قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل الثالث عشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل الثالث عشر

سار زكريا بجوار عم بحر لا يعلم الى أين يتجه و لا الى أين يأخذه هذا الرجل الذى أنقذه ذات مرة من بين يدى بلطجية الميناء و أصبحا من بعدها صحبة لا يمر يوما دون اى يرى عم بحر و يفطر معه بما تجود به ميزانتيه الضئيلة يومها..
وصولا لموقع بناء حديث جال فيه زكريا ببصره ليتذكر أيام قضاها مع الحاج مرشدى في اعمال البناء و المقاولات..

أخيرا وصلا لعشة صغيرة من الخوص و القش نصب فيها عم بحر بعض من أدوات صنع الشاي و القهوة و بعض الأكواب و موقد صغير و عدة كراسى تتوزع هنا وهناك..
جلس زكريا على احداها هاتفاً: - ايه دِه يا عم بحر.. انت جايبنى المسافة دى كلها عشان نجعد هنا.. طب ما كنا جعدنا على اى جهوة و السلام..!؟

قهقه بحر هاتفاً: - لا يا كرم.. دى العشة بتاعتى..
هتف زكريا: - بتاعتك..!!؟.. الله اكبر.. دِه انت عديت يا عم بحر على كِده و بجيت من ذوى الأملاك..
قهقه بحر من جديد: - يحظك يا كرم..املاك مرة واحدة.. !!... بس ايه رأيك.!؟..
و أشار الرجل لعشته بفخر كأنها قصر منيف ليهتف زكريا بحماس: - مفيش احسن من كِده.. ربنا يبارك لك فيها..
قاطعهما احد العمال المشتغلين بموقع البناء الذى تقع العشة في احد أطرافه طالبا كوبا من الشاي..

ليندفع بحر مجهزا أياه في سرعة و احتراف ليتناوله العامل و يجلس في أحد الأركان يرتشفه بتلذذ مستمتعاً..
هتف بحر معاوداً سؤال زكريا و هو يقدم له كوب من الشاي تحية له: - مسألتنيش يعنى منين العشة و النصبة و انا كل اللى كان حيلتى باجور و كبيتين زى ما انت عارف..

قال زكريا: - ربك رزاج يا عم بحر.. و رزجه واسع.. بس منين..!؟.. عشان نريحوك.. و ابتسم زكريا.. مما دفع الابتسامات لفم بحر وهو يسرد قصته البسيطة: - بعد انت ما اختفيت.. اتلم عليا بلطجية المينا تانى.. غلسات و قلة قيمة زى ما انت عارف.. كنت بروح لعيالى من غير جنيه في جيبى و أحيانا العدة مسروقة منى كمان.. قعدت ادعى ربنا و افتكرك و ادعيلك.. و انا جايلى إحساس انك في كرب كبير بس مش عارف ايه هو.. و طلبت من ربنا يردك بالسلامة عشان خاطرى و خاطر عيالى..و اهو ربك استجاب ليا وردك بس قبلها كان باعت لى راجل محترم يعرف ربنا.. الحاج مندور الشامى..

صاحب الموقع ده كله.. راجل معلم كبير في سوق المقاولات.. شاف البلطجية مرة و هم بيبهدلونى في المينا راح رجالته مبهدلنهم و خلصنى من أيديهم و بنى لى النصبة دى جنب الموقع الجديد بتاعه اللى بيبنى فيه العمارات دى و من ساعتها و انا الدنيا ضحكت لى و بقيت زى ما انت شايف..
ابتسم زكريا في حبور: - ربنا يوسعها عليك كمان و كمان و بدل العشة تبجى جهوة كبيرة و بعدين اللى اسمه ايه ده!!..ااه.. كوفى شوب..

انفجر بحر مقهقها و هو يهتف: - مرة واحدة يا كرم..!!. طب ده انا مش عارف أنطقها.. املكها ازاى دى..!؟؟..
ثم استطرد بحر هاتفاً بجدية هذه المرة:- بقولك ايه يا كرم ..!!..
انتبه زكريا عندما تبدلت نبرة بحر للجدية ليستطرد الأخير هاتفاً: - انا مش عجبانى شغلانة المينا دى اللى لسه شغالها.. ايه رأيك اكلم لك شعلان ملاحظ الموقع يشغلك مع العمال هنا دول يوميتهم كويسة.. ايه رأيك..!؟..

هتف زكريا: - هو ينفع..!؟.. لو ينفع.. و ليه لا!؟؟... نچرب..
هتف بحر: - على بركة الله.. انا هكلمه و اللى فيه الخير يقدمه ربنا..
رفع زكريا كوبه يدفع اخر رشفة فيه الى جوفه قبل ان يستأذن مغادراً ليعود لولده مبكرا..

بالفعل ترك زكريا عمله في الميناء و ألتحق بالعمل في مواقع البناء الخاصة بشركة الحاج مندور الشامى تحت إشراف شعلان ملاحظ المواقع..
عمل زكريا السابق مع الحاج مرشدى في القاهرة أضاف لزكريا الكثير من المعرفة و الدراية بأمور المعمار و أسراره لذا استطاع بعد عدة ملاحظات ان يكتشف بعض التلاعب في نسب خلط المواد المستخدمة في البناء مما جعله يتوجس من شعلان و من وراءه...ظل أسابيع يراقب الموقف ليتأكد كى لا يرمى احد بالباطل حتى جاءت اللحظة الحاسمة و رأى بأم عينه ما كان يقوم به شعلان من مساومات على أسعار الخامات و التي هي في الأساس ليست الخامات المطلوبة او بالاصح ليست هي الخامات التي تستخدم و يكون جودة البناء بها مطابقا للمواصفات المطلوبة..

جلس في عشة العم بحر يطلب الشاي و يتنهد غير قادر على المدارة اكثر من ذلك..
سيجن ان لم يخبر احد ما يشيره كيف يتصرف في مر كهذا و كيف يمكنه توصيل الامر لصاحب الشأن حتى يتصرف بما يراه..
هتف العم بحر و قد استطاع ان يستشف مدى قلق و توتر زكريا: - خير يا زكريا.. مالك مش على بعضك ليه..!؟..حازم ابنك بخير.. !!؟..
كان زكريا قد شرح و حكى للعم بحر حكايته كلها و عرف كل تفاصيلها..

هتف زكريا نافيا: -.. ولدى بخير الحمد لله..و أشار له زكريا ليقترب و هو يهمس بالقرب منه: - الموضوع يخص العماير دى يا عم بحر..
زم العم بحر ما بين حاجبيه مستفسراً بتعجب:- ماله الموقع..!!؟.. و فيها ايه العمارات.. ما هي زى الفل اهى..!؟..
حرك زكريا راسه يمنة و يسارا رافضا وهو يهمس من جديد: - العماير دى مش مطابجة لمواصفات البناء يا عم بحر.. انا كنت شغال في الكار ده جَبل سابج و عارف انى بجول ايه.. في لعب على تجيل من شعلان بيتم في الخامات بتاعت البنا..و انا لازماً أوصل الحكاية دى للحاج مندور..
شهق بحر في صدمة: - الحاج مندور..!؟.. انت اتجننت يا زكريا.. هتوصله ازاى..!؟

ده مش بيجى الا كل فين و فين.. و بعدين لو شعلان شم خبر.. الله اعلم هايعمل ايه معاك..!؟؟.. أكتم على الخبر لحد لما نشوف صرفة..
هتف زكريا: - بس يا عم بحر..
قاطعه بحر هاتفاً في تحذير: - يا بنى انت عايز تربى ابنك.. خليك في حالك لحد لما نشوف هايجرى ايه..!!؟؟..
صمت زكريا على مضدد و لم يعقب لكنه اقسم بينه و بين نفسه انه لن يصمت على ما يحدث من فساد و تلاعب قد يكلف العديد من الأسر التي ستسكن تلك الشقق مستقبلا حياتها...

وقفت تعد الطعام فى المطبخ المطل على الارض و للعجب لم تسمع صوت ترنيمه و غناه كالعادة.. على الرغم من انها لم تنم بشكل جيد ليلة أمس بعد ذهاب سليم و احتفاظها بولدها حمزة بفضل يونس الذى استبسل فى الدفاع عنها و حماية ولدها الا انها شعرت بنشاط عجيب جعلها تنهض باكرا لتعجن و تصنع خبزا و فطيرا طازجا للفطور و الغذاء...

أنهت وضع بعض الأرغفة فى ذاك الفرن الطينى فى حجرة الخبيز و دلفت منها للمطبخ و هى تمسح كفاها المتربين بالطحين فى أطراف جلبابها المنزلى
لتندفع تتحقق من الطعام الذى كان يغلى فى تلك القدور على الموقد فى احد جوانب المطبخ..

و سرح فكرها فى ذاك الذى كان على استعداد للموت فى سبيل الدفاع عنها وولدها.. هل ظلمته يوم ان ظنت فيه السوء..!؟.. هل اعتقدت حقا انه لمجرد كونه من ارباب السوابق و خريج من احد السجون انه بلا اخلاق أو ضمير..!؟..

استعادت كلماته فى مواجهة سليم و ابتسمت عندما تذكرت كيف دافع عنها ساعة لمح سليم عن وجود الرجال فى منزلها ما ان طالع محياه.. لقد نهر سليم.. اخرسه و كاد يقتله بالفعل..
هل ظلمته..!؟.. يبدو انها فعلت.. فما من شخص لا يحمل شرفا أو مرؤة يمكنه ان يقف امام سليم للدفاع عن امرأة ما رأى منها الا السئ من القول و الفعل و حماية لطفل ليس طفله..

و توردت خداها عندما تذكرت انها بحثت عنه بعد رحيل سليم و لم تجده و انتبهت انها كانت ترتدى احد قمصانها الخفيفة المعدة للنوم لذا فر سريعا ما ان تأكد من رحيل سليم..

لقد ظلمت ذاك الرجل.. ذاك الذى لا ينفك يشدو بصوته الشجى و الذى اعتادته يصل لمسامعها طوال الوقت..
ابتسمت فى خجل و اعترفت بينها و بين نفسها ان صوته يصل للقلب بالفعل و يسكن فى العمق..
لكن أين ذاك الصوت فى تلك اللحظة.. !؟.. انها لا تسمع همهماته المعتادة..

رفعت هامتها قليلا تنظر من تلك النافذة العالية باحثة عنه بعينيها بطول الارض و عرضها فلم تجده.. شعرت بالقلق لا تعرف لما..!!..
عادت لغرفة الخبيز تطمئن على الأرغفة التى تركتها بداخل الفرن و اخيراً خرجت من الباب تقف على الحافة الفاصلة تلقى بنظراتها هنا و هناك لعلها تلمحه مبتعدا لأطراف الارض البعيدة حيث لا يمكن لصوته الوصول اليها..
ازداد قلقها عندما ادركت انه غير موجود بالمرة..

و ادركت.. بل ايقنت انها ما عادت تشعر بالامان الا بوجوده فى الجوار.. حتى و لو لم تعترف بهذا فى البداية الا انها تستشعر ذلك بشكل أعمق مما كانت تتخيل.. و خاصة بعد ما حدث البارحة مع سليم..طلت مرة أخرى من النافذة تبحث عن ولدها ربما يعلم أين يمكن ان يكون يونس في تلك اللحظة.. لكن حتى حمزة لا تجده بالقرب.. يلعب مع الأولاد على الجانب الاخر من الطريق..

تنهدت.. و ما ان همت بالدخول لتتفقد الطعام حتى لمحته قادم..
ما ان اصبح قبالتها حتى ألقى التحية و عيونه لم تُرفع لمواجهة عيونها..
لم ترد التحية و لا تعلم ما الذى يدفعها للتعامل معه بهذا الشكل حيث هتفت فى حنق: - كنت وين..!؟..
و كيف تِهمل الارض و ترمح تشوف مزاچك من غير ما تجول.. !!؟..
هى ايه..!؟. وكالة من غير بواب..

تنهد فى ضيق لكلماتها و لم يعقب.. ساد الصمت و اخيراً هتف بهدوء: - انى كنت عند عاصم بيه.. كان لازما يعرف اللى حُصل عشية.. هتفت تستوضح: - و جال لك ايه..!؟..
رد فى هدوء: - جال هو هايتصرف.. و نخلو بالنا عشان سليم ممكن يعيدها.. و هايبعت غفير يجعد على الناحية الجبلية للدار..
هتفت دون تفكير: - غفير ليه..!؟.. ما انت كفاية البركة فيك..

رفع رأسه بشكل لا ارادى فى اتجاهها و نظراته مشدوهة غير مصدقة لما تفوهت به للتو..ينظر لوجهها الذى اصطبغ بألوان الطيف جميعها فى آن واحد لتلك الكلمات التى اطلقتها دون وعى أو تفكير..
و اخيراً همس فى حبور: - أنتِ شايفة انى كفاية يا أم حمزة.. !؟..
أرتبكت و تذكرت الطعام الذى تركته على الموقد و خبيزها الذى من الممكن ان يكون تحول لقطع من الفحم فهتفت فى عجالة مندفعة للداخل: - العيش زمانه أتحرج..

ابتسم فى سعادة يكاد يقفز فرحا و نشوة لمجرد كلمات عفوية خرجت منها تُعلى من قدره و تضعه فى مكانة خاصة بالنسبة لها خلع جلبابه و خاض الارض ممسكا بفأسه و بدأ فى العمل بهمة لم يعهدها بنفسه من قبل.
مرت الساعة أو ربما اكثر قليلا حتى وجدها تعود فى هدوء..تنادى على حمزة لكنه لم يبالى..

اقتربت بصينية الطعام ووضعتها أمامه و اخيراً ظهر حمزة لينضم اليه جالسا بقربه يتناول طعامه سريعا ليعود للعب من جديد همت بالرحيل عندما هتف بها حمزة: - ما تجعدى ياما تكلى معانا..
نظر يونس اليها فوجدها تبتسم.. ربما للمرة الاولى يجدها ترسم اى تعبير على وجهها غير تلك التكشيرة التى كانت تقابله بها دوما ابتسامتها غيرتها تماما.. جعلت منها امرأة اخرى زاد وجيب قلبه لمرأى تلك البسمة النادرة على محياها الصبوح.. حتى ان كفه ارتعشت و هو يتناول احد الأرغفة ليبدأ فى تناول طعامه..

و لم يع الا وهو يهتف فيها عندما وجدها تهم فعلا بالجلوس معهما: - لاااه..
انتفضت متطلعة اليه فى استفسار.. ليكمل و هو يحول بناظريه عنها و يثبتهما بأعجوبة على وجه حمزة مستطردا: - ميصحش يا حمزة.. الناس الرايحة و الجاية تشوف أمك جاعدة تاكل مع راچل غريب عنيها..!؟..

تنبهت انه على حق.. و هم حمزة بالاعتراض هاتفا ان يونس ليس غريبا.. لكنها قاطعته و هى ترحل هاتفة: - عمك يونس كلامه صُح... اسمع ليه يا حمزة عشان تعرف كيف تبجى راچل على حج..
و رحلت مسرعة بعد ان جعلت يونس ينتفض لكلماتها للمرة الثانية حتى انه رفع نظراته لتتبعها بغير قدرة على جذبها بعيدا عن تلك المرأة التى كلماتها اى كانت نوعها.. تفعل به الافاعيل..
كلمات قد تدفع به للنار مذنبا أو تورثه الجنة..

جز شعلان على اسنانه في غل عندما تنحى به احد العمال الذى كان دوما يحاول استرضاءه وكسب وده حتى ولو على حساب بعض من زملاءه ليخبره بما سمع من الحوار الذى دار بين زكريا و بحر منذ قليل و هو يرتشف الشاي في عشة الأخير بالقرب منهما و استراقه السمع لبعض حوارهما و هما لا يدركان و هتف بغيظ: - طيب يا زكريا.. لما نشوف اخرتها ايه معاك يا صعيدى.. وورينى هتبلغ الحاج مندور ازاى..!؟..

ثم عاد يحدث الواشى في حقد هاتفاً: - شوف بقى.. الواد ده نخلص منه عشان ميقرفناش
.. انا هخطط و انت ورينى همتك في التنفيذ..ده لو عايز تكسب رضايا بصحيح.!؟؟...
هتف الواشى في تردد:- بس يا ريس شعلان.. انا..

هتف شعلان مقاطعا:- انت ايه..!؟.. شكلك هتزعلنى منك.. و أديك شايف انا زعلى وحش ازاى..!؟..
اومأ الواشى في إيجاب مضطرب و شعلان يخبره خطته للخلاص من زكريا.. و ما ان انتهى حتى دفعه بعيدا هاتفاً به: - ياللاه روح بقى وورينا شطارتك هتنفذ العملية ازاى..!؟.. بس بقولك ايه..!؟.. قضاء و قدر هااا.. مش عايز دم.. مبحبوش.. بيتعب اعصابى..
و قهقه شعلان بصوت جهورى مستفز جعل الواشى يجفل في ذعر وهو يندفع مبتعداً عن ذاك الشيطان و قد ادرك اى فخ أوقع نفسه فيه بحماقاته و رغبته في التسلق و التملق..

لم يكن زكريا على علم بأن الحاج مندور يبنى فيلته بالقرب من ذاك التجمع السكنى لتلك العمائر التي يشرف على بنائها شعلان
حتى تم إرساله لموقعها ليشارك باقى العمال في بنائها..

دخل الي الموقع وتفقد الخامات و اساسات البناء ليكتشف ان شعلان لم تطل يده تلك الفيلا و خاصة ان لها مهندس مخصوص يشرف على بناءها بخلاف مهندسين الموقع الذين يتعامل معهم شعلان و سمعه ذات مرة يتفق معهم على مخالفة الخامات للمواصفات بفارق في السعر يُقسم على الجميع..
ارتاح قليلا لانه يشارك في بناء صرح بأسس سليمة و اخذ يدعو الله ان يستطيع مقابلة الحاج مندور في اقرب فرصة حتى يبلغه ما اكتشفه من خراب و فساد..

كان زكريا على الثقالة بالدور الثانى من الفيلا عندما سمع احد يناديه من الأسفل طالبا أياه في سرعة..
استجاب زكريا للنداء و هو يرى على البعد سيارة فارهة تقترب.. كان قد وصل للمنادى
و هتف به لاهثاً: - خير.. ايه في..!؟..

وقف الرجل مترددا و أخيرا هتف على عجل: - اه.. انا كنت نسيت اقولك صحيح.. ان الريس شعلان كان عايز.. عايز..
و اخذ يدعى النسيان و هو يضرب على جبهته محاولا التذكر و زكريا يقف في نفاد صبر منتظرا تذكره.. كانت تلك إشارة من الرجل لصاحبه الذى كان يقف في الأعلى بنفس الطابق الذى كان به زكريا في الفيلا منذ لحظات يدفع بخبث و دون ان يستشعره احد لعمود من الخشب ليندفع في أتجاه زكريا
الذى نفذ صبره بالفعل و قرر ترك الرجل و العودة لموقعه داخل الفيلا ليفاجأ بذاك العمود المنتصب يهوى في اتجاهه..

و تلمح عيناه سيدة تترجل من السيارة التي توقفت الان بالقرب منه و علم ان تلك السيدة حتما ستصاب بسقوط ذاك العمود كأصابته و ربما اكثر..
كانت تفصله خطوات بسيطة عن تلك الفتاة التي توليه ظهرها تتطلع للموقع المحيط بالفيلا قبل ان تدخلها... لذا وجد نفسه دون تفكير يندفع باتجاها يحيطها بذراعيه ويحاول ان يشملها بجسده قدر إمكانه حتى لا تصاب بأذى ليسقط العمود في تلك اللحظة على ظهر و كتف زكريا الذى تأوه في ألم و هو يرفع رأسه ببطء لتطالعه عينيها الجوزية و نظراتها المذعورة و يسقط أخيرا في بئر من الظلام و رأسه قد سقطت في أحضانها..

لا تعرف لما كانت تتحاشاه.. فلم يحدث منذ دفاعه عنها امام سليم ما يعكر الصفو.. لكنها رغم ذاك تتحاشى الخروج له حاملة الطعام كعادتها.. كانت تدفع حمزة بالصينية التى كان ينوء بحملها معظم الوقت ليضعها امام الباب مناديا يونس لحملها بالنياية عنه.. و الْيَوْمَ لم يكن استثناءً فبالفعل حملت صينية الغذاء حتى باب حجرة الخبيز التى تطل على الارض و تشترك مع حجرته فى نفس الحائط ليحملها حمزة بضع خطوات و يضعها فى تعب مناديا على يونس الذى لم يرد..

لم تسمع صوت غناءه المعتاد كما تعودت منذ الصباح الباكر وهو يخرج للأرض و توقعت انه فى الجانب المتطرف منها لذا لا تسمع له حسا.. لكن استمرار حمزة فى النداء بلا طائل جعلها تخرج من خلف باب الحجرة حيث كانت تنتظر ولدها لتتطلع للأرض تجول بناظريها فى اطرافها لعلها تلمح طيفه هنا أو هناك.. لكن بلا جدوى..

اندفع حمزة فى اتجاه غرفته التى لم يكن يدخلها احدهما.. ليدفع بابها فى هدوء مناديا باسم يونس
ليجده بالفعل فى الداخل.. لكن ممددا على فراشه
يئن فى ألم و لا يجيب نداءات حمزة المتكررة و الذى شعر بالخوف فاندفع خارجا يخبر أمه بما رأى من حال يونس لتندفع بلا وعى لداخل الحجرة لتتطل لوجهه الشاحب..

ترددت فيما يجب عليها فعله.. هل تبعث لعاصم تخبره.. أم ماذا..!؟.. عليها اخباره و عليه التصرف
أرسلت حمزة لعاصم فى السراىّ ليبلغه ما يحدث..
و اقتربت هى تضع كف مترددة على جبين يونس الذى كان يهزى بكلمات غير مفهومة.. كان جبينه يستعر.. شعرت بالشفقة تجاهه.. و اندفعت خارج حجرته فى انتظار مجئ عاصم.. لم يمر الكثير حتى عاد حمزة
هاتفا: - عمى عاصم مش موچود مسافر بره البلد..

صمتت لثوان ثم هتفت فيه من جديد: - طب اچرى على الداكتور و هاته فى يدك و تعالى.. تعرف.!؟.. جوله انا عمى يبجى عاصم الهوارى..
أكد حمزة: - اه.. اعرف.. و اندفع منفذا مطلب أمه التى انتظرت مجئ الطبيب بفارغ الصبر.. لا تعرف لما ذاك القلق الذى يعتريها على يونس.. و تلك المشاعر التى تتسلل لداخلها تسيطر عليها بشكل غريب.. يوم ان غاب شعرت بافتقاد الأمان و الْيَوْمَ تستشعر احساس اخر من القلق و الخوف من الفقد
اصبح يونس.. بوجوده و صوته الدافئ و غناه و كل ما يخصه يؤثر عليها بشكل ما عجيب.. لم تستشعره من قبل..

يوما ما ظنت انها تعشق زكريا لانها رأت فيه ذاك الرجل الذى انتظرته طويلا.. الرجل الذى يشعرها بالأمان الذى افتقدته مع سليم و الذى بالطبع لم يكن هو ذاك الرجل الذى يهبها أمانا حتى ولو زائفا.. الان مع يونس الامر مختلف..

مختلف بشكل كلى.. يونس ليس فقط ذاك الرجل الذى تمنته بل انه على العكس تماما مما تمنت.. لكن على الرغم من ذلك وجدت به و معه كل ما كانت تنتظر و تتمنى.. واعترفت لنفسها ان يونس له مكانة فى قلبها الذى اعتقدت انه لن يفتح لاى رجل مهما كان.. يونس وحده هو الذى أشعرها ان هذا القلب لازال موجودا و قادر على النبض و قادر على الحياة من جديد..

انتفضت عندما حضر الطبيب ملقيا السلام..دخل لمعاينة يونس حيث كانت تقف خارج غرفته.. ليخرج بعد لحظات هاتفا: - طبعا لازم الراحة و الغذا الكويس بس الأهم من ده كله انه يتنقل من الاوضة دى لان كلها رطوبة.. ضرورى..

اومأت برأسها فى تاكيد و هى لا تدرى ماعليها فعله و تناولت وصفة الدواء من الطبيب الذى ألقى التحية و رحل تاركا إياها فى حيرة..
أرسلت حمزة ليبتاع الدواء و دخلت تعد له بعض الحساء و مرت على غرفة بخيتة لتقص عليها ما حدث و تستشيرها فى الامر.. لتهتف بخيتة فى تاكيد: - طب و ماله يا بتى.. ماننجلوه..

هتفت كسبانة: - فين يا خالتى..!؟.ننجله فين!؟
أكدت بخيتة: - الأوضة المجفولة اللى بتطل على الجنينة و ليها باب من بره لحالها.. وضبيها و تبجى اوضته.. الراچل بن حلال و منساش وجفته جصاد سليم.. ده كان هيروح روحه لجل خاطرك..
تحرجت كسبانة هاتفة: - لجل خاطري ليه..!؟.. هو بيعمل بوصاية سى زكريا....

ابتسم بخيتة فى خبث هاتفة: - طيب..ما دام أنتِ شايفة كِده..!!؟..ربنا يشفيه.. و يكتب لكم الخير يا بتى..
همست كسبانة مؤمنة: - امين..
و نهضت فى عجالة تخرج من باب الدار الداخلية لتستدير عبر الحديقة و تصعد عدة درجات تفضى لتلك الغرفة التى لم تدخلها من قبل و التى جعلتها بخيتة كمخزن للاشياء الغير مستخدمة.. بدأت فى نقل ما أمكنها نقله و قامت بتنظيفها و نصبت الفراش و وضعت بعض الأشياء الاخرى اللازمة للاستخدام
و اخيراً اندفعت تطمئن على يونس لتساعده فى المجئ للغرفة الجديدة بعيدا عن رطوبة تلك الغرفة التى كان يسكنها..

دخلت غرفته لتجده بدأ يستفيق برغم شحوب وجهه الذى لازال يكلل ملامحه السمراء الرجولية..
مدت كفها لتضم كفه جاذبة إياه و هى تهتف فى رقة: - ياللاه يا سى يونس..شد حيلك معايا..
انتفض عندما ضمت كفه بتلك الطريقة الحانية و جذبها هاتفا فى تعجب بصوت واهن: - على فين.!؟...

ابتسمت فى رقة و عادت تجذب كفه مرة اخرى لينهض فى تثاقل نظرا لمرضه مشرفا عليها بقامته المتوسطة الطول و التى أظهرت مدى قصر قامَتَها بالنسبة له مؤكدة: - حضرنالك أوضة تانية خلاف دى..
همس متعجبا: - و مالها دى..!؟.. ما هى زينة اهى...

ابتسمت وهى تسير فى بطء ليسير خلفها متعكزا على كفها محاولا قدر استطاعته ان لا يثقل عليها رغم شعوره بالدوار يكتنف رأسه: - الداكتور جال مينفعش تجعد فيها.. كلها رطوبة..
توقف للحظات و بدأ يسعل فى شدة أدمت قلبها..لتهتف: - اهااا.. شايف..لازما تنجل أوضة چديدة بعيد عن الرطوبة.. نضفت لك الاوضة المجفولة على الجنينة.. و هتروح تستريح فيها دلوجت..

بدأ فى السير من جديد محاولا الاستناد على الحوائط القريبة من خط سيره حتى لا يضطر للارتكان على كفها البضة التى تجعله يشعر بمزيد من الحرارة الحارقة تسرى بعروقه..
وصل اخيراً للدرجات حيث الغرفة المعدة لاجله..

صعدها فى مشقة و اخيراً ألقى بجسده المنهمك من جراء رحلة الانتقال على الفراش وقفت هى على اعتاب باب الغرفة هاتفة فى قلق: - سى يونس.. انت كويس..!؟..
أشار اليها بكفه ان لا وانه لا يشعر بانه على ما يرام.. لتندفع لداخل الغرفة تشرف على محياه المسجى على الفراش هاتفة بنبرة تقطر ذعرا: - اچيب الداكتور تانى.. !؟..

فتح جفونه فى بطء و ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة و هو يهمس: - بجيت كويس اول ما طليتى عليا.. كسبانة.!!...
كانت المرة الاولى التى يهمس فيها باسمها مجردا.. بل باسمها من الأساس فدوما نداءه لها كان.. أم حمزة.. لم تسمع اسمها تنطقه شفتاه من قبل.. مما جعل ارتعاشة خفيفة تسرى فى اطرافها لا تعرف لها سببا و هو يستطرد هامسا: - تتچوزينى!؟...

لتشهق هى فى صدمة و هى تطل عليه بعيون مفتوحة و فم تغطيه بكفها.. و ما ان استفاقت من صدمتها حتى اندفعت خارج الغرفة تكاد تتعثر فى خطواتها و هى تهبط درجات السلم مندفعة لداخل الدار..

ظهرت له من جديد تبتسم كعادتها لكن هذه المرة الامر مختلف فقد استدارت و رحلت بعيدا و حاول هو النداء عليها لكن صوته حبيس حنجرته لا يفارقها.. استدارت مرة أخرى و غابت بالفعل بعد ان لوحت له من خلف غمام اسود بدا يتحول للرمادي و أخيرا عاد صوته ليهتف باسم واحد: - حااازم..
انتفضت هى عندما سمعته يهزى بإسم ما فاندفعت لوالدها الذى كان يطالع الجريدة في اخر الجناح الواسع و لم يستمع لهمهمات زكريا..

انتفض ابيها مسرعا اليها عندما اشارت نحو زكريا ليصل لجسد زكريا المسجى و الذى بدأ يستعيد وعيه أخيرا مكررا النداء باسم ولده الوحيد..
حاول زكريا فتح عينيه عدة مرات و لم يستطع من قوة الضوء الضاربة في عمق عينيه.. و أخيرا اعتاد سطوع الضوء ليفتحهما في تمهل متطلعاً حوله...
زفر الرجل الخمسينى في راحة هاتفاً: - الحمد لله.. أخيرا فوقت.. قلقتنا عليك..

تطلع زكريا لملامح الرجل الذى لا يعرفه و لم يسبق له رؤيته..
همس زكريا بصوت واهن: - انى فين..!؟.. و حاول التحرك لكن ذراعه اليسرى و راسه المضمدة اشعرتاه بالالم..
هتف الرجل: - خليك زى ما انت بلاش حركة الدكتور قال راحة تااامة..
أعاد زكريا السؤال: - انى فين..!؟..

أجاب الرجل: - انت هنا في فيلتى.. فيلا الحاج مندور الشامى..
شهق زكريا متعجباً متغلبا على ألم رأسه الذى يكتنفه الان: - هو حضرتك الحاچ مندور.. الف حمد وشكر ليك يا رب..
ابتسم الحاج مندور و لم يعقب ليستطرد زكريا: - ده انى كنت بدعى ربنا اجابلك و مكنتش عارف اوصلك كيف..!؟..

اتسعت ابتسامة الحاج مندور هاتفاً: - و أديك أهو جوه فيلته..!؟.. نايم في جناح الضيوف.. بس ليه كنت بتدعى تشوفنى..!؟
هتف زكريا بصوت رتيب واهن: - يا حاچ انى مش هشهد غير بالحج.. ألحج مالك و سمعتك.. انت راچل زين و الكل بيحلف بحياتك بس شعلان..
هتف مندور متعجباً: - ايه اللى بتقوله ده.!؟
و ايه دخل شعلان بيه..!؟؟..

استطرد زكريا: - يا حاچ مندور في لعب ياما بيتعمل من ورا ضهرك و مواصفات مش مطابجة و مهندسين مطرمخين على اللى بيحصل عشان بيجبضوا..
هتف مندور في ضيق: - و انا ايه اللى يخلينى اصدقك..!؟.. اه انت انقذت بنتى زينة .. و أشار لابنته التي كانت خارج مجال رؤية زكريا.. ثم استطرد: - لكن ده مش كفاية ان اصدق المصايب اللى بتقولها دى.. ده انت لسه جديد عندنا على ما سمعت و شعلان في الكار ده من زمان و اشتغل مع مقاولين ياما..هو اه انا مبرتحلوش بس ده مش معناه انه حرامى..

هتف زكريا: - عِندك حج يا حاچ.. اه انى جديد هنا.. لكن منيش چديد على الكار.. انا اشتغلت مع الحاج مرشدى الضبع في مصر
و شربت منه الصنعة و عرفت ايه اللى ينفع و اللى مينفعش.. و
قاطعه مندور هاتفاً: - الحاج مرشدى الضبع!؟.. انت كنت شغال معاه..!؟..
أكد زكريا: - اه.. و جَبل ماجى اسكندرية كنت عنديه شغال و تجدر تسأله..

هتف مندور في تعجب: - ياااه.. مرشدى ده صاحب عمر بس للأسف اتفرقنا.. هو فضل هناك و انا جيت على إسكندرية .. فضل هو ف شعل القطاعى و انا غامرت و بقيت اللى انت شايفه ده..ده انت اللى هتدلنى عليه لانه قفل محله القديم و غير مكانه خاالص و من ساعتها مش قادر أوصله و الدنيا خدت كل واحد في سكة..

ثم تنهد و هتف أخيرا: - طب يا زكريا.. انا عايز اتأكد من اللى بتقوله ده و اسمعه بودنى مش عايز انزل الموقع ألاقى كل حاجة تمام و المهندسين مظبطين الدنيا لان واضح ان في حد بيبلغهم بمجيتى حتى و لو فجأة..
أكد زكريا: - خلاص يا حاج سيبها عليا..و كله على الله في الأول و الاخر..

هز مندور رأسه متفهماً ليهتف زكريا محرجا: - طب انا بجيت كويس يا حاچ.. استأذنك اروح.. زمان ولدى لوحديه..
هتف مندورفى لوعة: - ابنك..!؟..يا زكريا.. انت بقالك خمس ليالى غايب عن الدنيا..فين ابنك ده..!؟.. و ازاى تسيبه لوحده..!؟..
بهت زكريا من الفترة التي غاب فيها عن الوعى و لكن ما افزعه حقا هو حازم.. يا ترى كيف حاله الان مع الست تهانى و التي بدورها لا تعلم أين مكانه..!؟..
هتف زكريا: - ولدى في البنسيون اللى انى جاعد فيه بترعاه صاحبته و بتخلى بالها منيه لحد ما ارچع من شغلى.. كتر خيرها..

هتف مندور: -طيب احنا هنبعت نجبهولك.. بس هي فين ولدته..!؟..
همس زكريا بشجن: - الله يرحمها..
تحرج مندور: - الله يرحمها..
ثم استدار مندور هاتفاً: - انا هبعت السواق يجيب الولد..اسمه حازم مش كده..!؟..
هتف زكريا رافضا: - لااه.. ملوش عازة يا حاچ مندور.. بس وصلونى لعنديه و كتر خيركم..

هتف مندور مؤنباً و هو يستدير ليعود لزكريا يرجع كتفيه لموضعهما على الفراش حينما عم بالنهوض متحاملا على ألام كتفه و رأسه: - انت رايح فين..!؟.. ما قلنا الحركة ممنوعة و خطر عليك دلوقتى.. مفيش روحة في اى حتة و ابنك هيجيلك لحد هنا..
ارتاح بقى..

عاد زكريا متمدداً على الفراش و في اثناء ذلك وقعت عيناه على تلك الفتاة التي كانت قابعة في احد أركان الغرفة صامتة تماما لم تنبس بحرف.. تتطلع لما يحدث بعيون متسائلة حيرى..و تشبك كفيها و تفرك أصابعها في اضطراب ظاهر..
أشاح زكريا بنظراته عنها و هو يكتنفه شعور عجيب بانه قابل تلك الفتاة من قبل و لكن لا يعلم أين..!؟.. او متى حدث ذلك.!؟

اندفع مندور خارج الحجرة ليقوم بما يلزم ليحضر حازم و ما ان رأت ابيها يخطو خارج الغرفة حتى اندفعت بدورها في اضطراب خلفه.. حتى انها لم تفكر للحظة بان تشكره.. لكنه لم يهتم كثيرا فهو يدرك تماما تلك الطبقة الواسعة الثراء و كيف يكون ابناءها.. فانهم يروا أنفسهم فوق البشر جميعا و ان جميع بنى ادم قد خُلقوا فقط لخدمتهم..

دخلت الخادمة تحمل صينية الطعام لزكريا و خلفها كانت تلك الصامتة التي لا تنطق بحرف ترفعا.. و ضعت الخادمة الصينية على تلك الطاولة الصغيرة الموضوعة على الفراش امام زكريا و رحلت..

توقع زكريا ان ترحل معها.. فهى بالنسبة له مجرد شخص غامر بحياته لانقاذها و عليها شكره و الامتنان له بطريقتها اى كانت هذه الطريقة حتى و لو فظة و لا تحمل اى ملامح من الذوق المفترض في مثل هذه الحالة.. لكن من هو ليطلب اكثر من ذلك فعليه ان يكون راضيا و ممتنا لذاك البزخ الذى يعيش فيه و تلك الرفاهية التي ما كان يحلم بها في جناح ملكى كهذا و في فيلا احد أكبر مقاولى الإسكندرية...

جلست هي كعادتها في ذاك الركن و بدأ الاضطراب المعتاد يسكنها بفرك أصابعها كما اعتادت..
لم يعيرها اهتماما و لا نطق بحرف لكن لا يعلم لما نظراته رغما عنه تحيد باتجاهها..
هناك شيء ما يجذب نظراته اليها و هو القادر دوما على غض بصره..

لكن هناك شيء أقوى من تلك القدرة امام تلك الفتاة.. ربما هو الفضول الذى يدفعه للتفرس فيها رغما عنه لعله يتذكر أين رأها
فهو يكاد يقسم ان هذا الوجه قد قابله من قبل
لكن لا سبيل للتذكر في اى مكان و ما المناسبة..
اندفع حازم من باب الجناح في تلك اللحظة
هاتفاً ما ان رأى ابيه مندفعا لفراشه: - سكريا.. !!!...
اخرج هتاف حازم زكريا من شروده ليتلقفه بين ذراعيه..

اندفعت هي ترفع صينية الطعام بعيدا عن الفراش مخافة اسقاطها بسبب اندفاع حازم المحموم تجاه والده.. الا ان زكريا ترك حازم و اندفع يحمل الصينية في نفس اللحظة التي وضعت كفيها لتحملها بعيدا..

كفيه على كفيها و صينية الطعام بينهما و نظرات مصعوقة من قبلها و نظرات محرجة من قبله.. ثوان مرت بلا رد فعل و فجأة تركت الصينية ليتلقفها هو قبل سقوطها و تندفع خارج الغرفة كالمذعورة التي يتعقبها الشيطان..

ترك زكريا صينية الطعام جانبا و أعاد تركيزه على حازم الذى اندفع لاحضانه من جديد معاتبا أياه على غيابه تلك الفترة الماضية و تركه وحيدا و قد بكى كثيرا و لم تستطع الست تهانى إسكاته ليهتف زكريا مازحاً: - وهو في راچل يبكى برضك..!؟..

هتف حازم بنبرة جدية: - انا مش راجل على فكرة.. شوف انا طولى ايه و انت طولك ايه..و أشار بكفه مقارنا طوله بطول والده مستطرداً لما ابقى طولك هبقى راجل..
انفجر زكريا ضاحكاً و لم يعلق على منطق ولده الغير قابل للمناقشة بل احتضنه في شوق و استدار يحمل صينية الطعام يطعم ولده منها و يتناول طعامه متطلعاً لحازم في سعادة...

اندفع مهران لداخل السراىّ و هو يمسك برأسه متألما صرخت الحاجة فضيلة و هى ترى الدماء تلوث جلباب حفيدها مما استرعى انتباه زهرة الذى اندفعت تتأكد من سلامة ولدها..
رفعت كفه عن الجرح النازف لتتأكد انه يحتاج الى بعض القطب الطبية فى الحال..

اما الحاجة فضيلة فاندفعت تحضر بعض من البن المحوج الذى تخفيه بعيدا عن كف عاصم حتى لا يتخلص منه بسبب حبها للقهوة التى ترفع لها ضغط الدم..
هتفت زهرة بها وهى تهم بوضع البن على جرح مهران: - لا يا خالتى .. ده محتاج خياطة ضرورى.. انا هبعت سعيد يجيب الدكتور..
و بالفعل اندفعت زهرة تطلب الطبيب بينما هتفت الحاجة فضيلة فى ضيق موجهة كلامها لمهران حفيدها الذى كان يجلس على طرف الأريكة شاردا لا يبالى: - مين اللى عِمل فيك كِده يا روح ستك..!؟..

هتف مهران: - الواد سلامة الصايغ..
ضربنى بالحچر و چرى..
أغمضت الحاجة فضيلة عيونها مفكرة بعمق: - طب و هو عِمل كده لحاله..!؟.. عِملت له ايه يا واد الغالى..!؟..
هتف مهران مدافعا عن نفسه فاشيا سره في براءة: - هكون عِملت له ايه..!؟.. انا
خناچتى كانت مع اخوه الجبان اللى مجدرش علىّ راح باعت لى اخوه الكبير.. راح ضربنى على طوول بالحچر فى راسى و چرى.. هما الاتنين أچبن من بعضيهم عشان عارفين محدش هايجدر يضربنى..

ابتسمت فضيلة لحفيدها الذى كان يتسم عن اقرانه بقوة البنيان و هتفت بفخر و هي تحاول تنظيف الجرح: - معلوم.. هو انت واد مين..!؟.. ده انت واد عاصم الهوارى..
ثم نظرت فى تخابث و هى تدرك ان فى الامر شئ خفى لا تدركه: - بس برضك انت مجلتش.. ايه سبب العركة من الأساس يا مهران..!؟.

صمت الصغير و أنقذه الطبيب الذى استأذن و بدأ فى عمله و نظف الجرح و عقمه ثم بدأ فى تقطيبه و الطفل يبدى رباطة جأش تفوق سنه جعلت الجدة تبتسم و هى تتذكر ابيه في مثل عمره.. كان نسخة منه فى كل شئ على الرغم انه يشبه لحد اكبر الجد مهران الذى سُمى تيمنا به من الناحية الشكلية و بعض الصفات.. لكن فيما يخص القوة و الحمية فانه لا يختلف عن عاصم إطلاقا..

اندفعت سهام داخل القاعة حتى كادت تصطدم بالطبيب الذى أنهى عمله و كان فى سبيله للرحيل و هى تجذب خلفها ابنتها تسنيم فى يد و الاخرى تسبيح ذات الاربع سنوات فى اليد الاخرى....
هتفت فى لوعة ما ان رأت ضمادة مهران التى وضعها الطبيب على جرحه: - يا ولدى.. يجطعنى.. بتى السبب..

هتفت فضيلة و زهرة فى آن واحد: -ازاى..!؟.. كيف..!؟..
نكس مهران رأسه أرضا و صدق حدس الجدة فضيلة فها هو المستور يظهر عندما اندفعت سهام تحكى بعفوية: - تسنيم كانت بتلعب جدام الدار راح الواد البارد بن الصايغ ضايجها راح مهران ضاربه.. الواد الفجرى راح جاب اخوه و راح ضارب مهران بالحچر فى راْسه و طلع يرمح و الله لما ياچى عاصم و حسام لهيشوفوا اللى ما شافوه..عيال جليلة الرباية..

ابتسمت الحاجة فضيلة و هى تربت على كتف مهران هامسة فى استحسان: - جال كنت بتحوش عن بت عمتك يا مهران..!؟..
هز الصبى رأسه المنكس ببطء.. لتعيد الجدة التربيت على الكتف الصغير فى سعادة هامسة له: - چدع..عفارم عليك.. أوعى تخلى حد يجرب من حاچة تخصك..

رفع الصبى رأسه متعجبا: - تخصنى.. ازاى يا ستى..!؟..
ابتسمت الجدة متناسية سهام و زهرة اللتان أخذتا فى الحديث فى شأن رجالهما الغائبين: - معلوم يا جلب ستك.. تخصك.. مش بت عمتك.. يبجى تخصك.. و تدافع عنيها مهما كان جدام مين.. سمعنى يا مهران..!؟..
همس الصبى محاولا الاستيعاب لكل ما قالته الجدة: - سامعك يا ستى..

اقتربت تسنيم بجسدها البض الممتلئ قليلا فى خجل من مجلس مهران و جلست بجانب الجدة على استحياء هامسة وهى تشير للجرح برأسه: -هو بيوچعك يا مهران..!؟..
هتف الصبى فى تأكيد: - لاه مش واچعنى..
انا راچل.. و ده خربوش صغير..
انفجرت الحاجة فضيلة ضاحكة على رد فعل حفيدها الذى اثلج صدرها....

اندفع حازم لغرفة زكريا صارخاً في فرحة و كانت زينة في أعقابه تحاول اللحاق بِه حتى انها من شدة اندفاعها لم تستطع ان تمنع نفسها من التوقف قبل ان تصل لاعتاب الغرفة..
كان حازم الان في أحضان زكريا مدعيا الاختباء منها فابتسم زكريا لأفعال ولده و تطلع ممن يركض بهذا الشكل ليراها تقف حائرة على اعتاب الباب مضطربة و مترددة هل تدخل ام ترحل.. كانت تلك المرة الأولى التي يراها فيها بعد حادث صينية الطعام الغير مقصودة منه و رد الفعل العجيب منها..

هتف زكريا في تأدب: - اتفضلى يا أنسة زينة..
و كأن عرضه هو الدافع الذى كانت بانتظاره لتدخل الجناح في خطى وئيدة و مترددة..
حتى جلست في ركنها المفضل.. صامتة كعادتها..
هتف زكريا معاتباً حازم: - احنا مش جلنا نبجى هاديين يا حازم و منتعبش حد معانا!!؟..
هتف حازم ممتعضا:- ما انا مؤدب و هادى أهو.. انا كنت بلعب مع طنط زينة.. فيها ايه دى!؟؟..
ابتسم زكريا: - مفيهاش حاچة يا غلباوى بس متتعبهاش معاك..

تطلع اليها زكريا ليجدها أخيرا ترفع نظراتها المطرقة دايما الى الأرض لتتطلع اليه بدورها..
دخل الحاج مندور في تلك اللحظة ملقياً التحية و مطمئناً على صحة زكريا..
نظر الحاج مندور لابنته متعجباً عندما وجدها تجلس في هدوء في حضرة زكريا و ابنه دون ابداء ذاك الاضطراب المعتاد و فرك أصابعها المتزامن مع ذاك التوتر..

كانت بالفعل تجلس هادئة تماما و كأنها في حضرته هو.. فهو الوحيد الذى تكون على طبيعتها معه..
هتف الحاج مندور: - ها جاهز يا زكريا للى اتفقنا عليه.. و لا نأجل الموضوع شوية !؟.
هتف زكريا مؤكدا: - لااه نأچل ايه..!؟.. كيف تأجيل يا حاچ.. ده انت موجف الشغل من ساعتها في العماير و ده برضك جوت ناس و اكل عيشها... الداكتور جال باذن الله على بكرة بالليل بكتيره هاياجى يطمن على چرح راسى و يفك الشاش اللى عليها دى هي بس يدى اللى هتاخد وجت شوية.. بعد بكرة الصبح باذن الله انزل الشغل و نفذ اللى اتفجنا عليه يا حاچ..

هز الحاج مندور راسه موافقا: - تمام يا زكريا و ربنا يعمل اللى فيه الصالح..
همس زكريا: - باذن الله..
نهض الحاج مندور مغادراً: - طيب يا زكريا نسيبك تستريح و كله على الله..
استدار الحاج مغادراً و ما ان وصل لاعتاب الباب حتى وجد ابنته لم تتحرك خلفه مسرعة كالمعتاد.. ابتسم في هدوء هاتفاً في محبة: - زينة.. مش هتعشينا و لا ايه !؟..

انتفضت زينة عندما انتبهت لمغادرة و الدها و قد احمرت وجنتاها خجلاً و هي تندفع خلفه مغادرة الغرفة في سرعة كما اعتادت..
ليتبعها زكريا بنظراته المتمردة على رغبته حتى رحلت.. فتنهد في ضيق و احتضن ابنه بذراعه السليمة الى صدره.. ليروحا في نوم عميق من جراء الدواء الذى يتناوله..

صرخات أيقظت زكريا من سباته دافعة أياه للنهوض في عجالة مقاوما ذاك الدوار الذى اكتنف رأسه فجأة عندما نهض مسرعا من نومه..
اندفع خارج جناحه متتبعا الصرخات المتلاحقة و التي تنبئ بكارثة.. و صَل أخيرا لمكانها و عرف مصدرها و الذى لم يكن الا حازم..
هتف زكريا ملتاعاً عندما رأى حازم متعلقا بأحدى أعمدة السلم الداخلى للفيلا على ارتفاع لا يقل عن مترين من الأرض..

و كانت تقف على مقربة منه زينة.. و التي كانت تقف مصدومة لا تحرك ساكنا و لا تنطق حرفا..
اندفع زكريا ليقف أسفل المكان المعلق به حازم هاتفاً به يطمئنه: - متخافش يا حازم.. متخافش.. انا اهاا.. سيب يدك..انا هتلجفك..
ليصرخ حازم برعب رافضا ترك كفيه و الدفع بنفسه للأسفل ليتلقفه والده..

هنا ظهرت الخادمة التي كانت تشترى بعض مستلزمات المطبخ لتترك ما بيدها مندفعة لاعلى الدرج محاولة سحب حازم لاعلى لكن حازم لا يعطيها الفرصة لمساعدته خوفا من سقوطه..

حاولت معه كثيرا و زكريا يكاد يجن بالأسفل لا يستطيع ان يبرح مكانه خوفا من سقوط حازم المفاجئ.. و الذى حدث بالفعل عندما قلت قدرة كفيه الصغيرين على الإمساك و التعلق لفترة طويلة بذاك الافريز الضيق فهوى صارخاً ليلتقطه زكريا بذراعه السليمة مترنحا من الثقل و الألم في نفس ذات الوقت.. فسقوط حازم قد مس ذراعه المصابة غصبا عنه..

شهق حازم بين ذراعى والده باكيا.. ضمه زكريا اليه متنهدا و زافرا في عدم تصديق ان ابنه بخير و لم يُصِب بأذى.. و هنا..
وقعت عيناه عليها.. كانت لاتزل على وقفتها المشدوهة و نظراتها المصدومة..
لا يعرف زكريا ما الذى دهاه لحظتها ليندفع اليها و قد وضع حازم ارضا ليمسك بذراعها و يهزها في عنف صارخاً: - انتِ ايه..!؟ الواد كان ممكن يموت جدامكِ و انت ولا اى إحساس.. هو احنا رخاص جووى عنديكم كِده.. يلعن أبو الفلوس اللى تخلى اللى زيك مش هماه حتى أرواح الناس..

و دفع بها و ألتقط كف حازم منصرفا في ثورة و قد عقد عزمه على الخروج من هنا مهما كان.. فلن يأمن على طفله الوحيد مع امرأة مستهترة كتلك الفتاة و التي لم يكن يع انها بدأت تنتفض و تتشنج ما ان لمس ذراعها في خضم ثورته و لم يدرك انها الان بدأت تبكى بشهقات منتفضة تقطع نياط القلب حتى ان الخادمة اندفعت اليها تحاول تهدأتها لكن لا فائدة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة