قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل السادس

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل السادس

رن جرس الهاتف في غرفة مكتب عاصم عدة مرات و لم يُجب احدهم و لكن لحسن الحظ دخل عاصم الغرفة لأداء بعض الاعمال ليلحق بالهاتف قبل ان ينقطع رنينه هاتفا في لهفة لمعرفة كنه المتصل لان رنين الهاتف دال على ان المكالمة من محافظة أخرى و ليست مكالمة محلية :- ألووو..
صوت صمت وتنهد على الطرف الاخر و اخيراً هتف المتصل:- البقاء لله يا عاصم..

جلس عاصم على كرسى مكتبه يلتقط الصوت في شك هاتفا :- سبحان من له الدوام .. بس مين ..!؟.. و صمت للحظات هاتفا بلهفة :- .. زكريااا..!؟..
رد صاحب الصوت بنبرة متحشرجة :- آه يا واد عمى .. زكريا .. زكريا اللى عينه منيك في الأرض و مش عارف يجول ايه و لا يسوى كيف ..!؟..
وجت ما كان لازماً يبجى في ضهرك كان لساته تايه عن الدنيا .. تايه حتى عن حاله يا واد ابوى ..

هتف عاصم متنهداً :- عارف يا زكريا .. عارف .. بس متحملش روحك أكتر من طاجتها .. مش ناوى تجولى فينك ..!؟....و منتش ناوى ترچع برضك .. !؟؟..
هتف زكريا :- ارچع فين يا عاصم ..!!!.. معدش ينفع ..مش هاينفع ارچع الا لما ألاجى روحى .. و بعدين أنا اتچوزت ..
هتف عاصم :-اتچوزت ..!؟.. اتچوزت مين!؟..

قال زكريا :- اتچوزت بت صاحب البيت اللى سكنت فيه .. راچل طيب و بته عايزة تعيش.. أهو تعينى على حالى ..
أكد عاصم :- خير ما فعلت .. ربنا يچمعنا بيكم على خير وتاجونا عن جريب ..
هتف زكريا في شوق غير راغب في إنهاء الحوار مع بن عمه و صديقه الوحيد :- و انت يا عاصم .. كيفك ..!؟.. أحوالك عال ..!؟..

أكد عاصم :- الحمد لله يا زكريا .. ربنا رزجنى بواد و بت .. مهران و سندس ..عمرهم ست شهور تجريبا..
هتف زكريا مهللا :- الله اكبر .. ربنا يبارك لك فيهم و يچعلهم من الصالحين يا رب ..
هتف عاصم :- يااارب ..

عم الصمت قليلا ليهتف زكريا مودعاً :- اشوفك على خير يا واد عمى ..مش هوصيك على امى و مرت اخوى وولده .. عارف ان حملك زاد يا عاصم .. بس انت كدها .. سامحنى يا واد عمى .. مش بيدى غربتى و لا بيدى رچوعى ..
هتف عاصم في نبرة تحمل الكثير من الحزن على حال زكريا :- ربنا يعينك يا زكريا .. ربنا يعينك يا واد عمى على حالك ..
همس زكريا في استكانة :-أمين ..

و أغلق كل منهما الهاتف لكن الحوار لم يتوقف فكلاهما أخذ يجادل نفسه و يعنفها من اجل الاخر .. عاصم يؤنب نفسه من اجل بن عمه و غربته اللى فرضها على نفسه و عدم قدرته على أثنائه عن الرحيل بعيدا عنهم في ذاك التيه الذى لا يعلم متى سينتهى و هل له نهاية من الأساس ..

كذلك زكريا ظل يوبخ نفسه على ابتعاده عن عاصم .. بن العم و الصديق الذى ما حظى بمثيل له طوال حياته .. الذى رد له الحق الضائع .. كان الأولى البقاء بقربه و تدعيمه و مساندته لا الهروب من البلدة بما و من فيها من اجل إثبات الذات و البحث عن الهوية في البعد عنها..
كلاهما كان تائه .. لكن لكل تيه مبرراته ..

ناداها زكريا مؤكدا على مجيئه من عمله هاتفاً باسمها وهو يجلس يلتقط أنفاسه على الأريكة الملاصقة للغرفة  :- بدور .. يا بدور ..
ردت من داخل الغرفة :- نعم يا سى زكريا .. انا جاية اهو..
طلت من الحجرة هاتفة في حبور :- حمدالله على السلامة يا عيون بدور ..

ابتسم في وجهها لتكمل :- انا بحضر الغدا اللى بقا عشا ده عشان اتاخرت قووى النهاردة..
دخلت تتابع قدر على النار ليدخل خلفها مجهدا يلقى بجسده المنهك على الفراش هاتفاً :- معلش اعمل ايه ..!؟.. الحاچ مرشدى بعد لف طول النهار على العماير و احوالها .. رچعنا المحل نراچع كام طلبية فاتاخرنا ..

نهض متكاسلا يخلع جلبابه ملقياً أياه جانبا و يرتدى اخر منزلى .. و يسبقها للخارج لتتبعه واضعه صحون الطعام على الطبلية ..
جلسا يتناولا الطعام في هدوء .. و ما ان انتهى حتى عاد لاريكته يجلس على احد أطرافها مستنشقا بعض من الهواء النقى الخال من ذرات الرمال و مواد البناء المعبق بها جو المواقع التي يرتادها مع الحاج مرشدى ..

جلست بدور و هي تحمل صينية الشاي لتضعها على الأريكة بينهما و تجهز له كوبه الذى لا يستطيبه الا من صنع يديها ..
ارتشف عدة رشفات و تنهد في راحة مما جعل بدور تتشجع هاتفة :- ألا مقلتليش يا سى زكريا .. مين عاصم و الحاج مهران دوول!!؟..

ارتجفت يد زكريا الممسكة بكوب الشاي و رغم محاولته السيطرة على ثباته و قد نجح في ذلك لحد كبير الا ان بدور لاحظت تلك الاهتزازة اللحظية التي انتهت سريعا .. لم يعقب فاستطردت :- اصلك أيام تعبك الله لا يعيدها ..كنت و انت محموم قاعد تخترف بأسماء منهم عاصم و تقوله سامحنى .. و بعدها الحاج مهران ده و برضك تقوله سامحنى .. يسمحوك على ايه ..!؟..

كانت ملامح زكريا مبهمة بالنسبة لها لم تعرف هل ما تخبره به يغضبه ام لا يمثل بالنسبة له فارقا .. هي كل ما لاحظته تلك الاهتزازة التي تؤكد ان الامر يعنيه لحد كبير..
همس زكريا :- دوول اكتر ناس عزاز على جلبى يا بدور .. اكتر ناس لما كان المفروض ابجى وسطيهم وجت ما احتاچونى كنت انى بعيد جووى عنيهم .. تايه و لسه مش عارف لى بر .. و لا لاجيلى مرسى ..

وضع زكريا كوبه و نهض متوجها للسور مستندا عليه محاولا الا ينكئ جروح لم تندمل بعد .. لكن يبدو ان بدور قد سيطر عليها الفصول بشكل كلى و لن تتركه لحاله ..
و كان على حق حينما تبعته لتجاوره في وقفته هامسة :- طب و مين سهام ..!؟..

لاحت منه نظرة الي بدور أيقن من خلالها أسباب سؤالها .. ابتسم في تفهم قائلا :- دى بت عمى يا بدور .. تربية يدى من وهى بت تلت سنين ..الحاچة فضيلة أمها و ام عاصم .. ومرت عمى الحاچ مهران .. مكنتش بتستأمن حد عليها غيرى ..و ابتسم متذكرًا و مكررا كلمات الحاجة فضيلة :"خلى بالك منها يا زرزور .. اوعالها يا زرزور .."...

هتفت بدور متسائلة في تعجب :- زرزور ..!؟
اومأ زكريا بالإيجاب هامساً :- دى حكاية طويلة جووى يا بدور .. حكاية بطول عمرى كله .. هبجى احكيهالك بعدين ..
هتفت بدور و نبرة الغيرة تطل جلية من كل حرف من حروف تساؤلها :- و حلوة على كده سهام دى ..!؟..
رفع زكريا عضديه من على السور و احتضن وجهها بكفيه هامساً :- زينة لصحابها يا بدور.. هتكلم عن واحدة بجت في عصمة راچل .. انا اللى تهمنى دلوجت هي مرتى .. اللى مشيفش حد في چمالها ..
هتفت في سعادة :- صحيح يا سى زكريا ..!؟؟

أكد مبتسما :- صحيح يا بدور .. انا بحمد ربنا انه هداكى ليا .. انا معرفش كيف كانت هتعدى عليا الأيام دى و أنتِ مش چارى ..!؟
ابتسمت و دمعت عيناها و ما ان همت بالرد عليه حتى علت أصوات زغاريد صادحة من مكان ما على اطراف الحارة ..
هتفت في سعادة :- شايف الفال الحلو يا سى زكريا ..!؟..

اندفعت تحاول بقامتها الضئيلة التطلع من سُوَر السطح العريض إلى الحارة راغبة في معرفة اخر الاخبار و من أين تأتى تلك الزغاريد المجلجلة بالفرحة ..!؟..
شهقت في صدمة عندما وجدت نفسها مرفوعة بعض الشئ عن الأرض لتستطيل قامَتَها فتصبح قادرة على متابعة ما يحدث بالأسفل ..
هتفت و هي تدير رأسها لزكريا الذى وجدته يحملها من خصرها الذى كبله بذراعيه :- انت بتعمل ايه يا سى زكريا ..!؟..

ابتسم مشاكساً :- بنفرچوكى على اللى بيُحصل تحت ..و مش ببلاش على فكرة .. الحساب يچمع ..
انفجرت ضاحكة و اعادت رأسها في سعادة تتابع ما يدور من حوار بين جارتين جذبهما صوت الزغاريد المتعالية و التي لم تنقطع ..
لتدرك من خلال حوارهما أسباب تلك الفرحة
لتستدير مرة أخرى لزكريا هاتفة بملامح متبدلة :- نزلنى يا سى زكريا ..

ابعدها زكريا عن السور لكنه ظل محتفظ بها بين ذراعيه لتستدير له و ملامحها تشى بخبر ليس سارا على ما يبدو .. سأل في فضول :- خير يا بدور .. مين اللى اتچوز و لا نچح و لا الزغاريد دى سببها ايه ..!؟..
هتفت دون مواربة و هي تلتصق به محتمية:- ده السمرى ..!؟..
هتف زكريا حانقاً :- ماله البعيد .. جُطع و جُطعت سيرته ..!؟؟..

أكملت مرتعشة وهى تتذكر حالها يوم ان حاول ارغامها على الزواج به :-كتب كتابه على البت صباح بنت الحاج مرعى صاحب البيت اللى جنب قهوة المعلم خميس ..
صمت زكريا و لم يعقب مما شجع بدور على الاستطراد قائلة :- بس غريبة .. البت صباح دى كانت متقال عليها من..
طاعها زكريا مؤنبا :- خلاص يا بدور بلاه الكلام في سيرة الناس.. دى بجت في عصمة راچل تانى و ربنا يعينها عليه ..

ارتجفت وهى بين ذراعيه تحتمى بهما هامسة:- صدقت يا سى زكريا .. ربنا يعينها على ما بلاها ..
شعر زكريا بارتجافاتها فسأل بقلق :- ايه في يا بدور .. !؟؟..بردتى و لا ايه ..!؟.. مالك بترجفى كِده ..!؟؟..
تمسكت به هامسة :- ابدا مفيش يا سى زكريا، بس كل اما أفتكر انى كان ممكن ابقى مكان البت صباح جسمى كله بيتنفض، صمتت و رفعت رأسها هامسة:- اكيد انا عملت حاجة حلوة قوووى في حياتى عشان ربنا يرزقنى بيك ساعتها .. مش عارفة اشكر ربنا عليك ازاى ..!؟.. و لا عارفة أرد لك المعروف ده ازاى..!؟..

سأل زكريا متصنعا الجدية :- صليتى العشا .!
أكدت بإيماءة من رأسها و هي تقسم واضعة سبابتها على شفتيها :- اه و الله يا سى زكريا .. ده انا من ساعة ما عرفتك ما فوتش فرض
ابتسم رغما عنه و جذبها من كفها باتجاه حجرتهما لتصرخ هي  متسائلة :- خبر ايه يا سى زكريا ..!!؟..
غمز لها بأحدى عينيه عابثاً :- هجولك كيف تردى المعروف  ..
انفجرت ضاحكة و هي تتبعه متعلقة بذراعه هاتفة في مشاكسة :- و الله ما عارفة أودى جمايلك دى كلها فين يا سى زكريا ...!؟؟..

دخلت سمية تشهق باكية في لوعة لسراىّ عمها هاتفة في نفاذ صبر :- وينه واد عمى يشوف لى صرفة مع واد محروس دِه ..!؟..
انتفض عاصم من مجلسه بقرب أمه الحاجة فضيلة عندما طالعته سمية مندفعة لداخل السراىّ بهذا المظهر الباكى و بيدها ولدها الأكبر ماهر و بطنها ممتدة أمامها بحمل جديد..

هتف عاصم في قلق :- ايه في يا سمية ..!؟.. تعالى اجعدى بس ..خير ..
سحبت الحاجة فضيلة ماهر لاحضانها مشفقة عليه من عنف أمه الذى جاءت به تلك المسافة من بيتها حتى السراىّ لاهثا خلفها ..
هتفت تندب حظها و هي تجلس في بطء متأوهة بسبب بطنها المنتفخ الذى ينبئ بقرب الولادة :- آه يا واد عمى .. تعبت خلاص معدتش جادرة شوف لى صرفة مع عدلى .. و مع أمه .. أنا بت غسان الهوارى يُحصل فيا كِده ..!؟.. معايرة باخوى سليم طول الليل و النهار و ان المفروض احمد ربنا انه اتجدم لى وانا ليا اخ  هربان من عملة مهببة وهيبجى سوابج و رد سچون .. و اخر المتمة يضرُبنى..

شهقت الحاجة فضيلة .. و زمجر عاصم هاتفا:- كيف يضرُبك يعنى ..!؟.. هي سايبة!؟..
لكن عاصم تمهل قليلا قبل حكمه متسائلا :- بس يعنى .. أنتِ عملتى ايه عشان توصليه لكِده حاكم انى عارفك..!؟..
أكدت في عجالة :- معمِلتش حاچة يا واد عمى .. هو اللى في الروحة و الچاية لازماً يضايجنى عشان خاطر أمه تتبسط .. ما أنى بجيت سلوتهم  .. خلاااص معدتش جادرة .. أنا لا طيجاه و لا طايجة عشته .. أنى عايزة ا..

هتف عاصم مقاطعا لها هادرا في غضب :- أنتِ بتجولى ايه ..!؟.. يعنى ايه مش طيجاه و مش عيزاه ..!؟.. مش بخطرك .. ولدك دِه مين يربيه و اللى چاى كمان .. فوجى لحالك و أنا هكلمه .. و ربنا يجدم اللى فيه الخير ..
نكست سمية رأسها في استكانة بعد غضبة عاصم و لم تجب على كلامه الأخير الا بايماءة من راْسها توافقه و بكاء في صمت ..

تنهد في إشفاق على حالها فهو يعلم تماما من هي أم عدلى و كيف تُسير عدلى باشارة من إبهامها و لا يطيق ان يرفض لها طلبا لكن في المقابل هو يدرك أيضا من هي سمية ابنة عمه و انها ليست هينة على ايه حال و بالتأكيد هي لها القسم الأكبر من الاستقزاز و الذى حمل عدلى ليتطاول عليها بالضرب و خاصة و هي بتلك الحالة و على وشك وضع طفله الثانى ..

نهض عاصم هاتفا في تأكيد :- اطمنى .. كله هايبجى تمام يا سمية خليكى معانا انت و ولدك أتغدوا و هدى حالك و ربنا يجيب الخير باذنه .. سلام عليكم ..
نهض عاصم مغادرا و همست هي وراءه :- تسلم يا واد عمى ..
هنا هتفت الحاجة فضيلة مؤنبة :- لما أنتِ مش عارفة تاخدى حج و لا باطل من عدلى واد محروس و أمه .. رايحة تجيبى عيال تانية منيه يا خايبة ..!؟..
هتفت سمية في حنق :- اعمل ايه يا مرت عمى .. أمى جالت لى اربطيه بالعيال يعمل لك حساب جَصاد أمه ..

قهقهت فضيلة هاتفة :- يخيبكم نسوان ناجصة عجل .. عيال ايه اللى تربطه .. طب كانت أمك ربطت ابوكِ بخلفتكم الشينة .. جال اربطيه بالعيال ..!!.. كانت نفعت نفسها ..
صمتت سمية و لم تعقب لتشفق فضيلة على حالها لتربت على كتفها هاتفة بنبرة تحمل رغبة حقيقية في نصحها :- اسمعى يا سمية  ..انت كيف سهام بتى .. و اللى هجولهولك دِه .. جولته لسهام جبل سابج .. مفيش حاچة تربط الراجل لمرة(امرأة) الا جلبه .. لكن جولت عيال تربط راجل لمرة مش طايجها و الله و لو جابت منيه ميت عيل.. ما هيربطوه ..اربطى چوزك بالطاعة و المحبة يا بتى تلاجيه خاتم في صباعك .. سمعانى يا بت رتيبة ..
اومأت سمية برأسها في تأكيد و فضيلة تنظر اليها متمنية ان تكون سمعت ووعت كلماتها بالفعل ..

كان اليوم الأول لهم في شقة أمها التي قرر تأجيرها على الرغم من تأثير ذلك على ميزانيته المحدودة لكنه أشفق على حالها عندما رأها تنام ليالى مرضه بالقرب من فراشه الضيق تاركة له أياه  .. قرر ان يمنحها بعض من براح و سعة بديلا عن تلك الغرفة التي بالكاد تحتمل شخص واحد بداخلها...
لقد أكدت عليه بدور ان لا يعود للحجرة عند عودته من عمله و انها تنتظره في شقتهما بعد ان انتهت من تجهيزها كما يجب ..

وصل بالفعل لباب الشقة و ادخل المفتاح في بابها الخشبي ذو الضلفتين مما دفعه ليمسك احداها و يدفع الأخرى للداخل حتى يفتح الباب بسهولة ..
دفع الباب ينظر حوله في استحسان و ينادى باسمها :- بدور .. يا بدور ..
لم ترد .. تراها أين ذهبت ..!؟؟.. ربما هي بالأعلى نسيت شيء ما بالغرفة فصعدت لاحضاره .. كان في سبيله للباب مرة أخرى
و فجأة قفزت هي من خلفه صارخة في شقاوة :- عليك واحد يا سى زكريا ..

انفجر ضاحكاً و هو يتلقفها بين ذراعيه و هتف بها :- واحد ايه بس اللى عليا ..!؟ دِه العفاريت تخاف منى و تچرى ..
نظرت اليه في غيظ و قد ايقنت صدق ما يدعيه عندما لم ينتفض فزعا عندما فاجأته :- طب كده .. يعنى ايه !؟.. مبتركبش الهوا يا سى زكريا .. و انا اللى قلت هخضه بقى واعمله مفاجأة زى الأفلام ..!!؟؟..

علت قهقهاته هاتفاً :- بزمتكِ في صعيدى يركب الهوا .. ليه !؟.. صعيدى ورج ..
ضمها اليه اكثر وهو يهمس في اذنيها :- اومال لو سمعتى اللى كنت عسمعه و انا نايم في إسطبلات الخيل ..!!؟.. و لا ندهتك النداهة على شط التُرعة و عرفتى تنفدى بجلدك منيها.. و لا ..
وضعت كفها على فمه تسكته متعلقة به في رعب :- خلاص و النبى يا سى زكريا .. حرمت .. ده انا اللى اترعبت ..

تعالت ضحكاته من جديد و أخيرا ابعدها عنه قليلا ليطالع مظهرها الجديد على ناظريه ..
كانت تبدو في أروع صورة بذاك القميص الحريرى الأحمر الذى يبرز قدها المياس
و يجعلها كتلة من فتنة لا تقاوم ..

شعرت بحرارة نظراته المسلطة عليها فتوهجت وجنتيها خجلاً .. و خاصة عندما  همس مبهورا :- ايه الچمال ده يا بدور !!؟..
همست في خجل :- عجبك يا سى زكريا ..!؟
و طأطأت رأسها هامسة :- ده جابتهولى نعمة
و قبل ان تسمع اعتراضه هتفت مسرعة :- هي قالت لى انى عروسة و الجواز جه على السريع و متجهزتش زى بقية العرايس يا سى زكريا ..و لولا كده مكنتش قبلت .. و الله العظيم ده اللى حصل ..

ربت على كتفها يهدئ من روعها :- تمااام .. و ماله .. حجك برضك .. عروسة و لازماً تفرحى ..
واتسعت ابتسامته  و زادت مشاكسة وهو يهمس وهو يجذبها لاحضانه :- بس و الله كتر خيرها الست نعمة .. و انت احلى عروسة يا جمر ..
تملصت من بين ذراعيه في شقاوة و اندفعت
باتجاه حجرة نومهما الجديدة و التي لم يراها بعد هاتفة :- تعال شوف و قولى رأيك ..

فتحت باب الغرفة على مصرعيه ليتوجه زكريا اليها في ترقب و ما ان طالع الغرفة حتى هتف في انبهار :- وااه يا بدور .. دِه انتِ خلتيها و لا الجصر ..
و كان على حق .. فلقد تبدلت الغرفة تماما بعد
ان زينت انحاءها بما توفر لديها من ستائر و
ازهار جافة و فرشت على السرير شرشيف حريرى كان المفضل لأمها و ظلت هي محتفظة به حتى جاءت اللحظة الأنسب لتضعه مرة أخرى على فراشها ..

كانت غرفة مريحة للنفس .. هي المكان الأمثل ليستلقى فيه صانعا عالم لنفسه بعيد عن صخب العالم المحيط .. هي تلك الملاذ الذى سيلجأ اليه دوما ليحتمى فيه بين أحضان تلك الرائعة هناك من ذكريات جارحة و دنيا يصعب التكيف مع تقلباتها العوجاء ..
ابتسم في سعادة و استدار مسرعا ليغلق باب الغرفة و يعاود النظر اليها بنظرات عابثة و هو يقترب منها في تحفز حتى اختطفها بين ذراعيه من جديد ..
همست في خجل :- عجبتك الشقة يا سى زكريا ..!؟؟..

أومأ في تأكيد هامساً بدوره و هو يبحث عن عمق عينيها يتطلع الى تلك الروح الشفافة التي ما خلقت الا لتهدهد نفسه الجريحة :- عچبتنى جووى .. و اللى عاچبنى اكتر صاحبة الشقة ..
رفعت رأسها هاتفة بسذاجة :- أمى ..!؟؟..
لم يستطع زكريا تمالك نفسه لينفجر في قهقهات متتابعة أورثته دمعا مترقرقا في حدقتيه ..

جلس على اطراف الفراش يتنهد بعد تلك النوبة من الضحك ليهتف ساعلا :- ايوه امك يا بدور .. الله يرحمها .. خلفت اكتر واحدة غشيمة في الدنيا كلها ..
كانت تقف كالتلميذ البليد تعلو التكشيرة ملامحها الطفولية و هي لا تعرف ماذا فعلت ليسخر منها.. جذبها اليه لتسقط بين ذراعيه فيتلقفها هامساً في عشق :- بس بتها الغشيمة دى هي في كفة و الدنيا كلها في كفة ..
كانت كلماته كافية و كفيلة تماما ليتبدل مزاجها للنقيض  وهى تبتسم في سعادة مطوقة عنقه بذراعيها ..

هتف سعيد مندفعا خلف عاصم الذى توقف ليرى ما يريد غفيره هاتفا :- خير يا سعيد .. ايه فى .!؟..
هتف سعيد محرجا :- مَعلش يا عاصم بيه ..!!.. بس هو طلب خصوصى...
هتف عاصم وهو يضع كفه في جيب جلبابه:- ايه يا سعيد .. عايز فلوس ..!؟..
رفض سعيد مؤكدا : - لاااه يا عاصم بيه .. خيرك مغرجنا .. بس يعنى .. انى كنت عايز استأذنك فى حاچة كِده ..

هتف عاصم بنزق :- ما تنطج يا سعيد نشفت ريجى .. ايه فى ..!؟..
استشعر سعيد نفاذ صبر عاصم فهتف فى عجالة:- اصلك انا نويت اتچوز يا عاصم بيه و كنت بستأذنك فى الاوضة بتاعت سى زكريا اللى فى الچنينة.. !؟..
صمت عاصم للحظة و اخيراً هتف مقهقها :- عايز تتچوز يا سعيد ..!؟..
هتف سعيد مؤكدا :- دِه بعد إذن چنابك ..

ليربت عاصم على كتفه مشجعا :- و ماله .. اتچوز و اتبسط .. و الأوضة بتاعتك من دلوجت و لو عايز تبنى چنبها أوضة تانية أو حتى توسعها .. و ماله .. اطلب اللى انت عاوزه .. واعتبره نجوطك يا عريس ..
هتف سعيد فى فرحة :- تسلم يا عاصم بيه .. ربنا يخليك لينا ..
هتف عاصم ضاحكا :- وااه .. كل دِه عشان الأوضة و لا عشان الچواز يا فجرى .. !؟..
هتف سعيد ضاحكا :- التنين يا بيه ..

قهقه عاصم هاتفا :- ماااشى يا حزين .. و نجيت العروسة .. و لا لسه .. !؟..
أكد سعيد منتشيا :-  نجيتها .. نچاة بت عم عمران البجال اللى على اول البلد ..
ربت عاصم على كتفه من جديد : - تمااام .. عم عمران راچل طيب .. و بته زينة .. ألف مبروك يا سعيد .. ربنا يتمم بخير و اى حاچة تعوزها اطلبها
و ميهمكش..

هتف سعيد ممتناً :- ربنا يبارك لنا فى عمرك يا عاصم بيه .. و انى اهااا مش عفوت البوابة واصل .. بدل ما انى كنت رايح چاى على دارنا فى اخر البلد هيبجى بينى و بين الأوضة اللى هبيت فيها خطوتين ..
قهقه عاصم هاتفا فى عبث :- برضك مش هتفوت البوابة .. !؟.. دى العروسة هتنسيك بوابة السرايا و صحابها كمان ..

نكس سعيد رأسه فى احراج يرتسم على وجهه ابتسامة خجلى .. ليربت عاصم على كتفه فى قوة هاتفا فى مرح :- و ماله .. اتچوز و اتهنى يا واد ..
حرج ابو البوابة ..
و قهقه فى سعادة و سعيد منتشيا لموافقة سيده على ما كان يتمناه منذ رحيل زكريا عن السراىّ ..

وصل لمدخل الحارة المعتمة الساكنة تماما في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل .. كان مرهقا بحق فاليوم كان شاقا و طويلا بشكل غير مسبوق و قد ظل مع الحاج مرشدى لتلك الساعة حتى انهى العمل و رحل كل منهما ..
خطواته كانت بطيئة رتيبة .. تعكس مدى تعبه و رغبته الملحة في الراحة لساعات طويلة ..

بالكاد وصل ساحبا قدميه حتى مشارف مقهى الحاج خميس اللول و كل ما يدور بخلده مدى القلق الذى يعترى بدور في تلك الساعة .. فهو كان يتاخر في بعض الأحيان .. لكن لم يتأخر ابدا لمثل ذاك الوقت المتأخر ..
توقف فجأة عندما لاحظ حركة غير اعتيادية في مثل ذاك الوقت امام مقهى المعلم خميس
تنحى جانبا في بطء و اختبئ في سلاسة حتى لا يشعر أحدا بوجوده ..

هتف في نفسه ." دوول رچالة السمرى .. بيعملوا ايه هنا .. و خصوصى چنب جهوة المعلم خميس .. !؟.."
رأى على ضوء مصباح احد أعمدة الانارة الخافتة ..رجال السمرى يخرجون من احد الأركان المظلمة يحملون بعض الزجاجات البلاستيكية و التي على ما يبدو تحمل مادة حارقة بدأوا بنشرها و رشها في الأركان الثلاثة للمقهى هنا لم يستطع الوقوف متفرجا
فاندفع  من ركنه الذى كان يختبئ فيه صارخاً بصوت كالرعد :- انت بتعمل ايه منك ليه!!؟..

كانت صرخته مباغتة لهم بالفعل فلقد فراثنان  هاربين بينما الثالث تشجع ليهاجمه و اشتبك بالفعل مع زكريا و دارت بينهما معركة
طاحنة جعلت زكريا يندفع لينزع سكين العم طايع المغروسة ببطن احدى البطيخات مهددا بها الخصم الذى يصارعه و لكن على حين غرة ظهر احد الرجلين الفارين من خلف زكريا و باغته بضربة قوية من عصاه على رأسه مما دفع زكريا ليترنح متأوها وممسكاً برأسه المصاب تحت عمامته البيضاء التي بدأ الدم يصبغها بلون احمر قان ..

اندفع رجال السمرى هاربين عندما بدأت أصوات الشجار ترتفع و تجذب المصلين الذين بدأوا يفدون لصلاة الفجر في الجامع الكبير على مدخل الحارة و لكن في غمرة الاحداث ظهر ظل ما تقدم بجوار جسد زكريا المصاب و المطروح ارضا ليلتقط سكين العم طايع ..
بدأ المصلون القادمون من قلب الحارة يمرون بشادر العم طايع و مقهى المعلم خميس ليلتفت احدهم صارخاً في الظلام لرؤية جسد زكريا مضرج في دمائه و مقهى المعلم خميس الذى
أُضرم فيه النار و التي ألقيت شرارتها من قِبل نفس الشبح الذى حمل سكين العم طايع و اختفى..

صرخت بدور عندما رأت من شرفة شقتها زكريا يسنده رجال من الحارة حتى يدخل بيت الحاج وهيب .. فتحت الباب و اندفعت على صرخاتها نعمة و الحاج وهيب الذى كان
يتحضر للنزول لفتح بقالته  ..
ما ان رأها زكريا و هي تقف على اعتاب الشقة حتى هتف فيها بكل ما استطاع من قوة :- خُشى جوه ..
اندفعت للداخل مرغمة تتدارى عن اعين الرجال الذين كانوا برفقة زكريا يساعدونه على الصعود للشقة بعد عودته من المستوصف الطبي في اخر الشارع الرئيسى و رأسه تلفه الضمادات الطبية اثر الجرح الذى تعرض له من جراء ما حدث امام مقهى المعلم خميس ..

هتف زكريا للرجال شاكرا وهو يستند على باب شقته :- تسلموا يا رچالة ربنا يخليكم ..
رد الرجال السلام و بدأوا في الرحيل و ما ان اختفوا على الدرج حتى اسند الحاج وهيب زكريا لداخل شقته و تبعته نعمة تسأل بفضول عما حدث ..
ما ان جلس زكريا على الأريكة القريبة من الباب حتى أعقبه الحاج وهيب و نعمة و ظهرت بدورمسرعة من الداخل ما ان ايقنت رحيل الرجال ..و قد هتفت في لوعة :- خير يا سى زكريا ..ايه اللى حصل..!!..

قال زكريا بلهجة واهنة :- ابدا .. اتاخرت امبارح في الشغل مع الحچ مرشدى لجرب الفچر و انا داخل الحارة لجيت تلاتة من رچالة السمرى عايزين يولعوا في جهوة المعلم خميس ..
صرخت نعمة و بدور في صوت واحد :- يا مصيبتى ..
و أكملت بدور :- ده كان الحارة كلها ولعت ..

رد زكريا :- ما انا لما وجفت لهم خدونى على خوانة و واحد منيهم ضربنى على راسى ..
و الحمد لله چت سليمة .. و الجهوة اهى لحجوها و خصوصى ان صبى المعلم خميس كان لساته جافلها على روحه جوه و نايم .. كان هيروح فيها الواد الغلبان .. الحمد لله ..
هتف الجميع :- الحمد لله .. و استطرد الحاج وهيب :- بس خلى بالك على نفسك يا زكريا انت كل شوية ربنا يوقفك في طريق السمرى عشان توقف له مصيبة من مصايبه اللى بيعملها .. و هو مش هايسكت على كده كتير .. ربنا يسترها..

هتف زكريا في صوت واهن :- ربك الحافظ يا حاچ .. هي بتاجى معايا كِده .. لا انا جاصده و لا يهمنى في حاچة .. ربنا يكفينا شره ..
هتف الحاج وهيب :- امين يا بنى ..
و نهض و تبعته نعمة للعودة لشقتهما و قبل ان يغادر هتف الحاج وهيب :- لو عوزتوا حاجة
نادوا و احنا معاكم .. ربنا يشفيك يا زكريا ..

هتف زكريا :- تسلم يا حاچ و تعيش ..
أغلقت بدور باب شقتها خلف ابيها و زوجته
و استدارت عائدة لزكريا .. تناولت كفه تجذبه في صمت حت ينهض لتسنده حتى يتمدد على فراشه .. شملهما الصمت حتى سحبت الغطاء على جسده المسجى على الفراش ..
همت بالرحيل ليمسك هو كفها لتستدير له و عيونها تملأها نظرات مضطربة و خائفة ..
همس زكريا :-مالك يا بدور .. ايه فيه !؟..

همست مجيبة :- مفيش يا سى زكريا .. قلبى مقبوض .. هموت من خوفى عليك و كلام ابويا رعبنى اكتر ..
ابتسم محاولا بث الطمأنينة في نفسها :- متخفيش .. عمر الشجى بجى ..
ثم أشار للجانب الاخر من الفراش قائلا :- ياللاه تعالى اجعدى چارى لحد لما انعس..
استدارت و اتخذت مكانها بجواره ليمد كفه محتضناً كفها ليلثمه ثم يرفعه  واضعا أياه على جبينه المعصوب.. و لم تمر دقائق حتى كان يغط في نوم عميق ..

رفعت كفها عن جبينه ببطء و تنهدت في قلق و انسحبت من الغرفة في هدوء تعد له ما تستطع ويجود به مطبخها ليتناوله عند استيقاظه استغرقها الوقت في الاعداد و التجهيز حتى سمعته ينادى من الداخل طالبا لكوب من الماء ناولته إياه و قد تناهى لمسامعها عدة طرقات متتابعة تُقرع على باب الشقة  لتندفع بدور تفتح و هي تحكم وضع غطاء رأسها حول رقبتها و ما ان اشرعت الباب حتى هتف المعلم خميس منكس الرأس :- سلام عليكم يا ست بدور .. زكريا صاحى!!؟..لو مش صاحى .. اجيله وقت تانى اطمن عليه ..

أكدت بدور :- اه يا معلم .. هو صاحى ..اتفضل .. و اشارت الى حجرة النوم مستطردة .. بس هو مريح شوية الخبطة اللى على دماغه عملاله صداع بعيد عنك..
ما ان هم المعلم خميس بالاتجاه للغرفة هاتفاً في استئذان :- يا رب .. يا ساتر ..
حتى وجد زكريا يقف على اعتاب الغرفة يخرج له حتى اندفع المعلم خميس تجاهه مسندا أياه حتى الأريكة ..
هتف المعلم خميس في عتاب :- ايه اللى قومك بس من فرشتك ما انا كنت داخل لك!؟..
ربت زكريا على فخذه ممتنا :- الجومة ليك يا معلم خميس ..

تنحنح خميس :- و الله انا ما عارف أرد لك جميلك اللى عملته ده ازاى ..!؟..
هتف زكريا عاتبا :- جَميل ايه بس يا معلم!!؟.. مفيش بناتنا الكلام دِه .. المهم جولى
صبيك اللى كان جوه الجهوة بخير..!!؟..
أكد خميس :- اه الحمد لله .. لولاك لكانت القهوة دى كوم تراب ..و الواد ده راح فيها ..
تسلم يا صعيدى .. القهوة دى كل راس مالى..

و تقولى مش جميل ..!!؟.. ده انت لحقت رقبتى .. و شوف كام بيت كان هايتقطع عيشهم لو القهوة دى حصلها حاجة ..!!؟..
أكد زكريا :- متجلش كِده .. لولا ربنا .. انا مكنتش الا سبب و ربنا بعتنى في الوجت المناسب .. كلنا أسباب يا راچل يا طيب ..
نهض المعلم خميس هاتفاً بنبرة ممتنة :- انا هقوم دلوقتى عشان اسيبك تستريح و أمانة عليك لو احتجتوا اى حاجة .. نادى علي اى عيل في الحارة ينادينى او ينادى حد من صبيانى هنكون عندك في ساعتها ..
هتف زكريا :- تسلم يا معلم .. كلك واچب ..

خرج المعلم خميس وهو يقسم على زكريا الا ينهض خلفه مودعاً و يعود ليرتاح في حجرته من جديد ..
عادت بدور من الداخل بعد ان تأكدت من رحيل المعلم خميس انحنت تقبل راس زكريا هامسة :- ترجع أوضة النوم يا سى زكريا.!؟..
جذبها من يدها لتندفع جالسة بالقرب منه على الأريكة هامساً في غيظ :- و لما أنتِ واعية انها أوضة النوم .. مدخلة لى الراچل فيها ليه..!؟..
همست محاولة تبرير فعلتها :- مكنتش عيزاك تقوم من مكانك و انت لسه تعبان وتجيله ..

هتف محاولا السيطرة على ألم رأسه :- أجي ان شالله زاحف و لا تدخلى راچل غريب أوضة نومك .. أفرض كنت حاطة حاجة ليكى كِده و لا سايبة حاجة ليكِ هنا و لا هنا يبجى ايه الحال وجتها ..!؟..
صمتت و لم تعقب بعد ان ألجمها بحجته بينما استطرد هو هاتفاً :- جومى جيبيلى دوا راسى ..وچعها بيزيد ..

انتفضت في عجالة تحضر له قرص الدواء المسكن لألم رأسه .. قذفه في جوفه برشفة ماء و نهض متوجها للغرفة دون ان ينتبه اليها..
وقفت لا تدرى ما عليها فعله .. هي لم يخطر على بالها ما ذكره للتو .. لكن على قدر حنقها من غضبه و ثورته المحكومة بمرضه .. على قدر فرحتها الطاغية بغيرته عليها .. انه يغار.. و كم أسعدها ذلك حد الابتسام ببلاهة و التوجه خلفه تتأكد انه على ما يرام و ان الدواء قد بدأ مفعوله و سكن من ألم رأسه المصابة..

فتحت الباب في حذر و دلفت للغرفة على اطراف أصابعها لعله راح في النوم و هي لا تريد ان تقلق منامه ..
اقتربت تسحب الغطاء المنحسرعلى جسده
و تستدير حول الفراش لتجلس على الجانب الاخر تجاوره متطلعة لملامحه الخشنة المتجهمة .. انه لا يتجهم بهذا الشكل وهو نائم!؟.. دوما ما كانت ملامحه مستكينة و وديعة وهو يغط في نومه.. لطالما راقبته و حفظت ملامحه عن ظهر قلب..

نقشتها على جدار الروح .. و كأنها ما رأت من الرجال غيره و لا اقترنت قبله .. هو رجلها الأول و الأخير ..قبله ما كان رجال .. و بعده ما عادت ترى إلاه يستحق لقب رجل و عن جدارة .. انتهى عصر الرجال عندما دخل لحياتها ليصبح هو الملك الأوحد لتلك المملكة التي ما عادت تعنى لها شيء و ما عادت تحمل الا مدلول واحد هو .. زكريا ..

تنهدت في هيام وهى تسند ذقنها على باطن كفها و هي غارقة في تأمل ملامحه التي بدأت تستكين و تعود لطبيعتها .. و بعد ان كان حاجباه المقوسان على شكل هلالين أشد تقوسا بدأ كل منهما يرتخى لتختفى تلك التكشيرة التي كانت تكلل مفرق حاجبيه .. و يفتح عيونه في بطء متطلع الى تلك الهائمة فيه..
ابتسم رغما عنه عندما طالعته ملامح وجه بدور و لم يستطع ان يستمر في تزمره منها..

دوما كانت قادرة على جلب الضحكة الى شفتيه و العفو و اللين لقلبه .. فمهما ارتكبت من أخطاء .. هي .. و ستظل هي .. مصدر سعادته .. و منبت سروره ..
هتف لها ساخراً وهو يراها تحملق فيه بهذا الشكل :- خدتى الصورة و لا لسه!؟..
انتفضت من شرودها و اتسعت ابتسامتها متسائلة :- لسه زعلان منى يا سى زكريا!؟..
همس مشاكساً :- جربى ..

اقتربت ليهمس في عشق :- حد يزعل من روحه .. يا غشيمة ..
دمعت عيناها وهى تتمدد تريح رأسها على
صدره و هي  تبتهل الى الله الا يحرمها من هذا الرجل الذى تعشقه اكثر من روحها ذاتها.

انتفض كل من زكريا و بدور من فراشهما صباح احد الأيام لتندفع بدور وهى لاتزل غمامة النوم تؤثر على استيعابها نحو باب شقتهما .. لتفتح نعمة باب شقتها في نفس اللحظة و ملامح الفزع مرسومة على ملامحها
هتفت بدور في ذعر :- ايه الصويت و الصريخ ده .. هو في ايه على الصبح كِده..!؟
ردت نعمة :- و النبى ما انا عارفة ..ربنا يسترها ..

عادت كل منهما لداخل شقتها تحاول معرفة ما يحدث من خلال متابعة ما يجرى من شرفات المنزل ..
سألت زكريا في فضول عندما وجدته يدخل من الشرفة لتوه :- خير يا سى زكريا ..!؟..
شرد زكريا هاتفاً :- و الله ما عارف يا بدور ان كان خير و لا شر ..
هتفت و الفضول يقتلها :- ليه !!.. في ايه في الحارة .. و الصويت ده كله ليه ..!؟..
نظر زكريا اليها في قلق هاتفاً :- السمرى اتجتل ..

لتهتف هي صارخة :- ايه ..!؟.. أتقتل ..!!؟
انت متأكد يا سى زكريا ..!؟..
قال زكريا :- و الله ده اللى بيجولوه في الحارة.. الله يرحمه بجى ..
هتفت متسائلة في فضول :- مين اللى عملها!؟.. مسكوه ..!؟..

هتف زكريا :- مسكوا مين يا بدور.. دوول لسه عارفين انه مجتول ساعة ما سمعتى الصراخ .. ايه ..!؟.. الجاتل هايجعد چاره مستنى الحكومة تجبض عليه ..!!؟..
دق باب الشقة بطرقات متتابعة قلقة مما دفع زكريا ليشير اليها لتستتر و يفتح الباب ليجد المعلم خميس هاتفاً قبل حتى إلقاء السلام :- شفت اللى حصل يا زكريا ..!؟؟. السمرى أتقتل امبارح بالليل ..

هز زكريا رأسه مؤكدا :- اه .. الله يرحمه .. انا جمت على صوت الصراخ ..
هتف المعلم خميس ناصحا :- زكريا ..بقولك ايه ..!!..
قال زكريا :- خير يا معلم .. !!؟..
هتف المعلم خميس :- انا قلبى مش مطمن .. بص .. من الاخر كده انت لازم تختفى لك شوية لحد لما الليلة دى تنتهى ..
تعجب زكريا :- ليه ..!؟.. انا مليش صالح بالحكاية دِى ..

هتف المعلم خميس بنفاذ صبر :- اسمع بقى يا أخى .. انت هتكون واحد من المشتبه فيهم اكيد لانك اكتر واحد عمل معاه مشاكل و قلق.. و الكل هايشهد بكده .. و ده مش في صالحك .. الحكومة على وصول .. أنجز و ابعد ..
هتف زكريا برفض :- انا معملِتش حاچة عشان اهرب زى المچرمين .. انا هجعد لا رايح و لا چاى و اللى عِنده حاچة يثبتها..

اندفعت بدور في تلك اللحظة من خلف باب الغرفة الذى كانت تسترق السمع من خلفه هاتفة في لوعة :- خلينا نمشى يا سى زكريا ..نروح مطرح ما نروح.. بس

صرخ زكريا مقاطعا توسلاتها أمرا :- خُشى جوه ..
انتبهت لغلطتها الفادحة و حمدت الله انها كانت تضع عليها غطاء رأسها و شالها على كتفها
و اللذان وضعتهما عندما كانت تهم بالخروج للشرفة لتستطلع الاخبار..

تنحنح المعلم خميس محرجا :- طب انزل انا للقهوة و انا تحت امرك يا زكريا و فكر بسرعة في اللى قلت لك عليه ..و لو غيرت رأيك ..أبعت لى .. و انا معاك ..
خرج المعلم خميس ليكون خروجه إيذانا بغضب هادر منه حيث اندفع تجاهها يمسك بذراعها يهزها بعنف هاتفاً :- انتِ ..
قاطعته و الدموع تندفع من عينيها :- انا خايفة عليك .. مش هقدر استحمل يخدوك قصاد عينى و انا عارفة انك برئ ..

رغم غضبه الهادر لمخالفتها أوامره و اندفاعها امام المعلم خميس بهذا الشكل الا انه كان يقدر قلقها و ذعرها بعد ما سمعت ما قاله خميس لتوه ..
جذبها لاحضانه لتنفجر في نوبة من البكاء العاصف .. اعتصرها بين ذراعيه هامساً في محاولة لطمأنتها :- متخفيش ..انا معملتش حاچة ..و ربك هو المطلع ..
كان يطمئنها و لكن سمة قلق يتسلل الان الى أعماقه و يحتلها كبقعة حبر تنتشر على صفحة بيضاء و خاصة عندما تعالت اْبواق سيارات الشرطة تنعق عند مدخل الحارة ..

وقف كل من وكيل النيابة و الضابط المكلف على رأس جثة السمرى و التي كانت ملقاة على بطنها و قد طُعنت عدة طعنات من الخلف اندفع على اثرها القتيل ساقطا على مجوعة من الارجيلات و كؤوس الشراب و التي كانت تُعلن ان هذا المكان ما هو الا وكر كان يمارس فيه السمرى و رجاله ما يحلو لهم من أنواع الفحش و الرذيلة ..

هتف وكيل النيابة مؤكدا :-واضح ان القاتل انتظر لما القتيل يعمل دماغ تقيلة من السم اللى كانوا بيشربوه ده عشان ميبقاش عنده قدرة يقاومه ..
أكد الضابط :- الواضح كده يا فندم ..
سأل وكيل النيابة و هو يجول بنظراته في المكان الذى اكتظ برجال المعمل الجنائى المختصين بجمع الأدلة و رفع البصمات :- اخبار التحريات ايه يا حضرة الظابط ..!؟..

هتف الضابط :- التحريات السريعة اللى عملتها قبل وصول حضرتك بتأكد ان المجنى عليه كان ليه أعداء كتير و مكنش محبوب في وسط الحارة .. بس من اكتر المشتبهين فيهم واد صعيدى لسه جاى الحارة من سنة كده .. عمل اكتر من خناقة مع السمرى و كانت في الأساس بسبب واحدة تبقى مرات الواد ده دلوقتى ..

همهم وكيل النيابة :- طب هاتولى الواد ده ..
اومأ الضابط إيجابا  ومع انصرافه اندفع احد رجال المعمل الجنائى بكيس بلاستيكى محكم الغلق في اتجاه وكيل النيابة هاتفاً :- وجدنا سلاح الجريمة يا فندم..
برقت عينا وكيل النيابة في حبور و هو ينظر الى  تلك الأداة الحادة الملوثة بدماء المجنى عليه .. كانت سكين قاطع مقبضه معقوف بشكل مميز ..و التي لم تكن الا سكين العم طايع ..بائع البطيخ

هتفت بدور في لوعة :- عشان خاطرى يا سى زكريا اسمع كلام المعلم خميس و اهرب من هنا ..
و أمسكت بعضده متوسلة و الدموع تغرق وجهها  :- طب بلاش عشان خاطرى .. عشان خاطر امك الغلبانة اللى مستحملة غربتك عنها و بتستنى تسمع صوتك عشان تطمن عليك .. حرام عليك يا سى زكريا تسمع عنك مصيبة زى دى ..

هتف زكريا :- بس انى معملتش مصايب ..ربنا عالم انى برئ من التهمة دى ..
هتفت بدور مصرة :- ربنا عالم .. لكن الحكومة لااا.. مش هيسيبوك .. انت اللى قصادهم .. و كمان مستنيهم لحد لما ييجوا يخدوك .. و حلنى بقى اما يثبتوا انك مش اللى عملها  ..

هتف زكريا في حنق :- لو هربت يبجى بثبت التهمة على نفسى ..ما هو طالما برئ اهرب ليه ..!؟..
هتفت بدور في المقابل :- لو مهربتش هيثبتوها عليك يا سى زكريا و هاترجع تقول يا ريت اللى جرى ما كان ..

تنهد زكريا في ضيق و شيء في صدره يخبره انها على حق تماما في كل حرف .. و تنبه عندما هتفت من جديد :- هو انت هتختفى العمر كله يعنى .. لا .. هم يومين بس تدارى فيهم لحد ما الحكومة تمسك اللى عملها ساعتها لما تظهر محدش يبقى ليه عندك حاجة .. قلت ايه ..!؟؟..

أنهت كلامها و هي تربت على كتفه في تشجيع و قد لاقت كلماتها الأخيرة صدى مرحب بعقله جعله يتنهد من جديد و أخيرا ينهض متأهبا .. لتسأله هاتفة :- على فين !؟..
رايح للمعلم خميس مطرح ما اتفجنا نتجابل لو غيرت رأيي .. و على جولك .. هم بس يعرفوا مين اللى عملها هبجى انا في السليم و ارچع رافع راسى و محدش ليه عِندى حاچة .

هللت بدور :- ايوه كده .. هو ده الكلام يا سى زكريا .. متنزلش من الحارة .. اطلع السطح و عدى الكام سطح دول لحد سطح بيت المعلم خميس و اخرج من الباب الورانى لبيته اللى يخرجك على الحارة اللى ورانا ..
هز رأسه موافقا و نظر اليها متأثرا :- يعز علىّ افوتك لحالك و انا معرفش هرچع ميتا ..

تمالكت نفسها حتى لا تحمله همها و همست:- متقلقش عليا يا سى زكريا .. انا معايا ابويا و نعمة .. ربنا معاك ..
هم بفتح الباب ليندفع للسطح منفذا لما اتفقا عليه .. لكنها هتفت في لوعة باكية :- سى زكريا ..!؟.. و اندفعت نحوه ما ان استدار ملبياً نداءها لتلتقطها احضانه تبكى بحسرة و حزن لا يوصف على فراقه ..

اعتصرها بعشق بين ذراعيه و قبل جبينها هامساً بنبرة متحشرجة :- مكتوب عليا يا بدور افارج كل اللى بعزهم في حياتى ..بس فراجك انت غير .. ده انتِ اللى كنت مهونة عليا ..
قبل جبينها من جديد .. و تنهد وهو يبعدها قصرا عن احضانه رغما عنه و عنها..

و اندفع يصعد الدرج الى السطح و ما ان وصل لاعتابه حتى التفت خلفه ينظر اليها وهى تقف على مدخل شقتهما تنظر اليه مودعة بدموع حارقة تلهب وجنتيها و أخيرا هتفت قبل ان يتوارى عن أنظارها :- سى زكريا ...لا اله الا الله..
ليهتف مجيباً :- سيدنا محمد رسول الله ..
ثم يندفع لداخل السطح ليبدأ رحلة جديدة لا يعلم الى أين ستأخذه ..

كان زكريا يهم بفتح باب شقته استعداداً للذهاب لعمله و ما ان انفرج الباب حتى ظهر أمامه عدد من العساكر يتبعهم ضابط هتف ما ان رأه بلهجة أمرة :- انت زكريا الهوارى !؟؟
أكد زكريا في ثبات على الرغم من القلق الذى يتأكله :- ايوه يا بيه .. خير ..!؟..
لم يعبء الضابط بإجابة سؤال زكريا و إنما امر عساكره في صوت حازم :- هاتووه..

اندفع العساكر لتنفيذ الامر لتندفع بدور من الداخل و نعمة من الجانب الاخر و التي خرجت ما ان سمعت تلك الجلبة على الباب
لتصرخ بدور بحرقة :- ليه ..!؟.. سى زكريا معملش حاجة.. وخدينه ليه ..!؟..
انتفضت بدور مستيقظة من ذاك الكابوس الذى يلازمها في  نومها المحموم منذ اللحظة التي جاء فيها الضابط و عساكره لباب شقتها بحثا و تنقيبا عن زكريا في البيت بأكمله بعد رحيله  .. ولم يتركوا شبرا واحدا يحتمل وجوده فيه دون تفتيش ..

اندفعت نعمة تحتضن بدور و تعطى لها كوب من الماء  ..شربت بدور عدة رشفات بعد إصرار من نعمة و انفجرت باكية فجأة  في أحضانها و قد  ظهر الحاج وهيب على اعتاب حجرة بدور في شقته بعد ان اصر على عدم تركها و حيدة في شقتها و هتف عندما رأى بدور تبكى بحرقة :- متقلقيش يا بنتى .. و الله هايخرج منها هو برئ ومعملش حاجة ..

هتفت بدور في لوعة و هي تترك أحضان نعمة مندفعة باتجاه ابيها:- اه و النبى يابا .. ده زكريا بن ناس ملوش في الكلام ده .. ده من عيلة كبيرة قوووى في الصعيد ..
هتف ابوها متسائلا :- هو حكى لك ..!!؟..
هتفت هي متسائلة بدورها :- لهو انت كنت تعرف يابا ..!؟..

هتف ابوها متعجباً منها :- طبعا عارف هو انا كنت هجوزه بنتى من غير ما اعرف اصله و فصله و اسأل عليه كمان .. هو فعلا بن ناس يا بنتى .. و ميعملش العملة السودا دى  .. ربنا يسترها و يخرج منها على خير ..
واندفع الحاج وهيب للخارج ليستطلع الاخبار  و هي تؤمن من خلفه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة