رواية نوفيلا جنون تحت السيطرة للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث
واحد اتنين تلاتة أربعة، أنا في الغرام أنا دايبة صبابة. ياما في الغرام والعشق غلابة. بت يا «ميادة» أرقصي كويس، كدا هتخسري في المسابقة.
هتفت «إهداء» بتلك الكلمات تُعنف ابنتها التي تبلغ من العمر الواحد وعشرون عامًا، ثم أشارت إلى شقيقتها التوأم قائلة: شايفة زينب بترقص إزاي! اتعلمي منها ما بلاش الرقص اللي يجيب المغص دا.
توقفت «ميادة» عن الرقص وهي تتأفف بنفاذ صبر، ثم قامت بفك تلك العقدة التي حول خصرها لتحديده، رامية إياها أرضًا بضجر، ثم تحدثت بسخط بعدما صعدت على الفراش لتجلس عليه: أنا زهقت يا ماما، وبعدين قولتلك أنا مبعرفش أرقص أساسًا، هي عافية!
تخصرت «إهداء» في محلها، ثم أشاحت بيدها بعصبية: آه يا عين أمك هي عافية وبمزاجي، مش أنا أمك! مش أنا اللي شِلتك في بطني تسع شهور! مش أنا اللي رضعتك وأكلتك ولبستك لحد ما كبرتي وبقيتي شحطة! يبقى من واجبك إنك تسمعي كلامي.
قلبت «ميادة» عيناها بملل من كلمات والدتها المُتكررة، والتي ترميها على مسامعهم منذ أكثر من عشرون عامًا، كأنها تقوم بإذلالهم! تقدمت «زينب» من والدتها مُردفة برقة وهي تلوك العِلكة بفمها: خلاص يا مامي سبيها براحتها، مسيرها تتعلم في يوم من الأيام.
حدجت «إهداء» ابنتها «ميادة» بسخط، وكادت أن تتركها وتذهب؛ لكن هناك فكرة خبيثة جالت بعقلها وعليها التنفيذ، رسمت تعابير حزينة على وجهها، ثم اقتربت منها حتى جلست أمامها على الفراش، قائلة بنبرة حنونة وحزينة بذاتِ الوقت: يا بنتي اسمعي كلامي أنا أمك وعايزة مصلحتك، عايزة أشوفك حاجة كبيرة في يوم من الأيام، عايزاكِ تكوني رقاصة قَد الدنيا!
يا مصيبتك يا شهاب!
هكذا تمتم «شهاب» والذي جاء للتو ليستمع إلى كلمات زوجته المصون وهي تُشجع ابنتها لتعلُم الرقص، دلف للغرفة مقتربًا منهم، ثم جالت عيناه على ثيابهم، والتي كانت عبارة عن بدلات رقص أصيلة تكشف عن أجسادهم بسخاء، فاق من صدمته مُوجهًا حديثه ل«إهداء» المُمتعضة: بقى هي دي تربيتك لعيالك! عايزاهم يبقوا رقاصات!
نفت برأسها بقوة قائلة: لأ طبعًا رقاصات إيه! دي هي مسابقة رقص اللي هيشتركوا فيها وهتبقى على المسرح بس، لكن مفكر إني هخلي بناتي يرقصوا في كباريه! لأ يا عم استغفر الله.
جعد وجهه بتأثر زائف مُجيبًا إياها: لأ استني هعيط، أخلاقك أحرجت أهلي واللهِ، مش عايزاني ألملكوا النُقطة بالمرة!
كادوا أن يُجيبوه، لكنهم انتفضوا فجأةً من صراخه عليهم والذي هزَّ الأرجاء: يلا يا بت أنتِ وهي غيروا المسخرة دي، ولو شوفتكم لابسين اللبس دا تاني أنا هعلقكم بيه من رقابكم الحلوة دي.
ارتعدت فرائسهم من عصبيته وتصنمت أجسادهم محلها ولم يتحركوا قيد أنملة، لذلك صرخ بصوت أشد: قولت يلا.
هرولوا من أمامه مُسرعين، وجاء دور «إهداء» للخروج، لكنه منعها من ذلك مُغلقًا الباب مُسرعًا قبل أن تخطو خُطوة واحدة خارج الغرفة، ثم حدجها بخبث قائلًا بإبتسامة ماكرة: كنتِ بقى بتعلميهم يرقصوا إزاي!
وبس يا سيدي هو دا كل اللي حصل.
هكذا أردف «مدثر» الذي كان يستند على سيارة «سليم الراوي»، وهو يُمسك ببعض الأحجار الصغيرة ليقذفها بعيدًا.
لوى «سليم» شفتيه بإستهزاء، قبل أن يقول بسخرية: يعني انتوا اللي غلطانين، وضربتوا العيال، وضايقتوهم، وزعلان إنهم ضربوا إسحاق! دا أنا مشوفتش في بجاحتك أنت وهو.
تأفف «مدثر» وهو يلتفت له قائلًا: احنا نضرب آه، لكن نتضرب لأ.
نظر له «سليم» من طرف عينه ولم يُجيبه، وبعد ثواني تشدق بجمود: ما تجيب من الآخر يا مدثر وقول إيه السبب الحقيقي، كل اللي حكيته دلوقتي دا مدخلش دماغي بتعريفة.
علم أن لا مفر منه، لذلك تحدث «مدثر» بهدوء ناظرًا أمامه بغموض: موضوع يخص إسحاق، والعيال دا جُم على اللي يخصه.
علم «سليم» ما يرمي إليه، يبدو أن في الأمر فتاة، وهي السبب بكل ذلك: بنت يعني!
هزَّ رأسه يؤكد له قائلًا ببسمة خفيفة: وتخصه أوي، والعيال دول ضايقوها في الجامعة.
عدَّل «سليم» من ياقة ملابسه ثم نظر له غامزًا إياه: لأ طالما تخصه أوي يبقى تخصنا احنا كمان.
ضرب «مدثر» كفه بكف الآخر مُهللًا بصياح: هو دا الكلام يا زميل.
قهقه «سليم» عاليًا وشاركه «مدثر» في الضحك، فاستدار كلاهما للصعود إلى السيارة، مُجهين بها إلى وجهتهم الغامضة، لكن. إلى أين يا تُرى!
صعد «ريان» إلى منزل عائلة «غزل»، مُمسكًا بتلك الأشياء التي أملاها عليه «موسى»، والتي من المفترض أن تكون (ورد وقالب من الحلوى).
طرق على جرس الباب وانتظر لثوانٍ حتى فُتح وظهر من خلفه «إبراهيم» والذي استقبله بإبتسامة واسعة، ثم أردف له بترحيب: تعالى يا ريان اتفضل.
دلف «ريان» للداخل ودار بأنظاره في المكان للبحث عنها، قاطعه «إبراهيم» مُشيرًا بتعجب شديد لما يحمله: إيه اللي أنت جايبه معاك دا!
كاد أن يُجيبه؛ لكن قاطعه خروج «غزل» ووالدتها من المطبخ يحملان الصحون المُمتلة بالطعام، طالعته بإمتعاض ثم مرت من جانبه واضعة الطعام على الطاولة، ثم استدارت له مُحدجة إياه باستغراب، قبل أن تقول وهي تُشير للأشياء التي يحملها: إيه اللي أنت جايبه دا!
اتسعت ابتسامته، ثم اقترب منها وهو يمد يده لها: كنت عايز أجيبلك ورد بس لقيت المحل قافل، فلقيت راجل عجوز بيبيع قرنبيط شبه الورد وجبتهولك.
تجمد وجهها وهي تُحدجه باستنكار شديد، بينما خفتت ابتسامته وهو يسألها بترقب: إيه الهدية معجبتكيش!
لم تُجيبه؛ بل ظلت على حالة الجمود التي تلبستها، ابتلع ريقه بتوتر ثم مدَّ يده الأخرى الحاملة لحقيبة سوداء بلاستيكية، ثم تشدق بقلق: طيب متزعليش، جبتلك معاها سردين علشان ناكل سوا.
ضرب «إبراهيم» كلتا يديه ببعضهما، ثم أردف بيأس موجهًا حديثه لإبنته قبل أن يذهب هو وزوجته من أمامهما: قولتلك زمان بلاش تتجوزي الأهبل دا أنتِ اللي صممتي.
بعد ذهابهما وتركهم على راحتهم؛ حدج «ريان» زوجته بترقب علَّها تنطق ولو بكلمة واحدة: مالك يا غزالتي!
نفضت يده ناظرة إليه بضجر، وحديثها أعكس حنقها: جايبلي قرنبيط وتقولي ورد!
كاد أن يتحدث، فقاطعته قائلة: أنت بتهزر يا ريان! مكنتش أعرف إن دي قيمتي عندك.
شعر بتأنيب الضمير وهو يُلاحظ حزنها منه، اقترب منها بعدما وضع الأشياء أرضًا، ثم أحاطها واضعًا رأسها موضع قلبه: قيمتك غالية أوي عندي يا غزل، حتى أغلى من حياتي.
وهل قُلت بأنها حزنت منه! حسنًا. إن قلت ذلك؛ فلقد تبدد كل هذا الحزن الآن وكأنه لم يكن، تُقسم بأنه يستطيع بنظرة واحدة أن يجعلها تخضع له وتُسامحه.
وبينما كانت هي شاردة في حنانه الذي يحتويها؛ ظن هو بأنها مازالت حزينة، لذلك أخرجها من أحضانه ثم قبَّل جبينها بحنو: خلاص متزعليش حقك عليا، من بكرا هاخدك أفسحك وأخرجك خروجة حلوة لأجل عيونك.
اتسعت ابتسامتها بسعادة، قائلة بفرحة: بجد يا ريان!؟
غمز لها مُشاكسًا وهو يُجيبها: بجد يا عيون ريان.
ثم ابتعد عنها مُمسكًا بالكيس البلاستيكي متشدقًا بحماس: خدي بقى اعملي لينا أكلة سردين حلوى من إيدك القمر دي.
هزَّت رأسها بيأس من تصرفاته، ثم أخذت منه الطعام مُتجهة به إلى المطبخ لتعده له، وذهب هو خلفها مُشاكسًا إياها وهو يُدندن: يا غزال يا غزال، حلاوتك يا غزال.
قهقهت بمرح وما كادت أن تتحدث؛ حتى قبَّلها على وجنتها بمشاكسة، قائلًا بعشق تمكن من فؤاده: لو مهما مَر العُمر هتفضلي دايمًا في قلبي.
جاهز يا شقيق!
جاهز يا زميلي.
قالها «سليم» غامزًا ل«مدثر» الذي يُشمر عن ساعديه، بعدما لمح حِفنة الأوغاد الذين اعتدوا بالضرب على صديقهم «إسحاق» يستندون على سيارة سوداء تعود لشخص منهم، تقدما منهم ببطئ يُتلِف الأعصاب، مُمسكين بأيديهم عصى خشبية شديدة القوة، لمح الآخرون تقدمهم؛ فوقف ذلك الجالس على صفيح السيارة، بعدما رمى سيجاره، وبعينه يلتمع الوعيد، ووقف خلفه ثلاثة من أصدقائه المُتأهبين للشِجار.
لوى «أشرف» شفتيه بإستهزاء وهو ينظر حوله بسخرية: إيه دا انتوا جايين لوحدكم!
أجابه «مدثر» بنفس الطريقة المُستهترة: سلامة النظر يا حبيبي، لو مش شايف قولي وأنا أدلك.
أثارت كلماته حنقه، وذلك لإحراجه أمام أصدقائه والذي يُعتبر هو كبيرهم من بينهم، كاد أن يُجيبه بسبة بذيئة؛ إلا أن «سليم» قاطعه متشدقًا بعتاب وهو ينظر نحو «مدثر»: تؤ تؤ يا مدثر، ليه كدا يا صديقي! أنت عارف إن ليس على المريض حرج، واحنا مش جايين عشان نذله، احنا جايين نربيه خمساية بس وهنرجع تاني.
أنهى «سليم» كلماته المُهينة، ثم هبط بالعصى على يد الآخر، والتي تجرأ أن يضرب بها صديقه، هجم عليه أصدقائه من الخلف، لكن «مدثر» لم يقف صامتًا، بل جعلهم ينالون قِسطًا من تلك العصى التي بيده، جاعلًا إياهم يولولون كالنساء من شدة الضربات التي نالتها أجسادهم الحقيرة.
تجمعت المارة حولهم، ومنهم مَن حاول فض التشابك بينهم، وبالطبع كان «مدثر وسليم» هم المُسيطرين على الوضع، توقفوا عن ضربهم وصدورهم تنهج بشدة من ذلك المجهود المضني الذي فعلوه، مسح «مدثر» جبينه من العرق الكثيف، وكاد أن يذهب؛ لكنه عاد أدراجه حيث يقبعون يصرخون من الألم، ثم هبط لمستوى «أشرف» مُمسكًا إياه من ياقة قميصه، ثم همس إليه بشر: اللي يجي ناحية حد يخصني أدبحه.
وبعدها دفعه بعيدًا ناظرًا إليه بإشمئزاز وكأنه نكرة، ثم ذهب هو و«سليم» الذي كان يُتابع موقفه الأخير بإبتسامة شامتة مُستهزأة، نظرا لبعضهما ثم ضربا بكفيهما معًا، تبعه حديث «مدثر» المُشاكس: اخويا الصاصا.
فرد عليه «سليم» بضحكة عالية: اخويا الطيخا.
لحظة الخذلان تكون قاسية كالجليد، تهبط على قلبك فتُحطمه مُفتتة إياه لأشلاء صغيرة، أشلاء كانت مُمزقة من قبل وكانت تنتظر خلاصها وترميمها، لكن جاءت اللحظة الغير متوقعة لإنهاءه كُليًا.
جلس «عدي» في مكانهم المُعتاد أمام البحر، شرد به وعقله لا يتوقف عن العمل، التفكير سيُهلكه، بل كاد أن يُجن، لِما قالت ما قالته! هل كرهته لتلك الدرجة لكي تُطالب بطلاقها! هل هو أصبح السئ الذي لا يُطاق! هل أغضبها بإهتمامه الزائد بها! لا يعلم أي إجابة واحدة على أسئلته.
حدق بزرقة المياه الحالكة، عميقة تُشبه حال قلبه التائه الآن، تتصارع مواجاتها كما يُصارع قلبه للنبض في تلك اللحظة، يشعر به يكاد أن يتوقف من شدة آلامه، وعلى حين غُرة هبطت دمعة حارقة على وجنته، هو يعشقها ولا يستطيع الإبتعاد، قلبه يئن يحثه على الذهاب إليها وسؤالها مرة أخرى، وعقله يمنعه من الإسترسال.
شعر بأنامل رقيقة تمسح دمعته برفق، رفع نظره فوجدها هي، صاحبة ذلك الألم الذي يجتاحه، كاد أن يتحدث ويقسو عليها؛ لكن شهقاتها العالية وبكاؤها منعه من الحديث بتاتًا، وقف من مكانه حتى أصبح يُواجهها، وما كاد أن يتحدث حتى وجدها تندفع لأحضانه تتوق خصره بقوة، تبعها حديثها المُترجي:
أنا أسفة، بس متسبنيش، أنا عيلة ومش قد كلامي ومقدرش أعيش من غيرك.
يقف الآن حائر لا يعلم ما عليه فعله، لقد تشتت كُليًا، فتارةً تُخبره برغبتها في الطلاق، وتارةً أخرى تتشبث به كالطفلة الصغيرة لا تريد تركه، وها هو مُذبذب الآن، رفع يده ببطئ ثم أحاطها، أغمض عينه يشعر بها وبإنفعالاتها، يخشى ذهابها وأن يكون كل ما يراه الآن ما هو إلا تخيلات من عقله الباطن، لكن حديثها الذي قطع تفكيره أكد له بواقعية الحدث:.
عدي، والله العظيم كل كلمة طلعت مني كانت من ورا قلبي، أنا مش بكرهك أنا بحبك، مقدرش أعيش من غيرك، مش عايزة أتطلق، عايزة أفضل معاك طول عمري، بس. بس أنا خايفة.
خايفة من إيه!
سألها بعد أن أخرج وجهها من بين أحضانه، ناظرًا لكل إنش بوجهها يتأمله عن قُرب، ليخرج صوتها المتحشرج ببكاء قائلة: خايفة تسيبني.
أغبية تلك أم ماذا! ألا تعلم أن بُعادها يقتله! وقُربها يُهلكه! فلا يجد الراحة في البُعد أو القُرب، مُعذب في كِلتا الناحيتان، ورغم ذلك مازال مُتشبث بها رغم أنف الجميع، مسح دمعاته بحنان مُتسائلًا برقة: وهسيبك ليه! هو فيه حد يقدر يبعد عن روحه!
خرجت من أحضانه وهي تفرك يدها بتوتر بالغ، تتلاشى النظر لعيناه ورغبتها في البُكاء والإنفجار تتزايد بقوة، لاحظ هو تشنجات وجهها الواضحة، وللحقيقة شعر بالقلق، خرج صوت «منار» باكيًا رغم كل محاولاتها بالثبات: أنا. أنا مش بخلف يا عدي.
وهُنا كانت الصدمة، علم سبب تغيرها المفاجئ ورغبتها في الطلاق، ورغم حزنه في تلك اللحظة؛ لم يُطيل الصمت حتى لا تظن بأنه يُريد تركها، لذلك اقترب منها مُحيطًا وجهها بحنان: وهو دا السبب التافه اللي خلاكي تطلبي الطلاق!
رفعت أنظارها تُحدجه بدهشة وصدمة رُسِمت على محياها، كانت تتوقع أن يحزن، يغضب، يثور، أو على الأقل أن يتركها ويذهب، لكنه عكس كل توقعاتها بحديثه الذي رمم فؤاده، استرسل حديثه قائلًا بعتاب: عيبك إنك غبية ومتعرفيش قيمتك في قلبي، رغم إني حاولت بكل الطُرق إني أحسسك إنك أغلى حاجة في حياتي، لكن برضه مقتنعتيش، أنا مش عايز أطفال، هعتبرك بنتي اللي مخلفتهاش، وهتبقي مراتي حبيبتي وضهري، وأمي اللي سنداني في عِز وجعي، أنا بحبك عشان أنتِ منار، مش عشان هتبقي أم لأولادي بعدين.
ارتعشت شفتيها ببكاء لا تُصدق ما تسمعه، لذلك سألته بتأكيد: ب. بجد يا عدي!
قبَّل جبينها بعاطفة جياشة، ثم احتضنها بعشق وصوته يعكس مدى حبه بها: بجد يا روح وقلب عدي، أنا بحبك ومقدرش أستغنى عنك، ولو في مرة حصلت مشكلة معاكِ هكون أول واحد واقف في ضهرك.
أحاطه سعيدة بما ألقاه عليها، ثم تحدثت بإبتسامة عاشقة: أنا بحبك أوي.
وأنا بموت فيكِ.
وصلت عائلة «أبو زيد» وكذلك عائلة «النويهي» بعدما علموا بإصابة فردين من العائلة، كذلك نُقِل «سليمان» إلى نفس الحجرة التي يقبع بها «إسحاق» بعد طلب وإلحاح كبير منه.
حدجهم «ريان» بإستنكار وهو يُمصمص على شفتيه: وكسة على تربيتك يا موسى أنت ومحمود، مخلفين عيال نُص كُم.
نظر له «موسى» بسخط، ثم نظر لإبنه قائلًا بحنق: عاجبك كدا يا فالح! أهو شمت فينا ريان.
في تلك اللحظة. دلف «مدثر وسليم» معًا، مُستمعين للحديث الأخير ب«موسى»، فأحاط «مدثر» بكتف أبيه قائلًا بمشاغبة: وماله ريان يا سي موسى! دا حتى قمر وبسمسم أهو.
ربت «ريان» على صدر ابنه ناظرًا له بفخر، تبعه قوله المتأثر: ابني وضهري وسندي.
حدجهم «موسى» بإستنكار، ثم عاد بنظراته المُشمئزة تجاه ابنه المُتسطح، متمتمًا له: خِلفة تعر وتجيب الفقر.
جعد «إسحاق» جبينه بضيق ناظرًا ل«مدثر» بغيظ: عاجبك كدا ياخويا أنت وأبوك! جايين تجيبوا ليا الكلام!
كادوا أن يُجيبوه، لكن قاطعهم صوت تأوه «سليمان» وهو يُمسك برأسه: آه يا دماغي ياني. يا خرابي على شبابي. دماغي هتنفجر يابا. هتولي دكتور. فيه ناس بتصوت في مخي يلهوي.
وقفت بجانبه «غزل» تنظر له بتأثر، ثم ربتت على كفه قبل أن تقول بحنان: معلش يا حبيبي، منهم لله اللي عملوا فيك كدا، أنت عشان بس طيب وغلبان اتكاتروا عليك.
توقف عن الولولة، ناظرًا لها بعين واحدة: لأ هو واحد بس اللي عمل فيا كدا.
أكدت على حديثها رغم ذلك متشدقة: يبقى غلبان وأهبل مفيش مشكلة يا ضنايا.
تركت «ميادة» مكانها جانب والدها، ثم التفت حول فراش «سليمان» قائلة له برقة: ألف سلامة عليك يا سليمان.
أجابها بإبتسامة بشوشة: الله يسلمك يا ميمو، أومال فين أختك!
انمحت بسمتها بعد سؤاله عن شقيقتها، ثم أجابته بنبرة مُهتزة تعكس آلامها: تحت كانت بتجيب حاجات وجاية.
حدجتها «لوچي» بحزن لمعرفتها بحب «ميادة» ل«سليمان» والذي لم يُلاحظ بعد، ذهبت لتقف بجانبها مُمسكة بيدها بمؤازرة تشد من مؤازرتها، ثم رمت لها بسمة طفيفة داعمة، عضت «ميادة» على شفتيها تمنع ذاتها من البكاء، تشعر بوجود مشاعر ما بين شقيقتها و«سليمان»، وإن حدث ذلك ستنهار بالتأكيد.
في تلك الأثناء دلفت «زينب» وبيدها الكثير من الحقائب البلاستيكة ناظرة للجميع بمرح، فوقع نظرها على «سليم» الذي يقف بثبات جانب «مدثر»، بعدما ألقى التحية على الجميع، صفرت بإعجاب مُبدية عن إعجابها به أمام الجميع بوقاحة: مُز عيلة الراوي موجود هنا بين عائلتي المتواضعة!
لوى «سليم» ثغره مُبينًا عن ابتسامة صغيرة صعدا منه، بينما عنفها «شهاب» صارخًا: بت! أنتِ اتجننتي! مش ماليين عينك ولا إيه!
مطت «زينب» شفتيها بضجر نافخة بسخط، ثم دلفت واضعة الحقائب بين الفراشين الخاصين ب«إسحاق وسليمان»، تلاها قولها المُتذمر: في إيه بس يا بابا الله! وبعدين ما هو اللي كل أوفر يعني.
مال «محمود» على أذن «ميران» قائلًا بمشاغبة: البت دي المفروض تكون بنتك، دي مشافتش تربية.
رفعت حاجبها بإستهجان مُجيبة إياه: قصدك إني مكنتش متربية!
تصنع الصدمة متحدثًا: استغفر الله العظيم! مين اللي قال كدا دلوقتي بس!
حدقته بغلظة ثم تجاهلته مُتابعة ذلك الشجار بين الأب وابنته والذي كاد أن يحتدم بسبب وقاحة «زينب» التي لم تنتهي، لذلك قرر «مدثر» التدخل مُهللًا بصياح: كبرتوا الموضوع والله يا جماعة، سليم أصلًا كتب كتابه الأسبوع الجاي.
نظرت إليه «زينب» بصدمة قائلة دون وعي وهي تُوجه حديثها ل«سليم»: عشمتني وخليت بيا يابن الغدارة!
بادلها النظرات ببرود، ثم أردف بتهديد مخفي خلف حديثه: تعرفي لولا إن والدك وعيلتك واقفين أنا كنت خرستك خالص.
ابتلعت ريقها بتوتر من نظراته المتوعدة، فاستمعت إلى صوت «سليمان» المرح يهمس لها: أحسن أحسن، عشان أنتِ مُهزقة.
حدجته بسخط واضعة أصابعها على جُرح رأسها تضغط عليه بخفة: اسكت أنت خالص بدل ما أخرشملك وشك مع دماغك الحلوة دي.
تأوه «سليمان» بقوة واضعًا يده على رأسه موضع ضغطتها وهو يصرخ: آاااه منك لله يا مفترية يا بنت الظالمين.
هرولت إليه «ميران» بخوف جالسة بجانبه، ثم احتضنه ناظرة ل«زينب» صارخة عليها بشراسة: منك لله يا مفترية يا ظالمة، مالك أنتِ بإبني البسكوتة، هو عشان أهطل ولا بيهش ولا بينش تستهيفوه كدا!
خرج «سليمان» من أحضان والدته ناطقًا بصعوبة: روحي ياما لبابا عايزك في كلمتين، أنا مش ناقصك الله يكرمك.
قهقه الجميع بمرح على تلك المشاكسة التي تحدث بين أبناء العائلة، عائلتهم المرحة تصنع جوًا مُريحًا يبث الإطمئنان للأنفس، وهذا ما يحتاجه الجميع، جو أُسري مليء بالمحبة لا البُغض.
مرَّ اليوم بسلام وجاء اليوم الذي تلاه، فتجمع الشباب جميعًا بغرفة «سليمان وإسحاق»، تجمع «مدثر وسليم وعدي وسليمان وإسحاق» يتحدثون بمواضيع مختلفة، حتى قاطعهم دخول «رياض» ابن عم «سليم» متحدثًا بمرح: أنا آخر حاجة كنت أتوقعها إني أشوفكم بالمنظر المُهين الذليل الحقير دا يا صحابي والله.
تحدث «إسحاق» بسخرية لاويًا شفتيه: بعد الكلام دا متقولش صحابي تاني، أنا هقطع علاقتي بيك أساسًا.
سحب «رياض» مقعدًا جالسًا جانبه مباشرةً، ثم تحدث بعتاب مصطنع: اخس عليك يا قاسي، ويهون عليك قلبي!
أجابه «إسحاق» بإشمئزاز: جتك وجع في قلبك يا بعيد.
تحدث تلك المرة «سليمان» وهو يسأل «مدثر وسليم» ومعًا: ها! برضه مش هتقولوا كنتوا فين إمبارح سوا!
تأفف «سليم» بضجر قائلًا: يابني أنت ليه مصمم إن احنا كنا في مكان!
أجابه ببساطة: أصل أنت ومدثر مستحيل تتجمعوا على حاجة خير أبدًا، فأنا مش هسيبكم غير ما تعترفوا.
لم يجدا مهربًا من الحديث، لذلك روى لهم «مدثر» ما فعلوه كاملًا من ضربهم لهؤلاء الأوغاد، وإتيانهم بحق «إسحاق» المُستبد.
انتفض «إسحاق» من مكانه موبخًا إياهم بعصبية: انتوا بتقولوا إيه! انتوا بتستهبلوا!
أكد «سليمان» على حديثه من فعلتهم المتهورة والتي كانت من الممكن أن تقضي عليهم لكثرة عدد الآخرون: قولهم.
ليسترسل «إسحاق» توبيخه بهم بعصبية مفرطة: كنت عايز آجي معاكم.
قوله. إيه!
نطقها بصدمة، ثم أكمل قائلًا: أنت أهبل ياض ولا مرضعينك برسيم! هو إيه اللي كنت عايز تروح معاهم!
هُنا وتحدث «عدي» حانقًا: طيب مكلمتونيش ليه! انتوا عارفين إني بحب الخناق.
غمز له «رياض» بمكر قائلًا: هيبقى فيه خناقة تانية يا ولا بس الصبر.
حوَّل الجميع أنظارهم إليه مُنتظرين منه تفسيرًا منطقيًا لحديثه، فكان «سليم» أول من يسأله بتعجب: خناقة تانية!
أكد «رياض» برأسه متمتمًا بخبث: أيوا خناقة، ما هو أكيد مش هتاخدوا حق إسحاق ونسيب حق سليمان الغلبان دا!
هُنا وصمت الجميع. وقد تكون ألسنتهم قد توقفت عن الحديث، لكن عيناهم تحدثت بالمكر والخبث، وإبتسامة شيطانية ترتسم على ثُغر الحاضرين، إبتسامة يأتي بعدها الهلاك!
جاء اليوم الذي وعدها به بالتنزه سويًا، كم كان قلبها يرقص فرحًا في تلك اللحظة، ارتدت «غزل» فستانًا بسيطًا للغاية من اللون الأسود، ويعلوه حجابًا من اللون النبيذي، كم تعشق هذان اللون للغاية، انتهت من إرتداء حجابها، وما كادت أن تلتفت حتى استمعت إلى تصفيرًا حارًا يأتي من خلفها بإعجاب.
استدارت وعلى محياها يرتسم بسمة مُحبة وبعضًا من الخجل يكسوها، فرغم ما مر من سنوات كثيرة، إلا أنها تشعر بالحرج من وقاحته الدائمة معها، اقترب منها «ريان» ينظر لها بعبث وهو يقول: كل يوم بتحلوي أكتر من اللي قبله يا غزالتي، حتى الشعرتين البيض اللي في شعرك دول زايدينك حلاوة.
يا الله! كم يروقها غزله بشدة، تشعر بأنها فراشة وتُحلق عاليًا معه فوق السحاب، معه هو فقط! أخفضت بصرها مُتمتمة بصوت خفيض ترد على حديثه: ربنا يكرمك والله.
تجمدت ابتسامته لوهلة، فكز على أسنانها وهو يُمسكها بغيظ من كف يدها: يلا نمشي يا غزل بدل ما أرتكب جريمة دلوقتي.
كتمت ضحكتها بصعوبة، ثم سارت معه دون الحديث بكلمة واحدة، هبطا للأسفل ثم صعدا لسيارتهم وطيلة الطريق وهي تكتم بسمتها التي تظهر من الحين للآخر على ملامح وجهه المُمتعضة.
لاحظها «ريان» بطرف عينه، ورغمًا عنه تشكلت إبتسامة خفيفة على شفتيه قائلًا بضحك: قوليلي أعمل فيكِ إيه بس! بعد أكتر من عشرين سنة جواز تقوليلي ربنا يكرمك لما أعاكسك!
صدحت ضحكاتها عاليًا تلك المرة ولم تستطيع إخفاؤها، ثم أردفت من بينها: يا ريان ما أنت عارف إني بتكسف الله!
قولي كدا الله تاني!
ضحكت بخفة مُكررة كلمتها بغنج مقصود، ليُهلل هو بصخب: صلاة النبي أحسن، بقولك إيه بلاها دي خروجة وتعالي نرجع بيتنا حبيبنا.
جعدت جبينها بضيق ثم أردفت بنفي: لأ طبعًا هنخرج يعني هنخرج.
طيب طيب. يا ساتر دا أنتِ عدوة الرومانسية.
بعد نصف ساعة، كانا يقفان أمام أكبر المحلات لبيع طواجن المعكرونة والكشري في المدينة، نظرت «غزل» ل«ريان» قائلة بريبة: يارب ما يكون اللي في بالي صح.
لم يُعير «ريان» لحديثها أي إهتمام، ناظرًا حوله للمكان المُزدحم بإبتسامة واسعة، ثم عاد بأنظاره لها يسألها بحماس: ها إيه رأيك في المُفاجأة!
هي دي المفاجأة بجد!
سألته بهدوء بعدما لمحت حماسه، فهز رأسه مؤكدًا: أيوا إيه رأيك!
نظرت حولها مرة أخرى فوجدتها فكرة لطيفة لا بأس بها، رسمت إبتسامة رقيقة على محياها بعدما تملك الحماس منها هي الأخرى، ثم أجابته بفرحة أسعدته للغاية: مفاجأة قمر من واحد قمرين أقسم بالله.
اقترب على بغتة قائلًا بوقاحة: ما تجيبي بوسة.
همست له بتحذير وهي تنظر حولها: بس يا ريان الناس هتاخد بالها.
ابتعد عنها حتى لا يُزعجها، لكن مازالت نظراته العابثة تُحيط بها، بل وتجعلها تشعر بالتوتر أيضًا، دلفا للمطعم ليجلسا على إحدى الطاولات المُتفرغة مقابل بعضهما البعض، أتى إليهم الجرسون فأملوه طلبهم، وبعد وقت قليل جاء إليهم حاملًا طلبهم ثم وضعه أمامهم، رفع «ريان» الغطاء من أمامها أولًا، ثم تحدث بحماس: هتدوقي دلوقتي أحلى طاجن مكرونة باللحمة.
حملت الشوكة بين يدها قائلة بضحك: إما نشوف يا سي ريان.
وضعت الشوْكة بالطبق ثم حملت به قطعة المعكرونة وبها العديد من قطع اللحم المفروم، تذوقته بتمهل وهو فقط ينظر إليها بإنتباه ينتظر تقييمها، أخرجت ترنيمة من بين شفتيها تُوحي بلذتها بما تذوقته، لتتسع إبتسامته بعد قولها الأخير: اممممم لذيذة بجد.
وكأن قلبه قد ارتاح لإعترافها، فحمل شوكته هو الآخر يبدأ في تناول طعامه هو الآخر، ليمر الوقت ما بين تغزل «ريان» بها تارةً، ومرحه تارةً أخرى، وكم سعدت هي للغاية حقًا، فيكفي وجوده فقط جانبها.
انتها من الطعام، ثم خرجا من المطعم بأكمله، كادت أن تصعد للسيارة فأوقفها هو مُمسكًا بكف يدها: لأ استني مش هنروَّح دلوقتي، تعالي نتمشى شوية.
وافقت وكانت أكثر مُرحبة بإقتراحه هذا، سارا بجانب بعضهما يتبادلان الأحاديث سويًا، فوقف «ريان» ناظرًا للناحية الأخرى فجأة، ثم قال وهو يُشير لشخص ما: فيه واحد بيبيع تين شوكي هناك أهو، تعالي ناكل منه.
قفزت بسعادة ثم ذهبت معه مُسرعة حتى وصلا لذلك العجوز الذي يبيع التين الشوكي، أخرج «ريان» بعض النقود من جيب بنطاله، ثم أعطاها له قائلًا بود: لو سمحت يا عمي قطعلنا تين على زوقك بقى، وزي ما يجوا.
أومأ له العجوز راسمًا على وجهه إبتسامة بشوشة صائحًا بصوت عالي: ياما كانوا الأحباب كتير بس أحسنهم اللي بيوفي بالوعد، يا رب ديم حبهم وزوده.
نظرا لبعضهم ولمعة أعينهم تعكس مدى عشقهم، وكأن ذلك العجوز يصف حالتهم، لقد مروا بالكثير والكثير، ورغم ذلك لم يبتعدوا يومًا، ظلت جملة ذلك العجوز تتردد في أذانهم كانوا الأحباب كتير بس أحسن اللي بيوفي بالوعد، وهم وفوا بالوعد، بل وحافظوا عليهم كأكسير الحياة بالنسبة لهم.
قاطع حديث النظرات صوت العجوز الذي يمد يده بما طلبوه: اتفضلوا يا حبايبي.
أخذه منه «ريان» بعدما أفاق من حالة الوله التي تلبسته، ناظرًا إليه بإمتنان، والرجل يُناظره ببشاشة ترتسم على وجهه المُجعد.
ابتعدا كلاهما ثم بدأوا بتناول التين الشوكي بكل حب وإستمتاع، وها قد دُونت لحظة أخرى لن تُنسى طيلة حياتهم القادمة والمُتبقية.
خرج الأربع شباب من المشفى عنوة عن جميع الأطباء، بعدما افتعلوا الكثير من المشاكل والشجارات للذهاب، فلم يجدوا حلًا سوى تركهم رغم ما بهم من كدمات وكسور شديدة، صعد «أشرف» سيارته بصعوبة وبجانبه أحد أصدقائه المُهشمين، زمن خلف صديقاه الأخران يُعانون بنفس الطريقة، فلقد استوصى بهم كلًا من «سليم ومدثر» وضربوهم بكل غل.
تحدث أحدهم وهو يتسائل بألم: ها يا أشرف ناوي على إيه! هنسيب العيال دي كدا!
جز «أشرف» على أسنانه بحقد، قائلًا بوعيد: لأ أسيبهم دا إيه، ورحمة أمي لهحسرهم على واحد فيهم وهخليهم يبكوا بدل الدموع دم.