قصص و روايات - نوفيلا :

رواية نوفيلا جنون تحت السيطرة للكاتبة شروق حسن الفصل الأول

رواية نوفيلا جنون تحت السيطرة للكاتبة شروق حسن الفصل الأول

رواية نوفيلا جنون تحت السيطرة للكاتبة شروق حسن الفصل الأول

ضوضاء كبيرة وكارثة موجودة بتلك الغرفة الكبيرة نسبيًا، دلفت غزل بعدما طرقت الباب عِدة طرقات خفيفة ولم تجد جواب بالنهاية، تصنمت محلها عندما رأت مظهر الغرفة المُنقلب رأسًا على عقب، وعلى الفراش الموجود بمنتصف الغرفة، تقبع تلك الفتاة التي تحمل من ملامحها الكثير.
اشتعلت من مظهر الغرفة، ولم تتردد لثانية واحدة بأن تخلع نعلها وتقذفه على تلك الحمقاء التي تسببت بكل تلك الفوضى.

انتفضت منار من نومنتها بفزع، عندما شعرت بذلك الشئ يصتدم بظهرها، نظرت حولها بتيهة وبشئ من البلاهة وعدم الإدراك تسائلت وهي تُمسك به: إيه دا؟
جاءها صوت غزل من خلفها صارخة بها بغيظ: دا الشبب اللي هينزل بيزغرط فوق دماغك يا عين أمك.
صمتت قليلًا تأخذ أنفاسها، ثم أشارت للغرفة المُتسخة بكل ركنٍ بها: بقى دي منظر أوضة يا معفنة! دي لو زريبة كانت هتبقى أنضف من كدا.

اعتدلت منار محلها مُتثائبة بكسل: مالك بس يا حبيبتي زعلانة ليه! وبعدين يا ستي لو على الأوضة عفاف الشغالة هتيجي تنضفها.
اقتربت منها غزل قليلًا ثم سألتها بإبتسامة مُريبة: ألاه هو أنا مقولتلكيش!
حدقت بها بقلق، مُبتلعة ريقها وهي تسألها بريبة: لأ مقولتليش.
أكملت غزل حديثها بتعابير وجه شامتة: مش عفاف مشيت ومش هتيجي تاني، قِرفت منك ومن أخوكِ المعفن وخدت إجازة ذهاب بلا عودة، والكلام دا بقى معناه إيه؟

ورغم علمها بإجابتها؛ إلا إنها تسائلت وهي تدعو بأن تُخيِّب ظنها: معناه إيه!
صفقت غزل بيدها مُجيبة إياها بإبتسامة واسعة: معناه إنك هتنضفي أوضتك وتساعديني في الغسيل والمسيح والنشير والطبيخ يا عين أمك.
وما كادت أن تعترض حتى قاطعتها بتحذير وقوة: وخمس دقايق بالظبط أدخل ألاقيكِ منضفة الأوضة، وإلا قسمًا عظمًا هخلي شعرك دا شرشوبة وهمسح بيه البلاط، يلا يا بت بلاش دلع.

قالت جملتها ثم تركتها وخرجت من الغرفة بأكملها، تاركة إياها تشد على خصلاتها بغيظ من أفعال والدتها.
اتجهت غزل ناحية غرفة مدثر لتُيقظه هو الآخر، وما كادت أن تفعل؛ حتى استمعت إلى حديثه المُغازل الذي وصل إلى مسامعها: وأخيرًا يا بت هتبقي مراتي وهعمل اللي أنا عايزه، ه...

لم يكد أن يُكمل باقي حديثه حتى دلفت غزل بملامح مكفهرة، قبل أن تتحدث بإستنكار: لأ والواد محترم أوي ومعملش اللي هو عايزه، إيش حال يا ولا ما كنت بقفشك أنت وهي تحت السلم!
اعتدل مدثر الذي كان يستند بظهره على الفراش، فتحدث بغيظ وما زال يضع الهاتف على أذنه: إيه يا ماما! ما تسبيني أقول للبت كلمتين حلوين.

اقتربت منه حتى باتت تقف أمام فراشه مباشرةً، ثم انتشلت الهاتف من بين يديه واضعة إياه على أذنها، متحدثة بحنق: بت يا لوچي احنا لسه فيها، الواد دا سافل وقليل الأدب وعينه زايغة، إهربي يا عين أمك من خلقته دي، ومتنسيش إنه كان بيخونك مع حور.
جاءها صوت لوچي المتذمر والتي هبت من مكانها بغضب: ما خلاص يا زوزا بقى، أنتِ لازم تفكريني بعملته المهببة يعني.

صرخ مدثر بغيظ بعدما انتشل الهاتف من يدها، ثم فتح مكبر الصوت به: يا حبيبتي والله ما خونتك، أنتِ عارفة إن حور بتحبني، أنا مليش ذنب.
تلك المرة ردت عليه غزل بصوت عالي حتى تستمع إليه الأخرى: كداب يا منافق، أنتَ طول عمرك قليل الأدب أصلًا، وأكيد كنت بتجر ناعم معاها.

كاد أن يُجيبها، لكن قاطعته لوچي التي هتفت بغضب: معاكِ حق، أكيد هو جَر ناعم معاها، أنا مش عايزة أكمل معاك يا مدثر، وخلي حور تنفعك، ومن غير سلام.
قالت كلماتها ثم أغلقت الهاتف بوجهه وهي تشعر بالحنق منه ومن إبنة عمها حور، هبَّ مدثر من على الفراش صارخًا بعلو صوته: يا بابا، تعالى شوف مراتك يا عم الحج أنا مش ناقص.

خلعت غزل نعلها من قدمها للمرة الثانية، ثم ضربته به على ذراعه بقوة، هاتفة به بصراخ: مش ناقص إيه يا قليل الأدب يا عديم الرباية أنت! ما أنتَ ابن ريان هقولك إيه يعني!
في تلك الأثناء أتى ريان وهو يرقص على أحد الأغاني الأجنبية الذي أصبح يستمع إليها في الآونة الأخيرة، أطلق مدثر صفيرًا يُشجع والده، ثم أنهى عبثه بحديثه الوقح مُتناسيًا غضبه وسبب ندائه له: شكلك رايق وفايق يا والدي، بركاتك يا غزل.

حدجته غزل بنظرات نارية ثم صرخت بهم بصوت أفزعهم: يعني مش كفاية عليا الراجل سافل! لأ وابنه كمان قليل الأدب ومترباش! أطفش وأسيبلكم البيت! أشد في شعوري يا ناس!
أغلق ريان الأغاني ثم حدق بها لوهلة، قبل أن يقول بقلق: ولما أنتِ تمشي مين اللي هيعملي المكرونة اللي بحبها!

ثانية. ثانيتان. والصمت يعم المكان، لم تتحدث ولو ببنت شفة، بل تُحدجه بنظرات حارقة، ذهب مدثر إلى والده ليقف بجانبه، ثم مال عليه يهمس بخوف: عجبك كدا! دلوقتي هتنكد علينا طول اليوم ومش هتعملنا أكل.
نظر له ريان بطرف عينه، ثم ابتلع ريقه بقلق، مُجيبًا إياه: تفتكر!

ارتسمت الحسرة على وجه مدثر، ثم هزَّ له رأسه بخفة عدة مرات يُؤكد على حديثه، عاد ريان بنظره إلى زوجته الصامتة، لم تتحدث، بل فقط تُتابعهم بنظرات جامدة، قرر إصلاح ما فعله بقوله الأحمق، لذلك اقترب منها حتى وقف قبالتها مُحيطًا بكتفيها: غزالتي أنتِ طبعًا عارفة إني بهزر صح!

دفعت يده بحدة فعاد ليقف بجانب ابنه مرة الأخرى، فأصبحا الإثنان يقفان أمامها كالأطفال المُذنبة، وهي تُعنفهم: بلا غزالتي بلا زفت، واسمعوا بقا انتوا الإتنين، أكل مش عاملة، ترويق مش مروقة، غسيل مش غاسلة، مسيح مش ماسحة، وابقوا اخبطوا دماغكم في الحيطة انتوا الإتنين، أنا راحة عند أمي.
أنهت حديثها ثم تركتهم ينظرون لبعضهم بتحسر، ليخرج صوت ريان الحزين: يعني كدا مش هناكل مكرونة النهاردة!

وبس يا بابا، هو قالي نتعرف من هنا، روحت ردحاله ومفرجة عليه الجامعة كلها، وأنا عشان طيبة وبنت ناس ومتربية، معملتش حاجة تاني.
أنهت «رهف» حديثها وهي تشرح لوالدها «معتصم» ما حدث من شجار مع صديق اقترح عليها فقط أن يقوم بالتعرف عليها.
صفق لها «معتصم» بفخر، ثم التقطها في أحضانه مُهللًا: أنتِ حبيبة أبوكِ، بس بلاش حوار إنك طيبة ومتربية دا، أنا أصلًا معرفتش أربي.

تجعد وجه «رهف» بضيق، فجاء صوت «جميلة» توأمتها المُتحدث بضجر: يا بابا بقولك فرجت علينا الجامعة كلها، الواد قالها نتعرف بس يا مؤمن مقالش حاجة تاني، وألاقي ماسورة شتايم انفجرت من بُوقها، ما كان ممكن تقوله لأ وتمشي وخلاص، لأ لازم تعمل فيها صعبة المنال.
عقبت «سجود» تلك المرة مُحدجة إبنتها بضيق: معاكِ حق واللهِ، ملهاش لازمة الهيصة اللي أنتِ عملتيها دي كلها.

أكدت عليها «جميلة» بثقة: بالظبط يا ماما.
لتصدمها «سجود» بإكمالها لحديثها: كنتِ إلطشيه قلم يعرفه مقامه المعفن دا، يعني إيه يتعرف عليكِ! هي سايبة ولا سايبة!
فتحت «جميلة» عيناها بصدمة، ثم نظرت لوالدها علّه يعترض على حديثها، لكنه لم يفعل شئ سوى تأييده لها، بل ومغازلته لها أمامهم: مراتي حبيبتي بتقول حِكَم واللهِ، أنا متجوز جوهرة وعهد الله.

خجلت «سجود» وأطرقت برأسها للأسفل تهرب من نظراته المُحدقة بها، لتُتمتم بحرج: الله يسترك.
تشنج وجه «معتصم» من إجابتها البلهاء تلك، بينما كتمت التوأمتان ضحكاتهما بصعوبة على ملامح والدهم المُضحكة، أشارت «رهف» ل«جميلة» للذهاب لكنها لم تفقه تلميحها، أشارت لها «رهف» مرة أخرى، لتعقد «جميلة» حاجبيها بغباء لا تدري ماذا تريد.

لاحظ «معتصم» النظرات بين ابنتيه، وبالتأكيد تفهم موقف «رهف» ومغزى إشاراتها، لذلك نظر إلى «جميلة» بسخط مُرددًا: قصدها تقول للبعيدة تقوم وتسيب أبوها وأمها لوحدهم يا جِبلة.
انحلت عقدة حاجبيها ثم رفعتهم قائلة بإستنكار: في إيه يا بابا، هو أنت كل ما تلاقينا قاعدين بتبقى عايز تطرقنا، يا جدع اعمل حساب لسنك.

هبَّ «معتصم» من مكانه، واشتدت عيناه غضبًا من حديثها، ثم لوَّح في وجهها بنفور: وماله سني إن شاء الله يا بنت سجود! لأ يا حبيبتي دا أنا لسه شباب وبكامل قوتي وأناقتي، وكلمة كمان هتلاقيني بضهر إيدي وعلى وشك أوقعلك صف سنانك كلها.
أنهى حديثه وصدره يعلو ويهبط بإنهاك وتعب، ثم تمتم بمظهر مُثير للضحك: قالي سِني قال.

جذبته «سجود» تُربت موضع قلبه، وهي تُحاول قدر الإمكان السيطرة على ضحكاتها، ثم أردفت بخفوت: إهدى يا معتصم، صحتك ياخويا.
غضب مرة أخرى عند تذكيره، فكم يكره ذلك بحق، لا يعلم كيف مرَّ عشرون عامًا من حياته، وأصبح رجل أربعيني يغزو الشيب معظم رأسه، ورغم حفاظه على وسامته والتي خفتت قليلًا، إلا أنه يشعر بالحنق من ذلك.

حدق بهم بسخط جميعًا، ثم هبَّ من مكانه مُغادرًا، ليدلف إلى غرفته التي أغلق بابها بحدة تعكس مدي غضبه.
نظرت «سجود» لأثره بإبتسامة عاشقة، تعشقه رغم غضبه وضيقه، لقد وقعت به منذ زمن ولم يقل حبه في قلبها، بل يتزايد تدريجيًا رغمًا عنها، عادت لتنظر إلى ابنتها «جميلة»، ثم أردفت بعتاب: عاجبك كدا يا ست زفتة! أهو أبوكِ اتقمص، وقدامه سنة على ما يتصالح بقى.

هما اتلموا عليا من هنا، مسكتهم كلهم بإيد واحدة ونزلت طحن فيهم من غير ذَرة رحمة ولا شفقة.
صعدت تلك الكلمات من فم «إسحاق» المُمدد على فراش المشفى، ووجهه ملئ بالكدمات ويده قدمه مُلتفين بجبيرة كبيرة بطول ذراعه وقدمه.
وضع «موسى» يده على جروح وجهه يضغط عليها بقوة، ثم تحدث بسخرية: لأ واضح فعلًا إنك قطعتهم، ما شاء الله عليك، أنا مخلف راجل.

صرخ «إسحاق» بألم من لمس والده لوجهه الملئ بالكدمات التي لم تُشفى بعد، ثم أردف بحنق: آاه يا بابا وشي.
جاورته من الناحية الأخرى «تسبيح» التي أتت للتو ومعها إبنتها «مي» التي تحمل بعض العصائر والوجبات لشقيقها، مسدت «تسبيح» على ذراعه بحنو، ثم قالت موجهة حديثها ل«موسى» بعتاب: حرام عليك يا موسى هو فيه نَفَس!

رد عليها «إسحاق» مؤكدًا: قوليله يا ماما، القاسي مش حاسس بيا، توقعي مش مصدق إن أنا ضربت شوية الأوباش دول!
لوت «مي» شفتيها بإستنكار، مُكررة فعلة والدها معه: مصدقينك يا ضنايا متحلفش بس.
وللمرة الثانية يصرخ بألم شديد، تبعه صياحه المُهلل بها: قطع إيدك يا قذرة يا عديمة المشاعر والأحاسيس.

سدد له «موسى» نظرة نارية، ثم نكزه في جانبه بخفة: صوتك ميعلاش على أختك ياض بدل ما أقوم أكمل على خلقتك اللي مش باينة دي.
ثم نظر ل«مي» التي تُحدق شقيقها بشماتة: تعالي جنبي يا حبيبة أبوكِ وسيبك منه.
جلست «مي» جانب والدها، ليُحيط بها من كتفها ناظرًا ل«إسحاق» بتحذير: لو بصيت لأختك بصة مش عجباني هخذقلك عنيك دي.

سعدت «مي» من حديثه، لذلك قبلته بحب على وجنته مُردفة بحب: حبيب قلبي واللي ليا أقسم بالله، ياما نفسي أتجوز واحد عسل وحليوة زيك كدا.
أشار «إسحاق» ناحيتها بإتهام، موجهًا حديثه لوالدته: شايفة! شايفة معاملته ليا! يا ستي الله يكرمك لو لقيتوني على باب جامع قولولي، على الأقل أروح أدوَّر على أهلي الحقيقين.

حدق به «موسى» بإشمئزاز، ثم أردف بجدية زائفة: اتوكس، وأنتَ مين يطيقك يا وش الفقر أنت! احنا لو علينا نتبرى منك ونخلص بدل ما كل يوم والتاني تيجي لينا مضروب كدا.
أوقفه بإحتجاج مُدافعًا عن ذاته: لأ عندك يا والدي، دي كلها شوية كدمات، أنتَ لو شوفتهم هيصعبوا عليك من ضربي فيهم.
ربتت «تسبيح» على كتفه بإستنكار: واللهِ أنت اللي صعبان علينا يا حبيبي، خليك في خيبتك.

انكمش وجهه بضيق، بينما انفجر كُلًا من «موسى ومي» ضاحكين على تعابير وجهه المُستنكرة، وبعد قليل شاركهم في الضحك على بلاهته، وداخله يتوعد لهؤلاء الأوغاد الذين أخذوه غدرًا.

أنهت «منار» تنظيف غرفتها بعد عناء طويل، أنهكها التعب؛ لكن مظهر الغرفة النظيف جعلها تشعر بالإنتصار، وكأنها فازت في حربٍ ما للتو، بالطبع ستسعد والدتها بهذا الإنحاز العظيم الذي حققته.
فزعت عندما وجدت باب الغرفة يُفتح على مصرعيه، تلاه دخول شقيقها «مدثر» الذي يصرخ عاليًا غير عابئًا بالجميع: شايفة أمك وعمايلها! طفشت وسابت البيت ومعملتش لينا الأكل.

فتحت عيناها على مصرعيها بصدمة، ثم ضربت على صدغها بعدم تصديق: يالهوي! معملتش أكل! إيه الأم دي!
دار «مدثر» حول ذاته يُفكر بما سيأكله، إلا أن توقف فجأة عندما أتى برأسه الحل: لقيتها، أنتِ اللي هتعمليلنا الأكل.
شهقت «منار» بردح هاتفة بصوت عالي: نعم! أنت هتهزر يا خويا! أنا مش بعرف أسلق بيضة حتى.
أمسكها من ثيابها من الخلف يهزها بقوة: أنتِ بتعلي صوتك على مين يابت أنتِ!

وفي ثانية واحدة تبخرت قوتها الواهية، رسمت إبتسامة بلهاء على ثغرها، ثم أجابته بتلعثم: إيه دا هو أنا كنت بزعق فيك أنت! يقطعني.
قرَّب وجهه من أذنها يهمس لها بشر: ما هو هيقطعك فعلًا، بس هقطع لسانك الطويل دا.
لوت شفتيها ثم ردت بإمتعاض: يا مدثر سيبني بقى الله! يا أخي ورايا جامعة وهتأخر.

تركها مُحدجًا إياها بقرف، ثم غادر من الغرفة تمامًا ورحل ليبدأ رحلة البحث عن الطعام، وهُنا أتى في خاطره فكرة خبيثة نوى فعلها.
بعد مغادرة «مدثر» مباشرةً، صدح هاتف «منار» يعلن عن قدوم مكالمة، أمسكته بيدها ثم تجعد وجهها بإستنكار، لتُغلقه ولم تُجيب عليه.

اتجهت ناحية الخزانة وأخرجت منها ثيابها الواسعة المحتشمة منها ثم وضعتهو على الفراش، وما كادت أن تُبدِّل ملابسها حتى صدح رنين الهاتف مرة اخرى.
نفخت بنفاذ صبر، ثم انتشلته بحدة مُجيبة على المتصل بغضب: عايز إيه يا «عُدي»! نازل رَن ليه من الصبح!

جاءها صوت «عدي» الغاضب يصرخ بها: أنا عايز أعرف أنتِ مبترديش على تليفونك من إمبارح ليه! اعملي حساب للحيوان اللي دايخ وراكِ على الأقل، دا لو بكلم في جماد كان حَس يا شيخة!
استمعت لكلماته بألم، وتشكلت طبقة رقيقة من الدموع داخلهما، سيطرت على ذاتها ثم أجابته بصوت جعلته ثابت نسبيًا: عايز إيه يا عدي!

أجابها بهياج من إجابتها والتي ظنها باردة: عايز أعرف الهانم مالها! إيه اللي غيرك من ناحيتي يا منار! فرحنا بعد اسبوعين وأنا وأنتِ كنا مبسوطين، إيه اللي حصل عايز أفهم!
سحبت نفسًا عميقًا، ورغمًا عنها انسلتت دمعة مليئة بالحرقة على وجنتها، مسحتها سريعًا ثم أجابته بثبات زائف: كل الحكاية إني مبقتش عايزة أكمل، مش مرتاحة معاك يا عدي، ارتحت كدا!

انتظرت إجابته ثانية وثانيتان لكن لا يوجد رد، حتى ظنته قد أغلق الهاتف بوجهها، لكن صوت أنفاسه الغاضبة وصوته الذي صرخ بسبة بذيئة أكدت عكس ذلك، ارتجف جسدها من غضبه، وارتعشت كل ذَرة بكيانها خائفة من ردة فعله، كادت أن تتحدث لكنه أغلق تلك المرة بوجهها بالفعل.

نظرت للهاتف بتحسر، ثم انفجرت باكية بعدها، لا تعلم ما عليها فعله، هناك شئ ما يؤرقها، لا تريد ظُلمه، تعشقه بكل كيانها، قلبه يصرخ بها لما فعلته، وعقلها يَحثُها على الإكمال، وستتبع صوت عقلها تلك المرة.

خرج «موسى» من المشفى متعجلًا عندما هاتفه «ريان» وطلب من القدوم لأمر هام لا يمكن تأجيله، لذلك أوقف سيارة أجرة ثم أملاه العنوان سريعًا، وداخله يدعو أن يكون الجميع بخير.

بينما هبطت كُلًا من «تسبيح ومي» للكافتيريا الخاصة بالمشفى لجلب الطعام والعصائر ل«إسحاق»، الذي طمأنهم الطبيب على حالته، وأخبرهم بأنه يُعاني فقط من بعض الكدمات في وجهه ليست بالخطيرة وكسر خفيف في ذراعه الأيمن، وإلتواء كاحله ليس أكثر ولا يوجد به أي كسور، لكن الممرضة تخبطت بين حالته وبين حالة مرض آخر أتى معه، وقامت بتجبير قدمه كاملةً، وكذلك ذراعه.

بعد ذهابهم؛ أخرج «إسحاق» هاتفه يُهاتف «مدثر»، والذي أجابه سريعًا بمزاح: الواطي ابن ال...
لو قليت أدبك هخلي وشك شوارع يابن «ريان».
حمحم «مدثر» بقلق ثم أجابه بجدية: عايز إيه ياض انجز مش فاضيلك ورايا أشغال.
لوى «إسحاق» ثغره بإستنكار مُجيبًا إياه: أشغال مين يا أبو أشغال! احنا هنصيع على بعض يا عاطل أنت!

نفخ «مدثر» بقلة صبر ثم صرخ به: ما تنجز يلا مش فاضيلك.
طيب طيب، المهم أنا في المستشفى وهتحجز فيها الليلة دي.
انخلع قلب «مدثر» خوفًا، ثم أجابه بهلع: يا مصيبتي! مستشفى إيه! بتموت! لأ يا إسحاق لأ، متعملش فيا كدا، متموتش قبل ما تجيب العشرة جنيه اللي عليك.

للحظة صدق «إسحاق» خوفه عليه، لكن بحديثه الأخير جعله يندم على مصادقته، لذلك أردف قبل أن يُغلق الهاتف بوجهه: بقولك إيه يا صاحب الندامة أنت، أنا مش عايز أعرفك تاني، جتك داهية في معرفتك.
نظر «مدثر» للهاتف بحاجب مرفوع قبل أن يتسائل بغباء يُشبه غباء والده: هو زِعل ولا إيه!
فكر قليلًا مع ذاته، ثم شهق بصدمة: يالهوي دا شكله زِعل بجد!

يقف بالصيدلية التي عمل بها مؤخرًا يُولي ظهره للأشخاص الواقفين ينتظرون دورهم، مدَّ يده ليسحب ذلك الدواء الموجود بالرف العُلوي، حتى نجح في ذلك.
أعطى الدواء للعجوز بإبتسامة بشوشة، ثم ودعه بود وإحترام تاركًا إياه يقف وحده، جلس سليمان بإنهاك على المقعد المُخصص له فاركًا رأسه بتعب، فاليوم كان العمل يفوق طاقته بكثير.

فتح عيناه عندما استمع لصوت تلك السيدة التي دلفت للتو، والتي تهتف بصوت عالي: مساء الخير يا ضاكتور.
وقف من مكانه ثم ذهب ليقف قبالتها، ويفصل بينهما ذلك الحائل الزجاجي الملئ بالأدوية، رسم إبتسامة عملية على ثغره مُجيبًا إياها: مساء الخير يا حَجة، أساعدك بإيه!

أخرجت عدة أوراق من حقيبة بلاستيكية سوداء رثة، ثم وضعتها أمامه على الحائل الزجاجي، قائلة له برجاء: والنبي يا ضاكتور خُد شوفلي التحاليل دي بتقول إيه، أصلي إمبارح رُحت كشفت والضاكتور قالي أعمل تحاليل، والنهاردة الخميس وهو مش موجود، فعشان كدا جيتلك تشوفلي عندي إيه وتطمني.

تمتم «سليمان» مع ذاته بجملة لا إله إلا الله لحلفانها بغير الله، ثم قال لها بعملية: مينفعش يا حَجة، لازم الدكتور نفسه هو اللي يشوف التحاليل دي عشان يكتبلك على علاج مناسب.
رسمت الحزن على معالم وجهها، ثم أردفت بنبرة جعلته يشعر بالشفقة تجاهها: يابني الله يكرمك طمني أنا قلبي واجعني.

شعر بالحزن تجاهها، لذلك أخذ منها الأوراق ونظر داخلهم لبضعة دقائق قليلة، ثم نظر لها بسعادة قائلًا بإرتياح: الحمد لله يا حَجة مفيش أي حاجة، التحاليل سليمة وزي الفل، هما بس شوية أملاح وأنيميا مع العلاج هيروحوا لحالهم.
انكمش وجهها بغضب، ثم دفعت له الأوراق مرة أخرى بحدة مُردفة بسخط: يا ضاكتور شوف بس يمكن فيه حاجة كدا ولا كدا وأنت مش واخد بالك.

قطب جبينه بتعجب، وللحق لقد اندهش كثيرًا من ردة فعلها، ظنها ستسعد لتلك الأخبار المُبهجة وأنها بكامل صحتها، لكنها عكست توقعاته، لذلك أعاد النظر في التحاليل الخاصة بها، ثم نظر لها مجددًا قائلًا: زي ما قولتلك يا حَجة التحاليل سليمة ومفي...

وما كاد أن يُكمل حديثه حتى قاطعته صارخة في وجهه: هو إيه اللي مفيهاش حاجة! دا أنا دافعة دم قلبي في التحاليل دي وفي الآخر تقولي مفيهاش حاجة! أنت أكيد مش بتفهم، أنا غلطانة أصلًا إني أسألك يا دكتور البهايم أنت.

قالت جملتها ثم تركته ينظر لأثرها مشدوهًا من ردة فعلها الحانقة والغاضبة بذاتِ الوقت، وما كاد أن يستوعب ما حدث ويعود لمحله، حتى أتي له طفل صغير يحمل غطاء لدهان ما، ثم أردف له بطفولية وهو يمد يده يحثه لإمساك ذلك الغطاء:
عمو. عمو. بتقولك ماما هات المرهم بتاع الغطا دا.
وهنا فقد أعصابه كاملةً، لذلك صرخ في وجهه دون أن يُراعي عُمر الطفل أو ابن مَن هو: غور من وشي، مش ناقصك يلا أنت وأمك.

نظر له الصبي لثوانٍ، ثم بدأ في البكاء بهستيريا وغادر يهرول للخارج، تاركًا إياه ينظر لأثره بندم، وللأسف لا يعلم ما ينتظره بعد قليل.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة