قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل السابع

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل السابع

انتفض زكريا في مكانه الذى لم يبرحه منذ اكثر من نصف ساعة عندما هتف المعلم خميس باسمه متوجها اليه بكليته: - معلم خميس..!؟.. ده انى جلت انك مش چاى..
هتف المعلم خميس لاهثاً: - لااا.. مش جاى ازاى..!؟.. بس انت عارف كله دلوقت محطوط تحت عين الحكومة فماصدقت عرفت أنفد و أجيلك.. بص و ركز معايا بسرعة عشان مفيش وقت.. انت لازم تسيب القاهرة النهاردة من غير تأخير..

هتف زكريا مستنكرا: - هروح فين يا معلم!؟؟.. ده انا جلت هتلاجيلى اى حتة ادارى فيها يومين لحد لما الموال ده يُخلص..
هز المعلم خميس رأسه رافضا: - يا ريت كان ينفع.. انا معرفش حد ثقة هنا استأمنه عليك لكن اسكندرية..
هتف زكريا بتعجب: - اسكنَدرية..!؟..

أكد المعلم خميس: - ايوه.. هتسافر اسكندرية عند ناس معرفة كلمتهم عنك.. و متقلقش كل حاجة مترتبة هناك.. الواد غندور هيظهرلك في اى لحظة انا مرسية على الدور كله هيستناك في الموقف هناك..اول ما يشوفك هيقولك تبع المعلم خميس المرسى..
قبل ان يتساءل زكريا أكد خميس: - ده اسمى الحقيقى و اللى معروف بيه هناك في اسكندرية.. اللول ده شهرتى هنا.. بص انت بس سلم الواد غندور نفسك و متقلقش.. ده تربيتى..

هز زكريا رأسه موافقا ثم أخيرا هتف في امتنان: - انى مش عارف أتشكر لك ازاى يا معلم..!؟.. انى..
هتف المعلم خميس متأثرا: - انت بن حلال يا زكريا و يعلم ربنا انا بعزك زى اخويا و اكتر
خلى بالك على نفسك يا صعيدى.. و اهل بيت الحاج وهيب في عنايا متقلقش..

مد زكريا كفه مودعاً و ابتسامة امتنان ترتسم على شفتيه الا ان المعلم خميس جذبه ليعانقه عناقا حارا رابتاً على كتفه في تشجيع هامساً:- هتهون يا صعيدى.. و هتخلص على خير و هاترجع و نحكى عنها و نضحك..
أكد زكريا متأثرا: - هتهون عشان فيها ناس طيبين زيك يا معلم.. ربنا يبارك لك..

اندفع المعلم خميس مبتعداً في تأثر هاتفاً: - انا اتأخرت قووى.. لازم امشى.. خلى بالك على نفسك و أوعى تتصل بحد هنا.. أوعى يا زكريا.. في حفظ الله..
و لوح مودعاً منصرفا على عجالة و سار زكريا في اتجاه موقف السيارات المتوجهة للإسكندرية.. لكن غصة في حلقه و انقباض بصدره دفعة دفعا لإحدى كبائن الهاتف لتنقر أصابعه رقم يحفظه عن ظهر قلب فقد تكون المرة الأخيرة التي يستمع فيها لصوتها قبل ان يندفع لوجهته و ينقطع عن كل من يعرفهم..
انتظر الرد في وجل لتهتف امه في لهفة: - ولدى.!؟.. زكريااا..

دمعت عيناه مع أزدياد الغصة بحلقه هاتفاً في صوت يحاول السيطرة على نبراته: - كيفك ياما..!؟..
هتفت الام الذى التقطت بحسها و غريزتها التي لا تخطئ خطب ما في نبرات صوت وحيدها: - انا زينة يا ولدى طول ما انت زين و طيب.. ايه فيك يا زكريا.!؟..

حاول الابتسام هاتفاً بعكس ما يعتمل به صدره:- زى الفل يا حاچة.. بس ادعيلى...
همست الام و قلقها في ازدياد: - دعيالك يا زكريا.. ربنا يحفظك و يريح بالك يا رب..
هتف زكريا بزفرة قوية من صدر يحترق: - يااارب..

دوت سرينة عربة الشرطة لتقف امام السراىّ
ليهب عاصم متعجباً: - ايه فيه..!؟.. ايه اللى بيچرى بره..!؟..
اندفع سعيد في عجالة هاتفاً ما ان طالعه عاصم متسائلا: - عاصم بيه..!؟.. الحَكومة بره وعندها اذن بتفتيش السرايا..
هتف عاصم مندفعا لباب السراىّ الخارجي: -ليه..!؟.. ايه چرى..!؟.. تفتيش ليه يا حضرة الظابط.. !؟..

هتف الضابط بلهجة رسمية: - احنا معانا اذن من النيابة بالتفتيش يا عاصم بيه و كمان طلبينك معانا..!؟..
هتف عاصم متعجباً: - انا تحت امركم.. بس لما اعرف ايه فيه الأول يا حضرة الظابط !؟.
نظر الضابط لبعض الأوراق هاتفاً: - المفروض الكلام ده تعرفه لما تيجى معايا يا عاصم بيه..بس انا هقولك.. ابن عمك..
قاطعه عاصم هاتفاً: - لجيتوا سليم..!؟..

هز الضابط رأسه رافضا: - لا يا عاصم بيه.. كلامى على زكريا الهوارى..
هتف عاصم مذهولا: - زكريا..!!.. زكريا واد عمى..!!.. ليه عايزينه.. دِه..
كان دور الضابط ليقاطع عاصم هاتفاً في نفاذ صبر: - عاصم بيه.. !! زكريا بن عمك متهم في جريمة قتل و مطلوب ضبطه و إحضاره و في مصر قالبين عليه الدنيا..

هتف عاصم مصدوما: - جتل..!؟.. زكريا يجتل..!!..لاااه.. اكيد في حاچة غلط يا حضرة الظابط..
هتف الضابط: - و الله ده اللى عندى يا عاصم بيه.. تسمحلنا بتفتيش السرايا و كمان تفتيش بيت زكريا..
تهكم عاصم: - و يعنى فكرك هيكون موچود فيهم يا حضرة الظابط.. اكيد لااه..
اومأ الضابط متفهما: - دى إجراءات و تعليمات بنفذها.. اتفضل ادخل و وسع لنا الطريق عشان نقوم بشغلنا..
زفر عاصم في ضيق: - اتفضل يا حضرة الظابط شوف شغلك.. و انا هبلغ الحريم فوج...

اندفعت العساكر بأمر الضابط في كل صوب و اتجاه تبحث عن طريدتها و توجه عاصم بدوره للدور العلوى للسراىّ ليجمع النساء معا خارج الغرف في احد الأركان بعيدا عن مسار العساكر الذين جابوا السراىّ من شرقها لغربها.. همست زهرة مذعورة:- في ايه يا عاصم.. ايه اللى بيجرى..!؟..
همس عاصم: - بعدين اجولك..!!؟..

حمد الله سرا ان الحاجة فضيلة لم تكن بالسراىّ في تلك اللحظة.. فقد ذهبت كعادتها لزيارة بعض الأقارب..
اندفع لحجرته بعد ان تأكد ان العساكر عادوا للطابق السفلى و وضع عمامته و عباءته السوداء و امسك بعصاه الابنوسية و اندفع للأسفل ليصطحب الضابط الى بيت زكريا..

همست زهرة خلفه في قلق قبل ان يصل للدرج: - طب.. هو خير يا عاصم..!؟؟..
أكد متعجلا: - اه.. خير بإذن الله..
و لكنها ادركت.. ان الامر ابعد ما يكون عن الخير.. و ان هناك حدث جلل اثار قلق عاصم بهذا الشكل..

هتف غندور مرحبا بزكريا: - اتفضل يا زكريا.. بيتك و مطرحك..
دلف زكريا لشقة واسعة قديمة التأسيس كتب على بابها "بانسيون السعادة "..
ادار زكريا ناظريه في المكان لتظهر فجأة من الرواق امرأة فى النص الأول من العقد الخامس هاتفة في ترحيب شديد: - اهلا.. اهلا بريحة الحبايب.. اتفضل يا سى زكريا.. اتفضل.. مش زكريا برضة.!؟

أومأ زكريا برأسه مؤكدا وهو يغض بصرة في تأدب كعادته مرحباً بعد ان عرفه عليها غندور:- اهلا بيكِ يا ست تهانى..
وقفت خلف طاولة الاستقبال و فتحت دفترها العريض هاتفة: - بطاقتك و بيانتك يا سى زكريا.. !؟
هم زكريا بتقديم هويته الشخصية لها الا ان غندور هتف في حنق و هو يجذب هوية زكريا الشخصية من كفه الممدود بها لتهانى:- جرى ايه انت وهى..!؟.. البطاقة دى هاتفضل معايا.. و انت يا تهانى البيانات دى بعدين نتفاهم فيها..

لاكت تهانى علكتها في بطء و هي تنظر لزكريا نظرة شاملة و أخيرا هتفت: - هي الحكاية فيها إن بقى..!؟؟.. طيب و ماله..
وتنهدت مستطردة مغلقة دفترها: - طالما من طرف المعلم خميس يبقى استبينا.. نحطه في عنينا من جوة..
هتف غندور مؤكدا: - الراجل أمانة عندك يا تهانى.. كل طلباته أوامر لحد لما نظبط له اموره..
و توجه لزكريا متحدثا.. و ما تخرجش من هنا الا معايا و بمعرفتى..تمام يا صعيدى.!؟

هز زكريا رأسه موافقا: - تمااام.. بس ده كله بكام..!؟؟.. الحساب يعنى..!؟..
ابتسم غندور هاتفاً و هو يربت على كتف زكريا: -الحساب ادفع مقدم يا زكريا.. المعلم خميس دفعه و قالى ده دين قديم لك عنده و هو بيسدده.. يعنى دى حاجة بينكم مليش فيها..

اومأ زكريا رأسه موافقا و هو يبتسم ممتنا للمعلم خميس الذى أنقذه من مأذق كبير فما لديه لا يكفى بقاءه في مكان كهذا و طعامه لأكثر من ثلاث ليال..
اندفعت تهانى هاتفة في زكريا: - اتفضل يا سى زكريا.. افرجك اوضتك و اهو ترتاح شوية قبل حصة الغدا..

سار زكريا خلفها غاضا بصره على طول الرواق الممتد على جانبيه العديد من الأبواب المغلقة و التي لا يعلم هل هي حجرات فارغة ام يقطنها أناس كل منهم يملك حكاية ما دفعته ليستتر خلف الباب عن اعين البشر.. فتحت تهانى باب احدى الغرف و دخلت تشير بيدها للغرفة في فخر: - احسن أوضة عندى.. هسيبك تستريح و اى حاجة تحتاجها بس قول يا تهانى هتلاقيها عندك..
ابتسم زكريا شاكرا: - ربنا يخليكى يا ست تهانى.. تسلمى..

خرجت تهانى وهى تنظر لزكريا بنظرة متفحصة تتساءل متعجبة " ماذا فعل يا ترى ذاك الرجل الذى لا يكاد يرفع أنظاره عن الأرض حياءً.. !!؟.."
تنهد زكريا بعد رحيل تهانى و تمدد على فراشه يسترجع كل ما حدث و صورة واحدة ترتسم امام ناظريه تجعله يلعن الظروف التي فرقتهما.. بدور.. لكم يحتاجها.. يشتاقها..

فوجودها جواره في حد ذاته يخفف عنه الكثير مما يعانى.. نظرتها اليه تزيح عن كاهله هما لا يطيقه.. و تفرش له بابتسامتها
و نظراتها الصافية طريقا معبدا من الفرح الخالص.. لكم يشتاقها..!!؟..

هتفت بخيتة في هلع: - ايه في يا عاصم يا ولدى..!؟.. الحكومة جاية عندينا ليه..!؟..
طمأنها عاصم: - متجلجيش يا خالة..الحَكومة بتفتش على سليم.. دوول حتى فتشوا السرايا..
هتفت كسبانة مستنكرة: - طب و هو انتوا مالكم و مال سليم.. هتداروه عن الحكومة!!؟.. متچيش.. ده انتوا اللى طلبينه يا عاصم بيه و مُصلحتكم من مُصلحة الحَكومة!؟..

تنهد عاصم و قد أيقن ان محاولته في مداراة الحقيقة عن الخالة بخيتة ستصبح امرا صعبا في وجود كسبانة التي تدقق في كل كبيرة و صغيرة..
أنقذه هتاف احد العساكر للضابط بعد ان تم التفتيش: - ملجيناش حد يا فندم..
اومأ الضابط لعساكره مشيرا لهم بالانصراف و تبعه عاصم في هدوء..

تنهدت بخيتة و هي تشعر ان سمة امر ما غامض يحدث و لا علم لها به و ان ما يجرى لا علاقة له بسليم و هروبه و رغبة الشرطة في الإمساك به.. انقبض صدرها فهتفت في تضرع: - الستر من عِندك يا رب..
بينما اندفعت كسبانة خلف عاصم تتوسّله: - عاصم بيه..!؟.. حضرتك و انا نِعرف ان اللى بيحُصل دِه ملوش دعوة بسليم.. جلى رب يريح جلبك.. سى زكريا بخير..!؟..

ارتفعت نظرات عاصم التي يغضها ارضا و قال في هدوء: - ايووه الموضوع مع زكريا.. زكريا متهم في چريمة جتل في مصر و الحَكومة بتفتش عنيه..
ضربت صدرها بكفها هاتفة: - يا واجعة مربربة.. بس سى زكريا ميعملهاش..
انت تصدج يا عاصم بيه..!؟؟..

هز عاصم رأسه نافيا و أخيرا استأذن منها مسرعا ليلحق بالضابط لاستكمال الإجراءات و همس قبل ان يغادر: - أياكِ الحاچة بخيتة توعى باللى بيحُصل.. انا جلت لك عشان تبجى عارفة و تدارى الحكاية عنيها لحد ما نشوف هاتُخلص على ايه..
هزت رأسها متفهمة وعيونها يحتبس فيهما دموع قهر و لوعة..

و لم يكن يدرك كلاهما ان بخيتة سمعت كل ما دار بينهما من حديث بشأن وحيدها و الان فقط عرفت لما ذاك القلق الذى اعتراها عندما استشعرت الحزن يقطر من صوته يحاول ان يداريه عنها في مكالمته الأخيرة..
تمسكت بالباب مترنحة و هي لا تدرك ما عليها فعله من اجل فلذة كبدها.. و أخيرا هتف صوت الامل بداخلها.. طالما ان الشرطة تبحث عنه فهو لا يزل حرا.. هو بخير.. هو بعيد عن أيديهم..

هي اعلم بولدها.. هي ادرى الناس انه لا يرتكب مثل تلك الجريمة البشعة.. ليس زكريا.. لذا هي تدرك براءته و ان الله سينجيه و يخفيه عن اعينهم حتى يقضى امرا كان مفعولا.. سالت الدموع من عينيها هامسة في تضرع: - احفظه بحفظك ياارب..

مرت ثلاث ليال على زكريا لم يذق فيهم طعما للنوم.. و ما ان يغفل للحظات حتى ينتفض في قوة مصببا عرقا يلتقط أنفاسه بتلاحق يؤكد على عمق الرعب الذى عايشه في كابوسه ذاك الذى لم يفارقه منذ جاء الى هنا..
ندرة النوم تهلكه و ما يهلكه اكثر هو تلك المشاهد التي تتراءى له في نعاسه..

قلقه يتجسد في أمور ترعبه حد اللا معقول.. فتارة يحلم بأمه و هم يجذبوه من أحضانها لحبل المشنقة.. و تارة أخرى يسمع صرخات بدور المستغيثة به و هي تحاول التخلص من ذراعى السمرى القابضتين عليها و رقبته تسيل منها الدماء و يضحك بشكل هستيرى..
هو يعلم ان كل هذا ما هو الا نزغ من شيطان رجيم يريد إحزانه لذلك لا يجد ما يدفعه الا الصلاة..

فيتضوء و يصلى لعل صدره المضطرب يهدأ و قلبه الثائر يستكين و عقله الذى يمور بالافكار يستقر... و ساعتها ينام عدة ساعات قبل ان ينهض من جديد لا يغادر غرفته الا للضرورة القصوى و هي الوضوء و الحمام غير ذلك هو قابع فيها يتناول طعامه بين جدرانها و كأنه حبيس قبل ان يرى للسجن أسوارا..
رفع رأسه للسماء الغائمة الملبدة بالغيوم من خلف زجاج النافذة المطلة بشكل جانبي على البحر، ابتسم عندما تذكر عندما شاهد البحر لأول مرة كيف بدا كالأحمق..

فلقد هتف في ذهول من روعة ما طالعه و هتف برهبة.. سبحان الله..
فأخر ما شاهده في النجع كانت تلك الترع و المصارف القديمة التي يشق منها قنوات لرى الأرض الزراعية.. و هناك النيل و الذى يدعونه البحر في النجع حيث كان يتسلل هاربا مع بعض الأولاد ليتباروا في السباحة في أيام القيظ الشديد.. او لملئ الجرار لأهاليهم في السابق قبل ان تدخل صنابير المياه العذبة لقريتهم الصغيرة..
هتف في تضرع: - يا رب..

و اسند جبينه على الزجاج البارد لعله يهدئ من حرارة أفكاره التي تغلى في رأسه كمرجل.. و قلقه على امه و ما قد يستتبعه معرفتها بما يحدث له.. و شوقه لبدور التي لا يعلم الان كيف حالها.. انه لم يفارقها يوما منذ أراد الله جمعهما على ميثاقه و الزواج بها...
كانت دوما أمنة بين ذراعيه و كان دوما راضيا بين أحضانها الحانية التي عوضته الكثير مما عانى من حرمان و قسوة..

انه يفتقدها بشدة.. يفتقد حضورها الأسر المجهض لأحزانه و الداعم للفرحة و الموشح بالبهجة.. يحتاجها الان.. في تلك اللحظة التي اصبح فيها العالم كله ضده و هي وحدها التي باستطاعتها دعمه لاخر نبضة بصدرها في تلك المعركة.. يحتاجها حد الوجع.. و يعلم انها بحاجته و تأن لبعاده و تصرخ شوقاً لمرأه...هو يعلم بل على يقين انها كذلك..

انه يراها الان بعينى قلبه.. و نور بصيرته..
و هتف في نفسه برغبة قاتلة تمزقه لمرأها.. ليتها هنا...

هتفت نعمة مشفقة: - يا بدور مش كده.. يابنتى كلى حاجة.. الاكل مدخلش جوفك من ليالى..
هزت بدور رأسها رفضا في وهن: - مليش نفس يا نعمة.. جوفى نار قايدة و مش هايرتاح لى بال الا لما اعرف ها يحصل ايه لسى زكريا..

ربتت نعمة على كتفها متفهمة: - و الله حاسة بيكِ بس و الله خير.. اهو المعلم خميس و ابوكِ راحوا يشوفوا مع المحامى ايه اللى هيحصل بعد ما طلع.. اللى اسمه ايه ده..اه التقرير بتاع السكينة و البصمات..
عشان خاطرى كلى عشان لما سى زكريا يرجع بالسلامة يلاقيكى زى الوردة المفتحة مش دبلانة كده..

همت بدور بالكلام الا ان طرقات الباب قاطعتها لتنتفض هي ونعمة من مكانهما تسابقان الريح لفتحه و معرفة الاخبار..
وصلت نعمة في البداية وفتحت الباب في لهفة ليطل منه الحاج وهيب منكس الرأس يسنده المعلم خميس وهو ليس باقل منه وجوما..

هتفت بدور متلهفة بأمل و هي تعدل غطاء رأسها عندما شاهدت المعلم خميس يرافق ابيها: - هاااه.. مالكم.. في ايه طمنونى.. براءة مش كده..!؟.. اصل سى زكريا ميعملهاش.. و الله ما يعملها..
نظرت لابيها و صرخت: - قول يابا.. أتكلم
في ايه.. !؟..

هز الحاج وهيب رأسه حسرة و ضرب فخذاه بكفيه و هتف بوهن و هو يتوجه لغرفته ساحبا قدماه سحبا: - اللهم لا اعتراض.. اللهم لا اعتراض..
توجهت بدور للمعلم خميس: - طب قولى انت يا معلم.. ايه اللى جرى.. هو عشان سى زكريا هرب يعنى..!؟.. طب يرجع بس يسيبوه..
قرر المعلم خميس إنهاء حيرتها التي تكاد تقتلها ليهتف في دفعة واحدة: - لقوا بصمات زكريا على السكين اللى أتقتل بيها سمرى..

مرت لحظات من الصمت القاتل بعد شهقة نعمة المصحوبة بضربة قوية على صدرها..
و لم يقطع ذاك الصمت الذى امتد..الا صوت ارتطام بدور بالأرض ساقطة فاقدة الوعى..

اندفع عاصم لداخل حجرته في عجالة جعلت زهرة تقفز مجفلة و تسأل في قلق: - خير يا عاصم.. في ايه..!؟..
هتف عاصم امرا في ضيق: - حضرى لى الشنطة بسرعة.. انا مسافر دلوجت..
ازداد قلقها لتهتف متسائلة من جديد: - طب خير يا عاصم.. طمنى.. مسافر ليه..!؟.. في حاجة جدت...؟؟..

خرج عاصم و راسه تقطر ماء يجففها في سرعة و يبدأ في تبديل ملابسه: - انا مسافر عشان زكريا.. المحامى اللى بعته يتابع التحجيج بلغنى ان السكين اللى اتجتل بيها الراچل اللى بيتهموا فيه زكريا طلع عليها بصماته..
شهقت زهرة في صدمة هاتفة: - بس زكريا ما يعملهاش يا عاصم..

أكد عاصم: - ايووه.. ميعملهاش.. و انا تايه عن واد عمى.. لو سليم كنت جلت يعملها و يعمل اللى أوعر منيها.. لكن زكريا.. لاااه..
هتفت زهرة و هي تضع له ملابسه في الحقيبة:- يا ساتر يا رب..سيرة سليم ده بتعكننى.. اهو التانى ده كمان هربان.. و لسه متمسكش..
أنجز عاصم ارتداء ملابسه و اخرج سلاحه و بعض من نقود من خزانة الملابس ووضعهم في جيب سترته الداخليه أسفل جلبابه..

و أخيرا وضع عمامته و عباءته هاتفاً: - كان نفسى تاجى معايا.. اهو تزورى الداكتور ناجى.. بس انا مستعچل و أصلا مش هطول
ربتت على كتفه قائلة: - ميهمكش يا عاصم.. انا فعلا مش هاينفع اروح الفترة دى عند بابا..اولا لانه مشغول بتحضير فرح ندى و نبيل
و عشان مسبش خالتى لوحدها.. سافر انت و أرجع بالف سلامة..
قبل جبينها على عجالة و تركها مندفعا للزود عن بن عمه.. الذى يعتبره اقرب من اخ له..

انتفضت تهانى من مجلسها عندما انتبهت لظابط وبعض العساكر يندفعون لداخل البنسيون..
استجمعت رباطة جأشها التي فارقتها للحظات وهتفت بترحيب: - اهلا يا باشا شرفتنا..
هتف بها الضابط بنزق: - هاتى بطاقات النزلاء اللى عندك.. انجزى..و تعالى ورايا
خبطى على اوضهم..

حاولت التلكؤ.. لكن هل هناك من مفر..!؟
هي تعلم ذاك الضابط جيدا.. لن يترك البنسيون حتى يتأكد من هوية كل نزيل و زاد تأكدها و هي تراه يطابق الهويات الشخصية التي سلمته أياها بذاك الدفتر العريض الذى تدون فيه كل ما يخص نزلائها من معلومات و بيانات..

تحركت في آلية تدق الأبواب احدهما تلو الاخر فيخرج النزلاء للإجابة على أسئلة الضابط.. و ما ان مرت بحجرة زكريا حتى
كادت ان تدعِ كذبا انها خالية..
لكن تكبيرة زكريا الواضحة في صلاته لم تدع لها خيارا اخر لتفتحها في بطء و دقات قلبها ترتفع للضعف..

نظر الضابط لذاك الذى يقف بجلبابه الصعيدى
يوليه ظهره راكعا.. اضطر الضابط لينتظر لبضع لحظات حتى ينتهى زكريا من صلاته
و ما ان سلم السلام الأخير إيذانا بذلك حتى انتفض واقفا و قد شعر بوجود اناس غريبة تقف بترقب خلفه..
هتف في تعجب: - خير يا ست تهانى..!!؟..

لم يكن يعلم ان من يقف على يمينها ذاك هو ضابط... فلم يكن يرتدى حلته الرسمية
و الذى سأل زكريا في شك: - اسمك ايه..!؟
هم زكريا بالكلام الا ان قاطعته تهانى هاتفة: - كرم الصعيدى يا باشا.. المعلم كرم عبدالعال الصعيدى.. من أعيان المنيا..
نظر الضابط لزكريا في شك ليهتف في تهانى:- فين بطاقته ده..!؟ و ليه مشفتهاش مع باقى البطايق و لا حتى لقيت اسمه متسجل عندك في الدفتر..!؟..
أسرعت تهانى متصنعة التيه: - العتب على دماغى يا باشا..

و أخرجت من جيب مئزرها احدى الهويات الشخصية ناولتها الضابط في ثقة مستطردة:- المعلم ادهالى اول ما وصل.. اصله وصل في قطر الفجر اللى جاى من الصعيد.. و كان تعبان دخلته اوضته يستريح و انا سُهى عليا يا باشا و دخلت نمت انا كمان.. و نسيت اسجل البيانات..
تطلع الضابط الى البطاقة يقلبها ذات اليمين و ذات الشمال.. و أخيرا أعادها لتهانى و هو يهتف في حنق مندفعا من الحجرة: - طب متنسيش تانى.. و الا هايبقى فيها مشكلة المرة الجاية.. سمعانى..

خرج راحلا و خلفه عساكره لتسقط تهانى على اقرب مقعد منهارة..
خرج غندور من ذاك الرواق الجانبى القصير الذى ينحرف باتجاه المطبخ.. لتنتفض هي من جديد ليطمئنها هاتفاً: - متخافيش..ده انا غندور الرايق اللى يفرفش المضايق..

انفجرت ضاحكة لتعليقه و هي تهتف في راحة:- اه و الله يا غندور.. جيت في وقتك..
ده لولا ما رميت في جيبى بطاقة سى زكريا الجديدة وانا ورا الظابط و هو مش واخد باله
كنا روحنا في داهية و سى زكريا أولنا..
ليتنحنح زكريا قادما من اخر الرواق و ما ان وصل اليهما حتى ألقى السلام لترد تهانى: - اتفضل يا سى زكريا.. و الله ده انت امك داعية لك..
هتف زكريا في تأكيد: - صدجتى يا ست تهانى..

هتف غندور محذرا: - لااا.. من هنا ورايح مفيش زكريا ده.. اللى عايش هنا في اسكندرية اسمه ايه.. كرم عبدالعال الصعيدى
زكريا ده تنسوه لحد لما نشوف المعلم خميس و اخر الاخبار اللى جاية من مصر.. و قضيتك و صلت فين يا سى.. كرم.. !؟؟..
طأطأ زكريا رأسه متنهدا في ضيق: - ربنا يچيب الصالح...

نهضت تهانى تدون بيانات زكريا من بطاقته الجديدة و تعود بعد لحظات لتسلمها له..
تناولها زكريا في هدوء ظاهرى و استأذن ليدخل غرفته..
أغلق عليه بابه و رفع بطاقة الهوية يتطلع اليها في ضيق.. ذاك الوجه وجهه.. لكنه ليس هو.. الاسم ليس اسمه و الهوية ليست هويته.. هتف حانقاً في نفسه و قد ود لو يصرخ بها من اعلى قمة: - مكتوب عليك التوهة عن نفسك و عن اسمك يا زكريا..

الاولة زرزور.. و معرفلنكش أب يحن عليك و يديك اسمه.. و التانية هربان و ما جادر تنطق بلسانك اسمك.. ميتا ترجع يا زكريا
.. لزكريا.. ميتا..!؟؟..
قذف ببطاقة هويته الجديدة بعيدا في غضب هادر.. ووضع رأسه التي تمور بين كفيه.

و هو يجلس على طرف فراشه محاولا ان يهدأ.. لكن هيهات.. وكيف له ذلك بعد كل ما يحدث..!؟.. و كيف له ان يهدأ و دواءه ليس في متناول يده.. دواءه الذى يسكن ألامه و لو كانت بحجم الكون.. دواءه المدعو.. بدور..

خرج الطبيب من الغرفة في هدوء يخط بقلمه أسماء بعض الادوية و هتف عندما طالعه المعلم خميس و الحاج وهيب الذى هتف في لهفة: - خير يا دكتور.. طمنا !؟..
هز الطبيب رأسه في ألية وهو يرفعها عن دفتره الطبي هاتفاً:- خير.. متقلقوش.. شوية ضعف عام و واضح انها اتعرضت لضغط شديد او اخبار سيئة اثرت عليها..

وجذب ورقة وصفته الطبية من دفتره منتزعها و قدمها للمعلم خميس الأقرب له متسائلا: - انا مش قصدى التدخل.. بس مين زكريا اللى المريضة قاعدة تكرر اسمه ده!؟..
صمت الحاج وهيب و لم يعقب الا بهزة رأس متحسرة بينما أجاب المعلم خميس: - ده جوزها يا دكتور بس مسافر..
ابتسم الطبيب: - واضح انها متعلقة بيه قووى.. ربنا يجمعهم على خير..

هتف الحاج وهيب داعيا: - ياارب..
بينما اصطحب المعلم خميس الطبيب للخارج
خرجت نعمة من غرفة بدور هاتفة في زوجها متسائلة: - هنسيب البت كِده يا حاج وهيب !؟.
البت هتروح مننا..

هتف الحاج وهيب بصوت يملؤه العجز: - و انا بأيدى ايه بس.. بأيدى ايه..!؟..
اشفقت عليه نعمة فربتت على كتفه في حنو:- ربنا يحلها من عنده يا حاج.. قول يا رب..

هتف الحاج وهيب من أعماق قلبه الذى يئن وجعا على حال ابنته و زوجها بعد ان كان يعتقد ان الدنيا أخيرا ابتسمت لها و انها تعوضها ذاك الظلم و القهر الذى عاشته مع زوجها الأول الذى أذاقها العذاب ألوان.. لكن يبدو ان ابنته مكتوب عليها ذاك العذاب حتى ولو بشكل مختلف.. فصرخ متضرعا: - يااارب

دقات على باب شقة الحاج وهيب لتندفع نعمة تفتح الباب و هي تعدل من غطاء رأسها بعد ان انفرج الباب قليلا عن رجل غريب يولى لها ظهره.. لا تعرفه.. فهو ليس من اهل الحارة و لم تراه من قبل
لكن حدسها اخبرها ان له علاقة ما بزكريا فملابسه تدل على اصله الصعيدى هتفت في
وجل: - ايوه.. مين..!؟..

هتف عاصم وهو يستدير نصف استدارة بجسده: - الحاچ وهيب موچود..!؟؟..
أكدت نعمة: - ايوه موجود.. اتفضل..
أغلقت الباب.. لتعاود فتح باب اخر يُدخله على الصالون..
همهم مستئذنا و دخل.. خرجت هي في عجالة تدعو زوجها لمقابلة الغريب..

و ما ان تأكدت ان زوجها دخل له بالفعل حتى اندفعت نحو بدور هاتفة: - ألحقى يا بدور.. شكل اهل جوزك هلوا بره بعد ما جالهم خبر!؟..
هتفت بدور بنبرة تائهة:- اهل جوزى مين..!؟
هزت نعمة كتفيها: - مش عارفة.. بس واحد كِده ميتخيرش عن سى زكريا.. طول بعرض
و اخلاق.. بس عليه هيبة ايه.. الله اكبر..

همت بدور بالكلام الا ان دخول الحاج وهيب
اسكتها ليهمس هو مؤكدا صدق حدس نعمة: - قومى يا بدور.. بن عم جوزك بره و عايزك..
نهضت و ارتدت عباءتها و حجابها و دخلت في هدوء ملقية التحية.. نهض عاصم ما ان طالعه محياها ليهتف: - اهلا بيكِ يا ست بدور.. متجلجيش على زكريا.. انا مجوم له محامى كَبيير.. و ان شاء الله خير..

و اخرج عاصم من جيب جلبابه النقود التي كانت بحوذته هاتفاً و هو يضعهم على الطاولة:- اتفضلى دوول..
نظرت بدور الى النقود نظرات فارغة بينما هتف الحاج وهيب معترضاً: - ايه ده يا عاصم بيه..!؟.. بدور في بيت ابوها و مش محتاجة اى..

قاطعه عاصم مؤكدا: - عارف يا حاچ وهيب انها في بيت ابوها بيت الكرم و الخير كله و انها مش محتاچة حاچة طول ما هي معاك.. بس دِه حجها علينا و حچ واد عمى اننا نصون مرته في غيبته.. و اقسم بالله يا حاچ الفلوس دى من ماله.. يعنى حجها.. و لو هي حابة تاجى معاى البلد تستنى رجعته.. تاجى و نشلوها فوج روسنا معززة مكرمة.. و لو عايزة تجعد معاك هنا.. برضك تحت امرها.

هتف الحاج وهيب في راحة: - عداك العيب يا عاصم بيه.. بن أصول صحيح..
هتف عاصم: - عشت يا حاچ..
ثم اخرج ورقة من حافظته مدها للحاج وهيب
مؤكدا: - دى نمر تليفوناتى كلها.. لو احتجتم اى حاجة او جد اى خبر في موضوع واد عمى.. هتلاجينى هنا عِندك في ساعتها..
و أخيرا نهض عاصم للمغادرة هاتفاً: - يا دوب ألحج انا طريجى..

هتف الحاج وهيب: - ما لسه بدرى يا عاصم بيه.. ملحقتش تقعد و لا عملنا معاك الواجب!؟..
هتف عاصم و هو يتجه للدرج هابطا: - معلش مرة تانية.. و اى حاچة انى موجود كنى زكريا بالظبط..
هز الحاج وهيب راسه موافقا: - شرفتنا يا عاصم بيه..
هتف عاصم و قد وصل لاخر درجات السلم:- الشرف لينا يا راچل يا طيب.. سلام عليكم..

عاد الحاج وهيب لشقته و ما ان طالعته نعمة حتى هتفت في فخر: - بجد نسب يشرف..ولاد أصول صحيح.. واحد غيره كان قال وانا مالى..لكن ده جه و سأل و اطمن عليها
كمان..

همست بدور في نبرة ملؤها حزن العالم: - قلت لكم ان سى زكريا بن ناس و اصل و ميعملش العملة السودة اللى تهمينه بيها دى..
ربنا يفك ضيفتك يا سى زكريا..
اندفعت نعمة تحتضنها في جذع بعد ان انفجرت بدور في نوبة من البكاء الهيستيري
على زوجها و قرة عينها الذى غاب عن عينيها و تتمنى لو تقايض سنين العمر مقابل التطلع الى محياه من جديد..

هتف زكريا في غندور:- غندور..!؟.. عايز اشتغل..
هتف غندور:- تشتغل..!؟.. استنى بس نشوف حالك هترسى على ايه..
هتف زكريا حانقاً: - لااه.. مصبرش.. انا مش متعود على الخانجة دى.. و كمان كِده
كَتير.. تجلت على المعلم خميس.. جاعد بلا شغلة و لا مشغلة غير الاكل و النومة.. انا هنزل اشتغل و لو حُصل ايه..
هتف غندور:- طب بس اهدى يا عم الصعيدى.. و اللى انت عاوزه هعملهولك..

ادينى بس يومين كده ادور لك على شغلانة
تمشى بيها حالك.. لحد ما نشوف المعلم خميس هيقول ايه..
هتف زكريا ممتنا: - تسلم يا غندور.. انا لو مشتغلتش هتچنن و انا جاعد لحالى طول النهار و معرفش الحالة ايه في مصر و لا ايه اللى بيحُصل.. و الاتصالات المعلم خميس مانعها و لولا ان في حد من طرفك بينزل مصر كل أسبوع مكناش عرفنا ايه اللى بيچرى هناك.. ربنا يعديها على خير..

ربت غندور على كتفه: - هتخلص على خير يا صاحبى.. متقلقش.. كل تأخيرة و فيها خيرة و اهو البطاقة الجديدة اللى عملناها هاتفرق معاك كتير.. و هتسهل لنا أمور ياما..
نهض غندور يتأهب للرحيل هاتفاً: - انا همشى دلوقتى و هغيب لى يومين كده و لو في جديد وصلنى هتلاقينى عندك..
و انت لو عايز تنزل اهو تغير جو شوية..

انزل.. بس بطاقتك معاك و متبعدش عن هنا.. استبينا (اتفقنا)..
هتف زكريا في راحة: - استبينا..و متجلجش
لو نزلت مش هبعد.. هروح فين يعنى.. اخرتى الجعدة على البحر..
اتسعت ابتسامة غندور هاتفاً: - عجبك البحر يا صعيدى.. طبعا معندكوش زيه في بلدكم..

هتف زكريا مازحاً ومتصنعا الغضب من تلميح غندور الذى اعتقد انه يذكره بردة فعله الأولى عندما رأى البحر..رفع كفه المضمومة امام وجهه ملوحا بها:- اه يا خفيف معِندناش.. بس عِندينا حاجة تانية تحب تجربها..!!؟..
اندفع غندور خارجا يهتف بنبرة مازحة: - و على ايه يا بلدينا..الطيب احسن..
ابتسم زكريا و كانت المرة الأولى التي يبتسم فيها منذ وطأت قدماه ارض الإسكندرية..

خرج عاصم من عند الحاج وهيب يشعر ببعض الراحة فهو على الأقل قابل اهل بيت زكريا و اطمئن انهم بخير و ترك لهم ما يحفظهم من شر الحاجة.. توقف عند قهوة المعلم خميس و جلس يتمنى كوب من الشاي يخفف من ألم رأسه التي تمور بالافكار منذ وطأت قدماه القاهرة و خاصة بعد مقابلة المحام الذى و للأسف أكد على ضعف موقف زكريا بالقضية خاصة بعد ظهور الدليل الأخير الخاص ببصمات زكريا على أداة الجريمة..

تنهد في ضيق وهو يصفق بكفيه مستدعيا صبى المقهى لجلب الشاي فاستدعى نداءه المعلم خميس الذى نهض مستفسراً عن ذاك الصعيدى الغريب الذى يجلس على احدى طاولات مقهاه النائية قليلا عن مرأه..
تقدم في حذر هاتفاً في تساؤل: - مرحب يا بلدينا.. الأخ غريب مش من هنا..!؟..
أكد عاصم: - اه.. من الصعيد..

مد المعلم خميس كفه لتحية عاصم هاتفاً: - احسن ناس.. و منين في الصعيد..!؟..
أكد عاصم: - من جنا (قنا)..
برقت عينا المعلم خميس ليهتف معرفا نفسه: - اهلا بأهل الصعيد و ناسه.. محسوبك المعلم خميس اللول صاحب القهوة..
ارتشف عاصم بعضا من كوبه رشفة واحدة و هو يهتف: -مرحب يا معلم.. وانا عاصم الهوارى..

تأكد الان لخميس ان من يجالسه الان هو احد أقارب زكريا فهتف متحسرا: - و الله كان في واحد في الحارة هنا اسمه زكريا الهوارى بس ايه راجل مجدع بصحيح..
هتف عاصم في دهشة: - انت تِعرفه..!!..
هتف خميس: - و مين ميعرفهوش.. كان راجل حقانى و مداين الناس كلها بأخلاقه..ربنا يمسيه بالخير و يرده سالم..

همس عاصم لخميس: - انت تِعرف طريجه يا معلم..!؟..
هتف خميس متعجباً: - انا..!؟.. و انا هعرف منين..!؟.. اللى اعرفه انه هربان و طالما ممسكتهوش الحكومة يبقى خير..
طلب عاصم قلم وورقة و كتب عليهم ارقام تليفوناته و قدمها للمعلم خميس هاتفاً: - دى ارقامى يا معلم خميس لو عرفت او سمعت حاچة عن زكريا يا ريت تبلغنى..

أكد المعلم خميس بصوت عال الغرض منه إسماع بعض العيون التي ترسلها الشرطة للتنصت و الاتيان بالاخبار عن اى امر يجد:- طبعا.. اكيد يا عاصم بيه... اى حاجة جديدة هتوصلنى هبلغك طوالى..
نهض عاصم راحلا و هو يشعر بعجز لم يشعر به من قبل.. عجز عن مساعدة بن عمه الذى يكن له مشاعر اخوة صادقة..

مرت عدة أشهر منذ عمل زكريا في الميناء بناء على توصية غندور و اخذ ينقل بعض البضائع الخفيفة هنا وهناك على تلك العربة الحديدية ذات العجلات و التي كان يدفعها
محملة بما كانت تجود به بعض المراكب او السفن.. ليذهب بها لاصحابها..

جاءته الاخبار من القاهرة وعلم بان بصماته كانت على سكين طايع وسيلة مقتل السمرى
كانت ليال قاسية تلك التي مضاها بعد معرفته و قد أيقن ان التهمة أصبحت ملتصقة به كالغراء و انه بهذا الشكل اصبح مطارد بشكل فعلى.. و انه سيُصبِح كرم و سيظل كرم..

و عليه ان ينسى زكريا و اسمه و سيرته و كل ما يتعلق به... لكن بعد عدة أيام من اليأس و الأحباط عاد له الامل من جديد في رحمة ربه و عفوه.. و تيقن ان الفرج قريب
طال او قصر الوقت.. فالفرج قريب..

كان يومه ينتهى مع اخر طلبية يوصلها و يعود لبنسيون تهانى يتناول طعامه و يعود من جديد لينزل عابرا الطريق ليتخذ مجلسه امام البحر
يحدثه بالساعات و يرى وجه بدور و ابتسامتها التي يفتقدها حد اللانهاية بين أمواجه
ووجها الصبوح يلوح له عبر الأفق..
ثم يعود ليطرح نفسه على فراشه و يروح في سبات عميق..

و اليوم لم يكن استثناءً.. فها هو يجلس على الشاطئ الرملى يولى ظهره للعالم و يتطلع لعالمه الذى ينسجه بين طيات البحر و أمواجه الثائرة تارة و الوديعة تارة أخرى.. انتفض عندما تناهى لمسامعه تلك الهمهمات الخائفة و صوت الأنين الذى يصله من احد الجوانب..

نهض في اضطراب ينفض جلبابه و يتطلع حوله في ترقب و أخيرا رأها.. تقف مذعورة تضع كفاها على اذنيها في هلع و تنتفض في رعب.. لمح على بعد خطوات منها ثلاث شباب اندفعوا هاربين و زادوا من سرعة خطواتهم حتى أضحت عدواً عندما ادركوا ان زكريا يقترب للذود عن الفتاة التي كانوا يحاولون مضايقتها..

اقترب زكريا من الفتاة المذعورة في إشفاق وهتف عاليا حتى تسمعه لأنها كانت تصم آذانها بكفيها عن اى كائن و كذلك بسبب صوت الأمواج العال في تلك اللحظة: - انتِ كويسة..!؟.. حد من الشباب دوول ضايجك.!؟...
لم ترد الفتاة و كأنها لم تسمعه و لا تراه من الأساس بل ظلت على انتفاضتها و ذعرها و آذانها التي تصمها بكفيها..

تلفت زكريا حوله من جديد.. فكر في الاستعانة باحدى النساء لعلها تفهم ما يحدث مع تلك الفتاة و التي لا يطاوعه قلبه لتركها بتلك الحالة..
عاد ليهتف من جديد بالقرب منها: - طب جولى بيتك فين وانا اوصلك لو خايفة..!؟؟..
دقائق مرت و الفتاة على حالها و أخيرا بدأت ارتجافاتها تهدأ و ترفع كفيها عن مسامعها و ترفع رأسها رويدا.. رويدا..
لتلقى بنظرات دامعة لوجه زكريا القلق..

تنهد زكريا في راحة.. و هتف عارضا عليها:- تحبى اوصلك..!!؟.. لو لساتك خايفة الشباب دى يرجعوا تانى..
هزت رأسها رافضة و اشارت لسيارة كانت تقبع بالقرب..
غادرت في هدوء.. و ظل زكريا يتابعها من حين لاخر بعد ان عاد لموضعه الأول وما ان تأكد انها ركبت سيارتها و رحلت..
حتى عاد من جديد لعالمه بين الأمواج ووجه بدور الذى يطالعه مبتسما ينير الأفق الحالك الظلمة
في تلك اللحظة..

تساءلت نعمة في حزن: - و بعدين يا معلم خميس.. !؟؟.. قدمت له الشاي و هو ينتظر
الحاج وهيب في الصالون ليتباحثوا فيما يجب فعله بعد ان تم الحكم على زكريا غيابيا بالسجن المؤبد لخمسة و عشرين عاما..
استطردت وهى تجلس متحسرة تعدل حجابها على رأسها: - هنسيب بدور كده..!؟؟.. ده من ساعة ما عرفت و هي مبتنطقش.. دى بتموت بالراحة..و ابوها الغلبان مش عارف يعمل لها ايه..حتى هو صحته اتاخرت من قهرته عليها..

تنهد المعلم خميس دون ان يعقب و تناول رشفة من كوب الشاي و أخيرا هتف في حماسة لفكرة مجنونة راودته: - انتِ منين يا يا ست نعمة..!؟؟... مش من طنطا برضة..!!؟...
أكدت نعمة بإيماءة من رأسها: - اه يا خويا
من طنطا.. ليه..؟؟.
هتف المعلم خميس باسما: - مدد يا سيد يا بدوى..هو مش مولد السيد البدوى قرب !؟..

أكدت من جديد في تعجب: - اه يا معلم.. ليه!؟؟..نفسك في شوية حُمُّص و مشبك من هناك..!!؟..
اتسعت ابتسامته: - اه يا ريت.. و انتِ اللى هتجبيهملى بنفسك..
هتفت في دهشة: - انا..!؟.. ده انا بقالى زمن مرحتش طنطا و لا زرت اخواتى..
أكد المعلم خميس: - يبقى واجب تروحى تزوريهم قريب.. قريب قووى..

تعجبت مما يقول و همت بالاستفسار الا ان دخول المعلم وهيب قطع عليها استرسالها و نهضت مستئذنة لتتركهما و تتوجه لمصاحبة بدور الذى ما عاد يؤنسها الا جلوسها بالقرب من تلك النافذة المطلة على مدخل الحارة يحدوها الامل بظهور زكريا حتى ولو حلما و في أحضانها يقبع ذاك الجلباب الذى تركه زكريا خلفه محمل برائحته التي تحييها و كانت السبب الوحيد في بقاء روحها منتشية مليئة بأمل اللقاء الذى تنتظره و لم تمل من الانتظار..

دخل عاصم السراىّ في وجوم لم يكن من عادته الا اذا كان هناك ما يسوء.. انقبض قلب زهرة لمرأه بهذا الشكل حتى الحاجة فضيلة
استشعرت ان وراء تجهم ولدها خبر قاصم للظهر.. لم تجرؤ زهرة على سؤاله و هو يجلس متنهدا في ضيق بينما هتفت الحاجة فضيلة من مجلسها المفضل في صحن السراىّ: - خير يا عاصم.. ايه فيه..!؟..

وضع عاصم راسه بين كفيه زافرا في ضيق و أخيرا هتف و هو يمرر أصابعه بشكل مضطرب بين خصلات شعره: - زكريا.. أتحكم في جضيته النهاردة.. تأبيدة يا حاچة..
شهقات الصدمة ارتفعت من صدر كل من زهرة و الحاجة فضيلة ليستطرد عاصم في غضب مكتوم كازا على آسنانه: - أجول لامه ايه..!؟.. اجولها ولدك راح.. مكنش بكفاية التوهة اللى كانت مكتوبة عليه جَبل سابج عشان دلوجت تبجى توهة إچبارى.. !!؟..

هتفت الحاجة فضيلة في إشفاق: - حچة يا عاصم ده أمه تروح فيها.. دى عايشة بس عشان توعاله راچع لداره..
هتف عاصم متحسرا ضاربا كفت بكف: - ليه بس كِده يا زكريا.. ليه يا واد عمى.. !؟؟.. ما كنت جاعد وسطينا و جلنا بلاها الروحة و البعاد.. أدى اللى كسبناه.. روحة بلا رچعة.

ربتت زهرة على كتف عاصم الذى كان يستشيط غضبا يكاد يحرق كل من يقترب منه لتهمس في خوف عليه: - اهدى يا عاصم.. ربنا مش هيسيبه.. ربك عادل.. و اكيد مسير الحقيقة تبان و عن قريب باذن الله..
هتف عاصم زافرا في محاولة منه لتهدأة نفسه: - و نعمة بالله.. صدجتى.. ربنا جادر ينجيه من الهم دِه.. و يرحم امه اللى ملهاش غيره..

جاءت سندس في تلك اللحظة تجرى مندفعة لاحضان ابيها ليتلقف أياها بين ذراعيه مقبلاً وجنتيها الشهيتان في محبة همست زهرة في دلال بالقرب من مسامعه محاولة إخراجه من حزنه: - على فكرة.. انا كده هغير.. و غيرة زهرة وحشة..
همس عاصم محاولا الابتسام لمجاراتها: - اللى تأمر بيه زهرة كله ماااشى..
همست من جديد مشاغبة: - البوسة لسندس بعشرة لام سندس..

رد مشاكساً: - عشرة بس.. طب لاحجى انتِ لو جدعة..
كادت تنفجر ضاحكة لولا انها انتبهت لوجود خالتها فكتمت ضحكاتها و هي تنظر اليه في محبة و قد شعرت بالرضا لانها استطاعت و لو قليلا إخراجه من تلك الحالة التي كانت تتلبسه بسبب زكريا...

دخل زكريا بنسيون تهانى كعادته كل ليلة قبيل العشاء بقليل لتفاجئه تهانى هاتفة: - سى كرم..فى ورقة سبهالك غندور.. جه بعد ما انت نزلت بشوية و قالى اديهالك..
اختطف زكريا الورقة من يدها مندفعا الى حجرته ليفضها في لهفة فهو يعلم ان بها اخبار جلسة النطق بالحكم في قضيته..
جرت عيناه على السطور و من شدة توتره أعاد قراءتها عدة مرات حتى استوعب أخيرا ما كان بها من أخبار زادت من همه..

ذهب الامل الأخير في النجاة بغير رجعة..
أصبح التيه إجباريا.. و الوجع إجباريا..
و العذاب الذى يخالطه اعتياديا كالماء و الهواء..
طبق الورقة بغضب في كفه و اعتصرها كما يعتصر الألم قلبه..و ألقاها بطول ذراعه و هو يسقط على ركبتيه في يأس..

وضع رأسه بين كفيه.. و لم يستطع ان ينطق لم تكن هناك كلمات تعبر عما يجول بصدره و يرتع بقلبه و يتأكل فكره من ألام و عذابات..و فجأة وجد نفسه بلا وعى منه يردد دعاء كان دوما ما يردده عندما كانت تضيق به نفسه و لا يجد ملجأ الا الى الله.. دعاء ردده النبى عليه الصلاة و السلام يوم خروجه من الطائف مخذولا من أهلها.." اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟

إلى بعيدٍ يتجهّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك".
ما ان انتهى من دعائه حتى سالت دموعه انهارا..

وفي خصم تلك المشاعر التي احتلته لم يدرك ان باب غرفته قد دق مرة و لم يسمعه لينفرج الان قليلا و يدخل احدهم للغرفة ثم يُغلق من جديد..سمع همسا مرتجفا يهتف بأسمه فرفع رأسه يتطلع أمامه في تعجب و أنتفض عندما لامس كتفه كفا وُضعت عليه هاتفة بأسمه من جديد في نبرة اكثر ارتعاشاً.. استدار ليواجهها و قد فغر فاه و جحظت عيناه لمرأها و قد غطى الدمع وجنتيها..

همست من جديد شاهقة: - سى زكريا.. انا هنا.. انا بدور..
و انحنت تجلس قبالته و تمد كفيها تحتضن وجهه بملامحه المشدوهة.. متطلعة الى تفاصيل ذاك الوجه التي كانت تظن انها ستموت شوقاً اليها..
استفاق أخيرا من صدمته على لمساتها الحانية ليجذبها شاهقا الى احضانه يعتصرها بين ذراعيه..هامساً بأسمها في شوق و مرددا أياه في تكرار محموم كأنه لا يصدق انها هاهنا..

أبعدها قليلا عن احضانه ليتفحص ملامحها التي أفتقدها حد الجنون.. يستعيد من جديد روعة تلك الملامح التي أورثته السهد ليال طويلة.. و رافقته دوما في جولاته على الشاطئ.. و عاتبته بتكشيرة طفولية لعدم اهتمامه بصحته في غيابها و واسته دائما و ابدا في حزنه و همه..
لكم يعشق تلك المرأة و روحها التي تسكنه كروحه..

همست تخرجه من شروده فيها: - متزعلش يا سى زكريا.. ربك موجود و قادر يظهر الحق.. بعد يوم.. بعد سنة.. المهم انك بخير ومعايا..
هتف زكريا و هو يتطلع لعمق عينيها:- المهم انكِ مصدجة يا بدور انى برئ..!؟؟..

هتفت في تأكيد: - طبعا يا سى زكريا..ده لو الدنيا كلها قالت انك تعملها انا مصدقش..ازاى أصدقهم.. و اكدب روحى..!؟.. اكدب عنايا..!؟..و اصدق ان الراجل اللى عاشرته و مشفتوش فوت فرض ربه و خلانى انا مفتهوش ممكن يعمل كده.. اكدب الراجل اللى عينه مكنتش بتترفع عن الأرض و اللى مشفتش منه غيرالخير.. و اللى عينى مشفتش في الرجالة قبله و لا بعده.. الراجل اللى قلبى اتخطف اول ما شفته..

اكدب ده كله.. واصدق الناس و كلامها!؟..
تطلع اليها في عشق و احتضن وجهها بين كفيه و قبل جبينها في شوق طاغ و أخيرا جذبها من جديد لأحضانه متنهدا في راحة فما عاد الان شيئا يعنيه من امر الدنيا.. و قد جاءت اليه.. من تغنيه عن الدنيا و من فيها..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة