قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل الأول

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل الأول

تسلل ذاك الظل الأسود من خلف أسوار سراىّ الهوارية .. و اندفع مبتعداً قبل ان يشق الفجر خيوطه الاولى في عتمة الليل .. ما ان وصل لنهاية ذاك السور الذى يحفظ تفاصيله عن ظهر قلب الا و توقف لحظات و استدار في إجلال يتطلع لتلك السراىّ التي شهدت عمره بالكامل فقد تكون تلك المرة الأخيرة التي يتطلع اليها .. غاب عن واقعه لحظات و أخيرا استدار موليا ظهره عنها وهو يزفر في ضيق .. ثم اندفع مستكملا طريقه عازما على المضي فيه ..

خاض تلك الأرض الزراعية التي تفصل السراىّ عن تلك الدار التي خصصها له عاصم بن عمه ليعيش بها مكرما مع امه .. وها هي تقبع فيها منعمة أخيرا بعد سنوات من الغربة و التيه الذى على ما يبدو مكتوب على كليهما
سمع من البعد صوت عواء احد ذئاب الجبل في تلك الليلة شديدة البرودة.. شد كوفيته الصوفية التي تغطى وجهه و رأسه بالكامل لا تُظهر من وجهه سوى عينيه..

ربما يستشعر المزيد من الدفء
و ها قد وصل لباب داره .. كان من المفترض به الدخول مباشرة لحجرة امه ليودعها لكنه تذكر ان زوجة أخيه باقية في الدار بناء على طلبه لخدمتها و لتجد لها ملجأ بعد كل ما حدث من سليم أخيه الغير شقيق ..
طرق الباب عدة طرقات .. و انتظر عدة لحظات ليعاود الطرق من جديد حتى تناهى لمسامعه صوت انثوى مرتعب خلف الباب يسأل في ذعر :- مين اللى عيخبط..!؟..

-انا زكريا يا مرت اخوى .. افتحى ..
اندفعت كسبانة تفتح الباب في تعجب :- سى زكريا ..!!؟.. اتفضل ..
-معلش .. طأطأ رأسه تأدبا ما ان طالعه محياها.. انى چاى في وجت مش مناسب .. بس كان لازماً اشوف امى ..
هتفت كسبانة في عتاب:- متجلش كده يا سى زكريا .. ده دارك و احنا ضيوفك .. حد هيستأذن في داره برضك ..!؟..

تنحنح في احراج و توجه في سرعة الى حيث غرفة امه التي و كأنها كانت تعلم بمجئ ولدها الليلة فكانت بانتظاره ..تلقفته بين ذراعيها ما ان هل عليها من الباب .. و هتفت وعيناها تكللها الدموع :- خلاص ..نويت يا زكريا ..
هز رأسه بالإيجاب دون ان ينطق حرفا واحدا .. ربتت على كتفه و قبلت هامته التي تسكتين بين ذراعيها..

و همست في وجل :-..كن الفُراج مكتوب علينا يا ولدى ..تنهدت في حزن .. مع السلامة يا جلب امك .. خلى بالك على نفسك
ولو ضاجت بيك .. ارچع يا زكريا .. متجاوحش ..ومتغيبش على امك .. و طمنى عليك يا ضنايا ..
هز زكريا رأسه موافقا على كل كلمة نطقتها امه وهو بين ذراعيها .. لكنه كان عازما ألا يعود حتى يحقق ما أنطوت عليه نفسه..
خرج مسرعاً جاذباً حاله من دفء أحضانها الذى حُرم منه طويلا غير قادر على المضي في البقاء أكثر حتى لا يفتر عزمه
و تلين إرادته في الرحيل ..

اندفع خارجاً من باب الدار الا ان كسبانة اندفعت خلفه تستوقفه:- سى زكريا ..
وقف مجيباً نداءها لتدفع بين ذراعيه بلفافة ما وهى تقول :- خد دوول .. حاچة بسيطة من خيرك .. تعينك على طريجك..
قال في امتنان :- تشكرى .. و هم بأن يستدير مغادراً ألا انه توقف لبرهة حتى قال :- مش هوصيكى يا مرت أخوى على امى ..
قاطعته هاتفة :- دى في عينى يا سى زكريا متجلجش ..

ابتسم في امتنان :- لو عزتوا اى حاچة اطلبوا من عاصم اللى انتوا عايزينه .. ومتجلجيش كله من مالى .. انا تركت ورثى كلاته تحت يده عشانكم ..
سألت في فضول :- انت هتروح فين يا سى زكريا ..!!؟..
-معرفش .. ارض الله واسعة .. و رزجه أوسع .. مش هوصيكى على امى تانى  .. و اشار لبطنها .. وعلى واد اخوى ولا بته ..ربنا يجومك بالسلامة ..

ابتسمت في خجل :- تسلم يا سى زكريا ربنا يجدرنى و أرد لك چميلك و معروفك معانا انا واللى في بطنى ..
هتف زكريا في عجلة :- ده مش چميل ولا معروف .. ده حج اللى في بطنك ..
اندفع خارجا من الدار وهى تهتف خلفه :-مع السلامة يا سى زكريا .. ربنا يسلم لك طريجك.

وما ان أغلقت الباب خلفه.. حتى استدار مودعاً بنظرات حزينة داره التي لم يقطنها و كأنما اصبح قدره الوداع لكل الاماكن و الأشخاص.. لكن ما باليد حيلة لم يعد يطيق البقاء في بلد اصبح كل شيء فيها برغم ما فعله عاصم بن عمه لاجله يذكره انه ما زال زرزور ولن يكون زكريا ابدا .. فأقسم انه لن يعود اليها حتى يصبح زكريا الهوارى بحق... أخيرا وصل للجانب الشمالي من النجع .. وانحرف قليلا ليصل لمقابر الهوارية ..صعد تلك التبة القريبة وقطعها مرددا بعض آيات من القرآن الكريم والفاتحة على روح اموات الهوارية جميعا .. حتى وصل لقبر ابيه غسان الهوارى.

مسح التراب عن شاهد القبر بكفه المرتجف و جلس صامتا للحظات واخيرا تحشرج صوته وهو يقرأ الفاتحة في تأثر و اختتمها وهو ينظر لاسم ابيه على الشاهد في إمعان  .. اعتدل قليلا و زاد وجيب قلبه و كأنه بالفعل في حضرة ابيه .. وتنحنح في تردد هامساً :- كيفك يابا ..أنى عارف ان لو لساك عايش مكنتش هستچرى اجولها لك ..

معلوم .. ماهو اصلك كيف لواد عويل زيي يجولك يابا ..!؟...وانت من الاساس مش مصدج انه ولدك ومن صلبك ..
صمت قليلا و تنهد بضيق و أخيرا هتف بصوت متحشرج :-
بس انى ولدك يا حاچ غسان .. ومن صلبك و واحد من الهوارية اللى خلتنى بدل ما ابجى واحد من اسيادهم ابجى خدامهم ..
صمت لحظات من جديد و أخيرا استطرد في عزم :-..بس عهدا عليا .. و جدام تربتك
ما انى راچع النچع ده تانى .. الا و انى زكريا الهواري على حج ..و يومها هاجيلك تانى اجف على جبرك في نفس مكانى دِه ..

عشان تشوف انى بجيت ايه .. و تجول يا ريتنى اعترفت بيه و رفعت راسه بين الخلج و خليته سيدهم باسم ابوه .. لكن انى هرچع ..هرجع يابوى .. وهكون واحد من اسياد الهوارية ..بس مش باسمك اللى بخلت عليّ بيه .. لاااه.. باسمى انى يا حاچ غسان ..
و اخرج زكريا الناى من طيات ملابسه و حفر بعنف بجوار قبر ابيه و دفن نايه و كأنه بذلك يودع زكريا القديم.. زكريا الذى كان يحتاج لذاك الناى بديلا عن صوته الذى لم يكن يسمعه احد خوفا و قهرا .. لكن بعد اليوم لن يخرس صوته و لن يدع حقه مهما حدث ..

و اندفع زكريا و كأن الشياطين في أعقابه تاركا المقابر خلفه متوجها للطريق الشرقي للنجع حتى يستقل احدى العربات التي بدأت تتوافد على الطريق مع خيوط الفجر الاولى ..
دفع نفسه في احداها بالفعل و التي توقفت ما ان أشار اليها .. و ألقى بنظرة أخيرة على النجع الذى قضى فيه حياته كلها نظرة مودعة تحمل الكثير من الوجع و الحسرة مخلوطة بعزم لا يلين وإصرار على عدم العودة .. و القسم مرة أخرى بألا تطأ قدميه ارض ذاك النجع الا و هو زكريا الهوارى على حق ..

دخلت سهام تترنح في خطواتها و بطنها المنتفخة تسبقها فقد دخل حملها بالفعل شهره التاسع ..
دخلت تتطلع الى حيث تجلس أمها الحاجة فضيلة دوما .. فوجدتها برفقة زهرة تتسامران
ألقت سهام السلام و جلست في تثاقل وهى تلتقط أنفاسها بتتابع مرهق ..
ابتسمت زهرة في مودة هاتفة :- ايه يا سهام .. خلاص ..بقيتى على أخرك ..

أومأت سهام إيجابا و هي غير قادرة على الرد ومازالت تلتقط أنفاسها ..
ابتسمت الحاجة فضيلة لأبنتها في محبة واخذت تدعو لها :- ربنا يرزجك ساعة سهلة من عنديه جادر يا كريم ..
ردت سهام أخيرا :- يا رب يا حاچة ..ياارب
ثم استدارت لزهرة و قد استعادت روحها المرحة بعد ان هدأت سرعة أنفاسها المتلاحقة :- و انتوا يا زهرة .. فين الإنتاچ ..!!؟.. كِده النتيجة واحد صفر للتهامية..

انفجرت زهرة ضاحكة على تعليق سهام .. و الذى على الرغم من مرحه الا انه لمس وترا حساسا
داخلها .. فها هي شارفت على تسعة أشهر  زواج ولم يأذن الله بعد بخبر سعيد ينبأ بمولود في طريقه اليهم ..
كانت الحاجة فضيلة بعينيها الخبيرة هي التي استشفت ما شعرت به زهرة رغم ضحكاتها
فقالت في حزم :- كل شيء بأوانه
.. كله بأمر الله .. حد ليه في نفسه حاچة ..!!.. كله مجدر و مكتوب ..

ابتسمت سهام مؤكدة على كلام أمها :- صدجتى يا حاچة ..
في تلك اللحظة دخل عاصم و هو يرغى و يزبد .. و جلس ملقياً جسده على الأريكة بجوار أمه وهو يحمل بين أصابعه ورقة مطوية ..صمتت النسوة الثلاثة في قلق وأخيرا ربتت امه على كتفه متسائلة :- خير يا ولدى ..!؟
فيه حاچة كفالله الشر ..!!..

هتف عاصم في حنق :- زكريا ياحاچة ..سافر زى ما جال وساب وراه الورجة دى في أوضة الچنينة .. بيوصينى بأمه و مرت اخوه .. و بيجول مش عارف هو ممكن يرچع ميتا
شهقت الحاجة فضيلة :- هو برضك عِمل اللى ف راسه و هملنا وهمل امه الغلبانة اللى ما صدجت اتلمت عليه ..!!؟..
وااه يا ولاد غسان .. واخرتها معاكم ..!!..
زفر عاصم في ضيق .. وأخيرا هتف في دعاء صادق من القلب:- ربنا يسهله طريجه ..
همست سهام و زهرة مؤَمِنات..

اندفع عاصم من على الأريكة ناهضاً يصعد الدرج لحجرته فنهضت زهرة مستأذنة سهام وخالتها و اندفعت خلفه .. ما ان ولج باب الغرفة حتى كانت في عقبه .. أغلقت الباب و هو يخلع عباءته و عمامته و يضعهما جانبا و يلقى بجسده على الفراش في إرهاق واضح ..
جلست على طرف الفراش بجواره، وضعت كفها على صدره تربت عليه في حنو، فهى تدرك مدى حزنه على رحيل زكريا، ذاك الأخ الذى اعتقد انه سيظل بجواره سندا له..

رفع كفه يلتقط كفها من على صدره ليقبل باطنه وهو مغمض العينين ..
و فجأة همس متسائلا :- مالك يا زهرة .. !؟..
ابتسمت في سعادة .. فهو أبداً  لم يخيب ظنها .. هو قادر تماما على استشعار فرحها وحزنها حتى ولو أغلقت عليهما الف باب وباب في أعماق نفسها .. وكيف لا ..!؟.. و هوهناك يسكن حيث منابع الروح .. حيث هو دوما وابدا مصدر كل فرحة .. و مزيل كل ألم وحزن ..

دمعت عيناها .. و برغم انه كان مغمض العينين الا انه نهض في عجل معتدلا ليواجهها ..و ما ان رأى بريق الدمع المتراقص في مأقيها حتى جذبها في رفق لأحضانه ..
همس بالقرب من أذنها في نبرة حاول ان يكسوها بغلاف مرح:- هتجولى في ايه ..!؟.. ولا أجررك بطريجتى ..!!؟..
همست بدورها في صوت متهدج تجاريه في مرحه:- لا .. مش هعترف .. قررنى..

انفجر ضاحكاً وهو يجذبها حتى تسقط على الجانب الاخر من الفراش ليشرّف عليها وهو يحاصرها بين ذراعيه .. وما ان اقترب منها في نظرات عابثة حتى رفعت ذراعيها في استسلام هاتفة في ذعر مصطنع :- خلاص حرمت يا عصومى بيه .. هعترف ..
قهقه عاصم وهو يهتف :- ايوه كده .. الطيب احسن ..
ثم تبدلت نظرته .. ونبرة صوته ليشوبها خليط من الاهتمام و الحنان وهو يستطرد متسائلا :- في ايه .. عن چد يا زهرة ..!؟

قررت ان تلقى ما بجعبتها دفعة واحدة .. فهى لا قبل لها للمواربة او الدوران .. خاصة امام تلك النظرات التي تهيم فيها و بها عشقاً ..
-الصراحة يا عاصم .. انا قلقانة من تأخر الحمل ..
صمت دون ان يعقب بكلمة و نظراته لازالت تجول على محياها المضطرب .. وأخيرا تنهد وكفه تبعد احدى خصلات شعرها عن خدها و انحنى في عشق يلثم جبينها ..و همس :- بجى ده اللى مضايجك ..!؟..

ردت في جدية :- ايه .. حاجة مش مهم اقلق عليها ..!!؟..
-لاه .. مجلتش كده .. بس كل حاچة بأوان ..
-يعنى انت مش مستعجل على موضوع الاولاد ده ..!؟..
تطلع الى عمق عينيها وهو يهمس صادقا :- انا مجدرش اجولك مش هاممنى .. يبجى بكدب عليكى ..انا لو مهتم بموضوع الخلفة دِه ومتسربع عليه يبجى عشان حاچة واحدة بس .
-ايه هي ..!!؟؟.. سألت في اهتمام وفضول ..

-انى افرح أبوى يا زهرة جَبل ما .. و توقف دون ان يكمل ..لكنها فهمت ما كان يقصد ..فاستطرد وهو ينظربعيدا عنها شاردا .. نفسى احط بيده ولدى وافرح جلبه و اجوله يا حاچ ده واد ولدك اللى عشت طول عمرك تتمنى شوفته و اللى هيشيل اسمك و اسم الهوارية .. تنهد من جديد وهو يعاود النظر اليها .. انتِ عارفة يا زهرة صحة أبوى في النازل و بتتأخر كل يوم عن اليوم اللى جبله ..عشان كده لو متسربع هيكون ده السبب لكن أنى مش هاممنى حاچة غيركِ.. خلاص هعوز ايه تانى من الدنيا و انتِ چنبى ..!!؟..

رفعت ذراعيها تطوق عنقه وهى تهتف في عشق مازحة:- صُح يا عصومى ..!؟..
ليقهقه في سعادة :- صُح يا عيون عصومك ..!؟..
ليكون دورها الان لتقهقه وهى تغيب في سعادة بين احضانه ..

كانت السيارة تتهادى على الطريق الصحراوى متجهة في عزم الى القاهرة .. تطلع زكريا الى الصحراء الممتدة على جانبي الطريق و شرد في الشمس التي توسطت كبد السماء ..و غاب ذهنه في تذكر النجع و احواله .. و ظهرت صورة سهام امام ناظريه فابتسم رغما عنه في سعادة ممزوجة بالحسرة ..و تذكرعندما رأها ذات مرة تخطو لداخل السراىّ متباهية بحملها .. عيناها تشع فرحة لا توصف ..

كم تمنى لو كان هو السبب في تلك الفرحة .. وكان هو صاحب السبق في ذرع ذاك الفخر في مشيتها المترنحة المتباهية .. قفزت الابتسامة على شفتيه من جديد ..لكن هذه المرة .. لانه بحق تمنى لها السعادة .. حتى و لو في البعد عنه .. فهى على كل حال.. ابنة عمه الغالية .. التي شبت على كفيه و أحاطها دوما بعنايته .. كما ان جميل عاصم أخيها .. سيظل يطوق عنقه ما دام حياً ..فلولاه ..لظل حقه ضائع و كان لايزل زرزور .. فقط زرزور .. بلا هوية او اسم عائلة يشرف اى ممن ينتسب اليها ..

قرقرت معدته.. فتذكر الطعام الذى يحمله في اللفافة التي وضعتها كسبانة بين كفيه عند مغادرته ..شكرها في سره و بدأ في تناول طعامه بشهية و قد دفع ببعض الشطائرلجيرانه من المسافرين ..

انهم الان على مشارف القاهرة ..هكذا هتف احد المسافرين .. هو لا يعرف أين يذهب ..!؟..ولا حتى أين يبيت ليلته ..!؟.. وما المفروض عليه فعله بالضبط ..كل ما يعرفه انه يخط اولى الخطوات في طريقه الذى ارتضاه لنفسه .. لن يعود مهما حدث .. لن يطأ ارض ذاك النجع منكس الرأس ابدا .. لن يدخله الا  مرفوع الهامة و الكل يشير اليه بالبنان ..

فجأة .. استيقظ من شروده على همهمات داخل السيارة التي تقلهم
و لم يعرف سبباً لها ..
تطلع في الوجوة المكفهرة و الهمهمات الساخطة و تنبه ان السيارة تُبطئ من سرعتها و أخيرا .. عرف السبب .. أحد كمائن الشرطة تسد الطريق امام السيارات العابرة ..

توقفت السيارة امام بوابة الكمين مباشرة ليندفع رأس احد الضباط
الى النافذة و هو يهتف بالركاب:- كله ينزل و معاه بطاقته .. ياااللاه..
بدأ الجميع في النزول و تقديم الهويات الشخصية لذاك الضابط
الحانق الذى يتصبب جبينه عرقا رغم برودة الجو ..

كان يتناول الهويات من البعض  فيعيدها اليه من جديد و البعض الاخر يحتفظ بهويته هاتفاً فيه بنزق مقيت و هو يشير لأحد الأركان البعيدة نوعا ما :- اركن هنا على جنب ..
و أخيرا جاء دور زكريا ليقدم هويته في هدوء تلك الهوية التي استخرجها له عاصم تأكيدا لهويته الجديدة كفرد من الهوارية.. تطلع اليها الضابط في اهتمام ثم رفع نظراته متطلعاً لزكريا بنظرة شاملة من قمة رأسه حتى اخمص قدميه ..

ثم هتف فيه بصوت جهورى:-  أركن على جنب مع الباقيين ..
رد زكريا في تعجب :- بس يا باشا .!!.. انا بطاجتى سليمة ....
هتف الضابط في حنق :- هو انت اللى هتعرفنى اذا كانت سليمة و لا مضروبة ..ما تيجى تعلمنى شغلى.. اركن على جنب من سكات .. قال كلماته الأخيرة و هو يدفع بزكريا من كتفه لينضم الى حيث يقف الباقون بلا حول و لا قوة ..

كظم غيظه .. فَلَو ان احد من النجع  فعلها و دفع به هكذا لكان الان في عداد الأموات ..
لكن هنا .. هو غريب و لا يملك من أمره شيء .. انه قانون جديد عليه احترامه .. قانون يختلف تماما عن قوانين نجع الصالح التي تعتبر اسم عائلتك الذى يزيل اسمك كاف تماما لتحمل صك الرفعة او الدناءة ..

انتهى الضابط من فحص هويات الجميع .. ليستقل المحظوظون منهم السيارة من جديد .. بينما من وقع في الجانب الاخر لسوء حظه ولم ينل الحظوة عند ذاك الضابط المتجهم فكان مصيره الدفع به الى سيارة الشرطة في صندوقها الخلفى لتنطلق بهم الى قسم الشرطة .. و التهمة ..!؟.... مجرد اشتباه...

بدأت جحافل الليل في إسدال أستارها .. و زكريا لايزل متكوم بجوار زملائه في احد أركان القسم .. يروح و يغدوعشرات الضباط و العساكر دون ان يهتم احدهم بإلقاء نظرة على هؤلاء المهمشين في ذاك الركن البعيد ..
و أخيرا .. جاء احد الضباط الذى هتف في حنق :- ايه دوول ..!؟.

رد احد العساكر في سرعة بعدإلقاءه التحية العسكرية في انضباط :- دوول وارد الكمين يا فندم ..
أشار الضابط اليه في قرف :- هاتهم خلينا نخلص و نشوف حكايتهم ايه !!..
استعرضهم الضابط في لامبالاة .. و استعرض هوايتهم الشخصية الموضوعة على المكتب ..
و عندما طالع هوية زكريا بدأ في تفحصه من جديد و أخيرا سأل في ريبة :- انت صعيدى طبعا..!؟..

هز زكريا رأسه مؤكدا:- ايوه يا باشا ..
تطلع الضابط من جديد لهوية زكريا و سأل مجدداً:- من محافظة قنا .. مظبوط ..!!؟..
أعاد زكريا هز رأسه بالإيجاب ..
فهتف الضابط في سخرية :- طب اركن لى انت بقى على جنب كده .. لحد ما اخلص من الباقيين و أفضالك ..
هتف زكريا في حنق :- ليه يا باشا .. انا بطاجتى سليمة ومعملتش حاچة..

رد الضابط متهكما :- ما ده اللى هانعرفه بنفسنا .. لو حضرتك سمحت طبعا .. و نشوف انهى  داهية اللى حدفتك علينا من بلدكم
مش يمكن عامل مصيبة هناك و لا عليك تار .. و لا خدت بتار و هربان ..
هتف زكريا في حنق متزايد :- و الله يا باشا مفيش الكلام دِه.. هو عشان اكمنى صعيدى يبجى يا اما هربان يا جتال جتلة .. !!؟..

هتف الضابط و قد بلغ به الحنق مبلغا جعل زكريا يزعن رغما عنه لمطلبه بالبقاء في احد الأركان حتى يعود لاستجوابه من جديد ..
جلس زكريا في الركن المشار اليه وهو ينعى حظه العسر الذى أسقطه في يد احد كمائن الشرطة وقدمه لم تطأ ارض المحروسة بعد .. وما تكحلت عيناه برؤية شوارعها الواسعه ولا ميادينها المكتظة ..

ابتسم في حسرة .. وهو يهمس لنفسه .. اول خطوة لك في مشوارك الطويل بدأت باشتباه في قسم شرطة .. فما التالى يا زكريا!؟..و أين ذهبت بركة دعاءك يا حاچة بخيتة ..!!..تحولت ابتسامة الحسرة تلك لابتسامة راحة عندما تذكر وجه امه  .. و ارتكن دون ان يدرى على راحة كفه .. و راح في سبات عميق ..

حركات متسارعة و جرى هنا وهناك في تلك الردهة الطويلة التي تنتهى بغرفة العمليات ..
الان فقط أعلن طفل سهام و حسام رغبته في الوصول لدنيانا فهرع الجميع لاستقبال الحدث السعيد .. حسام يزرع المسافة الطويلة جيئة و ذهابا في توتر ملحوظ .. الحاجة فضيلة تجلس تقرأ القرأن الكريم و تدعو في تضرع..

عاصم يقف مستندا على احد الحوائط ينظر الى حسام الذى أصابه غدوه و رواحه بعدوى التوتر و القلق على الرغم من عدم رغبته إظهار ذلك .. بينما زهرة تقف على الجانب الاخر من الردهة بالقرب من باب غرفة العمليات تتطلع من الجزء الزجاجى في بابها لعلها تلمح او تسمع اى خبر يطمئن الجميع و لكن لا شيء سوى الصمت المطبق بعد ان كانت صرخات سهام المتألمة تشق الأجواء ..

اصبح الوقت ثقيلا .. و ما من أخبار تهدأ من روعهم .. و أخيرا خرجت احدى الممرضات التي كان اول من لمحها زهرة و ذلك لالتصاقها بالباب ..فصرخت في لهفة :- هاا .. ايه الاخبار..!!؟.. طمنينا من فضلك ..
ابتسمت الممرضة في حبور :- الف مبروك .. ولد زى الجمر ..
هلل الجميع و كبر .. بينما اندفع اليها حسام يسأل في لهفة :- المهم هي .. سهام .. اخبارها ايه ..!؟..

هتفت الممرضة :- الام بخير متقلقش .. هم خارجين حالا و هاتطمنوا عليهم بنفسكم .. الف مبروك ..
دفع عاصم بمبلغ مالى لا يستهان به في كف الممرضة التي كادت تقفز فرحاً..
انتقل الجميع لغرفة سهام التي كانت في إعياء تام يتناقلون بين اكفهم الوليد الرائع و يهنئونها بذاك المولود الذى يعد الحفيد الاول لكل من التهامية و الهوارية على حد سواء ...

هتفت زهرة في حماسة :- هتسموه ايه ..!؟..
هتفت سهام بصوت يحمل الكثير من الإرهاق :- جده جدرى هو اللى اختار الاسم .. باسل .. ان شاء الله ..
ابتسم حسام في مودة :- ابويا كان نفسه ياجى .. بس رجليه مش مسعداه .. ربنا يديله الصحة .. هو وصانا لو ولد .. نسميه باسل
و لو بت نسميها تسنيم ..

ابتسمت الحاجة فضيلة :- مبروك ماجالكم يا ولدى.. يتربى في عزك و عز چده و يچعله من الصالحين..
هتف الجميع :- امين ..
تحرك عاصم من موضعه ليقف مقتربا من اخته ليربت على راسها وعلى شفتيه ابتسامة سعادة لا توصف وهو يقول :- بجيتى ام يا سهام ..!!؟.. ربنا يبارك لك فيه و تشوفيه عريس كد الدنيا ..

دفعت سهام رأسها للخلف قليلا لتقابل نظرات اخيها الحانية :- يخليك ليا يا عاصم و ميحرمنيش منيك ابدا .. وهمست حتى لا يسمعها سواه .. عجبالك يا واد أبوى لما نشوف عوضكم .. وأشارت بطرف خفى لزهرة التي كانت تتخذ مقعدا في احد اطراف الغرفة .. و لم يخف على عاصم نظراتها الشاردة و عينيها التي تلتمع بدمع شوق و ترقب وهى تحمل باسل الصغير بحرص و إجلال بين ذراعيها .. فاستدار يطالع اخته من جديد هامساً :- على الله .. كله على الله يا بت أبوى ..

ثم اخرج من جيب جلبابه حزمة نقدية ليضعها بين طيات ملابس المولود وهو يهتف مغتبطاً :- ده نجوط باسل .. مبروك ما جالكم
عجبال ما تخاووه باللى ربنا يجدركم عليه ..
انفجر الجميع ضاحكاً ..ثم هتف عاصم :- طب احنا نمشوا عشان سهام تستريح و عشان كمان نطمنوا على الحاچ  .. سيبينه لحاله في السرايا ..
ثم توجه لامه متسائلا :- خلاص يا حاچة هتجعدى انتى مع سهام و لا تجعد زهرة ..!؟

قاطعهم حسام :- و لا اى حد يتعب نفسيه .. انا اللى هجعد معاها ..
ابتسم عاصم :- لازماً حد من الحريم يجعد معاها يا أبو باسل..
انتشى حسام للقبه الجديد فلم يعقب او يعترض على اى قرارات .. فلقد قررت الحاجة فضيلة البقاء بجوار ابنتها مؤكدة ان الحاج مهران لم يعد يطالب بالبقاء مع احد اكثر من مطالبته و راحته بوجود زهرة دوماً بجواره ..

فانتهى الامر برحيل عاصم و زهرة للسراىّ اللذان وصلاها و قد شملهما الصمت المطبق طوال الطريق من المشفى حتى اعتليا الدرج لحجرة الحاج مهران ليطمئنا عليه .. ليجداه في سبات عميق ..
توجه عاصم للحمام فور ان دلفا للغرفة .. كان يهرب من ملاقاة عينيها  و نظراتهما المنكسرة ..

لم يستطع ان ينسى تلك التعبيرات التي كانت مرسومة على ملامح وجهها المحبب وهى تتلقف بن سهام بين ذراعيها .. نظرات عينيها و ملامح وجهها .. لازالت محفورة في مخيلته .. انه يقدر مشاعرها .. لكن ماذا بيده ان يفعل .. همس رغبة في تخفيف همه .. اللهم لا اعتراض ..
اما هي فجلست على حافة الفراش تتلمس موضع طفل سهام على ساعدها و تستنشق رائحته المحببة التي تركت اثرها على ملابسها .. تستنشقها في شوق حد اللامعقول و في ارجاء روحها لا يتردد سوى صدى لدعاء و ابتهال .. بان يرزقها الله ما يقر به عين زوجها الحبيب ..

تطلعت الى باب الحمام حيث غاب منذ لحظات .. و قررت إنهاء حالة الصمت المخيمة عليهما منذ خروجهما من المشفى و كأن كل منهما يعلم ان الكلمات في تلك اللحظات قد تقتل لا تداوى فقرر السكّات ..
خرج عاصم يكمل ارتداء جلبابه و ما ان طالعت محياه المحبب حتى اقتربت منه محاولة تصنع السعادة و ارتكنت على صدره وهى تهمس :- لما ربنا يريد و يرزقنا باولاد يا عصومى .. تحب تسميهم ايه ..!!؟..

لم يتعجب من تبدل مزاجها فهو ادرى الناس بها فهو يعلم علم اليقين انها تحاول كسر حالة الصمت التي اعترتهما لذا قرر مجاراتها و هو يهتف مبتسما :- لو ربنا رزج بواد يبجى مهران على اسم أبوى .. و لو بت تبجى سندس ..
هتفت متصنعة الضيق :- ايه ده .. انت اخترت خلاص .. و انا ماليش رأى و لا ايه ..!؟..

قهقه و هو يجذبها اليه مطوقا أياها بين ذراعيه :- كيف .. ده انتى تختارى .. و تختارى اللى على مزاچك كمان .. تحبى تسميهم ايه يا عيون عصومى..!؟....
صمتت لحظات مدعية التفكير ثم هتفت في حماس :- مهران .. او سندس ..
تعالت ضحكاته وهو يمازحها هاتفاً :- برضك ..!؟..
لتؤكد بإيماءة من راسها و ابتسامة تكلل شفتيها ما لبثت ان تحولت لصرخة دهشة ممزوجة بقهقاتها عندما وجدت نفسها محمولة بين ذراعيه فجأة .. لتهتف في تعجب :- عاصم .. نزلنى ..

همس في مرح :- اتحايلى عليا الاول..
ضحكت :- وحياتى .. عشان خاطرى ..
هتف :- ايوا.. ها كملى ..
هتفت في مشاغبة :- وحياتى .. عشان خاطرى .. صمتت لحظة وهى تتعلق بعنقه هاتفة .. متنزلنيش ..
لينفجر ضاحكاً لتشاركه ضحكاته و فجأة يهتف في جدية مصطنعة وهو يضعها على اطراف الفراش :- تصدجى .. انا تأخرت على ميعاد مهم ..
زمت ما بين حاجبيها متسائلة :- ميعاد ايه بقى .. هو ده وقته .!!؟.

اقترب منها ليقول في شوق :- ده مفيش وجت احسن من كده ..زمنهم مستنينا ..
تساءلت في تعجب :- هم مين دوول ..!؟؟..
جذبها لاحضانه من جديد و هو يهمس مازحاً :- مهران و سندس .. انتى نسيتى ..
انفجرت ضاحكة وهى تتعلق بصدر جلبابه :- تصدق صح .. اتاخرنا عليهم قووى ..
تعالت ضحكاتهما ممتزجة بدقات قلبيهما..

ثلاثة أيام  ..بثلاث ليال ..وهو قابع مكانه لم يحرك ساكناً ... و لولا ذاك الشاويش الطيب عم رمضان لكان مات جوعا و عطشا و إهمالا .. فمنذ تركه الضابط هاهنا .. وهو على هذه الحالة .. لا يعرف لما هو محتجز بهذا الشكل المهين .. لا يعرف له تهمة او جريرة .. كل ما يعرفه انه موضع اشتباه لانه صعيدى نزح من بلدتهم ..لكن لمتى سيظل على هذه الحالة ..!؟.. لا يعرف..

اندفع اليه الشاويش رمضان في مودة و في يده لفافة تحمل طعاما متواضعا .. فتح اللفافة امام زكريا و هو يهتف به قائلا :- بِسْم الله يا زكريا يا بنى .. و قدم له احد الأرغفة الطازجة ..
تناولها زكريا في شرود و على الرغم من جوعه الا انه شعر بالشبع فجأة وسأل الشاويش رمضان في نفاذ صبر :- هو انى هفضل هنا لحد ميتا يا عم رمضان ..!!؟..

رفع العم رمضان كتفيه ثم اخفضهما كإشارة لعدم معرفته وقال مؤكدا :- علمى علمك يا بنى .. بس اهو حضرة الظابط يجى من الحملة اللى طلعها بالسلامة و نشوف ..
وما ان أتم كلماته حتى اندفع الضابط لحجرة مكتبه في سرعة و هو يهتف بالعساكر ان تضع المتهمين في الحبس و اندفع يلقى بنفسه على مقعد مكتبه في إنهاك واضح مغلقا عينيه .. و أخيرا فتحهما ليطالعه الشاويش رمضان و زكريا في احد اطراف الغرفة ليهتف في نزق :- انتوا بتعملوا ايه هنا ..!!؟.. و الواد ده.. مشيرا لزكريا .. الذى استشاط غضبا لنعته بلفظه ( الواد) ..لسه بيعمل ايه هنا ..!!؟..

اندفع الشاويش رمضان مؤديا التحية العسكرية وهو يقول :- حضرتك اللى امرت بحبسه هنا لحد لما نعرف لو كان وراه مصيبة و لا حاجة ..
أشار الضابط في نفاذ صبر لباب المكتب :- لا .. معليهوش حاجة .. غوره من هنا .. يا اللاه..
اندفع زكريا للباب ما ان سمع كلمات الضابط الذى استوقفه في صرامة هاتفاً :- بص يا صعيدى انت .. لو جيت لى القسم هنا بأى مصيبة .. صدقنى مش هرحمك .. أمشى جنب الحيط و كل عيش بالحلال .. سمعنى ..!؟..

اومأ زكريا برأسه إيجابا .. و ما ان أشار الضابط له بالخروج حتى اندفع خارج المكتب في عجالة كأن الهواء دخل رئتيه أخيرا بعد طول اختناق داخل تلك الغرفة الكئيبة التي لا يتمنى أن يعود  اليها ابدا ..

شقت صراخاتها قلب الليل وهى تتقلب على فراش من جمر .. فقد فاجأتها ألام المخاض الان و لا يوجد معها الا الحاجة بخيتة ..التى اندفعت تعد العدة لاستقبال المولود المنتظر ..
توالت الصرخات وهتفت كسبانة من بين احداها :- هموت يا خالة بخيتة .. انى بموت هتفت فيها بخيتة مشجعة :- بتموتى ايه بس .. شدى حيلك اومال خليكى شَديدة .. ده انى ولدت زكريا و انى اصغر منيكى و جومت ليلتها عشيت ابويا الله يرحمه .. و قوت نفسى .. ما انتى عارفة كنا غلابة و ملناش حد ..

صرخت كسبانة من جديد عندما عاودتها احدى نوبات المخاض ..
وهى تتمسك بالأعمدة المعدنية للفراش خلف رأسها تستمد منها قوة تعينها على تحمل ألمها الذى يمزقها .. تقدمت بخيتة لتمسح العرق المتصبب على جبين المسكينة التي تعانى الان أوجاع قاتلة لتدفع بجنينها للحياة ..
وهى تهمس بالقرب منها :- هانت يا بتى .. هانت .. شدى حيلك ..

كانت تلك الصرخة الأخيرة التي اطلقتها كسبانة .. كانت صرخة استثنائية .. ما ان انقطعت حتى وصلها صراخ الجنين الذى اندفع لكفى بخيتة التي استقبلته في حماس .. هاتفة :- الله اكبر .. الله اكبر .. واد زى البدر ابتسمت كسبانة في وهن و هي تلتقط أنفاسها أخيرا .. و أغمضت عينيها باستسلام و قد اولت بخيتة اهتمامها للصغير الذى بدأت في تنظيفه و إلباسه ثيابه ..

هتفت بخيتة بعد انتهاءها :- هتسميه ايه يا كسبانة ..!؟..
همست في سعادة و هي تتلقف صغيرها بين ذراعيها:- مش انى اللى هسميه يا خالة..
هتفت بخيتة متسألة في تعجب :- اومال مين يا بتى .. أوعاكِ تجولى انك مستنية ..
قاطعتها كسبانة قبل ان تكمل استنتاجها .. فكيف تنتظر سليم ليطلق اسما على طفلهما الذى لا يعترف به من الأساس .. كيف يمكن ان تفكر ان تدعه يطلق اسما على طفلها وهو هارب من العدالة .. ينتظره السجن فاتحا ابوابه على مصرعيها لاستقباله .

هتفت كسبانة في عزم :- اللى هيسميه عمه زكريا ..
-بس يا بتى .. مين يعرف فينه زكريا دلوجت !!؟.... وميتا يتَصل بينا .. !!؟؟..محدش يعِرف أكدت كسبانة في إصرار :- يبجى يجعد من غير اسم لحد لما عمه يسميه ..
ابتسمت بخيتة وهى تربت على كتفها في محبة :- بشوجك يا بتى .. ربنا يرد الغايب .. و يجرب البعيد ..
همست كسبانة :- ياارب يا خالة.. ياارب ..

كانت تجئ و تروح في الغرفة بشكل متوتر ينبئ عن نفاذ صبرها .. فها هو عاصم ما ان حادثته كسبانة  حتى اندفع في سرعة اليها .. لا تعلم ما الذى حدث ..!؟.. و ما الذى جرى ليدفعه للذهاب اليها في تلك الساعة المبكرة من الصباح ..!؟..
تكاد تجن .. فها قد انتصف النهار و لم يظهر له اثر.. و لا تعرف لما ذهب بتلك السرعة العجيبة !؟

ربما طفلها مريض ..!؟.. هكذا استنتجت .. فقد رزقها الله بصبى منذ عدة أيام ..ربما .. هكذا همست .. لكن ايستدعى ذلك بقاءه النهار بطوله هناك ..!؟..
أخيرا قطع انفراج الباب عن محياه خواطرها و استنتاجاتها لتهتف في قلق :- خير يا عاصم .. في ايه ..!؟..
هتف في حنق :- مفيش ..

هتفت بدورها متعجبة :- يعنى ايه مفيش ..!؟.. غايب النهار بطوله عند كسبانة وتقول مفيش ..
هتف في حنق متزايد :- انا مكنتش عند كسبانة .. انا كنت في بيت زكريا واد عمى .. و بعدين رحت جضيت مشاويرى..
كظمت غيظها :- طيب ماشى .. وهى كانت عيزاك في ايه ..!؟..
رد في لامبالاة :- ابدا .. عادى ..

-يعنى ايه عادى .. في حاجة اسمها عادى ..
انفجر في غضب :- زهرة .!؟.... جلت لك ميت مرة .. مبحبش حد يراجعنى في الحديت .. و لا بحب حد يحجج معاى .. رحت فين وجيت منين .. سمعانى ..
هتف بكلمته الأخيرة في غضب هادر جعلها تنكمش على نفسها و تركها ليندفع خارج الغرفة ..

استجمعت قواها بعد تلك العاصفة الغاضبة و جلست على اطراف الفراش تسترد هدوءها و تستجمع شتات افكارها ويكاد فضولها يقتلها لمعرفة سبب رغبة كسبانة في مقابلته .. و اندفاعه لتلك المقابلة .. بدأت الغيرة تنهش قلبها و شيطانها يزين لها أفكارا و تخيلات عديدة عما قد يكون بينهما .. هي متاكدة حد اليقين من حب عاصم لها .. لكن .. هل سيستمر هذا الحب بنفس القوة اذا لم ترزق منه باولاد ..!؟.. و هل سيفكر يوم ما في الزواج من أخرى من اجل ذاك الغرض ..!؟

و لما لا تكون تلك الأخرى هي كسبانة .. فهى جميلة و صغيرة و تنجب .. !!..
استشاطت غضبا من تلك الخواطر التي تستعر بداخلها كنار لا تجد من يطفئها.. و لا تتذكر الا شيء واحد .. ان عاصم صرخ في وجهها غاضبا من اجلها .. من اجل تلك الكسبانة و سرها الذى لا تعلم عنه شيئا..

استغفرت قدر استطاعتها محاولة طرد وساوسها و اندفعت للحمام فربما حمام دافئ يزيح عنها خواطرها التي باتت تؤرقها.. وقد يساعدها في استرجاع هدوء نفسها و صفاء سريرتها..

ما ان انتهت من حمامها حتى خرجت تتطلع لفراشهما لعله جاء ينام في اثناء غيابها .. لكن الفراش كان فارغا منه .. دخلت هي الفراش و تدثرت حتى عنقها
تحاول الحصول على بعض الدعم لطرد ما يعذبها من وساوس أغلقت عينيها مدعية نوم عزيز المنال ..لكن  كيف يأتي النوم..!؟.. و الوجع يذيب صدرها ..و وسادتها كجمر مستعر ..
كيف يأتي النوم ..!؟..

و هي لا تعرف له طعما الا بين ذراعيه .. متوسدة صدره .. تطمئنها نبضات قلبه انه هاهنا لاجلها ..
انتفضت في مكانها مدعية النوم عندما فُتح باب الغرفة بشكل مفاجئ .. فهى لم تشعر بخطواته على الدرج و ما استطاعت أدراك وصوله الى الغرفة .. فقد استغرقتها افكارها حد الغرق و التيه عن ما حولها ..

ألقى هو نظرة سريعة على جسدها المدثر بشكل مبالغ فيه بعد ان فتح احد الأضواء الجانبية الخافتة ..
و غاب قليلا في الحمام ليعود ليستقر على طرفه المعتاد من الفراش بعد ان أغلق الأنوار و تدثر بدوره معطيا لها ظهره ..
مرت بضع دقائق لم يحرك احدهما فيها ساكنا .. كلاهما يعطى ظهره لصاحبه .. و ذاك الفراغ في منتصف الفراش و الذى طالما جمعهما متلاحمين يئن ألماً واشتياقا ليعودا لسابق عهدهما من جديد ..

كان هو يغلق عينيه رغبة في نوم سريع بلا مقدمات .. لكن هيهات ان يزوره النوم و هو على هذه الحالة من الغضب و الاشتياق .. غضب منها وعليها ..و اشتياق الى الدفء و السكون اليها ..
ان ذراعيه خاليتين منها .. يشعر ببرودة عجيبة لم يستشعرها يوما ضم ذراعاه لبعضهما و كبرياءه يكاد يدميه لرغبته في قربه منها ولكن أخيرا انتصر شوقه ليقترب قليلا لداخل الفراش عله يصطدم بها فيتعلل بضيق الفراش .. انتظر قليلا .. ليعاود التقهقر لداخل الفراش من جديد .. وتحققت أمنيته بان عثر عليها .. اصطدم بظهرها .. فقد كانت تتحين الفرص لذلك ..كما كان يفعل تماما ..

استدار لييقابلها بكليته اما هي فقد ظلت توليه ظهرها .. فهل يستطيع الان ان يتراجع ..!؟..
لم يستطع و خاصة عندما وجد جسدها يهتزبشهقات بكاء مكتوم مد ذراعه أسفل خصرها يجذبها
بيسر الى احضانه لتستجيب هي من فورها و تندفع بشوق لدفء ذراعيه .. لم يقل كلمة .. بل لم ينبس بحرف .. وهى كذلك ..

لكنه زاد من طوَّق ذراعيه حولها ليأسرها تماما في احضانه و يقبل جبينها بشوق .. و يربت على رأسها بحنو .. كان ذلك كافيا .. بل اكثر من كاف لتكف هي عن البكاء و تطبع قبلة دافئة على أسفل عنقه و تدفع رأسها في التجويف بين كتفه و ذقنه التي تميل على رأسها .. ليستوطن فيه
جبينها في سعادة .. و يبدأ النوم يداعب جفونهما أخيرا ..

دس الشاويش رمضان ورقة مطوية في كف زكريا هامساً له في حذر :- خد يا زكريا .. ده عنوان ناس طيبين من قرايبى .. انا أديت لهم خبر انك رايح لهم.. هم عندهم أوضة فاضية ليك و هيدبروا لك شغلانة ..
هتف زكريا في حبور:- ربنا يبارك لك يا عم رمضان .. انا كنت لساتنى بسأل روحى .. هخرج اروح على فين ..!؟..

ابتسم رمضان في مودة :- الناس لبعضيها .. وانت شكلك طيب وبن حلال و لولا كده مكنتش هبعتك عند حد معرفة ..بص.. هم قريبين من هنا .. تقريبا شارعين تلاتة و تكون في حارتهم .. اهو العنوان عندك في الورقة اللى في ايدك .. لو انا فاضى كنت جيت وصلتك بنفسى ..
هتف زكريا مهللاً :- لاه .. ده كِده رضا جووى .. انا هعرف أوصل لحالى متجلجش ربت رمضان على كتفه وهو يودعه على السلالم الأمامية لباب قسم الشرطة داعيا:- ربنا يسهل لك طريقك يا بنى ..

ودعه زكريا بدوره و استدار مغادراً القسم و كلمة ( ابنى) يرن صداها في اسماعه و تشعره بوجع هاهنا بين حنايا صدره .. ابدا لم يسمع تلك الكلمة المحببة
و التي تشعره بالتقدير و الفخر ..
ظل يحلم باعتراف ابيه ببنوته و سماع كلمة ابنى من بين شفتيه لكنه لم يحظى بذاك الشرف ..
لم يعترف ابيه به .. ولا سمع منه غير التقريع و السخرية ..

نفض زكريا عنه تلك الخواطر التي تلهيه عن التركيز في طريقه
و اخذ يسأل كل ذاهب و أيب عن تلك الحارة التي يقصدها .. حتى أخيرا وصل على أعتابها .. اخرج الورقة المطوية من جيب جلبابه و قرأ الاسم المطلوب ..
استوقف احد المارة يسأله :- لو تسمح .. تعِرف بيت الحاچ وهيب فين ..!؟.. أشار الرجل بالنفى ..
فقرر زكريا الولوج الى الحارة لسؤال احد أصحاب المحال التجارية بسيطة العرض و البضائع التي تظهر على جانبيها توقف عند محل خردواتى ليسأل من جديد عن بيت الحاج وهيب فأشار الرجل إلى دائرة من البشر على مسافة منهما وقال :- هتلاقى الحاج وهيب عند الناس الملمومة هناك دى ..

شكره زكريا واندفع لتلك الحلقة البشرية الملتفة لا لسبب الا لمشاهدة شجار ما .. لا يعرف من أطرافه و لا ما سبب اندلاعه ..وقف يشارك الناس فضولها
و ذاك الرجل الضخم ذو العضلات المفتولة و الشارب الكث يجذب رجل خمسينى من ياقة جلبابه البسيط هاتفاً فيه بتجبر :- ما انا قلت هتدفع يعنى هتدفع .. بالذوق بالعافية هاتدفع ..مش قادر على الدفع ..!؟.. انت عارف ايه اللى يعفيك من الدفع طول عمرك ..

هتف الرجل الخمسينى باستكانة:- يابنى .. مقدرش ادفع .. و طلبك أترفض .. أعملك ايه بس ..!!؟..
زمجر الرجل الضخم في غضب:- دى مش مشكلتى .. انا مشكلتى دلوقتى هاتدفع و لا لأ..
هتف الرجل المسكين:- منين يا بنى ..!؟.. طب حتى ادينى فرصة ..

قال الضخم :- اديتك فرص كتير و خلاص مبقاش .. و دفع بالرجل الخمسينى خارج اعتاب محله الصغير و اندفع هو و رجاله لنهب بضاعته .. الا ان توقفوا جميعا عندما هدر صوت انثوى بكل قوة :- اللى هيمد ايده على بضاعة المحل .. هقطعهاله و اعلى ما في خيلك اركبه يا سمرى ..
هتفت بشجاعة في وجه الرجل الضخم المدعو سمرى .. و دون ان يطرف لها جفن ..

اندفع سمرى الذى فوجئ بظهورها و هتف فيها بحنق :- انت شكلك ناقصك تربية .. اسمى المعلم سمرى يا بت ..
هتفت في استنكار :- بت ..!؟.. لااا .. ده انا ستك و تاج راسك غصب عنك ..و التربية الناقصة دى انت اللى تعرفها ..يااااسمرى اندفع سمرى اليها في غضب اعمى ليرفع كفه لأعلى منحدرا ليصطدم بخدها .. لولا ان وقف ظل شخص ما ليمنع حدوث ذلك و يتلقى كف سمرى الثقيل على كفه دافعا به للخلف في قوة جعلته يتقهقر خطوة للوراء ..

هتف زكريا بسمرى في غيظ:- و بتسمى نفسك معلم و انت يدك بتتمد على الحريم .. طب جليت أدبك على راجل كَبِير في سن ابوكِ و جلنا جلة عجل .. لكن تمد يدك على الحريم .. لاه .. ده يبجى البعيد نسى كيف يكون راچل و عايز اللى يفكره ..
هتف سمرى في غضب :- انت مين يا واد .. !!؟.. روح العب بعيد يا سبع الرجال ..

استفزت كلمة ( واد) زكريا ليهتف في غضب :- واااد .. طيب ..أنى هوريك كيف الواد ده هيعرفك مجامك ..
و اندفع زكريا كالثور الهائج و دفع بمقدمة رأسه لتنطح جبهة  سمرى بعنف جعل الأخير يترنح قليلا .. ثم يعاود السيطرة على ثباته و هو يشير لرجاله المحيطين بالحلقة مع جمع البشر الذى لازال الفضول يدفعهم للمتابعة و قد ازدادت المشاهدة متعة و اثارة بعد تدخل زكريا الغير متوقع..

ازدادت الدائرة البشرية اتساعا و دخل احد رجال السمرى في نزال مع زكريا و الذى استطاع زكريا التفوق عليه .. ليدفع السمرى باخر .. وهكذا .. استمر الوضع في نزال متتال حتى تناهى من البعد صوت سرينة عربة شرطة فتفرق الجمع في طرفة عين و اختفى السمرى و رجاله في لمح البصر و ما ان تنبه زكريا لما يحدث .. حتى ظهر أمامه ضابط القسم و عساكره حوله ..

هتف الضابط في تقريع :- انت تااانى ..!!؟.. انا مش حذرتك توقع تحت ايدى مرة تانية .. ده انت لسه خارج من القسم مبقلكش ساعة .. طيب .. انت اللى جبته لنفسك .. واندفع عائدا للسيارة وهو يهتف لعساكره باحضار زكريا الذى امتلئ وجهه ببعض الخدوش و الجروح  و جسده ببعض السحجات جراء المعركة الطاحنة التي دارت رحاها منذ قليل ..

سار في استكانة خلف الضابط محاطا بعساكره .. و قد أيقن الان انه لن يغادر ذلك القسم الذى غادره منذ ساعتين ممنيا نفسه بعدم العودة اليه من جديد .. لكن يبدو ان دعوته لم تستجاب .. فها هو يعود اليه الان اسرع مما  توقع  و يبدو انه لن يغادره الا بعد فترة طويلة جداااا..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة