قصص و روايات - نوفيلا :

رواية نجمة في سمائي للكاتبة شاهندة الفصل الثاني

رواية نجمة في سمائي للكاتبة شاهندة جميع الفصول

رواية نجمة في سمائي للكاتبة شاهندة الفصل الثاني

بعد أن فقدتك فقدت كل رغبة فى الحياة..
توقفت الأرض عن الدوران وتحطمت عقارب الزمن..
إختفت شمسي وتلون نهاري بالظلمات...
أصبح فنجال قهوتي مريرا كالعلقم...
وتساقطت أوراق حياتي واحدة تلو الأخرى...
فصرت فى خريفي بعد أن كنت... فى أوج الربيع.

طالعته بوجه خال من التعبير للحظات، لم ترهبها صرخته ولم تخيفها نظراته الغاضبة، أو ملامحه المتجهمة، تدرك أن خلف كل ذلك رجل متألم، رقيق، يريد الإختباء خلف أسوار من الذنب، يريد أن يظل عاجزا كعقاب لقلب ذنبه الوحيد أنه أحب بكل خفقة من خفقاته، ففقد الحبيب وفقد معه كل رغبة فى الحياة.

أخفت أنين قلبها الذى يبكى ألما لألمه خلف ستار من البرودة، وإقتربت منه بهدوء، عقد حاجبيه وهو يطالعها تقترب منه، ثم تتوقف أمامه تماما بثبات، مالت عليه فجأة تتطلع إلى عينيه مباشرة، قائلة بهدوء:
-تعرف إيه مشكلتك؟
قال بغضب:
-إنتى.

إبتسمت ببرود وهي تهز رأسها نافية قائلة:
-أنا بالنسبة لك مشكلة جانبية، حاجة بسيطة متفرقش معاك كتير، لكن مشكلتك الحقيقية هي إستسلامك للماضى، وتمسكك بيه، رافض حتى إنك تعيش الحاضر وتفكر فى المستقبل، إيه يعنى حادثة حصلتلك زمان و...

قاطعها وهو يمسك كتفيها فجأة بقسوة يجز على أسنانه قائلا:
-خليكى فى حالك وملكيش دعوة بية، وأحسنلك تمشى من هنا ومشفش وشك تانى...مفهوم؟

رغم الألم الذى سرى فى كتفيها من قسوة لمسته، ولكن قرب وجهها منه جعل أنفاسها تنحبس فى صدرها، وأضعف تلك الواجهة الباردة التى تدعيها، رقت نظراتها وهي تتطلع إليه فإزداد إنعقاد حاجبيه وهو يتطلع بدوره إلى عينيها، نظرتها تخترق قلبه رغما عنه، تذكره بحبيبته الراحلة، نفس الرقة الممتزجة بالقوة، نفس لون العيون العسليتين، يشعر بقلبه يخفق بعد أن كان مدفونا بأعماقه، يلين بعد أن كان جلمودا كالصخر، دفعها بعيدا بقسوة يقاوم تلك المشاعر، يدفنها فى أعماقه مرة ثانية، يوأدها قبل الظهور، كادت أن تسقط ارضا ولكنها تماسكت بكل قوتها، تستقيم وهي تطالعه قائلة:
-أنا عايزاك تعرف حاجة واحدة بس، خروج من البيت ده قبل ماتمشى على رجليك مش هيحصل.

زلزلت كيانه تلك الشجاعة التى تملكها، وذلك الإصرار بعينيها، وأثاره تحديها له على هذا النحو، ولكنه قال بسخرية:
-مغرورة أوى وفاكرة إنك هتقدرى تعالجينى مش كدة؟

إبتسمت إبتسامة باهتة وهي تقول:
-ده مش غرور، دى ثقة فى الله، ربنا سخرنى عشان أساعدك، متفتكرش إن حالتك ميئوس منها، فيه حالات أسوأ منك بكتير وقدرنا بفضل الله نعالجها، أهم حاجة إن يكون جواك الرغبة فى الشفا.

لم ينطق بكلمة وإنما طالعها بنظرات خالية من المشاعر، لتستطرد بهدوء:
-على فكرة مبحبش البنى آدم اللى بيغرق فى بحر الرثاء على النفس، رغم إنه فى نعمة كبيرة مش حاسس بيها، فيه غيره مش بس إتشل شلل نصفي فى حادثة، لأ إتشل شلل رباعى وفقد أحبابه كلهم كمان، ورغم كدة كان عنده الإيمان بالله واللى خلاه قدر مع العلاج يحرك جسمه، صحيح موصلش إنه يمشى تانى غير بعكاز بس فى يوم هيقدر يستغنى عن العكاز ده، وحتى لو مستغناش فاللى حققه يشرف أي راجل ويخليه يرفع راسه بين الناس، خلاه يعيش ويكمل حياته بشكل طبيعي، الحياة مبتقفش عند حاجة وحشة حصلتلنا، الحياة لازم تستمر.

قال فى برود:
-خلصتي؟
عقدت (ميار)حاجبيها قائلة:
-خلصت إيه؟!
قال بسخرية:
-محاضرتك النفسية اللى ملهاش أي لازمة عندى.
إزداد إنعقاد حاجبيها ليستطرد قائلا فى برود:
-إذا كنتى خلصتى، ياريت تطلعى برة أوضتى وتقفلى الباب وراكى.

طالعته وهو يلف عجلات كرسيه ليذهب إلى الشرفة، متجاهلا إياها لتقول بهدوء هامس:
-مش هتقدر تبعدنى عنك بقسوتك أو حتى برودك يايحيي، أنا جيت عشانك ومش همشي من هنا قبل ماتخف وترجع أحسن من الأول، وده وعد منى ليك، أنا هخرج دلوقتى بس راجعة تانى، فإستنانى.

ألقت عليه نظرة أخيرة قبل أن تغادر الحجرة، وتغلق بابها بهدوء، أغلق (يحيي)عيونه عندما سمع باب الحجرة يغلق ثم فتحهما من جديد، يدرك ذهابها مؤقتا ولكنه متأكدا من عودتها فتلك الفتاة عنيدة، تختلف عن غيرها ممن جاءوا لعلاجه، تمتلك شخصية قوية تمتزج بالرقة، لايخيفه عنادها ولكن مايقلقه هو أنها تذكره بحبيبته، تثير فى قلبه الحياة والتحدى كما فعلت حبيبته بالماضى...تماما

تنهد وهو يطالع حديقة منزله مجددا، يفكر فى ( ياسمين)ويتذكر كل ماعاشه معها، تطارده تلك الذكريات وتصيبه بحنين يمتزج بالألم..فما أصعب أن يشتاق المرء لحبيب واراه الثرى والأصعب أن يكون هو... السبب فى وفاته.

حبيبتى..عندما أنام أحلم بك وعندما أصحو أرى طيفك أمامي...
لعنة عشقك تطاردنى فى صحوي ومنامي...
قد مات القلب معك حين فارقتنى...
فقط ما يبقينى حيا...أنفاسي وآلامي.

نقر على مقود سيارته بعصبية قائلا:
-نفسى أعرف بس مش عايزة نسكن فى الفيلا مع عمى ليه؟ما انتى عارفة إنه وحيد وملوش حد غيرى، طول عمره كان عايش معانا حتى من قبل ما ماما وبابا يتوفوا، ومش ممكن أتخلى عنه دلوقت.

لم تجيبه (ياسمين)بل إكتفت بالتطلع عبر النافذة متجاهلة إياه تماما، شعر بالغضب الشديد فمد يده يسحب يدها بقوة يجبرها على النظر إليه وهو يقول بغضب:
-لما أكلمك تبص...

صمت تماما وعيونه تتسع من الصدمة عندما رأى دموعها المتساقطة على وجهها ليقول بألم:
-إنتى بتعيطي؟! ليه بس الدموع ياياسمين؟!!

لم تجد الوقت لإجابة تساؤله ففى نفس اللحظة ضربت سيارته شاحنة ضخمة لم ينتبه لها لإنشغاله بصدمة بكاؤها، صرخة إنطلقت من محبوبته ثم شعوره بألم رهيب فى ظهره ومن ثم...الظلام التام.

أفاق بعدها فى المشفى ليفاجئ بإصابته بشلل نصفي، لم يعر إصابته إهتماما ولكن جل إهتمامه كان بمصير تلك المخلوقة التى منحها قلبه وروحه وعقله، ليخبره عمه بوفاتها على الفور متأثرة بجراحها، لتكون تلك هي الطامة الكبرى والتى فاقت قدرته على الإحتمال وأفقدته كل رغبة فى الحياة، يعيش كابوس فقدانها كل يوم ليصحو على صرخته بإسمها، كما فعل الآن... تماما.

أنار المصباح بجانب الكومود وسكب لنفسه كأسا من الماء، تجرعه مرة واحدة، ثم تراجع برأسه على الوسادة يتصبب عرقه على جبينه، يغمض عيناه ألما ومرارة الذكرى تلوح فى الأفق، فتح عيونه متنهدا يدرك أن الليلة ستكون كسابقيها، يهرب النوم من جفونه بعد ذلك الكابوس ولا يريحه سوى الخروج لشرفته ومناجاة حبيبته، تلك النجمة اللامعة فى سماءه، ربما لا يستطيع الوصول إليها ولكن يكفيه أنها تنير ظلمات ليله، ويريح قلبه المنهك شوقا فقط..النظر إليها.

نظرت إلى ساعتها للمرة العشرون، من المفترض أن يكون هنا منذ قرابة الساعة، فى تلك الحجرة التى خصصها لهما (عزام)للعلاج.
حسنا..مازال يعاند، مازالت رأسه اليابسة تقاوم محاولاتها لمساعدته، ولكنها أبدا لن تيأس، ستتركه اليوم..وفى الغد لها معه شأن آخر بالتأكيد.

قال (عزام)بهدوء:
-مبدأتش النهاردة اول جلسة علاج ليك مع دكتورة ميار يايحيي.
قال (يحيي)بسخرية:
-هي لحقت إشتكتلك؟
قال (عزام):
-متظلمهاش ياابني، دادة فوزية اللى قالتلى.
قال (يحيي) ببرود:
-مش عايزها ياعمى، دمها تقيل على قلبى.

اقترب(عزام)من (يحيي)وهبط على ركبتيه ليواجهه قائلا:
-انت ليه عنيد بالشكل ده؟ليه مش قادر تشوف اننا كلنا عايزينك تخف وتقدر تعيش حياتك الطبيعية من تانى.
رق (يحيي)لعمه فقال بهدوء:
-عمى أرجوك، أنا عايش حياتى الطبيعية فعلا، باكل وبشرب وبشتغل فى الشركة، مش محتاج رجلين عشان أقدر أعمل كل ده.

قال (عزام)وهو ينهض بحزن:
-بس محتاج رجلين عشان تحب وتتجوز، ولا إيه يايحيي.
قال (يحيي) بعصبية:
-انت عارف إنى مش ممكن أحب أو أتجوز واحدة غير ياسمين، وياسمين ماتت ياعمى فمن فضلك، متجيبش السيرة دى تانى وأرجوك مشى البنت دى من هنا، أنا مش عايزها.

طالعه (عزام)بهدوء قائلا:
-للأسف مش هقدر، عقدها معانا ألزمنا بسنة كاملة وللأسف هي حطت شرط جزائي لفسخ العقد بمبلغ كبير سيولتنا مش هتغطيه.
عقد (يحيي)حاجبيه قائلا:
-وليه تعمل كدة؟

قال (عزام):
-بصراحة مفكرتش..شروط العقد كانت فى صالحنا وده اللى همنى، فيا تستحملها لمدة سنة ياتطفشها وتطلب هي فسخ العقد مع إنى مبرجحش انها ممكن تعمل كدة، الا لو قلتلها انك هتتنازل عن المبلغ، عموما دى حياتك يايحيي وانت حر فيها، لإنى بجد تعبت معاك.

إلتفت مغادرا ليبتعد صاحب تلك الأذنان، هذا الذى كان يستمع لحديثهما من خلف الأبواب، بينما عقد(يحيي) حاجبيه وهو يفكر فى طريقة للتخلص بها من تلك الفتاة، لتطلب بنفسها فسخ العقد، والهرب بجلدها من هذا المكان.

خرج (يحيي)إلى الشرفة كعادته كل صباح، يتنفس الهواء العليل فيشعر ببعض الحياة تدب فى أوصاله، تجمدت ملامحه وهو يراها هناك فى مكانه المفضل فى الحديقة، تمارس تمارين الصباح بنشاط، رغما عنه تطلع إليها، كم تبدو جميلة بل فاتنة ورشيقة للغاية، تبعث رؤيتها الراحة فى النفس وتملؤها بالبهجة، نفض أفكاره التى دارت حولها وكاد أن يبتعد مغادرا حين استوقفه ذلك المشهد..،

كانت دادة( فوزية )تحضر إليها عصير الفراولة، لترفضه (ميار)، تخبرها أنها لا تشرب الفراولة فهي لا تحبها وتفضل شرب الحليب بعد التمارين، تجمدت أطرافه جميعها، ورغم أنه بارع فى قراءة الشفاه إلا أنه كذب عيناه و إنتظر دادة(فوزية)ليراها تعود بكوب من الحليب، شعر بكيانه يتذبذب، فتلك الفتاة تذكره بحبيبته بشكل يصعب عليه إحتماله، إلتفت مغادرا بسرعة، دالفا إلى الحجرة بينما ظللت شفتي(ميار)إبتسامة طفيفة وهي تتابعه يغادر بعينيها، تدرك أنه كان يطالعها منذ قليل، لتشكر الدادة ثم تحمل منشفتها وتصعد إلى حجرتها لتأخذ حماما وتبدل ملابسها فيومها طويل وشاق.. وسيبدأ منذ الآن.

بينما ذهب (يحيي )إلى الكومود بجوار سريره، وفتح احد أدراجه يخرج صورة لفتاة جميلة تحيطها هالة من البراءة، تأملها للحظات ثم مرر يده على وجنتها قائلا بعشق:
-يمكن تكون فعلا شبهك ياياسمين، مش بس فى الشخصية لأ وكمان بتحب الحاجات اللى كنتى بتحبيها وبتعمل زيك، بس انا مش عايزك تقلقى، مستحيل هتاخد مكانك فى قلبى ياحبيبتى، لإن مكانك فى القلب، هو القلب كله...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة