قصص و روايات - نوفيلا :

رواية نوفيلا جنون تحت السيطرة للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني

رواية نوفيلا جنون تحت السيطرة للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني

رواية نوفيلا جنون تحت السيطرة للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني

بعد ذهاب ذلك الطفل من أمامه باكيًا، عنَّف «سليمان» ذاته بحدة وعتاب، فطفل كهذا لا يستحق ذلك التوبيخ الذي ناله منه، منذ متى وكان قاسيًا هكذا! سحب نفسًا عميقًا ثم زفره على مهل، ومن داخله قرر الإعتذار لذلك الصغير عند رؤيته مجددًا.

لم تمر سوى خمس دقائق، وسمع صوت جلبة تأتي من الخارج، لم يهتم من البداية، خاصةً وأن تلك المناطق الشعبية يحدث فيها العديد والعديد من المشاحنات، وبالطبع لن يُدخل ذاته في ذلك.

أعلن هاتفه عن إتصال عندما صدح رنينه في الأرجاء، انتشله من على الطاولة العريضة، ثم ابتعد قليلًا عن مصدر الصوت الذي يقترب منه تدريجيًا لكنه لم يُعطي لذلك همًا، وجد إسم «مدثر» يُنير على شاشته، لذلك أجاب بهدوء: السلام عليكم.
أتاه صوت «مدثر» المازح: وعليكم السلام أخ سليمان، كيف حالك وحال أولادك وبناتك وأولاد خالاتك وعماتك ووالديك عزيزي.

تشنج وجه «سليمان» بإستنكار، ثم أجابه بسخط: ولاد مين! يابني أنت أهطل! انجز في يومك دا عايز إيه!
قطب «مدثر» جبينه بغضب، ثم نهره قائلًا: ولد! أنت مش عارف إني أكبر منك ب 7 سنين، يعني المفروض تحترمني وتقولي يا أونكل.

استنكر «سليمان» حديثه عن عمره، ف«مدثر» يبلغ من العمر الثامنة والعشرون، لكن أفعاله تُوحي بصغره وطفوليته، يشبه الأطفال. لكن ليس في البراءة، بل في الغباء.
تلك المرة تحدث «مدثر» بجدية طفيفة: المهم كنت عايز أقولك إن إسحاق في المستشفى، شكل العيال إياهم هما اللي عملوها ومش ناويين يجيبوها لبر، ف...

قاطعه «سليمان» وملامح الخوف تُسيطر على وجهه، عندما وجد الكثير من الرجال يقفون أمامه ومعهم ذلك الطفل، بل ويحملون في أيديهم عُصيّ كبيرة ستقضي عليه لا محالة إن هبطت على جسده: بقولك يا مدثر! احجزلي سرير جنب إسحاق الله يسترك، أصلي بحبه وناوي أقضي معاه اليوم.

قطب «مدثر» جبينه بتعجب، وكاد أن يسأل عن ماهية حديثه؛ فوجد الإتصال قد انقطع عنه، نظر للهاتف ببلاهة مُتمتمًا مع ذاته: أهبل دا ولا إيه!

هزَّ كتفه بلامبالاة واضعًا الهاتف بجيب بنطاله، ثم استعد للذهاب إلى «إسحاق» بالمشفى للإطمئنان عليه، لكن قبل أن يذهب إليه؛ سيتجه إلى منزل معشوقته ليراها، فلقد اشتاق لها حد اللعنة، وما زاد شوقه؛ هو عدم إجابتها على الهاتف بسبب كلمات «غزل» التي ألقتها على مسامعها.

البلهاء تظن بأنه يُحب أخرى، لا تعلم بأنها امتلكت قلبه منذ الصِغر، وكأنها ألقت عليه لعنة العشق ليُصبح أسيرًا لها، رمت عليه تعويذة خاصة بها، فأصبح سجين لهواها.
وعلى الجانب الآخر. ابتلع «سليمان» ريقه برعب عند رؤيته لهؤلاء الرجال، والذي يظهر الإجرام على ملامح وجوههم، هتف أحدهم بصوت غليظ ومخيف: أنت فين يا دكتور الندامة أنتَ!

حاول «سليمان» التحلي بالشجاعة، فخرج من تلك الزاوية الصغيرة الموجودة بالصيدلية، ثم أردف بصوت جعله ثابت بقدر الإمكان: أيوا يا فندم أقدر أساعد حضرتك في حاجة!
أتاه الجواب على هيئة ضربة أطاحت بلوح الزجاج المُمتلئ بالأدوية، حينها تمتم «سليمان» بصوت باكٍ: دعواتك يما، هموت مقتول يا خرابي.

أمسكه الرجل من ياقة قميصه ثم هزه بعنف مُقربًا وجهه من وجه الآخر، مما جعل رائحة أنفاسه الكريهة تضرب ببشرته: أنت اللي زعقت للواد ابني! دا أنت سنة أهلك سودة.
أبعد «سليمان» وجهه عنه بنفور، وقام بإغلاق أنفه بيده، ثم تحدث بإشمئزاز: ريحة بُوقك ياي أوفر، حضرتك في هنا غسول للفم روعة، فلو عايز ممكن أجيبل...

اشتدت قسمات وجه الآخر بالغضب، حتى أوشكت على الإنفجار، وهُنا أنعى «سليمان» غباؤه على ما يتفوه به من حُمق، وما كاد أن يتحدث؛ حتى باغته الرجل بلكمة أصاحت بجسده الضئيل أرضًا، ليستمع إلى صوت أحد أبناء ذلك الرجل: سيبوا يابا وأنا هقطعه، مش هخلي في خلقته حِتة سليمة.

ابتعد له أباه دون أن يتفوه بكلمة واحدة، فإشتدت يده على الإمساك بالعصى وهو يُحدقه بتوعد، ابتعد «سليمان» بظهره للخلف، ثم رفع سبابته يُحذره بشجاعة واهية: أنت. أنت عارف لو قربت مني هعمل فيك إيه! هصوت.
إلتوى ثغر الآخر سخريةً، ثم رفع يده وهبط بالعصى على رأسه، ليفقد وعيه في الحال.

وصل «موسى» مهرولًا إلى منزل «ريان»، والذي طلبه في شئ هامًا للغاية، طرق جرس الباب ففتح له «مدثر» الذي كان ينتوي الهبوط، والذي أردف بمشاكسة: أووه ياااه، موسى ذات نفسه عندنا هنا!
دفعه «موسى» بنفاذ صبر، ثم دلف للداخل بعد أن سأله بترقب: والدتك هنا!

هزَّ رأسه نافيًا، ليجلس «موسى» على الأريكة بإنهاك مُتمتمًا بتعب: منك لله يا ريان، ويخربيت ومعرفتك.
أنهى حديثه ثم نظر إلى «مدثر» المُتابع إياه ببلاهة، قائلًا: نادي لأبوك عشان ألحق أرجع للمستشفي للواد المتلقح هناك دا.
أومأ له «مدثر» بالإيجاب، وعلى بغتة أفزعت الآخر نادي على أبيه صائحًا بصوت عالي: أبااااا، يابا، كلم موسى.

انتفض «موسى» من مكانه حاملًا المزهرية التي بجانبه، ثم قذفه بها: موسى إيه يا قليل الأدب يا عديم الرباية، ما أنت ابن ريان صحيح.
خرج في تلك الأثناء «ريان» من المرحاض مُدندنًا مع ذاته بلحن أغنية ما وهو يُجفف خصلاته المُبتلة، جزَّ «موسى» على أسنانه بغيظ عندما رأى حالته المُستمتعة، لم يكن واقع بمصيبة كبيرة كما أخبره إذًا!

أبصر «ريان» نظراته الغاضبة المُصوبة تجاهه، وسرعان ما رسم الحزن على تعابير وجهه، إلتوى ثغر «مدثر» بإبتسامة عابثة وهو يعلم بقدوم عِراك بين الإثنان لا محالة، لكن ولسوء حظه ليس لديه الوقت الكافي للمتابعة، لذلك حمحم وهو يستأذن منهم: طب بالسلامة بقى عشان ورايا مشاوير وهَم ما يتلم، وابقى صورلي الخناقة بس مباشر يا والدي.

أنهى حديثه ثم تركهم وغادر هابطًا للأسفل، يقصد منزل «فارس»، وبالتأكيد يُريد أن يراها هي تحديدًا.
استدار «موسى» ل«ريان»، وما كاد أن يسأله عن سبب دعوته تلك؛ حتى استبقه «ريان» وهو يتقدم منه مُتحدثًا بنبرة حزينة: شوفت يا موسى يا خويا اللي حصل! غزل سابت البيت ومشيت، وحالفة يمين طلاق ما هي راجعة، بقى بعد السنين دي كلها تتخلى عني وتسيبني!

جائه رد «موسى» الساخط وهو يُسيح بيده في وجهه: يا أخي بركة إنها طفشت، أنا مش عارف استحملتك أنت وابنك كل السنين دي إزاي! دا أنا صاحبك أهو ومش طايقك.
حدجه «ريان» بإستنكار، ثم مصمص على شفتيه رافعًا أحد حاجبيه: ومالي أنا وابني إن شاء الله! دا احنا حتى مفيش في هدوئنا ولا في أخلاقنا.

أكد عليه «موسى» ساخرًا: على يدي يا حبيبي والله، أنت من كُتر الإحترام ناقص تكون إمام جامع.
استشف سخريته في الحديث، لذلك مطَّ شفتيه بضيق ولم يُعقب، حدجه «موسى» بيأس وهو يهز رأسه بقلة حيلة، ف«ريان» سيبقى كما هو، طفل صغير يحزن من أقل الأشياء، مهما احتل الشيب رأسه سيظل كما هو.

حمحم ثم اقترح عليه بحماس ليُخرجه من ضيقه: أنا عندي فكرة، أنت تشتري ليها بوكيه ورد حلو كدا، مع علبة شيكولاتة من اللي قلبك يحبها، وتاخدهم معاك وتروحلها عند بيت أهلها وتصالحها.
نالت الفكرة إعجاب «ريان» كثيرًا، هو بكل تلك السنوات لم يجلب لها وردًا أو حلوى، بل كان يكتفي بأن يُعطي لها عِقدًا من الذهب أو ما شابه، وللحقيقة كانت تسعد كثيرًا، فكانت أقل الأشياء تجعلها تكاد أن تطير فرحًا.

أومأ بالإيجاب وعلى ثغره ابتسامة تتسع تدريجيًا عند تخيله لردة فعلها، أستسعد! بالتأكيد كذلك، نظر ل«موسى» المُتابع له ثم أردف بإلحاح: طيب تعالى معايا عشان خايف أعُك الدنيا معاها.
استهجن «موسى» حديثه، فأجابه بحاجب مرفوع: يابني أنت صغير! دا أنت عندك 51 سنة.
ورغم أن حديثه صحيح، إلا إنه صاح في وجهه بتوبيخ: طب متقولش 51 سنة بس، أنا مازالت شاب عشريني وسيم.

لوى شفتيه ساخرًا، ثم هبَّ من مكانه مُتأهبًا للذهاب: طيب أنا همشي بقى عشان إسحاق في المستشفى لوحده هو والجماعة.
وقف «ريان» هو الآخر قاطبًا جبينه بقلق: مستشفى ليه! إيه اللي حصل!
أجابه «موسى» مستنكرًا وبسمة ساخرة مُتشكلة على ثغره: أبدًا يا سيدي، مِسِك شوية عيال ضربهم لحد ما طحنهم، وهو دلوقتي اللي في المستشفى.

لم يفهم «ريان» حديثه في البداية، سرعان ما استشف المغزى من وراءه، ليُطلق ضحكة رنانة صدحت في الأرجاء، تلاها قوله الضاحك: لأ راجل صحيح، ابقى سلملي عليه لحد ما آجي أزوره أنا وغزل النهاردة.
شاركه «موسى» الضحك وهو يُومئ له، ثم غادر وتركه يضحك بخفوت على هذا الحديث، والذي من المؤكد أن «إسحاق» هو قائله.

هبط «مدثر» لمنزل «لوچي» حتى يُصالحها، يُفكر في غيرتها العمياء من «حور» ابنة «أحمد أبو زيد»، وقف أمام باب المنزل مباشرةً، وقبل أن يطرقه تمتم مع ذاته: ربنا يسامحك يا ماما، دي هتطين عيشتي.

استجمع رباطة جأشه ثم طرق الباب على مهل، انتظر قليلًا حتى فُتِح الباب ببطئ، وأول مَن قابله هو «فارس» الذي ما إن رآه حتى رسم بسمة صفراء على ثغره، تبعها بقوله الحانق وهو يجز على أسنانه بغيظ: عايز إيه يا ابن ريان!

ارتسم التوتر على محياه من وجوده، ف«فارس» يُحبه، لكنه لا يطيق وجوده بجوار ابنته، يحبها بشدة ويغار عليها كأنها محبوبته وليست ابنته، رفع يده في الهواء م لوحًا بها ببلاهة: ازيك يا عمو!

لم يُجيبه، بل ظل يُحدق به بجمود لعلمه سبب قدومه، بالطبع قادم لتلك المُدللة ابنته، وهو لن يسمح له بذلك، علم «مدثر» ما يجول بخاطره، لذلك رسم على محياه الضيق، قائلًا بحزن زائف: طبعًا مفكرني جاي ل«لوچي» صح! على فكرة أنا جاي ليك أنت عشان أقولك إن عمو موسى قاعد مع بابا فوق وبيعيط عشان ابنه إسحاق في المستشفى.
فتح «فارس» عيناه بفزع متشدقًا بقلق: بتقول إيه! مستشفى!

لم ينتظر حتى لسماع اجابته، بل هرول للأعلى ل«موسى» والذي بات صديقه في تلك السنوات التي مضت منذ أن تزوج ب«تسبيح»، نظر «مدثر» لأثره بعيون يلتمع فيها المكر والخبث، ثم دلف مسرعًا للداخل حتى يستطيع التحدث معها قبل أن يأتي «فارس» إلى هنا مجددًا.

اصطتدم ب«زهر» والتي كانت تخرج من المطبخ في ذلك الوقت، وضعت يدها على قلبها بفزع قائلة بخضة: حرام عليك يا مدثر، حد يدخل كدا!
أجابها مُسرعًا وهو يُربت على كفها بإعتذار: حقك عليا يا حماتي، قوليلي بسرعة لوچي فين!
ابتسمت بخفة وعلمت الان سبب هرولته تلك، فأشارت تجاه أحد الغرف قائلة بضحك: هناك قاعدة في أوضتها.

أما بالداخل. عندما استمعت «لوچي» إلى صوته، قامت بإغلاق باب غرفتها بالمفتاح الخاص به حتى تمنعه من الدخول، فما زالت غاضبة منه، رغم علمها بأن ليس له ذنب في ذلك، ولكن هي تغارُ عليه بشدة.
استمعت إلى صوت الباب، تبعه صوته المُنادي: لوچي افتحي أنا مدثر.
هزت رأسها برفض كأنه يراها، ثم أجابته بتنعت وغضب: لأ مش فاتحة، وابقى خلي ست حور تنفعك.

حور مين بس دلوقتي! طب افتحي بس ونتفاهم أنا وأنتِ بشكل وِدي.
أصرت على عنادها مُجيبة إياه: لأ برضه، مش هفتح يعني مش هفتح، وسيبني وامشي دلوقتي يا مدثر بدل ما أنادي لبابا.
لم يُعير لحديثها أي أهمية، فقال بصوت عالي وصل لمسامعها: افتحي يا بت، دا أنا الذي لا ينام الليل الكحلي بسبب التفكير في عيونك العسلي يا بت.

لم تُجيبه بل تمددت على فراشها مستمتعة بحديثه الذي يُلهب نيران قلبها، تشكلت بسمة عاشقة على ثغرها عندما استمعت لبداية حديثه، سرعان ما اختفت عند استماعها لآخره: وأقسم بالله بحبك أكتر من حبي للمكرونة بشاميل.

قطبت جبينها بغضب، ثم هبت من على فراشها بعصبية، تقف خلف الباب صارخة بحدة: لأ شكرًا مستغنيين عن خدماتك ياخويا، روح حِب المكرونة أحسن، احنا مش بنشحت حب من سيادتك، ولو اتطربقت السما على الأرض مش هفتح الباب يا مدثر.
بعد ربع ساعة، كانت «لوجى» جالسة على الأريكة المُقابلة ل«مدثر» قائلة بخفوت وخجل: وأنا كمان بحبك يا مدثر.

أسبل عيناه على وجهها بوله، ثم أردف ببلاهة: اعطيني كمان واحدة مدثر يارب تتجوزي.
فتحت فمها في نية لإجابتها، وإذ بوالدها يدلف بغضب مُمسكًا ب«مدثر» من ياقة قميصه وهو يهزه بعنف: بقى أنت يلا بتضحك عليا أنا! طيب معنديش بنات للجواز.
جعد «مدثر» جبينه بضيق، ثم أشار ل«لوچي» التي تُتابع شجارهم المعتاد بضحكة مكتومة: أومال اللي قدامك دي إيه! أباجورة!

هزه «فارس» بعنف وهو يكز على أسنانه: هي مين دي اللي أباجورة يلا! بقولك إيه أنت أصلًا خاين وأنا ميرضنيش إن بنتي تتخان.
وبصعوبة انفلت «مدثر» من بين يديه مبتعدًا عنه، تاركًا مسافة مُناسبة للهروب، ثم صفق بيده بطريقة تُشبه الردح: هو إيه اللي ميرضكش بنتك تتخان! ما أنت خونت طنط زهر مع السكرتيرة ومتكلمناش.

ثانية. ثانيتان. وكان الصمت يعم المكان، ومن بعدها استمع الجميع إلى صوت صياح «زهر»: نعم نعم! بتخوني! والله دا أنا أقتلك فيها.
حمحم «مدثر» بقلق، ثم عدَّل ياقة قميصه بيده، مُردفًا ببرائة: طيب يا جماعة استأذنكم أنا بقى عشان هروح أصلِّي المغرب.

قال جملته ثم انطلق هاربًا للخارج بعدما أشعل الأجواء المحيطة به، وجهَّت «زهر» عيناها الغاضبة نحو زوجها، ثم أردفت بخفوت قريب وهو تُمسك بآلة حادة (السكينة) بين يديها: عايزة أفهم كل حاجة دلوقتي يا فارس، بدل ما أقتلك وأقتل ولادك الاتنين.

ارتسمت ابتسامة متوترة على ثغر «فارس» وكذلك «لوچي»، دلف في تلك الأثناء «عدي» المُقطب الجبين، والذي لم يُعيرهم أي أهمية، دالفًا إلى حجرته بصمت وهدوء مريب أثار تعجبهم.

قرر «فارس» التحدث معه لكن بعد الإنتهاء من حوار زوجته والتي من الممكن أن تقضي على حياته في لحظة غضب، اقترب منها رويدًا قائلًا لها بتهدأة: أنتِ عارفة إني بحبك يا زهري مش كدا! يعني مستحيل أبص لأي واحدة برا، لإنك بإختصار مالية عيني وقلبي.
حسنًا. لقد قام بتهدأتها، لكنها ستصر على رأيها لمعرفة الأمر كاملًا، لذلك أشاحت بيدها في الهواء صائحة: أومال إيه الكلام اللي مدثر بيقوله دا!

أجابها بسباب يخصه: دا عيل حقير ملكيش دعوة بيه.
اقترب منها ببطئ، ثم انتشل منها السكين على بغتةً، فقرًَب وجهه منها قائلًا بهيام: بقى حد يكون معاه الفراولة كلها ويبص للسردين!
نفخت «لوچي» بغيظ، ثم دلفت إلى غرفتها مُغلقة الباب خلفها، وهي تقول بحسرة: منك لله يا مدثر، تعالى اتعلم من بابا يكش تحس على دمك.

يا محمود ما تجيب بوسة بقى الله!
هتفت «ميران» بتلك الكلمات بضجر مُوجهة حديثها لزوجها الذي يجلس بعيدًا عنها على الأريكة المقابلة، هزَّ «محمود» رأسه بلا وهو يُحدجها بضجر من طرف عيناه، ثم أردف بغيظ: لأ، عشان تبقي تتصرفي بمزاجك وتخرجي من غير إذني بعد كدا.

جعدت وجهها بضيق ثم اقتربت منه حتى جلست جانبه مُباشرةً: طيب عشان خاطري متزعلش مني، وبعدين دا أنا كنت بزور مريض، وزيارة المريض واجب.
أشاح بيده وهو يُجيبها: بلا واجب بلا بتاع، واللهِ حتى لو بتزوري أمك تقوليلي.
وضعت يدها على كفه المُجعد قليلًا، قائلة بإلحاح: حاضر والله هقولك بعد كدا، بس خلاص متزعلش.

حاول أن يظل على موقفه؛ لكن أمام نظراتها المُترجية انهزم، أحاط بها فوضعت رأسها على كتفه قائلة بحب: بحبك يا حودة.
قبَّل جبينها بعشق: وحودة بيموت في قلبه.
رفعت رأسها له وعادت نظرات المكر والخبث تُحيطان بعينها: طيب البيت فاضي ها ولا مش واخد بالك!
كتم ضحكته بصعوبة شديدة، ثم تصنَّع الجهل: أيوا يعني إيه مش فاهم!

اقتربت منه رويدًا حتى قالت بهمس: يعني استغل الموقف يا حودة بقى، عايزين نجيب أخ ل«سليمان» بدل ما هو وحداني كدا.
اقترب منها، وما كاد أن يُجيبها؛ حتى استمع إلى صوت رنين هاتفه، تأففت هي بضيق ثم أردفت بسخط: هو دا وقته!
ضحك عاليًا ثم حاول التحكم بذاته، وبعد أن نجح في ذلك؛ أجاب على الهاتف بصوت هادئ رزين: السلام عليكم.
وعليكم السلام، كنت عايز أبلَّغ حضرتك إن ابنك في المستشفى.

انتفضت من مكانه متحدثًا بهلع بعد أن دفع «ميران» بعيدًا: سليمان! إيه اللي حصله! ومستشفى إيه اللي هو فيها!
ابني.
كلمة خرجت من فم «ميران» المزعورة بعدما استمعت لحديث زوجها الأخير.
أغلق «محمود» الهاتف بعدما أملى عليه الآخر اسم المشفى المُحتجز بها «سليمان»، ثم دلف لغرفته و«ميران» خلفه تسأله بجزع: إيه اللي حصل يا محمود! سليمان ماله!

أجابه بتيهة أثناء إتجاهه إلى خزانته ليُخرج منها ثيابه التي بدأ في إرتدائها سريعًا: معرفش يا ميران معرفش، أما أنتِ لو تتقي الله وتبطلي قلة أدبك دي! ربنا هيباركلنا في حياتنا وكتاب الله.
لم تجد الوقت لإجابته، بل اتجهت نحو ثيابها ترتدي عبائتها وحجابها سريعًا، حدجها «محمود» بسخط وهو يُكمل إرتداء ثيابه: أنتِ راحة فين!
أجابته بتنعت وإصرار: راحة لإبني، ما هو مش ابن البطة السودة.

أغمض عينه لكي يتحكم في إنفعالاته، ثم أنهى إرتداء ملابسه، وهي كذلك، تاركين المنزل مُتجهين إلى المشفى القابع بها ابنهم.

قلبه يتآكل ألمًا مما ألقته على مسامعه، تُريد الإبتعاد وهو العاشق لها منذ صغرها، ألقت عليه حاجز يُبعد بينه وبين الجنس الآخر فأصبح لا يرى سواها، عشقها أرهقه، وحديثها أنهكه، وبالنهاية تُريد الطلاق، وهو مَن كان يتوقَ لزفافهم الذي سيُقام بعد أسبوعان من الآن، يشعر بجدران الغرفة تكاد أن تطبق على أنفاسه، رئتيه تُريد الهواء، يُريد أن يتنفس، ولن يحدث ذلك إلا أن تعود له.

تذكر حديثهم الدائر منذ سويعات قليلة عندما ذهب ليلتقيها، وبعد محاولات كثيرة لمعرفة ما بها، ألقت على مسامعه جُملة جعلته يُقسم بأنه سمع صوت تفتت فؤاده: عُدي أنا مش عايزة أكمل.
فتح «عدي» أول ثلاثة أزرار من قميصه الأسود ليلتقط أنفاسه، ورغم أنه قادم من عندها منذ دقائق، إلا أنه قرر الذهاب إليها مرةً أخرى لمعرفة السبب خلف قرارها ذلك.

خرج من المنزل سريعًا وصعد عدة درجات للأعلى قاصدًا منزلها، لكنه توقف عندما رأها تهبط الدرجات بتعابير وجه منكمشة، توقفت عندما وجدته أمامها، ثم استرسلت هبوطها تحاول تجاهله، مرت من جانبه في نية لتركه، لكنها توقفت عندما أمسك بمعصمها جاذبًا إياها حتى أصبحوا يقفون أمام باحة منزله هو.
أفلتت «منار» معصمها من يده بقوة، ثم تحدثت بحدة: أنت عايز مني ليه! مش قولنا كل اللي بينا انتهى وهتطلقني!

ضرب على الحائط من خلفها جاززًا على أسنانه وهو يُمسك بها من ذراعها بعنف: أنتِ اللي قولتي، أنا مقولتش حاجة، وطلاق مش هطلق، وحالًا عايز أعرف السبب ورا القرار المتخلف دا، وبعدين راحة فين من غير ما تقوليلي!
سحبت يدها بعنف من بين قبضته، ثم أشارت بسبابتها أمام وجهه مُردفة بصراخ: ملكش دعوة بيا، وآخر مرة تفرض نفسك عليا تاني أنت سامع!

خطَّت عدة خطوات تنوي تركه والذهاب، لكنه لم يسمح لها بذلك، بل دفعها للخلف ليصتدم ظهرها بالحائط العريض من خلفها بقوة آلامتها، مُتحدثًا بقوة وأعُين تطلق شررًا: لو الهانم ناسية إنها مراتي فأنا أحب أفكرها بدا، واللي بقوله هيتسمع من غير نقاش، مفهوم!
دفعته بغل قبل أن تنطق بكُره ظاهر: طلقني.

ولثاني مرة ترميها أمام وجهه دون ذرة رحمة أو شفقة، لم تنظر إلى قلبه المتألم بعشقها، ضاربة بكل تلك السنوات التي قضوها معًا بعرض الحائط، عاد للخلف عدة خطوات وهي لا تفعل شئ سوى متابعته فقط، تُقسم بأنها فؤادها يؤلمها أضعافًا مُضاعفةً عنه، لكن لا توجد سوى تلك الطريقة.

أومأ لها بهزات خفيفة من رأسه، ثم تحدث بجمود رغم ذلك الألم الذي أحاط بعينه: هطلقك يا منار، هطلقك وهدوس على قلبي وقلبك، هتجوز وهشوف حياتي، بس بعيد عنك، ورقتك خلال يومين هتكون عندك، ومن هنا وجاي أنتِ بنت عمي وبس.
في تلك الأثناء. فتح فارس باب المنزل والذي استمع إلى الحديث بأكمله لكنه لم يود التدخل من البداية، لكن الآن الأمر مختلف تمامًا، فمن المؤكد بأنهم سينهون كل شئ بغبائهم هذا، لذا عليه التصرف.

كانت دموع «منار» تهبط دون هوادة عندما استمعت لحديثه الأخير، ظنت بأنها ستسطيع التحمل والتجاوز، لكن مجرد الحديث انهارت وباتت على مشارف الإنهيار، اتجه إليها «فارس» ثم أخذها في أحضانه مُربتًا على ظهرها: اهدي يا حبيبتي وبطلي عياط، أنا مش عارف أنتِ كنتِ مستحملاه طول الفترة اللي فاتت دي إزاي! أنا أبوه أهو ومش طايقه.

حاول بحديثه المُمازح أن يضحكها، مما أغاظ «عدي» كثيرًا وجعله يقول بحنق: يا بابا أنت بتقول إيه!
نهره «فارس» بجدية وغضب: اخرس يا حيوان وغور من وشي دلوقتي، بقى حد يزعَّل البسكوتة دي! لأ وتخليها تعيط كمان! دا أنت كائن معندكش دم.
كز «عدي» على أسنانه بغضب، ثم ذهب من أمامهم والنار تشتعل في كل جزء بجسده، لم يُحبذ أن تنتهي الأمور هكذا، لكنها استنزفته بكل ذرة فيه.

بعد ذهابه، أخرج «فارس» تلك الباكية من أحضانه، ثم مسح دموعها من على وجهها، جاذبًا إياها من يدها للداخل لكي يتحدث معها: تعالي يا بسكوتة نتكلم شوية.
أطاعته ودلفت معه للداخل ولم تتحدث، جلست على المقعد المقابل له، ورغمًا عنها التقطت عيناها صورته الموضوعة على الطاولة من جانبها، وسيمًا بدرجة أرهقت قلبها، رغم أنه يظهر للآخرون كشخص عادي، لكن المُحِب يرى الحبيب بقلبه هو.

سحب «فارس» نفسًا عميقًا قبل أن يزفره على مهل، وبعدها نظر إليها مُطولًا قبل أن يتحدث بهدوء: طبعًا أنا مش هقولك ليه عملتي كدا ولا ليه عايظة تطلقي من عدي، عدي قبل ما يكون ابني فأنتِ كمان بنتي وحِتة من قلبي، زيك زي لوچي بالظبط، اللي يجي عليها كأنه بيجي عليا بالظبط، ولو عُدي زعلك أو عمل حاجة ضايقتك؛ خليكِ متأكدة إني هقف في ضهرك وهخليه يطلقك غصب عنه، لكن قبل دا كله عايز أقولك إنه بيموت فيكِ، ومش عشان ابني بقول كدا لأ، بس أنا فاهمه أكتر من نفسه، وعارف إنك أغلى حاجة في حياته، أنا مش عايز نهايتكم تبقى كدا، مش عايز حد فيكم يتحرق بنار الحب، ليه عايزة تبعدي وتطلقي!

تشكلت طبقة كثيفة من الدموع داخل مقلتيها، ولم تجد حلًا سوى إخباره، ارتعشت شفتيها ببكاء ثم بدأت بالحديث: أنا. أنا مش عايزة أظلمه معايا.
قطب جبينه وهو يسألها بإستفهام: تظلميه في إيه بالظبط!
أجابته بتردد: أنا. أنا لا إنجابية يا عمو.
رد عليها ببلاهة شديدة وهو يقول: بتتكاثري لوحدك ولا إيه مش فاهم!
أعادت تكرير جملتها على مسامعه وهي تُصحح له: لا إنجابية.

خشى ما إن كان ما يُفكر به صحيحًا، لذلك رد بحماقة أشد: لا إرادية!
يا عمو لا إنجابية.
قالتها بنفاذ صبر، فأجابها بتخوف وكأنه ينفي لذاته ذلك المغزى من الحديث: فول وطعمية!
يوه، لا إنجابية يا عمو يعني أنا مش بخلَّف.

صمت «فارس» وصمتت هي، تُتابع تعابير وجهه التي لم تتغير، تعلم كُل ما يدور برأسه، فهو في النهاية أب ويحتاج إلى أحفاد، أنزلت وجهها تُخفي دموعها التي تشكلت مرة أخرى، شعرت بيده تمتد لوجهها لترفعه، ثم استمعت لحديثه الحنون: عرفتي منين!

أجابته بتردد وخجل: عملت تحاليل ولما جبتها الدكتور قالتلي إني مش هعرف أخلف، مصدقتهاش ورُوحت عملت تحليل واتنين وتلاتة عند كذا دكتور وفي الآخر بتكون نفس النتيجة ونفس الكلام، وهي إني مش هخلف.
انهت حديثها وهي تشهق ببكاء مرير مُردفة بحشرجة: عُدي يستاهل الأحسن يا عمو، أنا مش عايزة أظلمه معايا، أنا...

قاطعها بهدوء: لازم تقولي لعدي عن كل حاجة، وهو وقتها اللي يقرر لو عايز يفضل معاكِ ولا لأ، وخليكِ متأكدة وواثقة من نفسك، متكونيش ضعيفة، أي بلاء ربنا بيبتلينا بيه بيكون إختبار لينا في الدنيا، والدنيا فانية، عيشي حياتك وعيشي سِنك واعملي اللي عليكِ وسيبي الباقي على ربنا.

هل تعلمون تلك الطمأنينة التي تهبط على الفؤاد فجأة عند الإستماع لما يسلب منك تلك الطاقة السلبية التي تكمن في صدرك! شعرت بها هي بعد إنتهائه من حديثه، اقتربت منه مُرددة له بإمتنان: شكرًا يا عمو، شكرًا بجد.
قبَّلها من جبينها بحنان، ثم أردف بمزاح: يلا امسحي دموعك وروحي شوفي الواد الحيلة اللي طفشتيه راح فين.

ضحكت بخفة وهي تمسح دموعها، ثم خرجت من المنزل هابطة للأسفل تجول ببصرها في الأنحاء في نية لإيجاده، ستُخبره بكل شئ اليوم، وهو سيُقرر.

آه ياني يا مراري. يا دماغي ياما. آه منك لله يا ابن الوارمة. اللهي تتشك في جنابك يا بعيد. اللهي يجيلك حصبة في زورك. اللهي يجيلك شلل في مناخيرك. آه الدنيا بتلف برجلي يا ناس.

صعدت تلك الكلمات المُولولة من فم «سليمان» الذي قاموا بتقطيب رأسه نتيجة لذلك العِراك الذي حدث بينه وبين ذلك الرجل عديم الرحمة والإنسانية! والمُمرضة تُحدجه بسخط نتيجة لذلك الصداع الذي سببه لها منذ أكثر من ساعة كاملة، ساعة وهو يُولول كالنساء!

دخل كُلًا من «محمود وميران» اللذان جاءا للتو، ومعهم جاء «موسى» الذي رآهم يدلفون للمشفى وعلم منهم ما حدث فقرر مرافقتهم، هرولت له «ميران» التي تحدثت بفزع: سليمان يا حبيبي مالك!
وضع يده على رأسه ثم أردف بتحسر: شوفتي اللي جرالي ياما! شوفتي اللي حصلي ياختي!
جاورته «ميران» جالسة على الفراش وهي تكادُ تبكي: عملوا فيك إيه يا عين أمك!

ضربوني ياختي، ضربوني ومحدش سمَّى عليا، استغلوا وحدتي وإني طيب وغلبان ياما.
وقف «محمود» على الناحية الأخرى ثم أردف بقلق: مين الليةعمل فيك كدا!
أجابهم وهو يشعر بالدوار يُداهمه نتيجة لتلك المحاليل المُعلقة بمعصمه: ناس جزارين زعقت لإبنهم قاموا جايين ليا ومعاهم الشوم، الحمد لله يارب إنهم مجابوش سكاكين، الحمد لله، أنا خلاص هفتح مطعم وأبيع فول وطعمية بكرامتي، الصيدلة دي مش بتأكَّل عيش.

وجَّه «موسى» حديثه إليه وهو يُردف بسخرية: وأنت مدافعتش عن نفسك ليه يا ضنايا!
توقف «سليمان» عن الولولة، ثم حدجه بإستغراب قبل أن يتحدث بتعجب: وهو أنا المفروض كنت أدافع عن نفسي!
وجهَّ «موسى» حديثه إلى «محمود» الذي يُحدج ابنه بحنق، قائلًا بسخط: وكسة على ابنك وعلى ابني يا محمود.
أكد له «محمود» على حديثه، متشدقًا بقنوط: خِلفة تِعِر.

أعطى «محمود» للممرضة بقشيشًا، ثم نظر ل«موسى» متحدثًا بهدوء: يلا تعالى هاجي معاك أطمن على إسحاق وبعدين هاجي هنا تاني.
أومأ له بموافقة، ثم خرجا من الغرفة، تاركين «سليمان» مع والدته، والذي أردف وهو يُشير إلى الباب حيث خروجهم: شايفة جوزك سابني ومشي إزاي! أنا عملت إيه لكل دا!

قبل قليل. كان «إسحاق» مُمدد على الفراش شارد في ملكوته، يُفكر بها هي، لا يستطيع إخراجها من بين جنبات عقله، رغم أنها تحب آخر إلا إنها مازالت تسكن قلبه، يُحبها بكل جوارحه، عاشقًا لأنفاسها التي تُحييه.

فاق من شروده على صوت الباب الذي يُفتح بهدوء، وكأنها خرجت من أفكاره لتتجسد أمامه في صورة حية، قطبت «حور» جبينها بضيق بعدما دلفت للداخل، ثم دبدبت على الأرض السيراميكية بضيق: هو أنا معرفش أخضك مرة!
حاول السيطرة على عيناه التي تلتهمها، ثم أردف مازحًا: أنتِ اللي هبلة يا بيبي، وبعدين أنا بحس بيكِ قبل ما تظهري قدامي.

غمزت بعيناها بمشاكسة، قائلة بمزاح قبل، أن تجلس على المقعد الذي بجواره: يا واد يا حساس أنت، قولي إيه اللي خرشمك كدا!
تجعد جبينه بضيق، ثم صاح بحنق: طيب متقوليش مين اللي خرشمك، دا أنا مِسكت العيال نزلت فيهم طحن، سبتهم بس عشان صعبوا عليا.
مصدقاك يا غالي، الجواب باين من عنوانه.
قالتها وهي تُشير إلى جروح وجهه الظاهرة، مُحاولة بصعوبة أن تكتم ضحكاتها، لكنها لم تستطيع.

رفع حاجبه بإستهجان، ثم سألها بترقب: أبوكِ عارف إنك هنا!
أكدت له بنعم قبل أن تُجيبه: أيوا. عمو ريان فضحك وقالنا إن فيه شوية عيال اتلموا عليك وطحنوك، فأنا قولت لبابا إني هرجع من الجامعة عليك وهما هيجوا كمان شوية.
كز على أسنانه بغيظ من حديث «ريان»، لقد افتُضح أمره وانتهى الأمر.
حمحم بجدية ناظرة له بترقب، قبل أن تقول بتردد: إسحاق عايزة أقولك حاجة.

لاحظ توترها، لذلك أردف بمشاكسة للتخفيف عنها: قولي حاجتين مش حاجة واحدة.
فركت يدها بتوتر، ناظرة له: أنا. أنا حاسة بالذنب من اللي عملته مع مدثر ولوچي، أنا مكنتش أعرف إن لوچي سمعاني وأنا بعترفله، حاسة إني حقيرة أوي بعد. ما رخصت نفسي وأنا عارفة بحبه ليها، ضميري مأنبني وعايزة أعتذر ليهم بس خايفة يفهموني غلط.

تبسم ثغره تلقائيًا من عفويتها، آه لو تعلم كم آلمه قلبه عندما اعترفت بحبها لصديقه، وكأن فؤاده تفتت لقطع صغيرة دُهست تحت قدمها بلا رحمة، تحدث بحنان وهو يتمعن النظر لوجهها: أنتِ مش رخيصة يا حور، أنتِ طول عمرك غالية، يمكن كان تصرف طايش من شوية بس أنتِ عرفتي غلطك، مفيهاش حاجة لو اعتذرتي، مدثر مش هيمانع، وخطيبته كمان ممكن تكون مضايقة بس مع إصرارك هتسامحك صدقيني.

طالعته بإمتنان لم ينطقه لسانها، فكانت إجابته ابتسامة طفيفة زينت شفتيه، وهُنا نطق بما ينطق به قلبه: طيب بما إن الحوار دا عدَّى عليه شهرين، لسه بتحبي مدثر.
فكرت قليلًا فكان صمتها مُقلقًا بالنسبة له، لكنها أجابته بإبتسامة هادئة: لأ مبقتش أحبه، حاسة إن اللي كنت فيه كان طيش، أنا كنت بحب مدثر من حوالي سنة، يمكن أُعجبت بتصرفاته وخفة دمه، لكن مش دي الأسباب المُقنعة اللي تخليني أحبه.

ولاإراديًا وجد نفسه ينطق بسعادة جلية: يسلم فُمك، أهو دا الكلام ولا بلاش.
قهقهت عاليًا ولا تعلم لما نظراته لها مُختلفة، لاحظتها منذ فترة لكنها كانت تتجاهلها، والآن هي واضحة للعِيان، انشغلت بالحديث معه والحديث عن أحواله وعن تلك الأمور، حتى أخذهم الوقت سريعًا، وهو كان أكثر من مُرحب بوجودها.

أخرج «مدثر» هاتفه من جيب بنطاله، طالبًا أحد الأرقام، وبعد عدة ثواني جاءه الرد بصوت رزين: ألو!
هُنا تحدث «مدثر» بخبث شديد وعيناه تلتمع بالمكر: «سليم يزن الراوي». مش عايز ترجَّع أيام الشقاوة تاني ونطلع طلعة من اللي قلبك يحبها!
أتاه الرد بنفس الخبث والمكر وبسمة شريرة تُزين ثغره: أنا أكثر من مُرحِّب عزيزي.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة