قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل السادس عشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل السادس عشر

خرج عاصم من غرفة مكتبه مندفعا ينادى سعيد الذى أتى على عجالة كعادته ليهتف أمرا: - أرمح اجمع الهوارية كلهم في المُندرة.. و جولهم محدش يتأخر..حالاااا..
اندفع سعيد ينفذ الامر و عاد عاصم ادراجه لداخل السراىّ لتتلقفه الحاجة فضيلة من موضعها هاتفة في قلق: - ايه في يا عاصم..!؟.. خير يا ولدى... چامع الهوارية كلهم ليه..!؟؟..

هتف عاصم في شرود: - مش خير يا حاچة.. مش خير أبدا..
انتفضت أمه هاتفة: - الستر من عِندك يا رب.. ايه في..!؟..
استطرد عاصم: - سليم يا حاچة.. سليم واد عمى.. اضرب بالنار النهاردة..
شهقت الحاجة فضيلة وهى تربت على صدرها في ذعر.. ليستطرد عاصم: - الحكومة عرفت مكانه و لما راحوا يجبضوا عليه حاول يُهرب..فضربوا عليه نار.. ووجع جتيل في ساعتها..

بكت الحاجة فضيلة رغما عنها هاتفة: - ليه كِده يا سليم يا ولدى.. يا خسارة شبابك..
تنهد عاصم مندفعا لاعلى الدرج هاتفا: - انا رايح أجابل الهوارية اعرفهم بالخبر.. عشان ألحج اجيب الچثمان و ندفنوه..
و صعد للأعلى تاركا للحاجة فضيلة محاولة مواساة سمية اخته.. و اخبار الحاجة بخيتة.. حتى يصل الامر لزكريا عند اتصاله.. فهو على ايه حال.. أخيه..

ظلا على حالهما لأسبوع كامل يعودا للفيلا حتى يطمئنا على حازم و يبدلان ملابسهما و يتناولا طعامهما و يعودا ادراجهما للمشفى من جديد..
حتى تحسنت صحة الحاج مندور بشكل ملحوظ فاق التوقعات لكن للأسف تلك الضربة القوية على رأسه جعلت من الصعب عليه السير على قدميه من جديد فقد اثرت بشكل كبير و خاصة في مثل سنه على أعصاب قدميه و التحكم فيهما..

و بالرغم من حزن الحاج مندور على حاله و ما آل اليه الا انه شكر الله كثيرا انه لايزل في عمره البقية حتى يسعد برؤية ابنته عروس سعيدة..
كان لابد من وضع بعض التغييرات في الفيلا من اجل استقبال الحاج مندور بحالته الجديدة فعمل زكريا على تجهيز غرفة له في الطابق السفلى لا يحتاج فيها لاستخدام الدرج و ملحق بها كل ما يحتاج اليه..

اما هو وحازم فكان بقائهما و بيات لياليهما في جناح الضيوف مثلما كانا من قبل.. لا شئ تغير.. حتى ان زكريا لم يخبر حازم حتى تلك اللحظة بخبر زواجه بزينة..
عاد الحاج مندور للفيلا مدفوعا على كرسى مدولب و مع ذلك ترتسم ابتسامة رضا على شفتيه مما دفع رزقة الخادمة لإطلاق زغرودة فرحة برجوع رب عملها و سيدها هتف الحاج مندور في سعادة برجوعه لبيته من جديد: - تسلمى يا رزقة.. بس حوشى زغاريدك دى ليوم فرح زكريا و زينة..

بهتت الخادمة التي بالطبع لم يكن لها علم بأمر كتب الكتاب و لا علم لحازم الذى لم يستوعب الامر جيدا نظرا لصغر سنه..
هتف الحاج مندور عندما وجد الصدمة مرسومة على الوجوه و خاصة من أصحاب الشأن.. زكريا و زينة و الذى أمتقع وجه كل منهما بلا سبب واضح..لذا هتف الحاج مندور متسائلاً: - هو محدش منكم جاب سيرة ان كتب كتابكم كان في المستشفى..!؟..

هتفت رزقة معاتبة:- و لا حصل يا حاج مندور..!؟..ثم استطردت عندما لاحظت نظرات زكريا الغاضبة: - بس تلاقيهم كانوا مستنيين خروجك بالسلامة عشان تبقى الفرحة فرحتين..
هتف زكريا: - اه.. صُح.. هو كِده يا حاچ.. المهم انت ترتاح دلوجت و متشغلش بالك بأى حاچة..

هتف الحاج مندور: - خلاص يا زكريا.. انا أصلا شلت ايدى من كل حاجة بعد اللى حصل لى.. البركة فيك انت يا بنى..
و ربت على ظاهر كف زكريا التي كانت ممسكة بمقبضى دفع المقعد المدولب..
هتف زكريا: - متجوليش كِده يا حاچ.. البركة كلها فيك..

هتف مندور مغيرا الحديث: - طب بصى يا زينة.. و انت يا زكريا.. حددوا ميعاد الفرح.. و انا اعمل احلى فرح في اسكندرية كلها..
هتف زكريا مبهوتا وهو ينظر لزينة التي تلبكت و توترت مكانها: -.. فرح..!؟..
هتف مندور: - اه.. اكيد فرح.. هو انا هفرح ببنتى الوحيدة و أشوفها بفستانها الأبيض كام مرة..!؟..

كانت تقف زينة متسمرة في مكانها لا تحرك ساكنا.. و لكن قرأ زكريا اضطراب عيونها مع كلمات ابيها الاندفاعية و فرحته بعودته لبيته.. لكن مع كلماته الأخيرة بخصوص الفرح و الثوب الأبيض كان احتمالها قد نفذ بالفعل لتشهق بقوة هاربة للأعلى تحتمى بجدران غرفتها..
هتف مندور مبهوتا يهمس لزكريا: - هو انا قلت حاجة غلط..!؟..ده انا عايز افرحها ذى كل البنات..

همس زكريا رابتاً على كتفه مطمئناً أياه: -عارف يا حاچ.. بس معلوم هي اكيد بتضايچ من السيرة دى.. و فاكرة ان جوازنا غصب..
همس مندور متعجباً: - قدرت تفهم سكوتها و تفسره بسرعة كده و صح قووى كده يا زكريا..!؟؟..
همس زكريا بشجن: - اللى جعد سنين مينطجش خوف.. هايفهم اللى مش جادر ينطج خوف برضك يا حاچ مندور..
استفسر مندور في دهشة: - مش فاهم قصدك ايه يا زكريا..!؟..

ابتسم زكريا و هو يدفع كرسى مندور المدولب أمامه حتى غرفته المعدة خصيصا لاجله: - دِه موال طووويل يا حاچ ..المهم دلوجت تستريح.. عشان دى أوامر الداكتور..و هانعمل الفرح اللى انت عاوزه كمان.. ايه رايك..!؟..
هلل مندور في فرحة: - تسلم يا زكريا..

وصمت فجأة..ليستفسر رافعا كفه لاعلى: - طب و اللى فوق دى يا زكريا.. مش عايزاضايقها.. بس دى من ضمن تعليمات الدكتور..و انا عايز اصالحها بس مبقتش اقدر اطلع لها زى الأول..
هتف زكريا بلهجة مرحة: - طالما الداكتور جال يبجى لازماً ننفذ.. سيب دى عليا انى متجلجش يا حاچ..

خرج زكريا من عند الحاج مندور من يراه يعتقد انه يخطط لكل شيء و يعرف كيف يسير الأمور لكن الحقيقة انه ما قال ذلك الا لبث الطمأنينة في قلب الرجل المريض..
و هاهو يقف مكتوف الايدى ليس في جعبته اى أفكار لتلك القابعة بالأعلى و التي تحتاج لمعاملة خاصة..لا يعلم من أين يأتي بها !!.

صعد للأعلى حيث غرفتها و طرق بابها و لازال رأسه خاوية من الأفكار.. فتحت الباب بعد الطرقة الثانية و عيونها تغطيها الدموع.. يعرف انها تعشق ابيها لذا شعر ان هذا هو المدخل..

تنحنح في توتر هامساً و هو يحاول ان يرفع نظراته في وجهها حتى تتمكن من قراءة شفتيه: - انا عايز اجولك حاچة مهمة.. الحاچ مندور نفسه يفرح بيكِ و بعد تعبه بالخصوص.. انا عارف انك مش عاوزة فرح ولا فستان.. انت مش محتاچة الحاچات دى عشان تفرحى.. بس هو محتاچهم.. هاتبخلى على ابوكِ بيهم..

هزت رأسها نافية في سرعة..ابتسم في راحة عندما علم انه أصاب الهدف فاستكمل في هدوء يعاكس تماما تلك العاصفة المضطربة التي تمور بداخله من جراء نظراتها البريئة تلك و الموجهة لشفتيه بغرض التركيز اكثر على كلماته: - يبجى ننزل نختار فستان.. و نحاول نريحه على الاخر.. صُح..!؟...
اومأت موافقة من جديد.. ليهمس هو في سعادة لإقناعها للمرة الثانية: - زينة..!!..

انتبهت بكل حواسها عند نطق اسمها بهذا الشكل.. هو نفسه كان الاسم له وقع خاص على مسامعه و هو ينطقه مجردا..
استكمل متحاشيا تلك الأفكار الحميمة هامساً:- انى عمرى ما هفرض روحى عليكِ و لما جبلت بچوازنا كان برضك عشان الحاچ مندور.. متجلجيش منى.. انى بس كل اللى عاوز اجوله ان انى و انتِ هدفنا دلوجت الحاچ مندور و راحته و بس..

و اذا كانت فرحته هتكون في وچودنا سوا نبجوا سوا و نبين له اننا مبسوطين كمان..
صُح.. و لا انتِ ليكِ رأى تانى..!!؟..
هزت رأسها نفيا.. و اشارت انها ستفعل المستحيل من اجل إسعاد ابيها..

ابتسم زكريا و قد فهمها بسهولة ليهتف في سعادة: -يبجى اتفجنا..حددى ميعاد الفرح و شرا الفستان.. و أوعدك هيكون فرح هنا ع الضيج اذا كان دِه اللى هيريحكِ..!!
ابتسمت للمرة الأولى في وجهه و هي تؤمى مؤكدة له فرحتها لاقتراحه الأخير..
ابتسم بدوره ابتسامة لاأرادية قفذت لشفتيه و ملأت تفاصيل وجهه الأسمر ليتنبه انه يبتسم في بلاهة ردا على ابتسامتها الصافية..
فاستأذن في عجالة و غادر...

لم يكن من اللائق بالطبع عقد قران يونس و كسبانة في ظل تلك الأجواء التي تخيم على النجع...بالتأكيد لم يكن سليم محبوبا و لكنه كان فردا من الهوارية و التي يُعمل لافراحها كما لأتراحها الف حساب و حساب..

بكت كسبانة وحيدة.. فقد ابتعد ميعاد لم شملها على ذاك الذى حاولت صد باب قلبها بوجهه لكنه ابى الا ان يُفتح.. حتى دخل و تربع على عرشه و استحوذ على مجامع عقلها و قلبها معا.. اصبح صوته العذب و شدوه الصافى هو زاد يومها الذى يحييها..
همست رغما عنها لشدة حزنها: - في حياتك و موتك يا سليم مش سايبنى في حالى..
اجول ايه غير ربنا يرحمك..

وصلتها الان همهمات شدوه من نافذة المطبخ.. كانت تتجنبه كل تلك الفترة الماضية و ما كانت تخرج لملاقاته أو حتى اعطاءه صينية الطعام كما اعتادت..
مسحت دمعها و أرهفت السمع لذاك الصوت المحبب لروحها..ليتناهى اليها كلماته التي يشدو بها في صوت يقطر حسرة: -

ولا هد قلبي العليل غيرك
يا وچع البعاد
ولا شالوا م الأرض شيل
غير فرحته بحب عاد
اه يا وچع البعاد
انا چمل صلب لكن علتي الچمال
شيلني احمال ان شالها الچبل جام مال
طعمني علجم وخد من كدي منچم مال
ورماني وسط الرمال
منكاد كسير الفؤاد
اه يا وچع البعاد
يا دنيا ليه فوق كتوفنا زيدتي احمالنا
وبدل م نبني ونجني خيرنا راح مالنا
وزمنا جاحد مفيش في ظلامه رحمة لنا
مالك يا دنيا ومالنا ؟!
جطعتي حبل الوداد
اه اه يا وچع البعاد

بكت و بكت بقهر على كلماته التي اصابت قلبها في الصميم.. و هو لا يدرى ان كلماته تلك تنكئ جرحها النازف لبعاده بالمثل..

على الرغم من معرفة زكريا لخبر وفاة أخيه سليم الا انه اثرها في نفسه و لم يخبر احد لا الحاج مندور و لا زينة..ظل يتجرع الحزن على أخيه وحيدا على الرغم من انه يعد ظالمه الثانى بعد أبيهما غسان.. أبوهما الذى ظلمهما معا حين فرق كل منهما عن الاخر فشبا غريبان اقتتلا على اسمه و ميراثه.. لكن رغم ذلك كله يظل سليم أخيه و لقد حزن عليه بالفعل.. لكن دفن ذاك الحزن في قلبه كما تعود بل اصبح خبيرا في ذلك.. و تطلع الى حياته التي تأخذ مسارا جديدا بعد معرفته بالحاج مندور و ابنته..

و الذى اصر على إقامة فرح لابنته الوحيدة مما دفع زكريا لكتمان خبر الوفاة حتى لا يعكر صفو تلك الفرحة البادية على الأب المقعد...
كان الفرح الذى أقيم في حديقة الفيلا الواسعة لا يقل فخامة عن اى فرح كان يمكن ان يقام خارجها فلقد اشرف الحاج مندور على اعداد و تجهيز الفرح على كرسيه المدولب في نشاط منقطع النظير.. و اهتم بتفاصيل الحفل حتى أصغرها ليخرج الزفاف بهذا الشكل الرائع و خاصة في وجود زمرة كبيرة من اكبر رجالات التجارة في الإسكندرية و الذى كان الزفاف فرصة مميزة لمقابلتهم زكريا و تعريف الجميع علي زوج ابنته الوحيدة و الذى سيتولى معه الإدارة لشركته منصافة..

كان زكريا يقف الان في انتظار نزول العروس و هو يرتدى تلك البدلة التي اصروا عليه ليرتديها.. ما بالهم الجلباب و العباءة و العمامة..!!؟.. فها هو حماه الحاج مندور يرتديهم.. و هي لبسه المعتاد و اليومى..

لما طلب الحاج مندور ذلك.. على الرغم انه اشترى العديد من الجلابيب الجديدة غالية الثمن و عباءات مختلفة الألوان و الخامات..فهو يكاد يختنق في تلك البدلة.. انها ليست المرة الأولى التي يرتدى فيها قميصا و بنطالا.. بل انه يتذكر عندما جاء للإسكندرية بعد اتهامه بمقتل سمرى نصحه غندور بتغيير طريقة لبسه التي تشير لموطنه الاصلى فيسهل التعرف عليه..

انطلقت الزغاريد عندما بدأت تخطو العروس باتجاه سلم الفيلا الداخلى لتهبط متوجهة اليهم.. كانت ترتجف.. شعر بها و تمنى لو ترفع نظراتها اليه حتى يستطيع ان يطمئنها..و كأنها سمعته يناديها لترفع وجهها و تتلاقى نظراتهما ففعلت..

ابتسم عندما لاحظ صدمتها من مرأة ببدلته السوداء الداكنة و التي زادته وسامة لم تكن تتخيلها..شعرت بالدفء في نظراته و شعور عجيب فصلها عن كل هذا الصخب الدائر حولها و الذى يثير توترها حتى انها عندما وضعت كفها في أحضان كفه الممدودة الان عند وصلها اليه.. ألقتها في بساطة و تلقائية و لم تهتز للحظة او تتردد كما كان في السابق..

جذبها برفق حتى جلسا سويا و بدأ الحفل الذى استمر لساعة متأخرة.. حتى ان حازم الذى كان يرتدى بدلة رائعة مثل ابيه لم يستطع ان يقاوم النعاس لتأخذه رزقه تضعه في فراش الحاج مندور كما امرها.. لا في جناح الضيوف كما كان الوضع..

انتهى الحفل على خير ما يرام.. حتى عدم رغبة زينة في تقديم كفها لالقاء التحية على الرجال كان مبرره هو غيرة زوجها ذو الطبع الصعيدى.. تفهم الجميع الامر و لم يعلق احدهم..
صعد العروسان لجناحهما شكليا..
توترت عندما أغلق خلفهما الباب فهتف مطمئنا إياها: - اول ما اخر ضيف يمشى.. هنزل على الچناح..

اتخذت هي مجلسا متطرفا من الغرفة و انكمشت فيه تحاول على قدر استطاعتها مداراة حزنها و تلك الدموع التي تترقرق في مأقيها..
و بالفعل ما ان هدأت الأمور و تأكد زكريا من مغادرة اخر ضيف حتى تسلل ليعود لجناحه لكن الحاج مندور و لحظ زكريا العسر خرج من غرفته في نفس ذات اللحظة التي كان يمر بها زكريا في قلب البهو متجها للخارج حيث مدخل جناح الضيوف الذى يعتقد ان ابنه حازم ينام هناك..
هتف الحاج مندور مندهشا:- على فين يا زكريا.!؟.

تنحنح زكريا: - على الچناح بجى يا حاچ.. انام چار ولدى..
ابتسم مندور: - ولدك هينام جنبى.. لحد لما نجهز له أوضة و انت مكانك فوق مع مراتك في جناحكم..
هتف زكريا معترضاً: - بس يا حاچ انا مش عايز اضايجها او تحس انى..
هتف مندور بكلمته السحرية: - دى أوامر الدكتور.... لازم تفضل معاها و تتعود عليك و على وجودك قريب منها..انت سبتها دلوقتى عارف هاتفتكر ايه..!؟.. هاتفتكر انك مش شايفها ست كاملة و تستحق تبقى عروسة بسبب الحكاية أياها..

حاول زكريا ان يضبط أفكاره التي بدأت تدور في فلك واحد.. كيف له ان يبقى معها في غرفة واحدة.. !؟.. لا قبل له و لا لأعصابه على ذلك.. هي زوجته.. لكن ليس برضاها.. و هو زوجها لكن لا يشعر ان من الصواب البقاء معها و بقربها.. فهذا عذاب من نوع مختلف.. عذاب ذو شعر كستنائى و نظرات بريئة و ملابس متحررة و اُسلوب خاص في المعاملة..

و هو لا قبل له على مواجهة كل هذا الخليط في امرأة واحدة.. فمنذ رحلت بدور و قد عدم النساء في حياته و نسى او تناسى انه رجل و له متطلبات حتى رأها..و شعر انه سقط في مجال مغناطيسي.. و انحرفت كل بوصلات ثباته.. و ضاع استقراره النفسى بلا رجعة..
اخرجه الحاج مندور من شروده هاتفاً: - روحت فين يا عريس.. ياللاه على فوق..و انسى بقى الجناح ده باللى فيه..ده كان جناح الضيوف و انتوا دلوقتى أصحاب بيت..

اومأ زكريا للحاج مندور برأسه إيجابا و هو يصعد السلم من جديد في سبيله لجناح الزوجية..
كيف يفسر لها و هو يطرق على بابها ان رغبة ابيها ونصيحة الطبيب هي القرب منكِ و تعودكِ وجودى.. فهل من المنطقى وضع النار جنب مادة حارقة.. !!؟..

طرق زكريا باب جناحهما المزعوم ربما للمرة الثالثة و هو يتمنى الا تسمعه و لا تفتح لكن للأسف فتحت و العجيب انه وجدها تبكى.. مسحت دموعها بظاهر كفها و أفسحت له الطريق للداخل متباعدة و نظراتها تحمل الكثير من التساؤلات و التفسيرات.. هتف زكريا يريحها مفسرا:- لجيت الحاچ مندور تحت لما شفنى جولته نسيت حاچة و راچع اچبها من چناح الضيوف.. و رچعت تانى.. بس انت لو..

قاطعته باشارة من كفها..و جلست على طرف الفراش بفستانها الأبيض الرائع..
ليجلس هو بدوره على تلك الأريكة الوثيرة في احد أركان الغرفة ليهتف مؤكدا: - بصى.. انا بس مستنى الحاچ يخش اوضته و هرچع تانى چناح الضيوف و مش هضايجك..

اومأت برأسها موافقة بلامبالاة تدعيها لكن نظراتها تشى بالعكس تماما.. نظراتها كلها طلب و رغبة في بقائه بقربها و في نفس الوقت لا قبل لها لتفرض نفسها عليه و تجعله يبقى مع امرأة لم يرغبها يوما و كان زواجهما مجرد حل من قبل والدها لينقذ أموالها و يضع حياتها بين كفيه في امان لكن هي ترتاح للبقاء معه منذ اللحظة الأولى التي رأته فيها على شاطئ البحر و انقذها من تطفل هؤلاء الشباب..

كل يوم تمر من هناك فقط لتراه.. لتشاهد جلسته على تلك الرمال و تطلعه للبحر.. كان صوته ساعتها يحمل حنان و دفء لم تعهدهما.. و نظراته كانت آسرة.. تحيط القلب ببلسم شاف.. يهدهد الألم الذى ادمن المكوث فيه منذ سنوات.. لما هو..!؟.. هي لا تعلم..كل ما تعلمه انها تعلقت به دون ان تدرى.. حتى انها يوم ان اكتشفت انه ما عاد يجلس في بقعته المفضلة و ظلت تتردد لايام بل لأسابيع على مكانه حتى يأست من عودته عندها فقط بكت.. بكت بجنون حد الضياع..

هو لا يعلم هذا..!؟.. و لا تظن انه سيعلمه يوما..!؟.. لن تفرض قلبها على رجل لا يشعر بما تعانى..ستفعل كل ما يمليه عليها من اجل صالح والدها و صحته.. ستفعل اى شيء اى كان لاسعاد ابيها.. اما زكريا..

فيكفيها انها بقربه.. هي لن تستطيع ان تهبه المزيد لانها بكل بساطة لا تملكه.. هي نصف امرأة.. فقط نصف امرأة فقدت احساسها و أحلامها و أمانيها و قلبها و روحها يوم ان ذبحها الاوغاد و تَرَكُوا لها مجرد جسد ملطخ بالعار و اسم ليس على ما يسمى..زينة..
ماذا يمكن ان تهبه..!؟.. لا شيء..

عليها ان تقنع بما هو متاح.. لان لا قبل لها لخوض المعارك للحصول على مزيد هى لا تملك ما تقايضه به.. انها ترتعش مجرد تذكرها انه يمكن ان يمسها.. لازالت لمسات و فحيح هؤلاء القتلة في آذانها تذكرها انها بقايا أنثى.. ما الذى يمكنها ان تهديه..!؟..
لا قلب.. لا روح.. لا جسد.. فقط حطام امرأة.. و بقايا أنثى.. و جسد يرتجف حتى من لمسات حانية لا يستطيع ان يتقبلها..
او ربما يعتقد انه لا يستحقها..

دقات على باب الحجرة أيقظت زكريا ليدرك انه نام ببدلته على الأريكة مثلما فعلت هي على اطراف الفراش و نامت بفستان زفافها.. تعالت الدقات مرة أخرى جعلته ينهض مقتربا منها ينحنى ليربت بهدوء على كتفها مناديا باسمها في خفوت: - زينة.. زينة..
انتفضت هي كعادتها و انكمشت كالمذعورة تجمع شتات نفسها و ردائها في صدمة حتى انتبهت لزكريا فخفت حدة توترها قليلا و هو يشير للطرق على باب الغرفة..

هتف في نبرة ناعسة من خلف الباب: - ميين!؟..
لم يجب احدهم.. فتح الباب في حرص ليجد صينية الطعام موضوعة امام عتبته.. سحبها سريعا و أغلق الباب.. ترك الصينية على الأرض في منتصف الغرفة تقريبا و خلع سترة بدلته و حذائه و اندفع جالسا يشعر بجوع قاتل حد المجاعة..

رأها تنظر اليه في استمتاع و ابتسامة تبرق على شفتيها فتشجع هاتفاً: - مش هاتفطرى!؟.. تعالى..
و أشار اليها للنزول ارضا لتشاركه الطعام.
نهضت من مكانها و جلست أمامه بفستانها الضخم ذاك بطبقات التل و الاورجانزا و ما ان جلست حتى غطى الفستان على صينية الطعام المغطاة..

نظر زكريا و هتف مازحاً و قد اختفى الطعام تماما تحت طيات ردائها: - طب لو انتِ چعانة كِده جولى.. لكن تخدى الصينية كلها لحالك..!؟...
انفجرت ضاحكة.. و كانت المرة الأولى الذى يسمع فيها رنين ضحكاتها.. تحرك شيء ما بالقرب من معدته أرجعه للجوع..

لكن ماذا عن ملامحها التي تغيرت تماما و أصبحت اجمل بمراحل عندما أشرقت تلك الابتسامة و علت الضحكة من حنجرتها و كأنها ألف ناى يعزف لحنا شجيا.. و كم كان خبير بالناى و نغماته..!!!..

شعرت بالخجل عندما لاحظت تفرَّس زكريا بوجهها.. فنكست رأسها الصغير ليصنع شعرها الكستنائى ستارا يخفى ملامحها خلفه تنبه لغيبته في التطلع اليها.. فتنحنح و هو يحاول إظهار صينية الطعام من جديد من تحت طيات الفستان..

ضم لقيمة صغيرة و رفعها لاأراديا لفمها و فجأة غامت عيناه و تذكر بدور..
شعر باحتقان عجيب للدمع في حلقه و حتى هي ترددت في قبول يده الممدودة خجلاً..
كان على وشك إزاحة كفه الا انها اقتربت بوجهها في بطء و فغرت فاها و هي ترفع نظراتها اليه في خجل.. ابتسم و غصة الحزن لازالت تتملكه و مد أصابعه
لفمها بلقيمتها الأولى..

تناولتها في سعادة بدت ظاهرة على محياها ليعيد الكرة و يرفع لقيمة أخرى فتشير انه دوره و هو من كان جائعا من الأساس..
ابتسم لها و وضع اللقمة في فمه و بدأ كلاهما في تناول الطعام...فى شبه سعادة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة