قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل الثالث عشر

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل الثالث عشر

نهار جديد محمل بالكثير من السعادة للبعض، وكثير من الأسى للبعض الآخر.

قصر "السيوفي"
دلف "ثائر" إلى غرفته وعلامات الضيق والإرهاق قد تمكنت من تعابير وجهه بحرافية، ليضغط بأنامله أعلى أنفه مغمضًا عيناه بهدوء علّه يستجمع ولو قليل من الراحة التي إفتقدها بشدة في الآونة الأخيرة.
ليستلقي على فراشه مستندًا بجذعه أعلى تلك الوسادة بإسترخاء وسكون . صدح هاتفه برنين مميز، ليضع يده بجيب سترته ويلتقطه بلهفة، وكذلك شيئًا آخر تسارعت من أجله دقات ذلك الأهوج.
ضغط زر الإجابة مقربًا إياه من أذنه، ليهتف متنهدًا:
خير يا "علي " وصلتوا لإيه؟!

أجابه "على " بصرامة يشوبها بعض التهكم:
توقعاتك كلها صح، فعلا ده من رجالة "أرثر" في مصر، وده طبعًا من الرسايل اللي بينهم، والتحويل البنكي اللي دخل حسابه كمان، وطبعا ده كان تهديد صريح ليك يا "ثائر"... و عشان كل ده، لازم تاخد بالك العيلة ومن كل اللي يخصوك.
رفع "ثائر" يده بهدوء لتكون مقابلة لوجهه تمامًا، يتأمل تلك الرصاصة الغادرة و يعتصرها بأنامله الغاضبة

فلاش باك.
إتسعت إبتسامته وتوهج ذلك البريق العاشق بعيناه، فقد تيقن أن من ملكت مقاليد عرش الفؤاد، ذابت بين دمائه وإحتلتها بسطوة عشقها المتيم...
لتتسلل إلى مسامعه خطوات رزينة تصعد الدرج و تقترب بإيقاع ثابت ومنتظم .
فيحمل "همس" بعشق بين ذراعيه وينهض مستقيمًا بوقفته، ليجدها ترفع ذراعيها محاوطةً عنقه بهدوء، وترتمي برأسها نحو مضخته الثائرة لتزداد ثورته الجامحة.

طوف ملامح وجهها الهادئة وتلك الإبتسامة العاشقة تزين ثغرها الكرزي المهلك، وذراعيها التي تحتضن عنقه بإعلان ملكية أبدى لذلك الثائر الذي تشتعل ثورته قربها.

إستنشق شذاها بعمق وإحتبسه بين جنبات قلبه بعشق، متجههًا نحو تلك الأرجوحة ليضعها بها برفق، محاولًا فك حصار يديها القوي لتلك القلعة المنيعة التي لطالما كانت حلم بعيد المنال لجميع من حاول إختراق حصونها والنيل من قلب ووجدان هذا الثائر، ولكن أتت هي بهدوءٍ إحتلته، وأعلن هو رايات إستسلامه.

تشبثت به بقوة، وتلك الخطوات تقترب،
تقترب أكثر.
ليميل "ثائر" بجذعه للخلف مستكشفًا هوية ذلك الدخيل، ويلتفت نحوها ثانية ليفك حصار ذراعيها بقوة طفيفة مقبلًا باطن كفها بقبلة تنازل بها عن جميع حقوق ملكيته لذلك الأهوج المشتعل شوقًا وعشقًا.

إبتعد عنها بعد مجهود كبير منه لردع رغبات القلب الموصوم بعشقها المتيم. حينما دلف "عبد العزيز" إلى عالم إبنته باحثًا عنها بنظراته المرتبكة فقد نبهها كثيرًا بضرورة إحكام غلق ذلك الباب، لكنها كعادتها تنعزل عن العالم كلما وطأت قدماها أرض تلك الجنة.

لتستقر نظراته على تلك النائمة وإبتسامتها قد تغلبت وهزمت ذلك الحزن الذي إستوطن ملامحها، فتنفرج إبتسامته ويقترب منها بهدوء مردفًا بحنان:
"همس" إصحي يا بنتي... "همس".

تململت في نومتها بهدوء، لتفتح مقلتيها تدريجيًا ولازالت تلك الإبتسامة تداعب شفتيها. لتستقر أنظارها على ملامح والدها الحانية، فتنهض جالسة وتطوف المكان كاملًا بنظراتها المرتبكة.
ليردف "عبد العزيز" بجدية:
يلا إنزلي كملي نومك تحت الفجر خلاص هيأذن.

فركت همس" عيناها بتكاسل، ونهضت مقبلةً والدها بإبتسامة:
عيوني يا "زيزو" حاضر.
لتهمس لذاتها بتعجب:
الحمد لله إن كل ده كان حلم، بس أنا كده إتجننت خلاص...

ليهتف والدها:
يلا يا بنتي، هنفضل واقفين هنا كتير.
لترافقه همس"، ويغادرا سويا ذلك العالم، بينما جذب "عبد العزيز " الباب خلفه مغلقًا إياه بهدوء.
خرج " ثائر" من مخبأه متنهدًا فلم يحن وقت المواجهة بعد، ليخطو خطواته الرزينة الواثقة، فيستوقفه شئ ما تحت قدمه.

تراجع خطوة للخلف وإنحني أرضًا، ملتقطًا هذا الشئ لإستكشاف هويته.
فإتسعت مُقلتاه صدمةً، فلقد تجرأ ذلك الوغد وأطلق عليها الرصاص بعد أن دوت صرختها المذعورة بالأرجاء.
فلولا فقدانها لوعيها كانت فقدت حياتها، وفقد هو نبض قلبه.
ليعتصر تلك الرصاصة بقبضته بقوة، متوعدا بالإنتقام، وقاطعًا وعدًا بحماية من تملكت قلبه منذ الوهلة الأولى.

جذبته هتافات "علي" ثانيةً إلى أرض الواقع، ليزفر بغضب، مردفًا:
تمام يا "علي" تعبتك معايا، أشوفك قريب إن شاء الله.
أجابه "علي" بجدية:
إن شاء الله... ولا يهمك المهم إبقى طمني عنك.

غرفة "حاتم"
دلف إلى غرفته زافرًا بحنقٍ شديد، ليجد من تركض نحوه مهرولةً وتحاوط عنقه بقوة ذراعيها، وتنهال عليه بوابل من القبلات المشتاقة، فيشدد هو الآخر من إحتضانها مُقبلًا رأسها بحنان، ليتنهد بإسترخاء:
هموت وآخد شاور دافي، وأناااااااام.

إبتعدت عنه قليلًا ورمقته بنظراتها الدافئة:
أنا محضرة الحمام ياحبيبي، على ما تاخد شاور أكون جهزتلك فطار.
وتهم بمغادرة الغرفة، لتجد من يتشبث بيدها بعشق، فتستدير نحوه هامسةً:
مش هتأخر والله.

ليحرك "حاتم" رأسه نافيًا:
مش جعان، خليكي جانبي، أنا محتاج حضنك دلوقتي أكتر من أي وقت.
ليحتضنها بقوة مستنشقًا عبيرها المُسكر، مغمضًا عيناه بإستسلام.

لتهمس "منة" بدهشة:
إنت نمت يا "حاتم"؟!
ليكون جوابه الصمت الرهيب إلا من بعض تنهيدات هادئة إلى أن إنتظمت أنفاسه وأعلن رفع رايات الإستلام لسلطان النوم..

منزل "عبد العزيز"
تعالت دقات عشوائية بذلك الباب مصحوبة بهتافات إستغاثة وصرخات مدمية.
ليركض الجميع مهرولين بفزع، فتهتف "حنان" برعب:
اللهم إجعله خير يارب... فيه إيه؟!
حرك "عمر" مقبض الباب بإستنكار، صارخًا:
فيه حد يخبط على حد كده؟!

لتتسع مقلتي "همس" صارخةً بصدمة:
ضحى!
مالك يا بنتي، في إيه؟!
تعالت شهقاتها وكلماتها المتلعثمة:
با... با... بابا.. وقع ومش بيرد عليّا.
وإستدارت مغادرة إلى شقتها، بينما تبعها "عمر" و"همس" و"حنان" متخبطين ببعضهم البعض.

ليقتحم الجميع الشقة بعلامات إرتباك وصدمة، فيجدوا والد "ضحي" مُلقي أرضًا بلا حراك كجثة هامدة. محاولات قوية من "عمر" والفتيات لحمله إلى فراشه، بينما إستنجدت "حنان " بالطبيب المقيم بالبناية المقابلة لهم.
لحظات وكان الطبيب مع والد "ضحي" بالغرفة لفحصه بشكل دقيق، ورافقه "عمر" لمساعدته إن تطلب الأمر.

أما بالخارج
شددت "همس" من إحتضانها "لضحي" مربتةً عليها بحنان:
إهدي يا حبيبتي إن شاء الله هيكون كويس، شوية والدكتور هيخرج يطمنا عليه.

لتتعالي شهقاتها وتنهمر دمعاتها شلالات بلا توقف، لتردف بأنفاسٍ متقطعة:
يارب يا "همس" يارب أنا ماليش غيره في الدنيا دي.
حاولت "همس" بث بعض الإطمئنان إلى قلبها، فأردفت:
إن شاء الله ياحبيبتي... ممكن تكون غيبوبة سكر ولا حاجة .

لتردف "ضحي" بلا وعي:
أنا حاسة إن بابا فيه حاجة، بابا... بابا...
حينما دلف "عبد العزيز" بعدما تواصلت معه "حنان" وأخبرته بشأن والد" ضحي"، هتف بصدمة:
فيه إيه يا "أم همس" أنا مفهمتش منك حاجة في التليفون.
قبل أن تحرك شفتيها مردفة بحرف واحد، إنضم إليهم "عمر" والطبيب منكسين الرأس وعلامات الحزن تكسو ملامحهم.

لتبتعد "ضحى" عن "همس" راكضة نحو الطبيب، فتعتصر ذراعه بضعف، وقد ذابت أحرف كلماتها بين دمعاتها الحارقة:
بـ.. بابا... بابا... كويس.
حمحم الطبيب بأسي، مردفًا:
البقاء لله.
ليجد ثقلًا بشريًا إرتطم بالأرض بقوة، وصرخة أقوي دوت بأرجاء المنزل:
ضحى ااااااااااا.
لتدنو منها" همس"، صارخةً:
ساعدني يا"عمر " ندخلها جوه.

بينما ضربت "حنان" كلتا كفيها بعضهما البعض، ودمعاتها تهوي بلا توقف، هامسة:
لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم... إنا لله وإنا إليه راجعون.
البنت مالهاش في الدنيا غير أبوها.

ليهتف "عبد العزيز " بصرامة:
إحنا أهلها يا "أم همس" زيها زي" همس"
و"عمر" .

"ضحي " مُلقاه بفراشها والطبيب إلى جانبها يحقنها بذلك المهدئ، تنكمش ملامحها من وخزة إبرة المحقن، لكن سرعان ما يتسرب هذا المحلول إلى أوردتها فتبدأ ملامحها بالهدوء النسبي إلى أن تغط في سبات عميق.

ليلتفت الطبيب نحو "همس" ووالدتها، مردفا بلوعة:
المهدئ ده هينيمها شوية، مش عارف هتعدي الموقف ده إزاي؟... موقف صعب عليها.
أجابته "همس" ببكاء شديد:
كلنا معاها يا دكتور مش هنسيبها، دي أختي وصاحبتي، إتفضل حضرتك معايا.

غادر الطبيب الغرفة ليتوجه إلى مسكنه.
وقام "عبد العزيز" بالإتصال بالمغسل، وتجهيز إجراءات الدفن والعزاء، وإنضم إليه جميع أهالي الحي.

قصر السيوفي - تحديدًا غرفة" هيا"
إزدادت شهقاتها المكتومة ودمعاتها المنهمرة بغزارة، لتضع يدها أعلى فمها بقوة كاتمة أنفاسها بمشقة، مردفةً:
والله هحضرلك كل المبلغ اللي طلبته، أنا ببيع كل الدهب والمجوهرات اللي عندي... مليون جنيه كتير قوي مش هقدر أحضره بسهولة.
المتصل:...

"هيا" بتوسل:
لأ... أبوس إيديك لأ... أنا أموت فيها، وإخواتي سمعتهم تتدمر، دول يقتلوني.
المتصل:...
"هيا" بإستعطاف:
بس حضرتك جبت الصور دي منين؟!
المتصل:...

حركت "هيا" رأسها نافيةً:
والله ماقلت لحد، ولا أي حد يعرف، ومش هقول لحد هجيبلك الفلوس لوحدي بكره إن شاء الله.
لتنهي الإتصال وتُلقي هاتفها بالحائط بقوة، فيتطاير شظايا بأنحاء الغرفة، وترتمي أعلى فراشها صارخةً بأنين أحرق روحها، بينما كتمت تلك الشهقات الممزقة لثنايا قلبها بتلك الوسادة المبللة بدموعها المريرة.

لتصدح دقات خفيفة بباب غرقتها، فتنهض مهرولةً إلى حمام غرفتها الخاص وتغسل وجهها جيدًا، وتتنهد ببطئ في محاولة لتنظيم أنفاسها.
لتغادر مردفةً بتوتر: إدخل.
دلف "خالد" إلى غرفتها بإبتسامته مازحًا:
إيه يا "يوكا" كنت نايمة ولا إيه؟!

أجابته "هيا" بإرتباك جليّ:
لا يا حبيبي أنا صاحية، إتفضل.
رمقها "خالد" بتفحص، ليهتف مستنكرًا:
إنتي كنتي بتعيطي يا "هيا"؟!
لتستدير موليةً إياه ظهرها، وتفرك يديها بتوتر وإرتباك، لتخرج كلماتها متلعثمة:
أــ لأ... مش بعيط ولا حاجة.

إستدار "خالد" ليصبح في المواجهة معها، مضيقًا عيناه بإستنكار أكثر، وأردف:
آه ولا لأ... مالك في إيه؟!
تنهدت "هيا" بهدوء في محاولة للإمساك بذمام الأمور، مردفةً بألم:
مفيش بابا واحدة صاحبتي إتوفي النهاردة، وأنا زعلانة عشانها بس.

ليتنهد "خالد" براحة مربتًا على كتف شقيقته، ومردفًا بأسى:
إنا لله وإنا إليه راجعون، البقاء لله يا حبيبتي، لو تحبي أروح معاكي تقفي معاها أنا موجود.
إرتبكت بعض الشئ لتحرك رأسها بنفي:
لا لا.. هما هيدفنوا في البلد، لما تيجي بقا أبقا أروح لها.

ليجذبها "خالد" نحوه بود، فتستقر بين ذراعيه ويحتضنها بحنان الأخ والأب ممسدًا على شعرها برفق، لتتشبث هي بأحضانه بقوة وتنهمر دمعاتها الصامتة بهدوء.

غرفة "حاتم"
تسلل شذا عطره الممزوج برائحته التي إمتلكت حواسها وقلبها، لتتململ في فراشها بهدوء، فاتحة عينيها برفق، لتجده يتأنق بحلته السوداء ورابطة عنقة السوداء. لتهب جالسة في فراشها بذعر، هاتفةً:
فيه إيه يا "حاتم"؟!

ليضع ساعته حول معصمه، ويقترب منها مقبلًا جبينها، وهو يردف:
بابا "ضحى" اللي ساكن في العمارة اللي قصادنا في شقتنا، إتوفي النهارده الصبح،ومالوش غير "ضحى" بنته بس، فلازم نكون واقفين في الدفنة والعزاء.

ليكمل بنبرة يشوبها بعض التمني:
لو حابة تيجي معايا تقفي جنب البنت تعالي.
إنزلقت "منة" بالفراش لتسحب الغطاء حتى رأسها، مردفةً:
روح إنت يا حبيبي، أنا ماليش علاقة قوية بيها أصلا.

ليتنهد "حاتم" بيأس:
أوك يا حبيبتي... هروح أنا وخدي بالك من نفسك، لو إحتاجتي أي حاجة إتصلي بيا.
ويغادر مغلقًا الباب خلفه بهدوء، ليقابله "حمزة" أمام الغرفة بإبتسامته الجادية، فيردف:
صباح الخير يا "حاتم"

أجابه "حاتم" بدهشة:
صباح النور... لسه موجود في القصر يعني!
مافيش شغل النهارده ولا إيه؟!
زفر "حمزة"بضيق:
حسيت إني تعبان النهارده، إتصلت بيهم ولغيت كل مواعيدي... بس إنت رايح فين بالأسود ده؟!

لينضم إليهم "ثائر" بدهشة من وجودهم بالقصر في هذا الوقت،فيعقد ساعديه أعلي صدره رامقًا إياهما بصرامة، مردفًا:
يلا كل واحد على شغله.
لتستقر نظراته الثابتة نحو "حمزة"، مكملًا بحزم:
أوصل المجموعة تكون قبلي هناك.

بينما خطى "حاتم" بضع خطوات مغادرًا ليعود إليهم مجددًا، وهو يردف:
فيه عزا في الحي اللي كنت ساكن فيه، ما تيجوا معايا.

هوت تلك الكلمات بسوط جلاد محترف على قلب ذلك العاشق فمزقته بلا هوادة، ليهتف بصدمة:
عزا مين؟!
ليرمقه "حاتم" بنظرات مطمئنة، وهو يردف:
ده والد "ضحي" راجل طيب ومالوش غير بنته بس، ومش هتعرف تتصرف، عشان كده كلنا هنكون موجودين جانبها .

خطى "ثائر" بخطوات ثابثة وكبرياءٍ معهود، هاتفًا بصرامة:
يلا... هنروح مع بعض.
ليلتفت "حمزة" نحو "حاتم" ومئات الأسئلة تُخط بدهشة من حال شقيقه، فيحرك الآخر كتفيه بإنكار، ويتبعا "ثائر" إلى ذلك الحي الذي فقد سمته المميزة وهي الهدوء.

شقة "ضحي"
صدح أصوات القرآن الكريم بأرجاء المنزل وكذلك الحي بأكمله. بينما توافد الكثير من النساء المتشحات بالسواد وملامح الحزن قد تمكنت من وجوههم. لتحتل "حنان" مقعدًا بجوار الباب لمقابلة من تأتي لتقديم واجب العزاء.

أما "عبد العزيز" و"عمر" فقد إنضموا إلى المغسل لتجهيز هذا الرجل الصالح لملاقاة ربه.
و "همس" تجلس بطرف الفراش ممسكة بيد صديقاتها التي لازالت مستسلمة لحالتها تلك ورافضة واقعها المرير، لتتعالي شهقاتها تدريجيًا فتهب صارخةً بلوعة:
با باااااااااااااا

وتغادر فراشها مهرولة نحو باب الغرفة لتحتضنها "همس" وقد إنضمت إليها "هايدي" فيحاولوا منعها من مغادرة الغرفة بدموع ذُرفت بأسي لفقدان رجل طيب، ولحال صديقتهم التي فقدت سندها بالحياة وأنيسها بوحدتها وأصبحت عودًا متمايل مع عواصف الحياة.

لتدفعهم عنها بقوة صارخةً:
سيبوني... عايزة بابا... يابابا... سايبني لمين؟!... خدني معاك يابابا... أنا هموت من غيرك... مين هيستناني لما أتأخر؟، مين هيطل عليا بليل ويغطيني؟ ... يا بابا... مين هيطمن عليّا وأنا في الكلية... يا بابا... هقول الكلمة دي لمين تاني...

أدمت كلماتها قلوب صديقاتها ليزداد نحيبهم وتتعالي شهقاتهم، فيحاوطونها بينهما ويشددا من إحتضانها لتتعالي شهقات الثلاث فتيات بصوت إعتصر وأدمي قلوب الجميع.
إنتهت تجهيزات "صالح" لملاقاة ربه، لينضم "حاتم" و"ثائر" إلى "عمر" و"عبد العزيز " لحمله إلى المسجد الكبير وصلاة الجنازة وبعدها إلى مثواه الأخير.

في تلك السيارة لتكريم الإنسان رقد صالح وحيدًا لا يصاحبه برحلته تلك إلا عمله الصالح.
ليردف "حاتم" بأسي:
إتفضل ياعمي معانا في العربية..
ويشير نحوهما مردفًا ده "ثائر" و"حمزة" ولاد عمي

صافح "عبد العزيز" كلاهما بجدية، مردفًا:
أهلا وسهلا بيكم.
ليردف "ثائر" بأسي:
البقاء لله ياعمي، ربنا يرحمه ويغفرله.
أجابه "عبد العزيز " وقد تفنن الحزن في نحت ملامحه ببذخ:
ونعم بالله ياإبني.

بينما أردف "حمزة" بحزن:
البقاء لله حضرتك.
ليجاوبه "عبد العزيز " متنهدًا:
ونعم بالله.
وإنضم "عبد العزيز" و"عمر" إليهم ليستقلوا جميعهم السيارة متوجهين إلى المدافن.

شقة "ضحى"
جلست بمقعدها ودمعاتها تسيل بلاتوقف، وعقلها رافض لإستعاب جميع ما يدور حولها، فمن تلك النسوة اللاتي ربتت على كتفها؟!، مرددين تلك العبارة الساذجة:
شدي حيلك يا بنتي.

عن أي شدة تتحدثون؟! وأي حيل تقصدون؟!
فقد ذابت روحي كتلك الشمعة التي تذوب من إشتعال النار بفتيلها الذي تحتضنه بقوة
وحماية خشية عليه من السقوط والإنهيار.
لقد إحترق قلبي بلا رحمة أو شفقة.

لما يجلسون حولي بذلك اللون الذي لطالما كرهته؟!، كم هو مُقبض لروحي!
متى يغادرون ويتركونني لحالي؟!
كم أريد الإنهيار دون مقاومة أحد لي؟!
ما هذا الكابوس الذي جذبني داخله بقوة وقسوة؟
متى سأعود إلى واقعي وعالمي الدافئ بأحضان والدي وأنافسه العطرة بذكر الله وتسبيحه.؟!

لينتشلها من دوامتها صوت "هايدي" إلى جوارها:
"ضحي" عمي بره عايز يعزيكي ياحبيبتي.

فتنهض من مقعدها وتتبع خطواتها دون أدنى ردة فعل، لتصل إلى ذلك الرجل القعيد بمقعده المتحرك وحوله ولديه الصغار لمساعدته في صعود الدرج وإستخدام المصعد للوصول إلى "ضحي"، ليردف بأسي:
البقاء لله يا بنتي، والدك كان إسم على مسمى.
ليذرف دموع مريرة، وينتحب بأسي:
كان نفسي أكون معاهم وهما بيودعوه بس غصب عني يا بنتي الدكتور منعني من الحركة، ربنا وحده اللي عالم ده كان أخويا وأكتر.

لتتعالي شهقاته الممزقة لقلبها أشلاءًا، ويتعالي أنينها ونحيبها، فتتركه مغادرةً نحو غرفتها صافعةً بابها بقوة. وتستند بظهرها على ذلك الباب الذي تستشعر ضعفه للمرة الأولى، فلم تجده سندًا قويًا يتحملها فربما يهوي ساقطًا بين آن وآخر، فلا تجد لها يوما ساترًا أو سندًا.

إصطفت السيارات أمام ذلك السرادق المُقام أمام بناية "عبد العزيز " ليترجل عنها الجميع بعد أن ودعوا صالحًا إلى مثواه الأخير.
بينما تعالي صوت الشيخ القارئ بتلاوة خاشعة لآيات الذكر الحكيم. و توافد الرجال نحو ذلك السرادق. ليصطف "حاتم" و"ثائر" و"حمزة" إلى جواز "عبد العزيز " وبعض رجال الحي لتلقي واجب العزاء من الجميع.

مرت تلك الساعات عليها كأعوام وقرون عجاف، فقد بدأت أنفاسها تضيق تدريجيًا وأصبحت رؤيتها ضبابية للأشياء والأشخاص حولها، الأصوات تأتي من قاعٍ عميق يتردد صداها بمسامعها بتشويش مدمر لجهازها العصبي.

إنتهي توافد ومغادرة الرجال، لينفض السرادق من الجميع مع حلول الساعات الأولى من الليل.
ليجتمع "عبد العزيز" بـ"حاتم" وأخوته، و يشكرهم على وقفتهم الرجولية إلى جواره.
أردف "عبد العزيز" بإمتنان:
ربنا يكرم أصلك يا إبني إنت وأخواتك وقفتكم معانا مش هننساها، محدش يعزيكم في عزيز أبدًا.

أجابه "حاتم"، بحزن:
ربنا يرحمه ويتغمده برحمته يارب، وإحنا أهل لو إحتاجتنا في أي وقت هتلاقينا جانبك.
ليلتفت" عبد العزيز " نحو "ثائر" و"حمزة"، ويردف:
تعبناك يا "ثائر" يا ابني وأنت كمان يا "حمزة" ربنا يجزيكم كل خير يارب.

أردف "ثائر" بتأكيد:
متقولش كده ياعمي، ده واجب وكان لازم نكون موجودين جنب حضرتك وجنب "حاتم" في الظروف دي.
بينما همس "حمزة":
البقاء لله حضرتك، وأكيد إحنا موجودين في أي وقت، وزي ما قال "ثائر"
ده واجب.

"عبد العزيز " بعرفان:
ربنا يكرمكم يارب، وبكرر شكري تاني لوقفتكم معانا، بعد إذنكوا هروح لبتوع الفراشة هظبط شوية حاجات.
لتستوقفه كلمات "ثائر" الهادئة:
كله تمام يا عمي أنا خلصت كل حاجة وحاسبتهم ده بعد إذن حضرتك طبعًا.

رمقه "عبد العزيز " بنظرات عاتبة، وهو يردف:
ليه كده يا ابني؟! ده واجب علينا إحنا، ممكن أعرف الحساب كام.
ردد "ثائر" بود:
وواجب علينا كمان ياعمي، مش "حاتم" من سكان الحي هنا ولا إيه؟
يعني ده واجب وأتمني نكون قومنا ولو بجزء قليل منه.
ولو حضرتك مش محتاج مننا حاجة، ممكن نستأذن.

ليحرك رأسه بتأكيد:
سلامتك يا ابني... إتفضلوا إنتوا مع السلامة.
غادر ثلاثتهم بتعبٍ وإرهاق ينهش خلاياهم.
بينما أنهي "عبد العزيز" باقي تعليماته لصبي الفراشة، وإتجه قاصدًا شقة "ضحي".

إنفضت من حولها جميع النسوة، لتقترب منها "حنان" بحنو، هامسة:
قومي كُلي لقمة يا بنتي، إنتي من الصبح ماشربتيش كوباية ماية حتى.
لتحرك "ضحي" رأسها برفض، وقد جف حلقها وإلتصق به لسانها فلم يعد يستطيع الحركة والنطق بحرف واحدٍ، كما جفت عيونها وإشتعلت إحمرارًا وحرقة.

حينما دلف "عبد العزيز" و"عمر" إليهم مردفًا:
السلام عليكم.
جاوبه "حنان" و"همس" و"هايدي" بهمس يكاد يكون مسموع من إثر الإعياء والإرهاق الشديدين:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

ليقترب من "ضحي" ويجلس إلى جوارها بحنان أبوي صادق:
شدي حيلك يا بنتي، إعتبريني زي والدك، أنا عارف إني مش هقدر أحل محله ولا أعوضك عنه... بس ده عهد عليّا؛ تكوني عندي زي" همس" و "عمر" وعمري ما هفرق في المعاملة بينكم أبدًا.

فترتمي إلى صدره باكية بمرارة وحسرة:
بابا راح يا عمي... اللي كنت مطمنة إنه في حياتي خلاص سابني... اللي كنت بعمل كل حاجة على حسه سابني وراح.
مين هيطبطب عليا تاني؟... مين هيعاقبني ويخاصمني لما أعمل حاجة غلط؟
مين اللي مقدرش على زعله وأفضل أحايل فيه وأصالحه؟!
مين هيدعيلي مع كل سجدة وآذان؟
مين هيسألني صليتي ولا لأ؟
مين... مين؟!

أزال تلك الدمعة المتمردة التي قاومها كثيرًا ليقف بثبات يتلقى عزاء جاره وصديقه الصالح، ليربت على كتفها بحنان:
إعتبريني مكانه ولو قصرت في حقك يوم إزعلي مني وخاصميني زي ما كان بيخصمك.
وأكمل متنهدًا بألم:
مش هتنامي لوحدك هنا، يلا تعالي معانا نامي مع "همس" في أوضتها.

لتبتعد عنه محركة رأسها برفض:
معلش يا عمي سيبني على راحتي، مش هسيب المكان اللي فيه ريحة بابا وأنفاسه.
ردد "عبد العزيز " بحزم:
خلاص "همس" ومامتها هيباتوا معاكي هنا.

لتتنهد "ضحى" بتوسل:
عشان خاطري، محتاجة أكون لوحدي شوية من فضلكم.
بينما تنهدت "همس" بقلة حيلة، هاتفة:
خلاص يا بابا خليها براحتها، أنا هاخد مفتاحها معايا وهطل عليها كل شوية.

لينهض "عبد العزيز " من مقعده بإستسلام:
تمام... لو إحتاجتي أي حاجة خبطي علي الباب على طول، أو رني على "همس" ثواني ونكون عندك.
وإلتفت نحو "حنان" و"عمر" مردفًا:
يلا يا جماعة سيبوها ترتاح شوية، والصبح بدري نكون عندها.

إقتربت حنان منها وقبلت جبينها بحنان أم قلقة على أبنائها:
الأكل على السفرة، إوعي تنسى تاكلي يا بنتي.
وأردفت "همس" بألم:
لو إحتاجتيني فكري بس هتلاقيني عندك على طول.

لتحرك "ضحي" رأسها بموافقة:
حاضر... وإنتي كمان يا "هايدي" روحي عشان طنط أكيد هتحتاجك.
غادر الجميع، وأوصدت "ضحي" الباب بهدوء، لتستند عليه وتنزلق قدماها فتهوي أرضًا بدموعٍ قد جفت ونبعت من جديد.

لحظات... ثوان... دقائق... وربما ساعات، قضتها مستندةً على ذلك الباب تتأمل كل ركن مر به والدها، تتذكر كلماته ونصائحه لها، تدوي أصداء ضحكاته بالمكان، لتهب واقفةً قاصدةً غرفته، وترتمي بفراشه مستشعرة أنفاسه ورائحته التي لطالما أشعرتها بالأمان، بدأ النوم يداعب أهدابها بهدوء، لتستسلم لحظات، وتقاومه أخرى .

بينما تسلل إلى مسامعها أصوات خطوات خافتة بردهة الشقة، لتنتفض بقوة وقد دبت رجفة قوية بأوصالها، وقد إستوطن الخوف قلبها.
بدأت ترتجف قليلًا، إزدادت قوة الخطوات وإقتربت منها رويدًا رويدا، إزداد خوفها أضعافًا، لتتسارع دقات قلبها، يعلو صدرها ويهبط بقوة.
تغطي حبيبات العرق جبينها بسخاء، تسيل دمعاتها بغزارة.
ليدلف إلى الغرفة، فتتسع حدقتاها بدهشة، هاتفةً:...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة