قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل الثاني عشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل الثاني عشر

استقبلت الحارة زكريا استقبال الفاتحين و لم يدخر المعلم خميس جهدا في نشر خبر خروج زكريا مرفوع الرأس يكلل تاج البراءة هامته.. حتى ان زكريا تفاجئ بتلك الفرقة الموسيقية التي استقبلته على باب الحارة جعلت الجميع يتجمع مباركاً و مهنياً زكريا بخروجه سالما..و النساء تلقى بزغاريد الفرحة من النوافذ و الشرفات على طول الطريق حتى بيت المعلم خميس الذى وقفت على أعتابه الخارجية نعمة و هي تحمل حازم في سعادة بالغة في انتظار قدوم ابيه..

وقف زكريا و المعلم خميس امام نعمة وهى تحمل حازم و قد انفض الجمع و ذهب كل حى لحال سبيله..
تسمرت نظرات زكريا على حازم و نسى تماما ان يلقى التحية على نعمة التي تحمله و التي دمعت عيناها تأثرا و هي تدفع بحازم بين ذراعى أبيه ليستقبله ضاما أياه في شوق هائل.. ضم ذراعاه حول ولده و اطبقهما عليه في حنين و حنو..

انه يشبه بدور كثيرا.. انه قطعة منها.. و كأن الله عوضه عنها بطفل يحمل الكثير من ملامحها و ابتسم زكريا في وجه الطفل المندهش لذاك الرجل الذى يحمله و بادله حازم الابتسامة في وداعة جعلت عينا زكريا تدمع في فرحة لا يمكن وصفها..

ربت المعلم خميس على ظهر زكريا مشيرا اليه بالصعود لداره فانتبه زكريا الذى غاب مع حازم عن كل ما و من يحيط به.. حتى انه انتبه لنعمة التي لم يلق عليها السلام بعد فهتف محرجا: - كيفك يا ست نعمة..!؟.. متأخدنيش.. اتلهيت في..
قاطعته نعمة مقدرة: - الف حمدالله على سلامتك يا سى زكريا.. ربنا يخليلك حازم و تشوفه احسن الناس يا رب..

هتف زكريا و هو يتطلع لخميس: - و الله انا ما عارف أرد لكم كيف جمايلكم عليا ..!؟..
هتف خميس معاتبا: - خبر ايه يا صعيدى!؟.. هو في جمايل بين الأهل برضة.. ياللاه على فوق تاكل لقمة من ايد نعمة.. وبعدين تروح بيتك.. نعمة خليتهولك زى الفل..

هتف زكريا من جديد: - مش بجولك يا معلم مش عارف أرد جمايلكم عليا كيف..!؟..
و مبروك على چوازكم.. چت متأخرة.. و ربنا يجمعكم دايما على خير يا رب..
هتف كل من نعمة و خميس و كلاهما يتطلع للاخر في محبة: -أمين ..

استلم زكريا مفتاح بيت الحاج وهيب من نعمة و سار تلك الخطوات التي تفصله عن بيت المعلم خميس في وجل و هو يضم حازم الى صدره.. ليوقفه عم طايع بائع البطيخ هاتفا باسمه محاولا الإسراع قدر استطاعته في سيره بقدمه العرجاء.. انتظره زكريا حتى وصل اليه ملتقطا أنفاسه في تلاحق..و اخيراً هتف:- حمدالله على السلامة يا زكريا يا بنى..

عارف انك واخد على خاطرك منى.. عشان كتم الحق و مشهدتش باللى شوفته و انا نايم في فرشتى يوم ما ضربوك و حرقوا القهوة.. ودمعت عيناه ليستطرد.. غصب عنى يابنى.. انا مكنتش خايف على نفسى بس بنتى لو جرى لى حاجة من رجالة حنيش.. كان هيجرالها ايه من بعدى.. دى ملهاش غيرى يا زكريا.. خفت و سكت..

و عشت بعذاب كتمان الحق سنين.. و لما جت الفرصة و سمعت كلام صباح مع ست نعمة في المستشفى قلت خلاص ربنا بعت لى الطريقة اللى أساعدك بيها و رحت البوليس و قلت على اللى سمعته من صباح و شهدت ست نعمة علشان تأكد كلامى و متقدرش صباح ترجع في كلامها و انا ع ملت على حنيش لعبة رسمها البوليس عشان يسمعوا اعترافه و يجروه لقضاه متلبس عند صباح في المستشفى..

تنهد طايع هامسا.. سامحنى يا زكريا..
سامحنى يا بنى..
تنهد زكريا في استكانة هامسا للعم طايع في راحة: - مسامحك يا عم طايع.. مسامحك و عارف كيف الخوف ممكن يخرس الواحد و ميخلهوش ينطج.. مسامحك و ربنا يخليلك بتك.. و تفرح بيها عن جريب..

ابتسم طايع في سعادة و أومأ برأسه في امتنان لزكريا و رحل ليتركه يدخل بيت الحاج وهيب و الذى ادخل مفتاحه في موضعه وفتح باب البيت الخارجي ووقف يتطلع حوله و ينظر الى كل ركن كان له فيه حكاية مع حبيبة روحه و سارقتها..

وقعت عينه على ذاك الموضع امام البيت حيث يقف و تذكر انه ها هنا هتف في سمرى بانها زوجته عندما رأه يتجرأ عليها و هناك محل البسبوسة التي كانت تعشقها و التي كانت تشتريها و يتبعها الى المحل ذهابا و إيابا خوفا عليها من سمرى و رجاله..

تنهد و فتح الباب ليتطلع لتلك الدرجات التي كانت تندفع منها واليها صعودا وهبوطا في صحة و عافية.. تذكر وهو يخطو على الدرجات الأولى كيف انه نهرها ذات مرة معتقدا انها متأزمة من عيشتهما المتواضعة و تمنى لو يعود الزمن ليخرس لسانه عنها و لا ينطق الا بكل ما يسعدها و يجلب الضحكات لا الدمعات لعينيها..

صعد الدور الأول.. ووصل لشقتهما.. هم بفتح بابها ليتطلع خلفه لباب شقة حماه الحاج وهيب رحمه الله.. لتدمع عيناه و هو يرهف السمع كأنه يسمع خطواته المتمهلة و سعاله شتاءً.. و نداء الست نعمة على بدور لتحمل النعناع لابيها.. و صوت بدور و ضحكاتها و مشاكساتها لنعمة..
دخل شقته و بدور و التي لم يمكثا بها طويلا بعد انتقالهما اليها بديلا عن حجرة السطح التي شهدت اجمل لحظاتهما معا..

وضع زكريا حازم على اول مقعد و هو يسمى الله.. و يرفع أكفه تاليا الفاتحة على أرواح أصحاب البيت الأعزاء..
ثم انتبه لحازم الذى كان يتطلع حوله في اهتمام ليهاتفه وهو يحمله على فخذه سائلا أياه: - تعرف انا مين يا حازم..!؟..
اومأ الطفل برأسه مؤكدا وهو يهتف في حماسة: - اه.. انت سكريا (زكريا)..

انفجر زكريا مقهقها: - يا واد جول بابا.. و لا ابويا.. و لا ابووى حتى.. اى حاچة بس اسمعها منيك..
هز حازم رأسه رافضا مؤكدا على اصله الصعيدى وهو يصر برأس يابس على مناداة زكريا بأسمه مجردا مما دفع زكريا للاستسلام ليضمه لصدره في شوق و يندفع به لحجرة النوم ليأخذه في فرحة بين احضانه و يذهب كلاهما في نوم عميق خرجت كسبانة تحمل صينية الطعام المجهزة لذاك الذى لا ينفك عن الغناء للحظة.. هتفت هامسة فى ضيق لنفسها.. أين ذهب حمزة!؟

فهو من كان يتعامل معه و يحضر له الطعام دوما.. حاولت ان تؤخر احضار الطعام حتى يظهر ولدها.. لكن تأخره زاد عن المفترض و ليس من اللائق تأخير الطعام على الرجل حتى ذاك الوقت و هو يعمل طوال النهار في الارض.. لابد و انه يتضور جوعا فى تلك اللحظة..
وصلت على أطراف الارض المزروعة التى يفصلها عن بيت زكريا خط رفيع من ارض طينية منبسطة تقف عليها فى ثبات تحمل الصينية العامرة..

لم تناديه.. و لكنه ادرك وجودها فى ثوان وانتبه لمحياها الشامخ هناك على أطراف الارض تحمل ما جادت به يدها من طعام..
انه يعترف.. هى طباخة ماهرة.. لم يعد قادرًا على تذوق أي طعام خلاف ما تصنع.. حاول و لم يستطع..
اقلقه هذا.. فدوما ما يقلقه التعود.. فهو ولد لسيدة مهنتها التنقل في بقاع الارض طلبا للرزق.. و هو قد تشرب التنقل مع حليبها و لم يعتد ان يتكيف على
وضع أو يبقى فى مكان.. التعود مهلك..

كرمال متحركة اذا ما غاصت قدمك فيها ما عاد هناك فكاك.. بل انك تظل تغوص حد الغرق...
تقدم منها يحمل عنها صنيتها التي ناءت بحملها كل تلك الفترة فحرّكت كفيها لتوازن ثقلها و تشابكت الأكف بغير قصد ليجد كفيه فوق كفيها القابضتين على أطراف الصينية..

لم تنتفض كما توقع بل وجدها تنظر فى عينيه بشكل مباشر أفزعه و أربكه...لينتفض هو مبعدا كفيه بشكل تلقائي..
وضعت الصينية أرضا فى هدوء و استدارت لتغادر تاركة إياه يتخبط فى انفعالاته و يسترجع نظراتها النارية.. هل كانت تعتقد انه فعلها متعمدا..!؟.. هل تعتقد ذلك حقا..!؟. نظراتها تلك تحمل اتهاما لا يقبله.. انه لم يفعل.. و لو فكر ان يفعلها مع نساء الارض جميعا.. فهى لا.. انها أمانة حملها له صديقه و صاحبه الأوحد بهذه الحياة.. هل تظن به السوء..!؟.. هل تعتقد انه فاعلها..!؟..

اطلق سباباً فى ضيق و غضب مكتوم.. ونظر لصينية الطعام في حنق بالرغم من جوعه القارص الا انه شعر فجأة ان رغبته فى الطعام قد اختفت.. فعاد للعمل من جديد يحاول ان يفرغ بضربات فأسه الهادرة شحنة الغضب القاهر الذى تملكته لظنها السئ به..

مضت عدة أشهر منذ خروج زكريا من محبسه و عودته الحارة و لعمله عند الحاج مرشدى الذى استقبله بفرحة و سعادة غامرة فكان زكريا يستيقظ صباحا ليفطر و حازم و يتركه عند بيت الحاج خميس ليلهو مع أولاده تحت رعاية نعمة ويندفع لعمله حتى المغرب ليعود محملا بالغذاء ليتناوله مع حازم و الذى كان يعتبر هذا عشاءً..

و ما ان تنتهى صلاة العشاء حتى يندفع كلاهما في أحضان الاخر لينام ملأ جفونه..
جلس زكريا على مقهى المعلم خميس وقد عرج اليه عند عودته من عمله يلتقط أنفاسه لينضم اليه خميس ما ان رأه موصيا بالشاى
هاتفاً: - سلام عليكم.. ازيك يا زكريا.. اخبارك..!؟..
هتف زكريا: - الحمد لله يا معلم.. تماام..

همس خميس متعجباً: - اُمال ليه انا مش حاسس كده..!؟.. في حاجة يا صعيدى.. الشغل عند المعلم مرشدى فيه حاجة..!!؟..
هز زكريا رأسه نافيا..و لم يعقب.. لذا همس خميس من جديد و قد استطاع ثبر أغوار زكريا: - انت محتاج ست في حياتك يا زكريا..
انتفض زكريا هاتفاً: - بعد ام حازم..!؟.. ده انى اللى تاعبنى و مخلينى أفكر ارجع اسكندرية هو..

صمت و لم يُكمل مما دفع خميس ليكمل بدلا منه: - يا زكريا هنا و هناك.. انتِ كنت مع أم حازم..و الذكريات مبتمتش يا صاحبى انا عارف وحاسس اللى انت فيه.. انا عشت نفس الظروف بعد موت الغالية ام العيال.. و قلت زيك كده.. لكن مقدرتش.. مفيش راجل مننا هيقدر يعيش وحدانى و خصوصى لو عنده ولاد محتاجين وجود ام معاهم.. و انا الحمد لله ربنى عوضنى بنعمة.. ربنا يعوضك عن ام حازم باللى فيه الخير ليك و لابنك..

صمت زكريا للحظات و استطرد في عزم:- انا هرچع اسكَندرية يا معلم.. مش جادر افضل هنا.. هرچع و اشوف حالى هناك.. و ربنا يسهلها..
هتف خميس: - برضة مصمم على رجوعك إسكندرية...ده اخر كلام يا صعيدى..!؟
ما تفكر وتخليك معانا.. و حازم يتربى وسطينا مع عيالى..
هز زكريا رأسه رافضا: - خلاص يا معلم خميس.. انا فكرت كَتييير..و الخيرة فيما اختاره الله.. و اهى كلها بلاد ربنا..

ربت المعلم خميس على كتفه هاتفاً: - بشوقك يا زكريا.. ربنا يسهلها لك يا رب..
نهض زكريا ليعرج على بيت المعلم خميس ليأخذ حازم و يعودا سويا مثل كل يوم لبيتهما..و هو لا يعلم هل اتخذ القرار الصحيح بالرجوع للإسكندرية ام تلك توهة جديدة في مشواره الذى لا يعلم متى و أين ينتهى به..

اندفع زكريا لبنسيون السعادة والذى كان بالنسبة له اسم على مسمى.. فقد عاش فيه
شهور طويلة من السعادة مع بدور و فيه سمع خبر حملها بحازم..
ما ان دلف لبابه المفتوح كالعادة حتى نظرت تهانى للمندفع للداخل و هو يحمل طفلا صغيرا على كتفه مخفيا ملامحه..
دارت حول منضدة الاستقبال الطويلة و ما ان طالعها محيا زكريا و هو يجول بناظريه في ارجاء المكان ليجده كما كان لم يتغير..
حتى هتفت في صدمة صارخة: - سى زكرياااا.. مش معقول..!!!..

ابتسم زكريا في سعادة هاتفاً وهو ينكس نظراته ارضا كالعادة: - اه زكريا الهوارى يا ست تهانى.. كيفك و كيف أحوالكِ.!؟..
ده انا جلت مش هاتفتكرينى..
هتفت مستنكرة: -برضه انت تتنسى يا سى زكريا انت و بدور الله يرحمها..

و مصمصت شفتاها تعاطفا و تحسرا و هي تضع كفها على ذقنها على الفتاة التي ماتت في ريعان شبابها و أخيرا انتبهت للطفل الذى يحمله زكريا لتهمس في توقع: - هو ده ابنكم حازم.. صح..!؟..
اومأ زكريا براسه مؤكدا لتتطلع اليه تهانى في محبة هاتفة في حماس: - ده حتة من بدور الله يرحمها.. صحيح اللى خلف ممتش.. و مدت كفيها لزكريا هامسة: - هاته عنك يا سى زكريا.. و متخفش.. اه انا ربنا مرزقنيش بعيال.. بس اعرف فيهم يعنى..

ابتسم زكريا و هو يمد لها حازم الذى تململ في نومه لتضمه الى صدرها في حنان بالغ و هي تشير لزكريا ليتبعها..
سار زكريا للداخل على طول الرواق حتى هتفت تهانى وهى تدفع باب الغرفة بسعادة:-اتفضل يا سى زكريا.. الاوضة بتاعتك.. تصدق.. لسه كان في زبون فيها.. و مشى من يومين كأن الاوضة دى بالذات مكتوبالك..

دخل زكريا ونظراته تتسارع على كل ركن فيها كان يحمل ذكرى لبدور.. حتى انه شعر ان رائحة الغرفة تحمل عبق أنفاسها..
وضعت تهانى حازم على الفراش و هتفت في زكريا تخرجه من شروده: - هات يا سى زكريا بطاقتك عشان أسجل البيانات..
اخرج لها زكريا هويته الشخصية مقدما أياها لتتناولها ناظرة اليها في حبور: - زكريا الهوارى.. أخيرا اسمك الحقيقى.. الله يرحم كرم الصعيدى.. فاااكر..
ابتسم زكريا: - الا فاكر.. هو دِه يتنسى..

اومأت برأسها و تركته هاتفة و هي تهم بغلق الباب خلفها: - استريح جنب ابنك لحد الغدا بقى.. حمد الله على السلامة..ده غندور هايفرح قوووى لما يشوفك..
ابتسم زكريا و هو يتذكر ذلك الشاب الاسكندرانى الأسمر الذى كان بمثابة الملاك الحارس له دخلت الحاجة فضيلة قاعتها المفضلة صيفا لتجد مهران يقف فى اعتزاز فوق احد الأرائك يتجه بوجهه صوب القِبلة.. هاتفا بصوت جهورى مؤذنا للصلاة..

هتفت الحاجة فضيلة مقهقهة: - بتأذن لإيه يا شيخ مهران.. ده حتى الضهر لسه مچاش وجته.!؟..
تنبه لها مهران هاتفا: - انا بچرب صوتى يا ستى عشان آاذن فى الچامع زى سيدنا الشيخ عوض..
هتفت مبتسمة: - و ماله.. هو انت أجل منيها.. ده انت الشيخ مهران بحاله..
ابتسم الصبى فى سعادة لفخر جدته.. و التى هتفت به: - تعال بجى اجرالى على راسى يا سيدنا الشيخ لچل ما وچع راسى يطيب..

تمددت الحاجة فضيلة على احد الأرائك ليتخذ مهران موضعه و يجلس بالقرب من رأسها و يضع كفه الصغيرة على جبينها و يبدأ في قراءة ما يحفظ من آيات القرآن الكريم و التى اجتهدت هى و الحاج قدرى ليحفظها مهران.
دخل عاصم فى تلك اللحظة ليجد مهران يقرأ القرآن على رأس جدته المنهك فيبتسم بحبور و يجلس مستمعا..

فتحت الحاجة فضيلة عينيها لتطالع عاصم يجلس يتطلع لها ولولده فى سعادة.. ليهتف ممازحا ولده: - ايه يا شيخ مهران..!؟..
بتعمل ايه..!؟..
هتف الصبى بتلقائية محببة: - بجرا لستىقرآن لجل ما يخف وچع راسها.. هى بتجولى يدى فيها الشفا..
قهقه عاصم مؤكدا: - ايوه طبعا.. يدك فيها الخير كله.. و نظر عاصم لامه نظرة متخابثة ذات معنى هاتفا: - بس ستك هتخف و تبجى عال لما تبطل تشرب الجهوة فى الدرا وتخبيها منى.. صُح يا حاچة.. !؟..

هتفت الحاجة فضيلة بنبرة لامبالية: - اللى يلجى حاچة يبجى يخدها.. أنى معرفاش انت بتتكلم عن ايه فى الأساس.. اخر كيس بن انت خدته.. عايز ايه بجى..!؟..
هتف عاصم مؤكدا و هو ينهض ليتوجه حيث تتمدد فى استرخاء لينحنى يقبل هامتها هاتفا: - عايز سلامتك يا حاچة.. و الله ما عايز غير سلامتك.. ما هو وچع راسك و الدوخة اللى بتاجيكلك عشان ضغطك العالى اللى منتش مرعياه.. عشان خاطري ياما.. خلى بالك على حالك..

ابتسمت فى رضا تجاه ولدها و أومأت برأسها مؤكدة له انها ستبدل قصارى جهدها للمحافظة على صحتها التى بدأت تضعف فى الفترة الاخيرة.. و مدت كفها تبحث عن كف مهران الصغيرة الشافية لتضعها من جديد على جبينها..

عاد زكريا لعمله بالميناء بعد توصية من غندور الذى استقبله في حفاوة و سعادة بالغة كان يغادر صباحا تاركاً حازم في صحبة تهانى التي استطاعت كسب ثقته و محبته في وقت قياسى.. و يعود عند المغرب يتناولا غذاءهما المتأخر لينام حازم بعدها ملأ جفونه و يعاود زكريا عادته مع البحر و جلوسه على الشاطئ القريب من البنسيون.. يتطلع للبحر الغامق الغامض لساعات و يعود من جديد لحجرته محتضناً ولده بين ذراعيه.. ليذهب من جراء تعب النهار بطوله الى اعتاب النوم سريعا..

و في صباح احد الأيام و بينما هو يدفع أمامه تلك العربة الحديدية ثنائية العجلات و التي يحمل عليها البضائع هنا وهناك.. هتف به احدهم في دهشة و بصوت عال: - كرم الصعيدى..!!؟..

توقف زكريا عندما سمع اسمه المعروف به في الإسكندرية و استدار ليطالع صاحب الصوت المألوف له ليهتف بسعادة عندما طالع صاحبه مندفعا اليه في شوق: - عم بحر.. انت فين يا راچل يا طيب..!؟. لفيت عليك المينا كلها اول ما جيت اسكَندرية..

احتضنه بحر في سعادة هاتفاً: - انت اللى رحت فين..!؟.. ما بين يوم و ليلة تختفى كده و محدش يعرف عنك حاجة..
هز زكريا رأسه متفهماً: - مَعلش يا عم بحر.. ظروف.. حكاية طووويلة.. ابجى احكيهالك بعدين..
هتف بحر مصراً:- لااا.. بعدين ايه..!؟؟.
انت تخلص النقلة اللى في ايدك دى و تيجى معايا..

هتف زكريا: - على فين..!؟..
هتف بحر متعجلا أياه: - خلص بس و انت تعرف.. أنجز ياللاه.. و انا هستناك هنا مش هتعتع من مكانى لحد ما ترجع..
ابتسم زكريا و اندفع ينهى عمله...

دخل يونس غرفته الملاصقة لجدار بيت زكريا مدندنا لحنا شجيا كعادته و هو يعد لنفسه كوب من الشاى.. كان يغير جلبابه بأخر مريح استعدادا للنوم.. صب الكوب و بدأ فى ارتشافه باستمتاع و هو يجلس على اعتاب حجرته يتطلع الى السماء الصافية فى تلك الليلة و الممتلئة بالنجوم على غير العادة..

أغمض احدى عينيه و مد راحته يلتقط احدى النجمات مطبقا عليها كفه فى سعادة و شعر ان تلك النجمة العالية هناك و التى لا يطالها الا فى الخيال كما يفعل الان ليست الا تلك الناقمة عليه دوما و التى لم يرى ابتسامتها فى وجهه و لو لمرة وحيدة.. هو لا يعرف متى شعر بميل قلبه تجاهها و لا برغبته في
القرب منها..!؟.. لكن فجأة و بلا مقدمات  شعر انه يريدها و يتمناها كما لم يتمنى امرأة من قبل..

شعر ان الاستقرار الذى اعتاده فى ارض زكريا جعل منه إنسان جديد.. يونس اخر.. بقلب داجن يسهل ترويضه و جعله مناخ صالح للحب..
و الان هو يحبها.. رغم كل نفورها و تمنعها.. يريدها.. رغم نظراتها النارية و تصرفاتها التى تدل على عدم رغبتها فى تواجده.. الا انه يهواها.. يكاد يجن.. كيف حدث ذلك..!؟. هل من الممكن ان نعشق جلادنا..!؟.. هل من المنطقى ان نقع فى حب محكوم عليه مسبقا بالسكتة القلبية..!؟..

تنهد فى ضيق و نهض يستعد للنوم.. و ما ان تمدد فى راحة حتى سمع صوتها.. ظن انه يهزى.. ألهذه الدرجة تطارده حتى على اعتاب نعاسه..!؟..
لكن مهلا.. الصوت يبدو حقيقيا و بدأ بالفعل فى الارتفاع و بدأت تتضح نبراته ليندفع الى فأسه و قد استشعر ان فى الامر حدث جلل فقرر ان يكون مستعدا و يلوذ عن عرض صاحبه و لو بحياته نفسها..

تسلل للمطبخ عبر بابه الذى يُفتح للخارج على حجرة الخبيز و هو يحمل فأسه فى وضع التأهب للهجوم.. بدأ يقترب من داخل الدار و وقف تلك اللحظة يطل على صحنها الذى رأى فى منتصفه كسبانة و هى تقف فى بسالة تحمى حمزة ولدها خلف ظهرها امام رجل متوسط القامة قوى البنية يتلفح بعباءة
سوداء اللون و لا تظهر ملامح وجهه ليونس من موضعه حيث يقف..

هتفت كسبانة فى حزم: - مش هتاخد حمزة يا سليم.. ده بعينك.. ده ولدى.. ابوه مات من زمن و إندفن يوم ما اتبرى منيه و مكنش معترف بيه.. دلوجت چاى تجول ولدى و عاوز تخده من حضنى.. على چثتى جبل ما تمس منيه شعرة..

هتف سليم فى نزق: - ولدى وهاخده و اللى فى وسعك اعمليه.. محدش هايچدر يمنعنى.. هنا تدخل يونس فى ثورة حازما أمره ليظهر فجأة من خلف سليم الذى انتفض متراجعا يحكم لثام وجهه خوفا من التعرف على شخصه و قد باغته ظهور يونس بهذا الشكل الغير متوقع: - انى اللى هجف لك.. و ابجى
ورينى هتاخد حمزة كيف.!؟..

انفجر سليم ضاحكا فى خشونة تقطر استهزاءً و اخيراً هتف: - مين بجى دِه يا ست هانم..!؟..يا شريفة.. هو عادى الرچالة بيخطوا الدار بالساهل كِده فى نص الليل..!؟..
صرخ فيه يونس زاجرا: - اخرس.. دى اشرف منيك و من عشرة من عينتك.. و لو مخرجتش من هنا حالااا.. صدچنى انت اللى هتخرچ.. بس على نجالة.. انا خريچ سچون.. و چتلت جبل سابج..

و ممكن ارچع السچن تانى.. بس المرة دى هاتبچى فيك.. و هكون مبسوط چوووى وانى باخد روحك..
و رفع يونس فأسه بالفعل فى أتجاه سليم الذى هتف فى حنق: - لم نفسك يا واد انت..
انت متعرفش انت بتكلم مين..!؟.. انى سليم غسان الهوارى.. ده انى امسحك من على وش الدنيا..

انفجر يونس ضاحكا: - بچد..!؟.. و الله انت صوت على الفاضى و الدليل مچيتك زى الحرامية جال عايز تاخد ولدك.. لو راچل صـُح مكنتش تعملها و تاجى فى نصاص الليالى لحرمة بجت غريبة عنيك من ساعة ما طلجتها و تتهچم على دارها.. بچد راچل و سيد الرچالة.. على العموم انى شيعت لعاصم بيه.. و زمانه على وصول و إنتوا بجى أهل وولاد عّم فى بعضيكم و شوفوا تحلوها كيف الحكاية دى..

اضطرب محيا سليم ما ان جاء يونس على ذكر عاصم بن عمه..ويبدو انه بدأ يفقد صوابه بالفعل عندما ابرز طبنجته من صدر جلبابه موجها إياها فى وجه يونس الذى ما اهتز للحظة بل دفع نفسه امام كسبانة و حمزة فى بسالة وشهقات كسبانة تتعالى فى ذعر...

كاد ان يتحكم جنون سليم المعتاد بأفعاله و يضغط على زناد سلاحه لولا ان سمع صفيرا مميزا بالخارج ادرك من خلاله ان هناك من يقترب و عليه الخروج و الرحيل فورا... و بالفعل..عاود احكام كوفيته حول ملامح وجهه يداريها و يندفع فى غضب هادر للخارج متلفتا حوله فى حذّر قبل ان يختفى تماما خلف الباب..

تنهدت كسبانة فى عدم تصديق ان هذا الكابوس انتهى على سلام و استدارت تجذب حمزة ولدها لاحضانها وهى تبكى تعتصره بين ذراعيها للتأكد انه لازال معها.. و لم يجرؤ هذا الوقح المدعو سليم من انتزاعه من أحضانها ..

استدارت بعد ان هدأت لتشكر يونس الذى كان على استعداد للتضحية بحياته فى سبيل إنقاذ طفلها من بين يدى ابيه الحقير لكنها لم تجده فقد شعر بالحرج و هو يراها تقف هكذا بملابس نومها الخفيفة فى هذا الجو الحار و بكاءها الذى أدمى قلبه على نجاة ولدها من بين ذراعى ذاك المتجبر..

مظهرها الناعم و بكاءها المفطر للقلب جعل قلبه يئن ألما و عشقا مما دفعه لينسحب في هدوء مبتعدا وهو يشعر بالرضا التام انه وقف كما يجب لحمايتها وولدها..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة