قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل الخامس عشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل الخامس عشر

اصر الحاج مندور على التواجد لحظة تسلم زكريا للمبلغ المالى من شعلان نظير سكوته بالطبع كان يستطيع فضحه في الموقع عندما سمع ما دار بينه و بين زكريا لكن لطالما كان الحاج مندور يضع سمعته في كفة ميزان الذهب ولا يسمح بان تطالها اى شائبة او إشاعة مهما كان حجمها.. و ابلاغ الشرطة معناه تحقيقات و بلاغات و اشاعات لا تعد و لا تحصى..

لذا قرر التعامل مع اى مشكلة بمجهوده الشخصى وخبرته فقط كما تعامل مع حادثة زكريا و لم يبلغ الشرطة لان بها شبهه جنائية.. وهنا فيما يخص مشكلة شعلان.. قرر أيضا عدم ابلاغ الشرطة و الاكتفاء بالتصرف بما يراه مناسبا.. و على الرغم من عدم اتفاق زكريا معه في الرأي الا انه لم يستطع معارضته فهو قبل كل شيء صاحب المال و المتصرف الأوحد فيه.. ومن حكم في ماله ما ظلم..

ظهر زكريا على ذاك الجانب من الطريق الذى اتفق مع شعلان على التواجد فيه.. و لم تمر لحظات حتى ظهر شعلان بدوره..
اخرج ظرفا به بعض النقود سلمه لزكريا الذى ادعى اللهفة و هو يفتحه ليتأكد ان النقود كاملة فيه..
هنا ظهر الحاج مندور من احد الجوانب التي كان يختفى وراءها.. ليهتف في شعلان معاتباً: - كده برضة يا شعلان..!!..
بهت شعلان عندما رأى الحاج مندور أمامه يصيح في وجهه معاتباً بهذا الشكل.. و من وراءه ظهر عدد من الرجال يحيطون به..

نظر شعلان بصدمة للحاج مندور و زكريا و كل الرجال الذين يعج بهم المكان.. ليهتف الحاج مندور بصوت جهورى غاضب من جديد: - انا استأمنك على مالى و سمعتى و انت تخونى.. لا عاش و لا كان اللى يخون الحاج مندور الشامى..

و أشار لرجاله الذين توجهوا لشعلان الذى بدأ يستفيق من صدمته ليصرخ مستنجدا ليظهر مجموعة من الرجال كانوا على ما يبدو في انتظار إشارة منه..
و بدأ التلاحم بين المجموعتين ليندفع زكريا و كل همه الزود عن الحاج مندور و ابعاده عن خضم تلك المعركة الضروس التي يدور رحاها بين الفريقين.. و لكن كان زكريا نفسه مستهدفا..

فقد حاول الدفاع عن نفسه قدر استطاعته و خاصة بتلك الذراع المتألمة و التي لم تشفى بعد.. جاهد حتى يصل للحاج مندور الذى اشتبك بدوره في المعركة فلم يكن رجال شعلان بأقل من قوة او صلابة رجال الحاج مندور بل انهم فاقوهم عددا..

كاد زكريا يصل للحاج مندور و في سبيل ذلك تلقى العديد من الضربات و اللكمات التي اصابت ذراعه الذى وصل به الألم حد اللانهاية.. و ما ان هم بسحب الحاج مندور بعيدا حتى باغتتهما عصا ضخمة تسقط باتجاههما حاول زكريا تفاديها لكن الرامى كان اسرع لتسقط على رأس الحاج مندور و يسقط بين يدى زكريا مضرج في دمائه...

وقفوا جميعا زكريا و الطبيب و زينة امام ذاك الحائط الزجاجى لغرفة العناية المركزة و التي نقل اليها الحاج مندور بعد تلك الحادثة التي كادت تودى بحياته..
كانت زينة كعادتها صامتة، مصدومة من مظهر ابيها الشاحب و جسده المعلق بالعديد من الأنابيب الطبية، بكاءها كان حارا بدموع ملتهبة لكن بلا ادنى صوت يذكر..

وقف زكريا بذراعه المصابة و التي اصر الطبيب على وضعها في الجبس لسوء حالتها و لإرغامه على عدم تحريكها حتى تمام الشفاء لا يستطيع ان يبرر لها ما حدث و لا كيف لم يكن بمقدوره الدفاع عن ابيها..

كل ما قاله في محضر الشرطة ان هناك من هاجم سيارة الحاج مندور و هو معه و أرغمهما على الترجل منها بغرض سرقتهما وعندما اعترضا نالهما ما حدث بذراعه و لرأس الحاج مندور و لاز اللصوص بالفرار هذا ما قاله زكريا و كان على يقين ان الحاج مندور ما كان ليقل غير ذلك..

اقترب في إشفاق من تلك الباكية التي تلتصق بزجاج غرفة العناية متطلعة لابيها المسجى بلا حراك في إشفاق و لوعة و همس: - هايبجى بخير صدجينى..
انتفضت عندما سمعت صوته الرجولى ينفذ لمسامعها و بدأت تتوتر كعادتها.. و لكن العجيب انه عندما رفعت نظراتها الى وجهه تلاقت مع نظراته المتعاطفة مما هدأ من انفعالها قليلا و بدأ توترها في التراجع و أومأت برأسها موافقة..

قررت هي البقاء بجوار ابيها و فهم زكريا ذلك ضمنيا.. فقد شارفت الساعة على الواحدة بعد منتصف الليل و هي لم تتحرك للعودة للفيلا.. حمد الله انه استطاع مكالمة الست تهانى ليخبرها بما حدث و انه باق بجوار الحاج بدوره و أوصاها خيرا بحازم الذى كان قد نام بالفعل.
جلست على تلك المقاعد امام الغرفة لا قبل لها لتحيد بناظريها عن الزجاج.. عيونها تتعلق به كمن يتعلق بسماء مفتحة أبوابها لحظات استجابة..

نهض يحضر بعض من ماء و شراب ساخن لأجلها و لأجل ألم رأسه الذى يقهر احتماله و ما ان عاد بحمله حتى رأها قد راحت في نوم عميق..
وضع الأكواب جانبا و زفر في حنق و هو يرى ما ترتديه.. تلك الجونلة التي بالكاد تصل لركبتيها و سترتها الحريرية التي تظهر ذراعها بأكمله..

اندفع لتلك الممرضة التي ظهرت عند اخر الرواق ليضع بكفها ورقة مالية و يطلب منها احضار غطاء لاجلها.. استلمه من الممرضة و عاد به ليجدها تضم نفسها بذراعيها شاعرة بالبرودة جراء ما ترتديه..
وضع الغطاء عليها في هدوء لتتململ هي في وداعة و تتحرك رأسها عن حافة المقعد الذى كان ترتكن عليه لتسقط على كتفها تنبأ بقرب سقوطها او ربما اصطدام رأسها بحافة المقعد المجاور.. وقف حائر لا يعلم ما عليه فعله و أخيرا سحب عمامته من فوق هامته و انحنى يضم العمامة يدفعها كوسادة تحت خدها دون ان يمسها.. يدعو الله الا تستيقظ لكن ما حدث هو العكس..

فلقد استيقظت فاتحة جفونها في صدمة ناظرة لذاك المنحنى يضع شيء ما تحت رأسها.. تلاقت عيونهما و شعرت بشئ غريب يكتنفها.. شيء اكثر غرابة مما تستطيع وصفه او اسباغ مدلول ما على كنهه..
تنحنح هو في اضطراب و صرف بصره عنها في ثوان جاذباً عيناه عن مجال عينيها المغناطيسي بقوة إرادة لا يستهان بها..

و نهض مسرعا يبتعد جالسا على أبعد مقعد اما هي فانتفضت مندفعة باتجاه الحائط الزجاجى لحجرة ابيها ليسقط الغطاء عنها و تقع عمامته على الأرض جوارها بأهمال أورثه الحنق و جعله يجز على اسنانه ندما لانه وضع عمامته تحت تصرفها لتكون هذه نهايتها..

قرر النهوض في صمت لينتزع عمامته العزيزة من مكانها الملقاة فيه خلف مكان وقوفها خوفا من عودتها لتدهسها بإقدامها و ما ان هم بألتقاطها حتى عادت هي لمكانها بظهرها و فجأة.. حدثت الكارثة..

سقطت هى متعثرة فيه وتألم هو صارخاً بسبب ذراعه و أنقلب الوضع ليصبح كلاهما ارضا.. هو يفترش الأرض و هي بلا حول و لا قوة تجد نفسها في احضانه جالسة على حجره..
ماذا يحدث..!؟.. و كيف حدث..!؟..
لا علم لأحدهما بما يجرى.. و لا كيف تم مثل ذلك الوضع الغريب.. !!؟..

وكما أصبحت عادة منذ تقابلا.. لحظات من صمت رهيييب يعقبها صدمة.. ثم إفاقة تااامة يخلفها رد فعل غير طبيعى.. و في المعتاد من قبلها.. لكن الغريب هذه المرة ان رد الفعل العجيب ذاك كان من جانب زكريا.. الذى شعر ان تلك المتعالية ذات النظرات العجيبة المتباينة و المتقلبة كموج البحر.. و التي ترتدى تلك الملابس المتحررة عما اعتاده و تجلس في حجره الان ما هي الا جمرات من لهب ألقيت عليه فجأة ليكون رده الطبيعى ان يقذفها بعيدا و هذا ما حدث بالضبط..

لا يعرف كيف تم له ذلك.. لكن كل ما أدركه انها ألقاها عنه مبتعداً كأن شياطين الجحيم كلها تلاحقه.. حتى انه نسى في غمرة الاحداث المتلاحقة ألتقاط عمامته التي ظلت على حالها ارضا.. حتى انتشلتها يد رقيقة بأصابع مرتجفة.. تضمها لتتوسدها و هي تشعر بإحساس عجيب و مفتقد منذ امد يغمر روحها و يهدهد ألمها.. رائحته الرجولية المنبعثة من تلك العمامة كانت بمثابة ترياق ما لجلب النوم الهانئ لجفونها التي ما كانت ترى الا كوابيس واقعها.. حتى بعد ما جرى منه.. و دفعه أياها بعيدا عنه بهذا الشكل.. الا انها لم تستطع ان تتخلى عن عمامته التي وجدت فيها بعض من شعور قديم مفتقد.. لا قبل لها على ضياعه من جديد...

وصل عاصم و رجاله لذاك المكان المتطرف في اعلى التبة الشرقية من النجع شاهرا سلاحه و اندفع لداخل احدى المغارات الصخرية هاتفا في حارسها الذى كان غافلا لحسن الحظ: - جوم.. نادم على سيدك سليم..
اندفع الحارس في ذعر هاتفا و هو يتوجه للداخل مناديا سليم الذى ما كادت تمر اللحظة حتى ظهر أمام عاصم مشهرا سلاحه بدوره هاتفا في دهشة لمرأى عاصم: - انتِ كيف وصلت لهنا يا عاصم..!؟.. و ايه اللى چابك ورايا من الأساس..!؟..

هتف عاصم بغضب هادر وهو يمسك بتلابيه بقوة: - يعنى منتش عارف..؟؟.. انى ايه اللى هيجيبنى وراك يعنى..!؟.. عاشچك و مش جادر على بُعدك!؟.. عمايك اللى منتش مبطلها.. و الظاهر كِده مش هتبطلها الا لما أنفذ اللى جلتلك عليه جبل سابج..
هتف سليم حانقا: - ايه..!؟.. عملِت ايه !؟.. ولدى و اتوحشته و رحت اشوفه.. مكفرناش يعنى..

زمجر عاصم هاتفا: - و احنا اخر مرة اتفجنا على ايه يا سليم..!؟.. مش جلتلك رچلك متعتبش النچع تانى..!؟.. مش كفاية انى ساكت على سمك للبهايم و حرجك للزرعة انتِ و رچالتك..بس شكلك كِده جبت اخرها يا واد عمى..
هتف سليم في ذعر وهو يزدرد ريقه: - ايه!؟.. ناوى على ايه يا عاصم..!؟.. ده انى واد عمك برضك..

هتف عاصم في نفاذ صبر بثورة: - انت مخلتليش حل تانى.. و دِه أخرى معاك يا سليم..
و اندفع عاصم من أمامه ليهتف سليم خلفه متسائلا: - هتبلغ عنى الحَكومة يا عاصم!؟... هتبلغ عن واد عمك.. !؟..

نظر عاصم و هو يمتطى جواده في ضيق: -معدش ينفع خلاص يا سليم..و انى ماشى من هنا.. و خلى حد من رچالتك يتعرض لى انا ورجالتى.. عشان اطربجها عليك جبل حتى الحَكومة ما توعى تشم خبر...
و اندفع عاصم و رجاله بالفعل مغادرين..
و لم يستطع اى من سليم و رجاله ان يحرك ساكنا ليوقف الغول عما عزم أمره عليه..

أفاق الحاج مندور أخيرا و للعجب اول من طلب رؤيته لم تكن ابنته كما كان يظن الطبيب بل زكريا.. و الذى سمح له الطبيب بالدخول للحظات لان الحالة مازالت غير مستقرة..

تنحنح زكريا و هو يتوجه لسرير الحاج مندور ليقف بالقرب منه.. ليشير اليه الحاج مندور بالاقتراب اكثر.. أطاع زكريا في هدوء و اقترب قدر الإمكان و انحنى حتى يستمع لما يريد الحاج مندور قوله دون ان يرهقه كما امر الطبيب..
همس الحاج مندور بصوت متحشرج: - زكريااا..

انتبه زكريا بكامل حواسه مشجعا الحاج على الاستمرار بأماءة من رأسه.. ليستطرد الحاج مندور بصوت متحشرج: - زينة أمانة في رقبتك يا زكريا.. هي ملهاش حد غيرى و قرايب من بعيد كل همهم هيورثونى امتى..
هتف زكريا متعجباً: - في رجبتى انا يا حاچ..!؟.. كيف..!؟..

اومأ الحاج مندور هامساً بوهن: - ايوه.. محدش غيرك هيعرف ياخد باله منها و يصبر عليها زيك.. و خصوصى في حالتها دى..
كانت الدهشة هي كل ما اعتلى ملامح زكريا و عقدت الصدمة لسانه عن اى رد مناسب.. لذا استمر الحاج مندور و هو يزدرد ريقه في صعوبة.. و يغمض جفونه فى محاولة منه ليستمد القوة اللازمة ليكمل ما بدأه: - انا عايزك تتجوز زينة..

كانت الصدمة الأكبر الان على ملامح زكريا الذى هتف بدهشة: - اتچوزها !؟.. اتچوزها كيف..!؟.. يا حاچ انت متعرفنيش.. و لا تعرف ايه اللى ورايا.. مش يمكن أكون مش زى ما انت واعى.. و مراعيهاش بما يرضى الله و ابجى كل اللى عايزه مالها و بس.. زى باجى جرايبها..!!؟

ابتسم الحاج مندور في ود لكلمات زكريا و التي تؤكد انه رجل اصيل ذو معدن طيب كما كان يعلم و كما أكدت له الظروف ذلك ليهمس: - يا زكريا يا بنى.. انا طول عمرى بخش في صفقات كسبانة.. و ربنا كان بيسلهالى لانه عارف انى ماشى في طوعه و عمرى ما عملت اللى يغضبه.. هاتيجى على جوازة بنتى الغلبانة اللى ملهاش حد و هخسر.. ربنا اكيد رايد لى الخير و رايدهولك.. و قبلنا كلنا رايده للغلبانة اللى بره دى..
انا لما سافرت من يومين رحت للحاج مرشدى الضبع..

تنبه زكريا بكل حواسه و لم يعقب.. فاستطرد مندور: - جبت سيرتك في الكلام لقيت الراجل بيقول فيك و في أخلاقك شعر و حكى لى حكايتك كلها من طقطق لسلام عليكم.. و ازاى هو زعل انه خسر حد في امانتك بعد ما طلعت من السجن براءة و رجعت اشتغلت عنده.. و بعدها قررت تيجى على هنا..
تنهد مندور في محاولة لالتقاط أنفاسه مما دفع زكريا ليهمس: - طب ارتاح يا حاچ و نكمل بعدين..

هتف مندور في نزق: - مفيش بعدين..!؟..
لازم تعرف كل حاجة عن زينة بما يرضى الله.. وانا مش عايز حاجة الا انها تبقى في عصمة راجل يحميها من اللى ممكن يحصل بعد موتى و يصبر عليها عشان عارف حالتها ووضعها..
هتف زكريا: - حالة ايه يا حاچ بعد الشر.. ماهى زينة و زى الفل..!؟..
ابتسم مندور: - هي كِده معاك انت بس..

فغرزكريا فاه و لم ينطق.. و شرد قليلا فيما حدث منذ ساعات و كيف عندما هدأ و عاد لموضعه الأول امام الجدار الزجاجى وجدها نائمة تتدثر بالغطاء الذى احضره لها و تحتضن عمامته أسفل خدها في راحة.. ليستكمل مندور بنفس الابتسامة مخرجا أياه من شروده: - هي مكنتش قابلة تشوف او تسمع جنس راجل غيرى.. مكنتش بتطلع بره الفيلا الا معايا و لأماكن محددة و متطرفة بعيد عن الناس.. كل الخدم في الفيلا ستات و بس.. حتى البواب راجل عجوز و بيقعد دايما من بره.. فين و فين لما اتعودت على السواق و بقت تخرج معاه من غيرى..

هتف زكريا و هو يضيق ما بين حاجبيه في تعجب مستفسراً: - طب و ليه العجدة دى !!.
هتف مندور بنبرة منكسرة: - زينة من حوالى خمس سنين اتعرضت لحادثة...
و صمت الرجل منكس النظرات و لم يستطع ان يتفوه بكلمة..

حتى زكريا صمت بدوره و لم يكن يستطع ان يستنتج حتى نوع تلك الحادثة.. فلم يكن بمقدوره تخيل ان تلك الفتاة قد تعرضت لجريمة وحشية بهذا الشكل..
طال الصمت و قطعه مندور بعيون دامعة لم يكن من السهل ابدا ألتماعها في احداق ذاك الرجل الذى يرهبه السوق كله و يقيم له الجميع ألف حساب.. لكنه في الأخير أب..

همس مندور بصوت متحشرج: - ايوه يا بنى.. هو زى ما استنتجت كده.. حادثة اعتداء..و طبعا متمسكوش.. و انا قفلت الليلة عشان سمعة بنتى اللى مكنتش عارف يوميها هتقوم منها و لا لأ.. و أديك شايف حالتها.. بتتعالج لحد دلوقتى.. تفتكر دى ممكن اسيبها لمين..!!.. و لا مين ممكن يقدر يراعيها..!؟.. ارحم واحد فيهم هيجيب شهادة بحالتها النفسية و يرميها في مصحة عشان يحط ايده على مالها كله.. و يبقى عمل اللى عليه.. عرفت انا بقول ليه اتجوزها..!؟.. حتى ولو عايز تتجوز تانى ده حقك.. لكن متسيبهاش يا زكريا و خليها دايما تحت حمايتك..

هنا بكى الحاج مندور بالفعل و لم ينبس زكريا بحرف واحد و نظراته تتأرجح ما بين ذاك الباكى المسجى على فراشه و تلك التي تقف خلف الحائط الزجاجى تلصق وجهها به كالأطفال و تتابع بنظراتها العجيبة ما يحدث بالداخل بين زكريا و ابيها الذى هدأ قليلا ليهمس: - زكريا..

سلط زكريا نظراته من جديد على مندور الذى استطرد: - انا لما كلمت الدكتور مؤمن بعد الحادثة اللى حصلت معاكم يوم ما انا كنت غايب.. قالى ان اللى حصل ده خير و أكد لى ان وجودك انت بالذات و معاك حازم هيخليها تبتدى تتعامل بشكل طبيعى و خاصة انى لاحظت انها مش بتخاف منك زى باقى الرجالة..حسيت انها متقبلة وجودك معانا في الفيلا.. و كمان سامحتك على زعيقك فيها.. و ده مؤشر كويس على حسب كلام الدكتور و مما يكون عامل مساعد كويس في رجوع الكلام ليها..

انتفض هنا زكريا من على طرف فراش الحاج مندور هاتفاً في صدمة: - هي مبتتكلمش..!؟..
أكد مندور بتعجب: - ايوه يا بنى.. هى فقدت النطق نتيجة الصدمة بعد الحادثة.. انا كنت فاكرك عارف...
هتف زكريا بحنق:- اعرف منين..!؟.. انا كنت فاكر.. اجصد انها.. اصل يعنى احنا متكلمناش كتير.. فجلت..

ابتسم مندور لاضطراب زكريا: - انا افتكرتك عارف او الخدامة قالت لك او حد في الموقع قال لك.. او حتى حازم ابنك.. ما هو اكتر واحد كان بيقعد معاها و بيكلمها بإشارات ايده و كنت بسمعها بتضحك و هي قاعدة معاه..
كم شعر زكريا بذنب رهيييب يعتصر كل خلية من خلايا جسده.. رفع نظراته للزجاج ليطالع وجهها الندى و ملامحها الأكثر براءة من طفلة لم تتخطى العاشرة من عمرها..

و شعر بالمزيد و المزيد من الذنب الذى أورثه ندم قاااتل يجعله يود لو تعود به الساعات لعدة أيام مضت حتى لا يتفوه بمثل تلك الكلمات الجارحة الى ألقاها على مسامعها صارخاً بها في وجهها خوفا على ولده...
هتف مندور ساعلا: - روح يا زكريا هات المأذون.. اكتبوا الكتاب..زينة متخرجش من هنا الا وهى مراتك..

و بدأ يسعل من جديد ليندفع الأطباء للحجرة دافعين زكريا خارجها في توتر ليشرعوا في إنقاذ المريض..
وجد زكريا نفسه خارج الغرفة يقف امام الحاجز الزجاجى يتطلع لما يحدث خلفه و بجواره تقف هي في صدمة تتابع ما يحدث لابيها بالداخل.. و قد أشفق عليها من جراء ما تحمله الأيام لها..

تم عقد القران في المشفى بجوار فراش ابيها الذى استطاع الأطباء إنقاذه بأعجوبة وضع كفه في كف زكريا و بدأ المأذون بتلاوة الصيغة و من قبلها سؤال العروس بقبولها الزيجة ام رفضها و التي أومأت بالإيجاب من ذاك الركن حيث كانت تقف في احد جوانب الغرفة صامتة كعادتها لكن زكريا في تلك اللحظة قدر صمتها و بدأ يستوعبه... و انتهى عقد القران ليخرج الجميع من الغرفة مع استياء الأطباء بسبب سوء حالة المريض و إمكانية تأجيل اى مناسبات حتى يتعافى و يتم شفاءه او حتى على الأقل تسمح حالته الحرجة بذلك..

وقف زكريا و زينة للحظات خلف الجدار الزجاجى يتطلعا للحاج مندور الذى رفع غطاء الأكسجين عن وجهه لثوان.. همس لابنته بحروف كلمة "مبروك " لتبتسم في شجن و عيونها دامعة تتحسس الزجاج بأطراف اناملها كأنما تتحسس وجنة ابيها.. همس زكريا بعد لحظات بصوت متحشرج يتنحنح في احراج: - انى بجول نروح الفيلا..

انتفضت هي حتى قبل ان يكمل كلماته التي أيقن انها ما كانت الكلمات المناسبة في تلك اللحظة و ان تعبيره خانه و صاغ الكلمات بشكل خاطئ تماما ليتنبه مستدركا: - اجصد انى اروح اجيب حازم من البنسيون و أرجعه الفيلا تكونىِ ارتاحتى و نعاود تانى هنا عند الحاچ..

أومأت برأسها متفهمة و موافقة.. ليشير اليها بالمغادرة خلفه ليعود بها للفيلا وعند المدخل الذى فتحه البواب العجوز يتبعها حتى الداخل.. و ما ان اطمئن لدخولها حتى عاد بالسيارة للبنسيون لتقابله تهانى بفضولها المعتاد لكنها لا تستطيع صبر أغواره فقط أبلغها انه سينتقل للعيش بجوار رب عمله و ترك لها اجرة الشهر الباقى كاملا..شاكرا كل ما فعلته في سبيل حازم و لأجل صداقتها لامه رحمها الله..

دخل الغرفة ليجد حازم قد غفا منذ فترة قليلة بدأ يجمع في حاجياتهما و هو يتطلع لتلك الغرفة التي شهدت اجمل اللحظات بينه و بين بدور.. الان هو متزوج من امرأة أخرى.. امرأة مختلفة تماما عن بدور الطيبة حد السذاجة.. الحانية حد الثمالة الشفافة..النقية.. العاشقة حد الألم..

تطلع للمرة الأخيرة للبحر من هذه الزاوية و زفر في محاولة لوأد شعور جارف بالحنين لتلك الرائعة الراحلة..و التي طالما خالطت أنفاسه أنفاسها في محيط تلك الغرفة التي جعلتها عالم في حد ذاته..عالمهما..

ايقظ حازم في حنو.. و حمل الحقيبة بذراعه السليمة..و رحل مودعاً تهانى.. و جال ببصره حوله قبل ان يودع بنسيون السعادة..
فهل يا ترى ستقابله السعادة مرة أخرى في مكان اخر..!؟.. ام انها ضلت طريقها اليه بعد رحيل بدور عن عالمه..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة