتضنه بقبضته الدافئة، لتستنشق عبق عطره الذي أسر ذرات روحها وتغلغل بثنايا قلبها، لتنفرج تلك الإبتسامة الخَجِلة، وتتجسد صورته بكبريائه المهلك، فتتسع إبتسامتها العاشقة. لتنهض مغادرة تلك الأرجوحة مستقيمة بوقفتها، لتخطو نحو ذلك الحاجز الخرساني، فتعقد ساعديها أعلاه وتنحني قليلًا بجذعها، مراقبة سكون ذلك الحي الذي لطالما عشقته.

سيارة "ثائر".
ضغط على الوقود بغضب ينهش ثنايا روحه وفؤاده، وملامح وجه قد تفنن الجحيم بإستواطنها بإبداع مهلك، فلهيب عيناه المشتعلة، وعروق وجهه ورقبته البارزة، وتلك النيران التي ينفثها كتنين ثائر، وكذلك الصورة الكاملة لعائلته وعلامات الذعر تكسو وجوههم، كانت ترتسم بزجاج السيارة أمامه مما يسكب مزيدًا من الوقود بذلك الجحيم المستعر.

ليستكشف "حاتم" تلك القُصاصة الورقية التي دوّن عليها "خالد" بيانات ذلك الوغد اللعين، فاضًا أحرفها بنظراته المنذرة بالهلاك له، ومن ثمّ يكورها بين قبضته الفولاذية بغضب، هاتفًا بوعيد:
إطلع على الحي اللي كنت ساكن فيه... العنوان هناك... قبلنا بشارعين.

إستدار " ثائر" بسيارته محدثًا صرير قويًا بتلك العجلات التي تطايرت شرارات غضبها ونُحت أثرها بذلك الطريق الصلب.وتخطي تلك الطرقات والأزقة الداخلية إختصارًا لذلك الوقت الذي يلتهمه ببطئ إيقاعه.
ليهتف "حاتم" بجدية:
العمارة الجاية دي...
فيضغط على مكابح السيارة بقوة غاشمة، فاتحًا بابها، ليترجل عنها بغضبٍ منذرٍ بالجحيم.

قفزات واسعة إختصر بها بضع درجات من الدرج الرخامي، وتبعه "حاتم" بنفس الغضب الجامح.
وصلا أخيرًا إلى تلك الشقة المقصودة، ليلكم "ثائر" بابها بقدمه، وينضم إليه "حاتم" هو الآخر لتكون لكمة مزدوجة الغضب.
فما كان من هذا الباب الصلد إلا أن إنصاع لرغبتهما، وقدم فروض الولاء والطاعة لهما، ليهوي مستلقيًا أعلى تلك الأرض المرتجفة.

طافت نظراتهما المشتعلة المكان أمامهما، فما كان من هذا الفراغ القاتل إلا أن يشير لهم بهروب ذلك الوغد اللعين.
لتستقر نظرات ذلك "الثائر" نحو الباب الخلفي بالمطبخ، فيركض نحوه، ويجده مفتوحًا، ومستسلمًا هو الآخر، باعثًا بإشارة تأكيد على هرب ذلك الجرذ المذعور.
لمح "ثائر" طيفه يهبط ذلك الدرج راكضًا، ليتبعه بغضب تعدي مراحل الغضب بآلاف الأميال.و تبعه "حاتم" هو الآخر، لتصبح المطاردة أكثر هلاكًا.

وطأت أقدامه الشارع الجانبي للبناية، فركض لاهثًا كمن يفر من موت مؤكد.
حتى خرج إلى الشارع الرئيسي وتضاعفت قوته( فأوقات الخطر تتضاعف قوتنا آلاف المرات) وتضاعف لهاثه، ولطمات قلبه تستغيث متوسله لمهادنة قصيرة .
الطرقات خاوية من المارة، فتلك عادة الساعات الأولى من الفجر.
لتتعركل ساقاه ببعضهما البعض، فيهوي أرضًا وقد خارت قواه ونفذت طاقته، فيحاوطه "حاتم" و"ثائر" ليكون بين المطرقة والسندان، فيقتربا منه بوعيد وجحيم أعدوه مسبقًا له.

إستند ذلك الوغد على يديه متراجعًا للخلف حتى إلتصق بذلك الحائط، وإستند عليه منتصبًا بوقفته،و مشيرًا بيده كعلامة نفي، وصرخاته اللاهثة تتوسل لهم بالرحمة، مردفًا:
معملتش حاجة... والله ماعملت حاجة... دول خطفوا بنتي... وهددوني بيها... أنــ
لتتوسط تلك الرصاصة جبينه فيخر غارقًا بدمائه، وتدوي صرخة مرتعبة بذلك الحي الهادئ يتبعها سكون قاتل. صرخة إلتفت على إثرها ثائر القلب نحو عالم من نبض القلب بأحرف إسمها، فصرخ بقوة:
هممممممممممس...

لحظات وكانت خطواته تسابق الرياح، ليعبر تلك الطرقات الخاوية، دالفًا إلى بنايتها بقلبٍ يتوسل إلى الله نجاتها، فيعدو كعداءٍ دولي، ويلتهم تلك الدرجات بخفة، فإعتقاده أنه سيصل أسرع من ذلك المصعد اللعين جعله يتسلق ذلك الدرج.
حتى لمح أحرف إسمها المزينة لتلك اللافتة، فإزدادت دقاته ثورة، وضرب ذلك الباب الموصود بكامل جسده، لينحي بمحراب العشق رافعًا رايات الإستسلام، وينفتح على مصرعيه.

ليجدها مستلقية أرضًا وقد فقدت وعيها وفقد هو ثبات قلبه.
لحظات وكانت بين ذراعيه القوية، فأسند رأسها على ذراعه بالقرب من مضخته المشتعلة.
ضربات خفيفة على وجنتها علّها تستعيد وعيها، لتشتعل ثورة ذلك الأهوج من قربها المُهلك.
ليترنم بأحرف إسمها التي إستوطنت جدران قلبه:
"همس"... "همس"... "همسي".

بينما سرى شذا عطره بأوردتها، فإبتسمت إبتسامتها الرقيقة، وتململت بين ذراعيه لتستند برأسها فوق صدره العريض،
مستشعرةً ذلك الدفء بخلاياها.
فتطربها دقات قلبه العازفة لأحرف إسمها، فتزداد إبتسامتها جمالًا.
حتى فتحت عيناها ببطئ، لتلمح نظراته العاشقة بقلق وتوتر، فتغلق عينيها ثانية، هامسةً:
جاي ورايا في أحلامي كمان...

لتتسع إبتسامته عشقًا، ويتوهج ذلك البريق الوله بعينيه، فقد تيقن أن من ملكت مقاليد عرش الفؤاد، ذابت بين دمائه وإحتلتها بسطوة عشقها المتيم...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة