قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل الخامس

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل الخامس

جلست بخيتة في استكانة تمسك بصينية عليها بعض الحبوب تنظفها و تخلصها من شوائبها و كسبانة بجوارها تطعم حمزة الذى بدأ النوم يداعب جفونه فيدعك احدى عينيه بظاهر كفه و يتثاءب في نعاس واضح .. ضحكت بخيتة لمظهره الناعس فتركت صينية الحبوب جانبا و تناولت حمزة تهدهده وقد لاحظت شرود كسبانة على غير المعتاد فهمست متسائلة :- مالك يا بنتى ..!!.. شكلك مش بعادة .. في حاچة شغلاكى ..!!؟.

تنهدت كسبانة في سأم : لاااه مفيش يا خالتى.. بس انتِ عارفة ان امى و اخوالى مجاطعينى من يوم اللى حُصل بسبب سليم ..و جال انا لطخت سمعتهم في الوحل .. يعنى انا لو مطاوعتش سليم كان هايعمل فيهم و يسوى و احنا غلابة و ملناش حد يا خالتى .. كنت هجوله لاااه ازاى ..!؟.. و احنا ملناش حد يجف لسليم بعد موت ابويا ..و الله يا خالتى لولا عاصم بيه و سى زكريا لكانوا جتلونى من زمن ... و اهو امى جايبة لى عريس من طرف خلانى .. و يا اوافج عليه ليجطعونى العمر كله ..

سألت بخيتة في فضول :- و انت رأيك ايه يا بتى ..!؟.. هاتجبلى العريس اللى جيبينه دِه !!.
اجابت كسبانة :- و الله يا خالتى ما عارفة اجبل و لا لااه .. خايفة يعمل لى البحر طَحينة و يجولى هراعيكِ انت وولدك و بعد الچواز يجولى اديه لأمك تربيه و انا مجدرش ابعد عن ولدى و لا ساعة واحدة و امى معدتش جادرة على تعب العيال كفاية عليها اخواتى اللى لسه صغار ..و لو رفضت.. امى هتجاطعنى تانى .. معرفاش اعمل ايه و اسوى ايه ..!!؟..

ربتت بخيتة على كتفها متعاطفة و هي تهمس في محاولة لطمأنتها :- متجلجيش يا بتى .. ليها رب اسمه الكريم .. تتعدل باذنه .. سبيها على الله ..
أومأت كسبانة برأسها موافقة ونظرت لحمزة الذى راح في سبات عميق منذ زمن لتحمله من بين ذراعى بخيتة متوجهة به لغرفتها و
في منتصف طريقها استدارات تسأل بخيتة :- هو سى زكريا متصلش يا خالتى ..!؟.. بجاله فترة غايب .. ده الحاچ مهران اديله كام يوم متوفى و هو ميعرفش ..!!..

هتفت بخيتة متنهدة :- الغايب حچته معاه يا بتى ..
تابعت خطواتها هاتفة :- صدجتى يا خالتى الغايب حچته معاه .. و هو حچته شديدة .. عريس ماشاء الله .. ربنا يهنيه ..
دخلت كسبانة الغرفة لتتطلع بخيتة للباب المفتوح  حيث غابت و هي تتحسر في سرها .. خَسارة يا بتى .. و ألف خَسارة ..بس النصيب بجى ..

تسللت زهرة بحذر من جانب عاصم الذى غاب في سبات عميق و اندفعت لحجرة اطفالها عندما تناهى لمسامعها صوتهما يشق صمت الليل ببكائهما .. ظلت بقربهما حتى غابت هي أيضا في النوم ولم تستوعب أين هي بالضبط حتى فتحت عيونها تستطلع ما حولها لتجد اطفالها على حالهما .. كانت سندس مستيقظة تلهو بصوتها المحبب بينما مهران لا زال يغط في نومه ..

تسللت زهرة من جديد بغية التأكد ان عاصم لازال نائما و لم يستيقظ بعد .. انه بحاجة للراحة و النوم بعد ثلاث ليال من الحزن و الأرق لم يذق فيهما للراحة سبيل ..
هبطت الدرج في تكاسل فهى بدورها لم تنعم بالراحة لكن ما يعنيها ان عاصم بخير ..
دخلت المطبخ تعد فطورا شهيا تقدمه له ما ان يستيقظ ..
حملت صينية الطعام و صعدت بها لحجرة ابيه حيث ينام ..

ببطء شديد فتحت الباب .. كانت في سبيلها لإغلاقه من جديد عندما اعتقدت انه لايزل نائماً لكنه هتف بها دون ان يوجه بصره للباب :- انا فوجت يا زهرة تعالى ..
دخلت بحملها ووضعته على الطرف الاخر من الفراش عندما استدار لها بكليته :- صباح الخير ..
ابتسمت في حنو :- صباح النور .. احلى فطور لعيونك ..
هتف رافضا :- ماليش نَفس يا زهرة ..

استدارت زهرة لتجلس قبالته هامسة وهى تضع كفها على جانب وجهه الذى تطاولت لحيته بشكل واضح :- مينفعش كده يا عاصم.. انت مدقتش الزاد و منزلش جوفك الا المية ..
جذبت الصينية و مدت كفها تستقطع لقيمة تضعها بفمه ليعترضها هو بكفه هامساً :- و الله ما جادر .. حاسس ان چوفى كنه چمر ..
دمعت عيناها وهى تهمس :- و الله ما يرضى حد اللى بتعمله ده و لا عمى الله يرحمه يرضى بكده ..

تنهد عاصم في شجن عند ذكر ابيه و اشفاقا على حالها الملتاع مد كفه في هدوء و تناول كوب اللبن من على الصينية و بدأ في شربه ببطء مما دفعها لتمسح دموعها و تبتسم مشجعة و هي تضع اللقيمة التي لاتزل في كفها في فمه ..
تناول ما استطاع بفضل تشجيعها .. و ابتسمت وهى ترفع صينية الطعام من أمامه و تضعها في احد جوانب الغرفة .. وما ان هم بالنهوض
حتى هتفت مازحة :- على فين ..!؟..

و اندفعت تجلسه مرة أخرى على اطراف الفراش هامسة :- عيالك نفسهم يشفوك ..
همس في محبة :- وحشونى بچد هاتيهم ..
اشارت لذقنه النامية هاتفة :- بدقنك دى ..!؟..لا .. لازم نتظبط الأول و أخرجت من خلف ظهرها عدة الحلاقة .. وهى تهتف في مرح :- اسمح لى اشلفطك بقى ..

اتسعت ابتسامته وهتف :- شلفطى زى ما انت عايزة .. بس اياكِ وشنبى ده انا بربى فيه من عمرك ..
انفجرت ضاحكة :- ليه هو انت شنبك طلع و انت عندك سبع سنين .. !!؟..
ابتسم لمزاحها مؤكدا :- اااه .. سلو عيلتنا ..رچالة من يومنا .. اعترضى لو تجدرى
بدأت في وضع منشفة حول رقبته و وزعت معجون الحلاقة على ذقنه و وجنتيه و بدأت في استخدام الشفرة في حذر هامسة بمحبة مازحة :- انا أقول اللى انا عيزاه دلوقتى لأن رقبة حضرتك تحت ايدى .. اعترض انت بقى ..!؟

همس بعشق و امتنان وعيونه تأسر عيونها :- زهرة ..!؟.. تسلميلى ..
كان يعلم انها تفعل المستحيل لتخرجه من حالة الحزن التي تسيطر عليه على الرغم من حزنها الذى لا يقل شدة لانها ليست فقط حزينة على وفاة ابيه لكن حزنها مضاعفا بسبب حاله التي لن يخرجه منها الا هي.. و لقد نجحت الى حد كبير ..
دمعت عيناها لكلمته رغم بساطتها و انحنت تقبل جبينه في سعادة .. ليهتف هو في مزاح:- خلصى بجى و انچزى .. تاريكِ حلاج غشيم..

اتفجرت ضاحكة :- بقى كده ..!! مااشى .. مسحت ما تبقى من معجون الحلاقة عن وجهه لتهتف في مرح :- نعيما يا فندم .. اول مرة بس مجانا .. بعد كده الدفع مقدماً ..
همس مشاكساً :- جال مجدما .. انت اخرك بيضتين و جرجوشة ( عيش ناشف) زى الحلاجين اللى كانواعلى الچسر زمان ..

انفجرت ضاحكة :- دى اخرتها ..على العموم انا خدت اجرتى خلاص ..
نظر اليها فاستطردت .. كفاية عليا ضحتك اللى رجعت تنور وشك تانى يا عاصم .. ربنا ما يغيبها ابدا ..
جذبها اليه يضمها في عشق و يطبع على جبينها قبلة طوويلة أودعها كل محبته و امتنانه ..

خرج نبيل من احد المحلات التجارية يتنهد في تعب واضح هاتفاً :- كفاية كده يا ندى .. مبقتش قااادر خلااص ..
هتفت ندى حانقة :- كفاية ايه ..!؟.. هو احنا لحقنا .. لسه بدرى ..
هتف نبيل معترضاً :- ايه .. لسه بدرى ..!؟. طب امشى قدامى .. ده احنا لفينا فوق ال خمسين محل لحد دلوقتى .. يا بنتى انت رايحة باااريس يعنى ارض الحب .. هااا الحب ..ورفع يده متضرعا للسماء مازحاً .. يا رب تفهم ..

قهقهت وهى تجذبه من كفه المعلقة :- لا .. مش فاهمة .. اللى فهماه دلوقتى حاجة واحدة..
لسه مخلصتش شرا كل اللى انا عوزاه ..
أشار نبيل الى الطريق أمامها هاتفاً :- حااضر يا فندم .. بس ممكن اكل .. عاادى بنى ادم و لازم ياخد طاقة عشان يقدر على الأشغال الشاقة دى ..
أكدت ضاحكة :- اذا كان على الاكل .. مااشى.. و انا اللى عزماك كمان ..

قال نبيل مدعيا الفرحة :- لا .. روحى يا شيخة ربنا يعمر بيتك ..
جلسا أخيرا على احدى طاولات مطعم راق
و هو يتنهد في راحة :- أخيرا .. مش مصدق نفسى .. هو ده بقى اللى بيسموه شوبنج ..!؟..
ابتسمت ندى :- ايوووه حضرتك ..

استطرد :- و المفروض انه متعة و كده .. اُمال العقاب يبقى ايه ..!؟؟..
أكدت ندى متذمرة :- حد يقول على الشوبنج عقاب .. ده اكبر متعة في الدنيا ..
اقترب نبيل منها مشاكساً :- معلومة خاطئة و وجب عليا التصحيح من فضلك ..
همست باسمة :- تصحيح ايه ..!!؟..

همس بعشق :- اكبر متعة في الدنيا .. هي القرب منكِ .. ثم زفر حانقاً فجأة .. هو احنا امتى هانكتب الكتاب ..!؟..
انفجرت ضاحكة لتحوله المفاجئ .. وهتفت مؤكدة :- ما انت عارف يا نبيل .. ماما ..
قاطعها بغيظ :- ايوه عارف .. ماما عايزة كتب الكتاب قبل الفرح بيوم ..و طبعا عمى كتر خيره واقف في صفها كأنى مش بن عمك من أساسه و بتعامل زى الغريب ..

همست متنهدة في محاولة لامتصاص غضبه المتصاعد من ذاك الموضوع الذى لطالما كان موضع لمناقشاتهما المحتدة و لعلمها انه على حق في مطلبه :- معلش يا نبيل .. عشان خاطرى .. انت عارف بابا بيحاول يريح ماما بالذات الفترة الأخيرة لما عرف بتعب قلبها .. كفاية عليها احساسها بالزعل انى هسافر و اسبها كمان كام شهر ..
تنهد نبيل متفهما :- خلاص .. حصل خير ..

بس القصد يا ندى انى احس انى خارج معاكى و انت مراتى و بكلمك براحتى و بزورك في البيت براحتى .. مش مجرد خطيب و خطيبة
.. على العموم .. اهى هانت .. كام شهر و نكتب الكتاب و ساعتها يمكن اخطفك و يشوفوا مين بقى اللى يحضر لهم الفرح ..!!؟.
علت ضحكاتها على كلماته المتوعدة الممزوجة بالمزاح.. لينظر هو لضحكاتها الندية فيهمس بغيظ :- منك لله يا طنط هتلر ..
سألته في تعجب :- بتقول حاجة ..!!؟..

أكد مازحاً :- لا خاالص .. بدعى من كل قلبى لعمى و طنط .. ربنا يكرمهم ..
نظرت اليه نظرة كلها ريبة .. ليستطرد مؤكدا:- اكيد طبعا .. مش جابوكى ليا ..
لتبتسم في خجل مصدقة ادعاءه ...

نادت نعمة بصوت عال :- يا للاه الغدا يا حاج وهيب ..
نهض الحاج وهيب جاذباً خلفه زكريا مشجعا:- يا اللاه يا زكريا يا بنى ..و لا هاتعمل فيها مكسوف .. ده انت خلاص بقيت واحد مننا ..
ابتسم زكريا لبدور وهو يجلس للطبيلة وقد مرت أمامه لتساعد نعمة في جلب باقى الصحون ..
تساءل الحاج وهيب :- بص بقى يا زكريا يا بنى .. النهاردة ايه في أيام ربنا ..!؟..
أكد زكريا :- الچمعة يا حاچ..

استطرد الحاج وهيب :- تماام .. يبقى الجمعة من كل أسبوع هنستناك انت ومراتك على الغدا ..
اعترض زكريا :- بس يا حاچ..
قاطعه الحاج وهيب :- مفيش بس .. جرى ايه يا زكريا .. هو انا مليش حق في مضايفة بنتى و جوزها يوم في الأسبوع و لا ايه .. !!؟...
أكد زكريا :- لاه .. حچك يا حاچ .. هو حد يجدر يجول غير كِده ..
هتف الحاچ وهيب :- خلاص .. يبقى هنستناكم كل جمعة باذن الله ..

هتف زكريا :- تعيش يا حاچ و يچعله عامر دايما بحس صحابه ..
امن الجميع خلف زكريا .. و طلت الابتسامة على وجه بدور في سعادة لاقتراح ابيها و سعادتها الكبرى جاءت من موافقة زكريا ..
انتهى الطعام .. و توجه زكريا و الحاج وهيب للصالون تاركى النسوة يجهزن الشاي بينما تحدث الحاج وهيب بنبرة هادئة :- بص يا زكريا يا بنى .. انت عارف ان معنديش غير بدور .. هي اللى طلعت بيها من الدنيا ..

و كل همى هو سعادتها و راحتها .. و الحمد لله ربنا كرمها بيك ..و بقيت في معزتها بالظبط و ربنا العالم ..
هتف زكريا :- صادچ يا حاچ ..
استطرد الحاج وهيب :- عشان كده يا بنى .. انا هطلب منك طلب و يا ريت متردنيش ..
هتف زكريا بصدق :- على رجبتى يا حاچ وهيب ..

ربت الحاج وهيب على كتف زكريا ممتنا ثم هتف :- الشقة اللى قدامنا على طول دى شقة ام بدور .. لما اتجوزت نعمة محبتش تدخل على شقة المرحومة و جبتها الشقة دى و من يومها و هي مقفولة بعفشها .. يا ريت انت وبدور تنزلوا فيها بدل الاوضة الضيقة اللى فوق .. اهو توسعوا على نفسكم شوية ..
صمت زكريا للحظات و لم يعقب على الرغم من شعوره بالضيق .. و تمالك نفسه أخيرا و قال في هدوء :- يا حاچ وهيب .. طلبك على عينى و راسى .. بس معلش .. اعفينى ..

انا عايش في المكان اللى أجدر ادفع أچرته و اللى مرتى لازماً تلازمنى فيه .. و يوم ما اجدر ادفع ايچار الشجة .. انا اللى هتلاجينى بطلبها منيك يا حاچ ..
صمت الحاج وهيب للحظات و قد ادرك ان زكريا لن يغير رأيه مهما حدث .. و ان رأسه الصعيدية اليابسة لن تتزحزح عن موقفها لذا تنهد في قبول هاتفاً :- خلاص يابنى اللى يريحك .. لله الامر من قبل و من بعد ..

انهى زكريا الشاي و استأذن في عجالة لتلحقه بدور مسرعة لتجده يهبط الدرج لخارج البيت فتهتف في تساؤل :- هو انت مش طالع تستريح يا سى زكريا..!؟..
هتف في اختصار :- لاااه ..
هتفت مستفسرة وهى تندفع خلفه :- اومال رايح على فين ..!؟.

كانت وصلت لمدخل البيت راكضة  ليستدير لها في سرعة هاتفاً بحنق :- مبحبش اللى يجولى رايح فين و جاى منين .. انا اروح مُطرح ما انى عاوز في الوجت اللى انى عاوزه .. محدش شريكى ..
طأطأت رأسها في استكانة و ما ان انهى كلماته الجافة حتى رفعتها تتطلع اليه و هي تومئ بالإيجاب ثم تندفع للأعلى صاعدة الدرج في عجالة حتى لا تخزلها دموعها و تنحدر أمامه .. وهى لا تدرك جريرتها ..

هتف حسام مشفقاً :- مش كفياكى كِده يا سهام .. عيونك دبلوا من البكا ..و الله الحاچ مهران الله يرحمه ما يرضى باللى بتعمليه دِه..
هتفت من بين شهقاتها :- مش بخطرى يا حسام .. و الله ما جادرة ..
جلس بالقرب منها يحاوط كتفيها بذراعه محاولا تهدأتها :- استهدى بالله .. و جومى اغسلى وشك .. و ادعيله بالرحمة هو دِه اللى محتاجه الحاچ دلوجت .. الدعا مش البكا ..

و بعدين مش صعبان عليكِ باسل اللى مهملاه طايح في الدار مرمى على كل يد شوية و محروم منيكِ .. طب مصعبش عليكِ أبو باسل و هو مش عارف ياكل لجمة طايبة ( جميلة ) من يد غير يدك ..
انحنى يلثم جبينها و اذ فجأة تهب رائحة كريهة على غير انتظار .. فينتفض حسام مشمئزا :- واااه .. ايه الريحة العفشة دى ..!؟.

لتنفجر سهام مقهقهة و هي تشير الى الأسفل تحت اقدام حسام حيث ظهر باسل فجأة من تحت الفراش و على ما يبدو .. فان باسل لم يدخر جهدا في تلويث حفاضه والذى نهض وابتسامة بريئة على شفتيه يترنح في مشيته من ثقل حفاضه الزاخر مما دفع حسام ليصرخ هاتفاً عندما اقترب باسل منه :- لااه ..و ينهض مندفعا خارج الغرفة تاركا سهام غارقة في ضحكاتها على مظهر كل منهما و خاصة اندفاع حسام خارج الغرفة و باسل يترنح في عدوه خلفه بحفاضه  معتقدا انها لعبة و ان ابيه يلهو معه و باسل يحاول ان يمسك به ..

سار زكريا  متوجها صوب مقهى المعلم خميس و جالت عيناه في ارجاء الحارة التي يشملها الهدوء النسبى في مثل تلك الساعة من بعد ظهيرة يوم الجمعة.. وقعت عيناه على رجل يجلس في سكينة خلف طاولة خشبية موضوع عليها عدة بطيخات ويضلل عليهم بقطعة عريضة من الخيش المندى بالماء مرفوع على عدة أعمدة خشبية رفيعة بالكاد تحمل تلك القطعة الندية من الخيش المهلهل و التي يحتمى بها بقرب بطيخاته من حرارة الشمس و لهيبها .. و بدأ ينادى بصوت جهورى لا يتسق ابدا مع مظهر الرجل الجسدي الذى يشبه احد أعواد البوص ..

حاد زكريا عن الرجل بعينيه موجها ناظريه صوب المقهى الذى اصبح قاب قوسين او ادنى فاذا به يسمع عقيرة الرجل ترتفع بالصياح .. ليعود زكريا ادراجه ينظر ما الامر .. فاذا به احد رجال السمرى يتطفل على الرجل و يحاول الحصول على احدى البطيخات هبة بلا ثمن .. ليصرخ الرجل مستغيثا من السمرى و رجاله ..

اندفع زكريا حيث الرجل الضعيف المقاوم لبطش رجل السمرى ليقف بينهما محاولا الزود عنه ..
هتف زكريا في نبرة مهددة لرجل السمرى :- عايز البطيخة تدفع تمنها هي مش تكية ..
دفع حينش رجل السمرى زكريا في كتفه هاتفاً بصوت جهورى :- و انت ايه دخلك .. بايع و شارى .. مدخل نفسك بينهم ليه يا سبع البرمبة..!!؟..

هتف زكريا مزمجراً :- لما تبجى شارى بالادب نبجى نبيعولك .. غير كِده شطبنا .. و لما الراچل الطيب دِه .. و اشار زكريا لبائع البطيخ العم طايع
مستطرداً .. يأذن لك تدفع تمنها و تتكل بالمعروف ..
هتف حينش بصوت أجش مهددا :- و ان معملتش كده .. هاتعملى ايه يا حيلتها ..!!؟..
اندفع زكريا باتجاه الرجل في ثورة :- هنأدبك زى ما أدبنا معلمك جبل سابج ..

ظهر المعلم خميس فجأة و خلفه رجاله ليصرخ بصوت جهورى ليتوقف العراك قبل ان يبدأ :- اياك يا حينش .. لو ايدك اتمدت على زكريا هاتتقطع .. زكريا يتعد من رجالتى .. انا عارف انه يقدر يقوم بعشرة من عينتك بس ما يرضنيش يوسخ ايده ..
وتوجه لزكريا بالحديث :- عندى انا دى يا زكريا ..غلطة و مش هتتكرر تانى ..
و ادار رأسه باتجاه حينش متسائلا :- و لا ايه يا حينش .. !؟

زمجر حينش في غضب مكبوت و عيون حمراء.. ضاغطا على كفيه المضمومتين في حنق وهو ينظر لزكريا نظرات تكاد تقتله ..
و فجأة اندفع من امام الجميع  مبتعداً..
هتف المعلم خميس ساخراً :- على فين .!؟.. طب و البطيخة .. تعال خدها انا عازمك عليها انت ومعلمك .. اهو تطروا على قلبكم في الحر ده ..
انفجر الجميع مقهقهين لسخرية المعلم خميس اللول على حينش الذراع اليمنى للسمرى ..

ليخرج طايع بائع البطيخ من خلف نصبته مجرجرا قدمه المصابة خلفه محاولا الوصول لموقع زكريا وسط الجمع .. حتى ما وصله
استند على ذراع زكريا الذى تلقفه في سرعة هاتفاً:- على مهلك يا عم ..
ابتسم طايع في ضعف :- طايع.. اسمى طايع  يا بنى ..
وخزة نكأت قلب زكريا للحظات من لفظة ابنى التي خرجت خالصة المحبة تحمل فخرا و اعتزازا حلم بهما زكريا طوال عمره ..
ابتسم زكريا في مودة :- على مهلك يا عم طايع ..ربنا يديك الصحة ..

أسنده زكريا حتى عاد لمجلسه خلف نصبة البطيخ و ربت على كتفه في حنو :- اى حد يضايجك يا عم طايع .. نادم و جول يا زكريا .. هتلاجينى جمبك طوالى اخد لك حجك منيه..
ابتسم طايع :- تسلم لى .. بس خد بالك من نفسك .. سمرى نابه ازرق و مش هيسكت .. و ابتسم في حسرة كستطردا.. اسألنى انا ..

..جلس المعلم خميس ينفس دخان نرجيلته على احدى كراسي مقهاه الجانبية متطلعاً من مكانه لطايع و زكريا .. و الذى يراه الان متوجها صوبه..
جلس زكريا متنهدا في ضيق ليربت المعلم خميس على كتفه في فخر :- وحش بصحيح!!.. بس خايف عليك يا صاحبى..
هتف زكريا :- هو انت هتجول نفس جولة عم طايع .. !؟؟..

اومأ المعلم خميس و دخان نرجيلته الذى يعبق الجو براحته المميزة يحجب رؤية ملامح وجهه للحظات قبل أن يهمس متحسرا :- طايع عنده حق .. لانه عارف مين هو السمرى..
طايع اللى انت شايفه دلوقتى ده .. الأعرج اللى مش قادر حتى يدافع عن نفسه كان يقفل حارة زى حارتنا دى .. بس القوى في اللى أقوى منه .. و ..
قاطعه زكريا مستفسراً في ضيق :- انت عايز تجول يا معلم خميس ان طايع ده بجى أعرچ بسبب السمرى ..!!؟..

اومأ المعلم خميس مؤكدا :- ايوه .. طايع ده كان راجل حقانى زيك كده .. بس ايه فايدة الحق من غير قوة تحميه ..
هتف زكريا :- و انت كنت فين يا معلم خميس من سمرى و رجالته و الراجل بيتبهدل كِده !؟

تنهد المعلم خميس هاتفاً :- يا صاحبى السمرى ده تِعبان لدغته و القبر .. تعرف لو بيعمل اللى بيعمله في عز النهار كنت تلاقى اللى بيوقف له و انا اولهم .. لكن ده يعمل العملة في الدرا من غير ما حد يدرى و كلنا بنبقى عارفين اللى عمل كده مين ..
بس اثبت ..
ساعتها لا مين شاف و لا مين درى .. و الخوف بيخرس الكل ..

عشان كده يا صعيدى بقولك خد بالك .. سمرى غاطس عن الحارة بقاله كام يوم .. و ده ميطمنش ..و خصوصى انه مقربلكش من يوم اللى حصل مع جماعتك.. غيبته دى وراها مصيبة ..  مش هيظهر الا لما ريحيتها تفوح ..ربنا يستر..
تنهد زكريا و هو يرتشف من كوب الشاي الذى وضعه صبى المقهى على طاولتهما و عيونه كلها ترتكز على ذاك الرجل الطيب المدعو عم طايع ..

هم زكريا بالرحيل مستأذنا المعلم خميس الذى حاول ان يبقيه معه لكنه تعلل برغبته في الراحة من اجل العمل لليوم التالى ..
خطوات و سمع زكريا العم طايع يناديه فاتجه صوبه :- خير يا عم طايع .. !!؟..
جذب طايع احدى بطيخاته و شقها بسكينه المميزة التي لا تغادر كفه مقدمها لزكريا الذى هتف :- وااه ..ليه بس كِده يا راچل يا طيب!!؟..

هتف طايع نافيا ما جال بخاطر زكريا :- لا يا بنى.. أوعى تفهم انها رد لمعروفك معايا .. ابدا لا سمح الله .. دى هدية .. و النبى قبل الهدية يا زكريا يا بنى ..
ابتسم زكريا في مودة :- هدية مجبولة يا عم طايع .. تسلم ..
و مد زكريا يده ليحمل البطيخة متوجها الى داره حيث تلك التي تركها تدارى دمعها عن عينيه ..

وصل لأعتاب السطح و ما ان دلف للداخل حتى رأها تقف مستندة بمرفقيها على السور تتطلع الى الحارة من عليائها و لم تفطن لوجوده بعد .. يبدو انها نظرت للتو فهى لم تره يدخل من باب البيت او حتى تلمحه عندما اقترب .. او انها قد رأته بالفعل لكنها تتصنع العكس تماما كنوع من أنواع إظهار الحنق و الضيق ..

تنحنح بصوت مسموع حتى تنتبه .. بالفعل استدارت في بطء لمكان وقوفه و تقدمت منه تحمل عنه البطيخة التي يحملها لكنه ابعدها عنها لانها اثقل من ان تحملها بمفردها فاتجه بها لداخل الغرفة ليضعها جانبا ..
هتف أمرا :- جطعى البطيخة نصين و انزلى بنص لبيت ابوكى و تعالى حضريلنا العشا بالنص التانى .. على بال ما أغير و اصلى العشا ..

لم تتفوه بحرف واحد بل نفذت في التو و لم ترفع حتى عيونها لملاقاة نظراته التي تتفحصها ...
فعلت كما امر و أعدت العشاء و جلست تنتظر ان يفرغ من صلاته ..
جلس في هدوء و لا يعرف لما أصبحت عادة ان يرفع كفه اليها ليطعمها أولى اللقيمات لكنها نحت راسها عن كفه جانبا ..
توقفت يده معلقة في اتجاه فمها .. هتف في ضيق متعجبا :- بجى أنتِ  اللى زعلانة  !؟..

دمعت عيناها :- انا مش زعلانة انك زعقت فيا يا سى زكريا و سمعتنى كلام ضايقنى .. انا اللى زعلنى بجد انى مش عارفة انا عملت ايه لكل ده !!؟..
هتف في حنق :- مش عارفة ..!؟؟.. اذا كان انتِ اللى جايلة لابوكِ ..و انتِ اللى طلبتى منيه يكلمنى عشان عارفة انى مبجدرش ارفض له طلبه ..بس دى بالذات لااااه ..

نظرت اليه بنظرات متعجبة لا تع على ماذا يتكلم لتهمس :- انا مش عارفة انت بتتكلم عن ايه يا سى زكريا .. !!؟..و رحمة امى ما كلمت ابويا و لا طلبت منه حاجة ..
هتف زكريا منتفضاً من مكانه في غضب عماه عن ادراك الصدق في حديثها :- اهااا چبتى المفيد .. امك .. و شجة امك ..اللى ابوكِ عايزنا ننزل نعيش فيها و نسيب الاوضة..

نهضت بدورها تقف أمامه وهو يهمس كازً على اسنانه :- اذا كان اوضتى و عيشتى مش على هواكِ يا بت الناس .. جبلتى ليه بيها من الأول .. انا مغشتكيش و لا جلت هعيشك في جصور و لا ..
وضعت كفها على شفتيه معترضه على استطراده بكلمات تؤلم قلبها بقدر ألم كرامته الذى تستشعره فى كل حرف ينطق به ..

همست و دموعها تغطى وجنتيها :- سى زكريا ..!؟؟.. و غلاوتك عندى .. و اللى جمعنا من غير ميعاد وجعل لى نصيب فيك و في قلبك .. انا ما قلت لأبويا كلمة عن شقة امى .. عارف ليه ..!!؟.. عشان انا راضية .. راضية ابقى معاك في اى مكان  ..
و بحمده و بشكر فضله انه جمعنى بيك ..
ابويا قال كده من عشمه و عشان يريحنى ..

ميعرفش ان راحتى معاك فين ما تكون .. متقلقش يا سى زكريا .. كرامتك متصانة و هيبتك محفوظة ..
و اندفعت من أمامه لداخل الحجرة تسبقها شهقاتها المتعالية و التي كتمتها طويلا ..
وقف زكريا بلا حراك .. يشعر انه تسرع في اتهامها بما ظنه .. شعر بالندم يتخلله و يعربد بكل خلية من خلاياه و هو يقف كالمسمار لا يأتي بأى رد فعل ..

أخيرا تحرك في ضيق باتجاه سُوَر السطح يستند عليه متنهدا في ألم و يضربه بقبضته في ضيق حقيقى منع صدره من التقاط أنفاسه بشكل طبيعى .. استغفر الله .. و استدار عائدا للحجرة التي غابت فيها .. طل منها ليجدها تجلس على طرف فراشهما الضيق يهتز كتفاها دلالة على انها لاتزل منخرطة في بكائها .. تنهد مقتربا منها و انحنى اليها يقبل هامتها فهدأت شهقاتها  و بدأت في مسح عيونها مد كفه اليها يلتقط كفها و يجذبها لاحضانه ويحيطها بذراعيه في شوق ..

لحظات مرت و هي تتنهد بين ذراعيه و أخيرا همس مشاغبا :- احنا مش هنتعشوا .. !!؟..
رفعت نظراتها لتتطلع اليه بابتسامة موافقة بإيماءة من رأسها :- و ماله نتعشوا ..
ضم كفها و جذبها خلفه حيث الطبلية المنصوبة على السطح بطعام العشاء الذى لم يمس .. جلسا متقابلين فرفع اللقيمة الأولى كالعادة لفمها فألتهمتها في سرعة مما فجر ضحاتهما...

أنصت زكريا لصوت الرنين المتواصل في تلك الكابينة التليفونية  التي يقف فيها منتظرا امه ترفع السماعة على الطرف الاخر ..
همس بضيق .. خير .. خبر ايه ياما ..بجالى مرتين اتصل و محدش يرد .. ليه تجلجينى بس ..!؟.. كاد ان يضع السماعة في يأس من ان ترد إحداهن .. امه او كسبانة زوجة أخيه...

الا ان جاءه صوت كسبانة أخيرا و هي تلتقط أنفاسها لاهثة :- ألو .. ألووو ..
أعاد السماعة مرة أخرى على أذنه متنهدا في راحة :- ألو .. كيفك يا مرت اخوى .. ايه عاملة ..!؟؟ و كيفه حمزة ..!؟.. تمام ..
هتفت كسبانة في فرحة :- الحمد لله .. كلنا بخير يا سى زكريا ..
هتف زكريا مستفسراً :- اومال وينها امى ..!!
طلبتكم مرتين جبل سابج محدش كان بيرد .. هي زينة يا مرت اخوى ..!؟..

أكدت كسبانة في عجالة :- و الله خالتى بخير متجلجش .. بس .. اصل احنا كنا ..
كان صوتها مترددا لا تعلم هل تخبره بنبأ وفاة الحج مهران ام لا ..!؟..
استرعى التوتر و القلق البادى في نبرة صوت كسبانة انتباهه و اثار قلقه في المقابل ليهتف في نفاذ صبر :- خبر ايه ..!؟.. ايه في يا مرت اخوى جولى و ريحى بالى ..!؟..

هتفت و ما بيدها حيلة :- اصل الحاچ مهران تعيش انت من شهر و زيادة ..و خالتى بخيتة بتروح السرايا كل فترة اهو تاخد بحس الحاچة فضيلة ..
صمت و طال صمته حتى ظنت انه أغلق الهاتف و خاصة عندما هتفت باسمه عدة مرات دون إجابة و أخيرا أجاب بصوت متحشرج :- طب اجفلى يا مرت اخوى دلوجت و هبجى أكلمكم تانى ..

أغلق الهاتف بيد مرتعشة و خرج يسير باتجاه بيت الحاج وهيب في ألية و كل ما يجول بخاطره و يرتسم امام ناظريه هو ذاك اليوم الذى استدعاه فيه الحاج مهران لغرفته بعد كشف عاصم لهويته الحقيقية امام جميع الهوارية .. كان ذاك اليوم هو يوم تحول حقيقى في علاقته بعمه مهران الذى دوما كان يعيش في برجه العال خاصة بعد مرضه و لم يكن يراه الا فيما ندر .. يومها رأى عمه الذى تمنى ان يعيش في كنفه العمر بطوله ..

ظل يتذكر الحوار بينهما طوال الطريق ليعود بالذاكرة لتلك اللحظة التي ارتسمت امام ناظريه طوال مشواره ..
هتف الحاج مهران بصوت يملؤه المودة و المحبة الخالصة :- جرب يا زكريا ..
سار زكريا باتجاه فراش عمه ووقف عندما وصل لحافته .. أشار الحاج مهران لعاصم بطرف خفى ليغادر الغرفة فأطاع عاصم سريعا و ابتسامة تعلو شفتيه وهو يغلق الباب خلفه ..

أشار الحاج مهران للفراغ المقابل له على الفراش رابتاً عليه بكفه :- اجعد هنا يا زكريا..
نظر زكريا للمكان المشار اليه من الفراش غير مصدق على انه سيكون بهذا القرب من الحاج مهران بذات نفسه .. عمه الذى لم يجرؤ على الاقتراب منه طيلة حياته .. سيكون منه بهذا القرب الحميمى ..

أمره الحاج مهران بنبرة هادئة و كأنه يدرك ما يعتمل بنفسه :- اجعد يا ولدى ..
كانت كلمة ولدى تلك هي دوما كلمة السر لدك حصون الثبات داخل زكريا ليجلس في التو و هو يتجنب التطلع لعينى عمه النافذة النظرة حتى أعماق نفسه..

ربت الحاج مهران على كف زكريا القريبة من كفه فتطلع زكريا الى تلك الكف الحانية و نفسه تمور بالعديد من المشاعر لم يستطع ان يضعها كلها حيّز التنفيذ الا واحدا غلبه لينحنى فيلثم كف عمه المتغضنة و هو يحبس دموعا تمنعه رجولته و ادعاءه الثبات الإذعان لها حتى تنسدل في حرية ..

لم يجذب الحاج مهران كفه من بين كفى زكريا و لكنه رفع كفه الاخرى ليربت على رأس زكريا المنحن في حنو هامساً :- سامحنى يا زكريا .. سامحنى يا ولدى ..
رفع زكريا رأسه مقابلا نظرات عمه المحملة بالندم و الإحساس العميق بالذنب هاتفا في ذهول:- وااه يا حاچ مهران .. أسامحك..!؟؟..
ابتسم الحاج مهران هاتفاً بنبرة مازحة:- جولى يا عمى ..انا اخو ابوك يا واد ...

ابتسم زكريا بالمقابل ليستطرد الحاج مهران و سعاله يقاطع كلماته في بعض الأحيان :- ايوه تسامحنى يا زكريا .. عشان كنت عارف ان حجك تتربى وسط الهوارية واحد منيهم لكنى سكت و كتمت الحج دِه .. بس غصب عنى يا ولدى
يوم ما امك جابتك و هملتك أمانة عندى ابوك معترفش بيك لكن انا كنت متوكد انك ولده ..
جلت استنى لما يشد عودك و ساعتها اجدر اجف جدام الهوارية كلاتهم بالورج اللى معايا لكن المرض رجدنى و مجدرتش اجف جصادهم و عاصم كان لساته عود أخضر ميجدرش عليهم و على جبروتهم ..

هتف زكريا :- كل حاچة و ليها أوانها يا عمى .. كل شى بأوان ..
اومأ الحاج مهران :- صدجت يا ولدى .. صدجت .. اهم حاچة عِندى دلوجت انك خدت حجك و الناس كلاتها مش الهوارية بس عرفوا انت مين و تبجى واد مين ..
و ربت على كتف زكريا في فخر :- انت زكريا واد غسان صادج الهوارى ..
أعاد زكريا رفع كف الحاج مهران ليقبلها في امتنان و محبة ..

ليهمس الحاج مهران :- جوم يا زكريا يا ولدى .. جوم و ارفع راسك وسط الخلج كلاتها ...
نهض زكريا و انحنى باتجاه رأس عمه ليقبل هامته في إجلال و اكبار .. و يخرج من الغرفة و قد امتلأت نفسه محبة لهذا الرجل ..
دمعت عيناه و هو يتذكر ذاك الحوار الذى دار بينه و بين عمه الفقيد الغالى ..
وصل بيت الحاج وهيب ليدخل مترنحا لا يدرى من حاله شيء .. كان نبأ وفاة عمه مهران قاصما .. أتى على كل ما لديه من قدرة على التحمل او حتى الادعاء بها ..

لقد مات ابوه الثانى دون ان يودعه .. مات الأول غسان الهوارى و لم يكن يجرؤ على إظهار حزن الألم على فراق ابيه ..غاب ابوه و ما كان له الحق في ان يقف مع الرجال ليأخذ بعزائه كولده سليم .. كان يبكى أبيه و يبكى حاله و سره الذى رحل مع رحيله ..
و الان رحل ابوه الثانى في غيبته و غربته و تلك التوهة التي فرضها على نفسه ..
رحل عمه الذى لولاه لظل كما كان دوما زوزور الذى تربى في كنف الهوارية و الذى ظل عمره بالكامل لا ينطق حرفا خوفا من بطشهم ..

رحل عمه و ما كان يقف في ظهر عاصم يعضده و يشد من اذره و يكون له دوما الأخ الذى تمنى بديلا عن سليم ..
وصل زكريا لغرفته و دفع ببابها ليطالعه محيا بدور الصبوح الذى تغيرت ملامحها فجأة ما ان رأته بهذه الحال ..
هتفت صارخة في لوعة و هي تندفع اليه تسند ذاك الجسد المترنح :- سى زكريا ..!؟.. مالك يا خويا .. !!؟..
اتكأ عليها حتى وصل لطرف الفراش فألقى بنفسه عليه هامساً :- متجلجيش .. هنام شوية و هبجى كويس ..

تمدد في وهن .. و راح فجأة في نوم عميق ظلت هي على حالها لا تدرى ما عليها فعله ان جسده يشتعل بالحمى .. و بدأ يهزى بكلمات غير مفهومة  و يهتف بأسماء  أشخاص لا تعرفهم ..كان يهتف باسمها في بعض الأحيان ..فتنتفض تضمه بذراعيها معتقدة انه استفاق و يناديها الا انها تكتشف انه لازال غارق في هزيانه ...

اندفعت تهبط الدرج تطرق باب شقة ابيها في لوعة .. فتحت نعمة في تعجب :- خير يا بدور .. جرى ايه .!؟..
هتفت بدور و هى تشير للأعلى :- ألحقينى يا نعمة  .. سى زكريا قايد نار فوق و مش عارفة اعمل ايه ..!؟.. صحى ابويا يتصرف
يجيب حكيم من اى حتة .. الراجل تعبان قووى ..
هدأتها نعمة :- حاضر هدخل اصحيه اهو .. اهدى بس تلاقيه وقف في الشمس زيادة حبتين انت مش بتقولى المعلم مرشدى بقى بياخده معاه في طلعاته على العمارات اللى بيبنيها ..يبقى اكيد هو كده زى ما بقولك ..

اندفعت نعمة توقظ الحاج وهيب الذى اندفع بدوره يبحث عن طبيب في تلك الساعة المتأخرة ..
عادت بدور لحجرتها بجانب زكريا حتى يعود ابوها بالطبيب .. ظلت بجواره و قد اصبح من شدة الحمى كأنه غارق في بركة ماء ..
احضرت منشفة نظيفة بللتها بالماء الفاتر و بدأت بالمسح بها على جبينه و جانبي وجهه الذى خالطت سمرته حمرة من شدة حرارة جسده الذى اصبح ينتفض في تلك اللحظة مما دفعها لتحتضن راسه في لوعة باكية على حاله التي جاء بها من الخارج .. انه بالفعل اصبح الذراع اليمنى للحاج مرشدى يأتمنه على الكثير و يأخذه دوما معه في جولاته حول مواقع البناء المختلفة ..لكن أي شمس تلك التي تؤثر فيه بهذا الشكل ..!؟..

فعلى حد علمها الشمس في الصعيد حارقة كأنها فوق الرؤوس و هو تربى هناك و نشأ حيث لهيب الشمس في أشهر الصيف امر اعتيادى كالتنفس ..
اخرجها نداء ابيها من شرودها وخواطرها لتندفع تفتح باب الحجرة على مصرعيه ليدخل الطبيب و الحاج وهيب معه و تنتحى هي خارج الغرفة تقف على أعتابها في انتظار الفرج من الله تفرك كفها في توتر حتى انتهى الطبيب من فحصه لزكريا ..

تحدث الطبيب بلهجة مطمئنة :- متقلقوش .. حاجة بسيطة  .. الأهم الاعتناء بمواعيد الدوا و الغذا ..
أومأت بدور برأسها إيجابا و تبع الحاج وهيب الطبيب و غادر مؤكدا انه سيبتاع الدواء و يعود سريعا ..
دخلت بدور تجلس على الأرض بجوار زكريا المسجى على الفراش .. لازالت تتأكله الحمى و لازال هزيانه  في زروته وكذلك نداءاته لا تنقطع.. استمرت في ترطيب جبينه و وجهه بمنشفتها المنداه حتى تنخفض الحرارة و تدعه الحمى ينام في سلام دون مزيد من تلك التأوهات التي يطلقها فتخلع قلبها من منبته هلعا على حاله ..

عاد من جديد لنداءته و زاد فضولها لتعلم من هؤلاء الذين يحتلون عقله و باله حتى يهزى بهم .. من عاصم ..!؟..
من هو الحاج مهران ..!؟..
والاهم .. من هي سهااام ..!؟؟..

هتفت الحاجة فضيلة في سهام الشاردة حتى انها لم تنتبه لابنها الذى يناديها في إصرار :- سهااام ..!؟.. ولدك بينادم عليكى .. ايه مسمعاش دى كله .. !؟.
انتفضت سهام من شرودها هاتفة :- ايه .. خير.. ايه فيه يا باسل ..!؟..  روح ألعب في الچنينة ياللاه ..
جذبته جدته لاحضانها هاتفة :- تعال يا ولدى .. سيبك من أمك دى.. اللى ما عارفة مالها من ساعة ما چت ..!؟..
هتفت سهام بحنق :- هيكون مالى ياما ..!؟.. ما أنا زينة اهاا ..

هتفت الحاجة فضيلة و هي تحتضن باسل تهدهده حتى ينام :- سهاام .. ايه في ..!؟.. انت متخانجة مع چوزك و لا ايه ..!؟..
هتفت سهام :- لااه ياما .. مش متخانجين بس .. أصل أنا كنت عند الداكتورة..
هتفت فضيلة في جزع :- داكتورة ..!؟.. ليه!؟..

هتفت سهام مؤكدة :- متخافيشى.. أنى بخير
بس الحكاية انى جلجت على حالى جلت اروح اطمن ..
سألت فضيلة مستفسرة :- تطمنى على ايه بالظبط !؟..
همست سهام :- اطمن على الحمل .. أنا ..
هتفت أمها في فرحة :- أنتِ حامل يا سهام .. يا..

قاطعتها سهام في ضيق :- لاااه .. مش حامل .. يااريت .. أنا رحت عشان اعرف ليه محصلش حمل لحد دلوجت .. أهو باسل داخل على  التلت سنين و نفسى أنى و حسام نجيب له اخ أو أخت .. اديكِ شايفة ياما متعلج كيف بولاد عاصم .. ده الْيَوْمَ اللى مبجيش فيه هنا السرايا بيبهدلنى هناك بكا و نواح عشان ياجى .. و اهااا على يدك كان خارب الدنيا لما لجى ولاد خاله نايمين و زهرة معاهم فوج ..

سألت فضيلة في قلق :- طب و الداكتورة جالت لك ايه ..!؟..
أكدت سهام :- جالت لى كله تمام و متجلجيش مسألة وجت مش اكتر و اسلمها لله ..
هتفت فضيلة :- و نعم بالله .. صح .. سلميها لله ..
رددت سهام بتضرع :- الامر لله .. يااارب

ثلاث ليال مرت .. يستفيق زكريا لبعض الوقت و يعاود الغوص في الحمى و الهزيان من جديد .. و بدور جالسة على ارض الغرفة بجوار فراشه لا تغادر موضعها ابدا تمده ببعض الماء عندما يهتف بطلبه ما بين نومه و صحوه .. تحاول قدر استطاعتها إطعامه لكنه يرفض و يعاود النوم من جديد و كأنه مهربه من امر ما لا تدركه ..

استيقظ زكريا يتلفت حوله و كأنه عائد من ارض بعيدة بعد غربة طويلة و أخيرا وقعت عيناه على بدور التي كانت رأسها تتكئ على مرفقها المسند على حافة الفراش بجوار كتفه كانت نائمة موضعها على الأرض لم تتمدد حتى .. نظر اليها باشفاق على حالها و هي في هذا الوضع لاجله .. وضع كفه على رأسها يملس شعرها فانتفضت في ذعر هاتفة باسمه :- سى زكريا ..!؟؟..

تنبهت لإفاقته فابتسمت في سعادة مندفعة لاحتضان راسه بين ذراعيها :- حمد الله على السلامة.. كده كنت هتموتنى من خوفى عليك..
ربت زكريا على ذراعها المحيطة به في محبة هامساً :- بعد الشر عنيكِ ..
قبلت رأسه و تركته مندفعة تشعل الموقد و تدفع على احد عيونه المشتعلة بقدر به بعض الحساء المعد مسبقا استعدادا لافاقته ..

وضعت صحن الحساء على حجرها و اعتدل هو قليلا حتى يستطيع تناول طعامه .. بدأت تطعمه في حبور لشفاءه مشاكسة :- عارف انت بقالك كام ليلة راقد ..!؟.. رفع رأسه بنظرات متسائلة لتستطرد هي :- تلت ليالى بحالهم و انت محموم و على حال لا تسر عدو ولا حبيب ..
اندهش مكررا :- تلت ليالى ..!؟.. طب و الشغل و الحاچ مرشدى ..!؟..

أكدت هي :- اطمن .. بعت يسأل عليك ابويا و عرف انك تعبان و راقد .. قاله لما يقوم بالسلامة يبقى يرجع الشغل .. ربنا يبارك له..
همس زكريا :- و يبارك للحاچ وهيب تعبناه معانا و كلفناه اكيد ..
هتفت بدور بابتسامة :- تعبك راحة يا سى زكريا .. المهم انك قمت لنا بالسلامة ..
انتهى زكريا من تناول الطعام و نهض من فراشه ليشعر ببعض الدوار لرقدته الطويلة ..

هتفت بدور بلوعة :- هتقوم ليه ..!؟.. خليك مرتاح و انا اجيب لك اللى انت عاوزه لحد عندك ..
ابتسم زكريا و اتكئ عليها مطمئناً :- انا بجيت زين متجلجيش .. انا عايز اجعد بره شوية ..
أحاطت بدور جذعه بذراعها و هي تقول :- من عنايا .. أخرجك بره بس أخاف تستهوى يا سى زكريا ..
ابتسم زكريا و نظر اليها من عليائه :- لاه متخفيش .. مش هستهوى ..

اجلسته على الأريكة الملاصقة لباب الغرفة و امعانا في الحفاظ على شفاءه المستجد وضعت شالها على كتفه تدثره به ..
امسك بأحدى كفيها يرفعه ليلثمه في محبة خالصة هامساً في امتنان :- ربنا يخليكِ ليا .. انى مش عارف من غيرك كنت هعمل ايه..!؟
هتفت مشاكسة :- كنتِ هتعمل ايه يعنى ..!؟.. كنت زمانك قاعد مرتاح كافى خيرك شرك من الحكايات اللى جرتها عليك البت بدور دى..
انفجر زكريا ضاحكاً .. و مال هامساً بالقرب من اذنها :- البت بدور دى ..اللى هي البت الجمر بت الحاچ وهيب ..!؟..
كان دورها لتتعالى قهقهاتها :- قمر ايه بس.!!؟ أمر بالستر ..

ابتسم جاذباً أياها لاحضانه مدثرها معه تحت شالها هامساً :- شكلك عتغيرى منيها .. دى بدر البدور ..
استكانت في احضانه تتلمس دفء الأمان الذى تحيا بأنفاسه .. و لم تجده الا وهى بين ذراعيه.. مد كفه بطول ظهرها يمسده في رفق .. كان يعلم انها نامت الثلاث ليال الماضية تحت أقدامه مستنده برأسها على طرف الفراش و لم تتمدد بجواره لضيقه و لتدعه له ينام فيه دون مشاركته لها.. ثلاث ليال كانت بالتأكيد مرهقة لها جدا و رغم ذلك ما تزمرت او اشتكت بل قابلته بكل فرح حين استيقاظه و كانه ما نام مغيبا ثلاث ليال ذاقت هي فيهم وحدها مرارة الخوف و تجرعت القلق و الهم على حاله ..

تأوهت بلطف عندما مست اطراف أصابعه موضع الألم في ظهرها فانحنى يقبل هامتها التي تلامس ذقنه و همس في عشق :- بدور..!!.. تنبهت و رفعت ناظريها ملبية .. فاستطرد في محبة .. چهزى حالك عشان ننزل الشجة اللى تحت ..
نظرت اليه في دهشة هاتفة :- شقة ايه يا سى زكريا ..!؟..
رد مبتسما :- شجة أمك يا بدور ..!؟.. نضفيها و روجيها و ننجل فيها باذن الله ..
انتفضت في فرح غير مصدقة :- صحيح يا سى زكريا ..!!؟..

اومأ براسه مؤكدا :- ايووه .. شدى حيلك و ربنا يعينا على إيجارها .. انت مش لساتك شايلة نجوط الحاچ مرشدى اللى عطتهولك !؟.
أكدت في سرعة :- اه .. لسه معايا ..
هتف :- طب زين .. و أعادها لاحضانه من جديد هامساً بمزاح:- المهم بدر البدور تكون مبسوطة و تفضل تحبنى زى البسبوسة
قهقهت وهى تذرع رأسها باحضانه اكثر :- مبسوطة دى كلمة قليلة عليا قووى يا سى زكريا ..وعلى فكرة بقى .. بحبكِ اكتر من البسبوسة بكتير ..
ضحك زكريا هاتفاً :- و الله و ايامك هتيجى ملزجة كيف العسل يا زكريا ..
ضحكت وهى تتعلق برقيته تذيقه حلاوة الشهد..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة