قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث بقلم رضوى جاويش الفصل السابع

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل السابع

اعتزلت بغرفتها مدعية المرض ذاك اليوم و كالعادة تركتها نعمة نائمة اشفاقا عليها .. هو وحده من كان يعلم سبب علتها و علته .. هو وحده يعلم ما تعان منه  و الذى لا يقل عن معاناته ..
لكنها فى اليوم الثانى مرضت بالفعل .. ارتفعت حرارتها و بدأت فى الهزيان لتخرج نعمة صارخة فى قلق :- البت شوشو نار قايدة و مفيش حاجة نافعة معاها لازم لها دكتور يا خميس ..

انتفض ناصر من على مائدة الافطار هاتفا :- انا هجرى اجيب الدكتور اللى ف المستوصف اللى على اول الشارع...
تعجب خميس من افعال ولده الذى كان يتوقع منه سخرية ما على غرار ..  "دلع بنات ..دلوقت تقوم زى الحصان" .. لكنه كان الأسبق ليخرج محضرا الطبيب .. غاب بعض الوقت و جاء به يلتقط انفاسه بتتابع واضح و كأنما احضره من اعالى الجبال .. دخل الطبيب يعاينها و معه نعمة ليخرج مؤكدا انها تعانى من أعراض صدمة عصبية شديدة ..

غادر الطبيب و الكل فى صدمة مما اخبرهم به هتف خميس متعجبا :- صدمة عصبية ايه اللى بيقول عليها الدكتور ده ..!؟.. ما البت كانت زى الفل و مفيهاش حاجة لحد امبارح و لا ايه يا نعمة!؟..

اكدت نعمة فى سرعة باكية في لوعة على حال ابنتها :- ايوه يا خويا .. كانت زى الفل لحد امبارح الضهر دخلت عليها عشان تقوم تساعدنى لقيتها بتقولى تعبانة و عايزة تستريح .. سبتها ترتاح و عديت عليها بالليل لقيتها نايمة برضة مرضتش اصحيها .. و اهو على يدكم دخلت اصحيها تفطر معانا لقيتها ع الحال ده ..

هتف خميس فى قلق :- طب امال ايه اللى حصل!؟.. الصدمة العصبية دى بتبقى سمعت خبر وحش او حصل معاها موقف صعب .. لكن دى لا شافت حد و لا خرجت م البيت امبارح زى ما بتقولى يا نعمة ..
اكدت نعمة بايماءة من رأسها هاتفة :- هى عين و الله .. انا لازم ارقيها و ابخرها .. اللى فيها ده حسد..

اندفع خميس متعجبا للخارج هاتفا :- ابقى طمنينى عليها و لو عوزتوا حاجة قولوا .. و خرج من الشقة هامسا .. لا حول و لا قوة الا بالله ..
اندفعت نعمة بدورها للمطبخ تحضر طعام الغداء و تجهز لشيماء بعض من حساء لتتناوله عندما تستيقظ .. الوحيد الذى ظل واقفا مكانه لم يتفوه بكلمة و لا حرك ساكنا كان ناصر الذى كان يقف فى وسط ردهة المنزل يشعر بالعجز لما اصابها و لا يستطع التفوه بكلمة او حتى الانتقام لها كما يجب..

كان باب الحجرة مواربا فقد تركته امه نعمة كذلك لعل شيماء تستيقظ و تنادى فتسمعها.. احضر مقعدا و وضعه بالقرب من بابها يتسمع همهماتها و تلتقط أذناه هزيانها المتقطع .. هو وحده يميز ما تهزى به .. هو وحده يعرف انها تستنجد به .. كان يسمع حروف اسمه المنطوقة من شفتيها المرتجفتان فيجن جنونه لمرأها على هذا الحال .. لم يستطع البقاء بالقرب من بابها يتعذب بمناجاتها اللاواعية و لا حيلة له ليجيبها ..

همّ بالاندفاع خارجا هربا من عجزه الا انه عاد كالممسوس ملبيا لندائها الصارخ بإسمه ..
اندفع دون وعى دافعا باب حجرتها ليكون بلحظة امام فراشها يتطلع اليها فى إشفاق على حالها الذابل هامسا :- انا هنا يا شيماء مش هسيبك ..
دخلت نعمة خلفه عندما تناهى لمسامعها صراخها لتجد ناصر يقف بالقرب من فراشها فتعجبت متسائلة :- انت لسه هنا يا ناصر .. ده انا كنت فكراك نزلت الورشة ورا ابوك ..!؟.

تلجلج ناصر على غير العادة و تلفت فى اضطراب هاتفا :- انا كنت نازل اهو بس سمعت شيماء بتصرخ .. فجريت عليها و .. انا نازل اهو ..انا نازل ..
و ما ان هم بالخروج من الغرفة حتى صرخت شيماء من جديد بإسمه جعلته يتسمر موضعه ..قلبه يكاد يغادر صدره ساعيا اليها ملبيا ندائها الملهوف ذاك ..

لحظات مرت قبل ان يستجمع شتات ثباته المفقود على عتبات ندائها و هتف فى صوت حاول ان يغلف نبراته بحزمه المعتاد :- انا هقعد بره مش نازل الورشة النهاردة يمكن تحتاجوا حاجة أكون موجود ..
و اندفع للخارج يحاول ان يتهرب من نظرات امه المتعجبة و ايضا ينأى بنفسه عن نداءات تلك العليلة هناك و التى لم تكن يوما الا نوحه المكبوت..

وقف يستند على تلك الشجرة العتيقة التى لطالما جمعتهم تحت  ظل أغصانها الوارفة .. انحنى يتحسس موضع احد جذورها النافرة من الارض تعلن تمردها عن الانصياع لقانون الطبيعة و الغوص فى أعماقها بل خرجت على غير عادتها لتظهر على سطحها لتكون مجلسها المفضل منذ ايام الطفولة المبكرة..

كانت لمساته الحانية تلك كفيلة بان تعرض له صورتها ماثلة أمامه و هى لاتزل طفلة بضفائرها السمراء التى تكاد تماثلها طولا و التى كانت تثير دوما اعجابه .. لا يعرف ما صنعت بتلك الضفائر فمنذ سنوات طويلة و قد فضلت وضع الحجاب .. لكنها كانت دوما ما يميزها عندما ينظر لها من بعيد .. كان يستطيع تمييز تسنيم عن باقى الفتيات بتلك الجدائل الطويلة السمراء التى تمرح و تتقافز خلفها ..

سم فى حنين لتلك الايام التى كان يغار عليها لمجرد ان احد الصبية ناداها باسمها او حاول فقط التحدث اليها ..كان ذلك كفيل بان يعلن الحرب على ذاك الفتى ولا يهنأ له بال حتى يلقنه درسا مبرحا لا ينساه ابدا لأى سبب كان ..حتى لو استدعى الامر ان يتحجج حتى يمسك بتلابيب الصبى و يأخد بثأره الخفى منه ..

رفع يده لاشعوريا ليضع كفه على مكان جرح قديم فى أقصى يمين جبهته مخفيا قليلا تحت خصلات شعره ..
كان ذاك الجرح هوالثأر المقابل لما فعله بالفتى ..فقد نادى الفتى اخيه الأكبر ليأتى و يأخذ حقه منه .. و عندما لم يستطع التغلب عليه فى النزال .. ألتقط احدى الأحجار و ألقاها فى تهور و فر هاربا بأخيه ..

وكانت النتيجة ذاك الجرح الذى صاحبه منذ الطفولة و لازال اثره باقيا يتحسسه بإصبعه الان .. لكن ليس هذا هو الأثر الوحيد الباقى من ذكرياته معها .. بل انها تركت مثل ذاك الأثر  لكن فى اعماق قلبه ..
تذكر عندما كان يمر بها كل يوم ليتقفدها من البعد تجلس على ذاك الجذع و حولها البنات يلعبن بالدمى .. و فجأة استطاع تمييز مجموعة من الصبيان تأتى لتثير الشغب كعادتهم .. اقترب عندما وجدهم يحيطون بها كحلقة و يعلو صوتهم تهكما على اسمها ..

وقفت هى فى صمت تبكى .. و الاولاد يزيدون فى سخرياتهم وهم يقلبون اسمها من تسنيم .. لتسميم .. ساعتها لم يصارعهم كعادته بل اقترب و امسك بكفها الرقيق و قال لها فى حزم لا يتفق مع سنوات عمره التى لم تتجاوز العاشرة بعد:- بكفياكِ بكى .. و لا يهمك من كلامهم .. ووقف فى صمت مماثل لصمتها .. كان صمته و مؤازرته لها كفيلة بجعل الاولاد يكفون عن سخرياتهم و يبتعدوا راحلين بعد ان أفقدهم تدخله نشوة الاستأساد عليها ..

رحل الاطفال تباعا .. فجذبها برفق حتى اجلسها على ذاك الجذر المحبب لها .. مسحت دموعها بطرف رداءها و هى تهمس بشهقات متقطعة :- انا بكره اسمى .. هو چدى ملچاش اسم تانى يسمينى بيه ..
لم يرد .. لكنه جذبها لتنهض و اندفع بها باتجاه دار ابيها التى تبعد خطوات .. دخلا لغرفة جدهم قدرى الذى كان يرفع المصلى عن الارض بعد ان انهى صلاة الظهر ..وهلّل مرحبا عندما وجد حفيدته الغالية و بن خالها على عتبة الباب ..

اشار اليهما بالدخول و الجلوس بجواره و استبق مهران السؤال
هاتفاً :- يعنى ايه تسنيم يا چدى .. ليه اخترت لتسنيم الاسم دِه ..!!؟؟...العيال بيضايجوها ..
انفجر الحاج قدرى ضاحكاً :- عشان عيال مش فاهمة حاچة.. دِه اسم چميل و من القرآن الكريم .. تسنيم .. دى عين من عيون الچنة .. بيشرب منها المقربين من عباد ربنا ..شفتوا الاسم حلو كيف ..!!

هتف مهران :- حلو جووى يا چدى .. طب دِه يا ريتنى انى اللى اسمى تسنيم
لتنفجر كل من تسنيم و جدها ضاحكين .. و تتبدد تلك الادمع فى عيونها ضحكاتها اسعدته بلا سبب واضح ..
و تذكر و الابتسامة تعلو شفتيه و تتسع لطرافة الذكرى كيف بعد ان هم بالرحيل همست له و هى تصحبه للباب :- انا عچبنى اسمى.. بس برضك نفسى أغيره .. تفتكر اسمى نفسى ايه يا مهران..!؟.. و أخذت تفكر بعمق و هى ترفع نظراتها لأعلى فى شرود .. ليهتف هو فى سعادة :- نوارة ..

قفزت فى سعادة تصفق فى جزل و قد أعجبها الاسم كثيرا لتهتف فى
تقدير :- حلو جووى يا مهران .. خلاص .. انا بجيت نوارة .. بس خليه سر بينى و بينك ..
انفجر مهران ضاحكاً للذكرى فما من احد يعلم سرها الصغير هذا الا هو.. لا احد يعرف نوارة الا هو .. لا احد يعرف و حتى هى .. انه لايزل يذكر سرهما الصغير و يحتفظ به أمناً كما يحتفظ بحبها كامن فى حنايا روحه يكاد يذيب أضلعه شوقاً لصاحبة الجدائل السمراء ..

انتفض يحتمى خلف شجرة الذكريات عندما وجدها على البعد تخرج من باب دار ابيها تلفها هالة من الطهر و البراءة التى تأثر روحه .. تسير بإتجاه الطريق الرئيسى  لكنه تساءل في تعجب :- ما الذى يدفع بها للخروج من دارها في تلك الساعة من اخر النهار و هذا ليس من عادتها ..!؟.. كما انها لم تستقل سيارتهم كالمعتاد و ها هو يراها تركب احدى سيارات الأجرة ..  شعر ببعض القلق يعتريه و دافع قوى يعربد بصدره يهتف به ان يلحق بها و استجاب له من فوره و اندفع لسيارته التي كانت على الجانب الاخر من الطريق .. استقلها متتبعا تسنيم حتى تهدأ نفسه..

طرقات مهذبة على باب الشقة جعلتها تنهض فى تكاسل لتفتح الباب الا ان نعمة كانت الأقرب لتتمهلها هاتفة :- خليكى يا شوشو انا هفتح ..
بالفعل وصلت للباب و فتحته هاتفة فى سعادة :-اهلًا  بابن الغالية ..

انتفضت شيماء مكانها عندما علمت بهوية القادم من قبل ان يطالعها وجهه فذاك اللقب تستخدمه أمها دائما للترحيب بشخص واحد فقط .. حازم
..والذى دخل فى تؤدة منكس الرأس فى أدب ملقيا التحية على شيماء و من بعدها المعلم خميس الذى ظهر الان على اعتاب الردهة قادما من غرفته
و الذى هتف بمحبة :- ازيك يا حازم يا بنى .. اخبار الإجازة ايه ..!؟.. و اخبار إسكندرية و ناسها على حسك .. يا رب يكون زكريا بخير ..

اومأ حازم برأسه ايجابا و هو يشير لذاك الخاتم الفضى بأصبعه الأوسط هاتفا بابتسامة دبلوماسية:- الحمد لله يا معلم كله تمام و بابا بيسلم عليك .. ده حتى انا عندى خبر حلو ليكم .. انا خطبت ..
انتفضت شيماء من جديد و  لم تع الا نعمة بتلك الانتفاضة السريعة التى اعترت ابنة قلبها مع ذاك الخبر حتى انها صمتت لحظات قبل ان تستوعب الخبر و تستفيق من شرودها فى رد فعل ابنتها هاتفة بسعادة مضطربة :- الف مليون مبرووك ..

ثم اعقبت ذلك بإطلاق الزغاريد لتأكيد الفرحة بينما ابتسم خميس هاتفا فى سعادة :- زكريا اتصل بيا و بلغنى خبر الخطوبة و قالى انها كانت ها تبقى ع الضيق فمقدرناش نيجى و باذن الله ع الفرح كده نتجمع و ننزل إسكندرية مخصوص يا حازم يا بنى .. الف مبروك و ربنا يتمم لك بخير .
هتف حازم - متشكر يا عمى عقبال ناصر و نادر .. و ابتسم مستطردا :- و طبعا قبلهم الانسة شيماء..

هزت شيماء رأسها بألية شاكرة و حاولت ان ترسم ابتسامة باهتة على شفتيها لكنها لم تستطع و فضلت الصمت..
بينما ربتت نعمة على كتفه بحنو
هاتفة :- ربنا يكمل لك على خير يا رب و تكون جوازة العمر  يا بنى ..
ابتسم حازم مجيبا فى امتنان :- تسلمى يا خالتى ربنا يخليكى .. ثم توجه بأنظاره للمعلم خميس هاتفا :- انا كمان جاى أبلغكم بخبر تانى مش عارف بابا قالهولك يا معلم و لا لأ ..

انتبه خميس مؤكدا و هو يجلس بجوار ابنه اخته الصامتة و الشاردة :- لا .. زكريا مبلغنيش غير خبر الخطوبة .. هو فى حاجة تانى ..!؟..
اومأ حازم مؤكدا :- ايوه يا معلم .. انا اتنقلت الصعيد ف النشرة و هنفذ النقل كمان كام يوم ..
هتف خميس ممتعضا :- الصعيد ..!؟. ده انت بعدت قووى كده عن ابوك و خطبتك .. و كمان اسمع ان الخدمة هناك صعبة ..

اكد حازم :- فعلا .. زمايلى اللى سبقونى كلهم قالوا كده بس هعمل
ايه ..!؟.. الحمد لله .. يمكن الحاجة اللى بسطتنى اكتر انى هبقى قريب قووى من نجع الصالح بلد بابا و هتعرف على اهلى هناك ..
هتف خميس :- انت قدها و قدود يا حضرة الظابط و موضوع معرفة اهلك ده ميزة كبيرة و هيساعدك كتير ف شغلك .. ربنا يوفقك دايما يا بنى ..
دعت نعمة هاتفة :- يااارب ..

ليبتسم حازم و يستأذن منصرفا .. و ينهض المعلم خميس من مقعده جوار شيماء هاتفا بها :- اعمليلى كباية شاى يا شوشو عقبال ما اخرج من الحمام..
هتفت نعمة مجيبة بدلا منها محاولة ان تلهيه عن حال ابنة اخته :- حاضر يا معلم هنعمل لك احلى كباية شاى .. احلى من شاى القهوة بتاعتكم كمان.
قهقه خميس مؤكدا :- اكيد احلى من شاى القهوة .. هو شاى الواد فتلة معمول بأيدك الحلوة دى !!

قهقهت نعمة و لم تجيب حتى اختفى داخل الردهة لتنظر لشيماء التى لازالت على حالها تجلس فى هدوء عجيب و شرود غير طبيعى لتتوجه اليها فى حسرة تضم رأسها الى صدرها هاتفة فى نبرة حانية و هى تربت على ظهرها :- ملكيش نصيب فيه يا نن عينى .. مهواش بتاعك و لا ربنا كاتبهولك .. ربنا يرزقك باللى احسن منه و اللى يحبك و يراضيكى يا رب ..

انفجرت شيماء باكية فى لوعة كأنما ذاك الثبات الرهيب الذى ادعته لفترة قد انهار فجأة دون مقدمات معلنا عن وجع بحجم الكون يسكن داخلها.. كانت نعمة تعتقد ان كل هذا بسبب خطبة حازم لكن هى وحدها تعلم انه ليس السبب لما هى فيه فهى تعلم الان علم اليقين انها لا و لن تصلح لأى رجل اى كان .. سواء كان حازم او غيره..

فبعد ما حدث معها فى شقة حازم و تلك الحال التى وجدها ناصرعليها هناك على فراشه ما عادت صالحه له او لغيره ..
كان ناصر يقف خلف الباب الموارب فى تلك اللحظة و قد سمع دعوات امه لها .. لقد علم نبأ خطبة حازم منه عندما قابله منذ لحظات هابطا من شقتهم فهنأه مباركا ..

و الان يصعد ليجدها على تلك الحالة من الانهيار نتيجة لوقع الخبر عليها .. غلى الدم فى عروقه و كاد يدفع الباب ليلقنها درسا لا تنساه و يجعلها تدرك انها له وحده الا ان صوت ابيه تناهى لمسامعه ساعلا و مطالبا بكوب الشاى الذى لم يتم اعداده بعد ..
دفع الباب و دخل فى روية ينظر اليها و هى تكفكف دمعها و شهقات بكائها ترجف جسدها و هى تحاول جاهدة كتمانها ..

رفعت عيونها الدامعة اليه تنظرإليه بتلك النظرات المغلوبة على امرها لينسى كل ما كان يفكر فيه من لحظات من رغبة فى تلقينها درس قاس لتدرك مشاعره تجاهها و يتذكر شئ واحد أمام تلك النظرات الموجوعة .. انه هنا و هى حزينة بهذا الشكل و لا يقوى على مواساتها او حتى يمكنه النطق بتلك الكلمات التى فيها بعض المواساة .. فهو لا يعرف كيف ينطقها .. لم يعتد على ذلك .. و لا يعرف كيف يمكنه ذلك فلسانه امامها هى بالذات لا ينطق بما يليق فجلس قبالتها فى صمت عاجز كاد يقتله قهرا الا ان اندفاع ابيه من غرفته لينزل للقهوة جعله ينهض منتفضا فى اضطراب ..

لم ينتبه أبوه لأضطرابه و هو يتعجل كوب الشاى لتندفع به نعمة من المطبخ واضعة اياه على الطاولة  ليجلس خميس يتناوله مرتشفا منها رشفة مستمتعا و مشيرا لولده ناصر ليجلس هاتفا فى تعجب :- اقعد يا بنى واقف كده ليه !؟..

جلس ناصر صامتا و كذلك أتت نعمة لتجلس بجوار زوجها بناءً على طلبه .. نظر الى الجميع حتى شيماء التى لم يع حزنها نظرا لانها كانت تجلس منكسة رأسها فى صمت و رشف من شايه هاتفا فى سعادة :- الظاهر النهاردة مش هاتبقى خطوبة حازم بس اللى هنسمع عنها .. واضح كده ان فى خطوبة تانى عن قريب ..

زم ناصر ما بين حاجبيه فى قلق و مازال صمت شيماء مستمرا بينما هتفت نعمة فى فضول :- خطوبة مين يا معلم ..!؟..
هتف خميس فى سعادة :- خطوبة شيماء ..هيكون مين يعنى ..!؟..
تصلب جسد ناصر و سيطر على غضبه بأعجوبة بينما انتفضت شيماء من جديد و رفعت رأسها لخالها فى اضطراب و هتفت نعمة فى سعادة
متسائلة :- مين العريس يا معلم ..!؟.. مين اللى طلبها ..!؟..

هتف المعلم خميس :- ده عامر بن الحاج سالم صاحب ورشة الخشب اللى ف اول الشارع العمومى..
صرخ ناصر و الغيرة تتأكله :- و ده شافها فين ان شاء الله .. !؟..
اكد خميس :- بيقول شافها مع نعمة مرة و هى ف فرح حد من قرايبه .. و قعد يسأل عليها لحد ما عرف انها بنت اختى و جه كلمنى عنها امبارح ..

صمت ناصر على مضض و هو يكاد يموت قهرا بينما هتفت نعمة فى سعادة ام جاء ابنتها الخطاب يطلبون ودها :- طبعا امال ايه ..!؟.. لازم طبعا يبقى هيتجنن عليها اول ما شافها .. هو فى حد ف جمال و ادب شوشو
امسكت شيماء شهقات بكائها بجهد خرافى حتى لا تنفجر باكية من جديد و همست فى نفسها :- اه لو يعلم ذاك العريس المنتظر ان تلك العروس التى يتمنى لا تصلح لتكون زوجة صالحة تحمل اسمه و تكون اما لأولاده ..

اخرجها خميس من شرودها مؤكدا :- بس هو مستعجل .. عايز يجى يقعد معاكِ و نقرا الفاتحة و يبقى كتب كتاب و دخلة على طوول لانه مسافر الخليج و عايزك معاه ..
هتفت نعمة ضاربة على صدرها بباطن كفها فى لوعة :- ياخدها بعيد عنى ..!؟..
هتف خميس محتجا :- خبر ايه يا نعمة .. اه ياخدها .. جوزها و تبقى معاه مطرح ما هو موجود ..
و نظر خميس لشيماء متسائلا :- هاا .. ايه رأيك يا شوشو .. !؟..

لم تنبس شيماء بحرف واحد بل تطلعت بطرف عينيها لناصر بن خالها مستنجدة و الذى ادرك نظرات استجدائها بكل حواسه لينهض دون تفكير ملبيا صارخا بكل ما يعتمل فى داخله من قهر و غيرة و محبة :- محدش هيتجوز شيماء ..
هتف خميس متعجبا :- ليه يا بنى !؟.. ده عريس لقطة و شاريها .. ليه هتوقف حالها .. !؟..
صرخ ناصر من جديد فى ثورة :- لأن انا حالها يا معلم .. روح قوله شيماء مخطوبة لابن خالها ناصر و كتب الكتاب هايبقى ف نفس الميعاد اللى حدده معاك .. كمان خمستاشر يوم ..

فغر الجميع فاهه ..خميس و نعمة و كذلك شيماء التى نظرت اليه فى اضطراب تام و اخيرا نهضت فى سرعة مندفعة لحجرتها تاركة الجميع خلفها يتسأل عن رأيها .. و من سيكون المختار ليكون عريسها المنتظر.. !؟..

وصل حازم لسراىّ الهوارى ووقف يتطلع لها من خارج بوابتها الحديدية العتيقة و اخيرا اطلق ألة تنبيه سيارته الميرى ليتنبه الخفير سعيد فيتوجه صوبه فى تساؤل :- خير يا بيه ..!؟.. تحت امرك ..
هتف حازم فى نزق معتاد :- افتح البوابة يا عم سعيد .. مش سعيد برضه .. !؟..

أكد سعيد بإيماءة من رأسه هاتفا :- إيوه يا بيه .. انى سعيد غفير السرايا .
هتف حازم :- طب افتح البوابة يا عم سعيد .. انا النقيب حازم زكريا الهوارى ..
انتفض سعيد فى فرحة :- واااه .. حازم بيه بن سى زكريا .. يا مرحب .. يا مرحب ..

و اندفع يدفع البوابة الحديدية على مصرعيها حتى يدخل حازم لداخل السرايّ و يقف امام بابها الداخلى المفتوح كعادته ليترجل خارج السيارة و يقف يتطلع من جديد الى ذاك البناء العريق ..

سار بإتجاه الباب و لازالت هامته بالأعلى نظراته شاخصة لأطراف السراىّ التى بهرته ما ان وقعت عليها عيناه .. شعر بأنفاس والده التى يعبق بها المكان منذ وطأت قدماه السراىّ فى سن الثانية عشرة و شعر بخطواته التى استشعر دبيبها فى كل الأنحاء و..

واصطدام غير متوقع دفعه للخلف خطوات و جعل نظارته الشمسية تندفع ساقطة أرضا .. هم بالسباب و لكن صوت تأوه انثوى أوقفه ليلتفت منتبها لتلك التى تتماسك بالكاد حتى لا تسقط أرضا ..
اعتدلت فى تروى و نظرت اليه فى اعتذار فى نفس اللحظة التى تطلع اليها فى غضب ..

تعلقت نظراته بعيونها التى تنضح شقاوة و تحدى و على الرغم من الموقف السخيف الذى وجدا نفسيهما فيه الا ان عينيها لم تفقدا ذاك البريق المشاكس و كانت اول من قطع الصمت بينهما هاتفة فى لهجة معتذرة :- انا آسفة جووى يا استاذ.. انا..
قاطعها و قد اعتدل هاتفا فى نفاذ صبر تلقائي:- أسفة ايه ..!؟.. فى حاجة اسمها تبصى قدامك مش تدهسى الناس ف طريقك ..

انحنى يلتقط نظارته الشمسية معتدلا يضعها على عينيه و يتطلع اليها من جديد من خلف عدساتها و هى ترحل غير أبهة بغضبه او سخطه او حتى سخريته من اعتذارها الواهن ..

شهقة مكتومة لم تغادر صدره وكادت ان تنطلق من بين شفتيه و هو يتطلع لخطواتها و التى لاحظ فيها بعض العرج الخفيف و الذى ظهر رغما عنها و هى تهبط الدرج مستديرة حول سيارته التى كانت تسد المدخل كليا ..

شعر فجأة برغبة قوية و غير معتادة تدفعه ليندفع خلفها معتذرا عما بدر منه .. و تذكر الموقف برمته ليتأكد له انه يحمل الجزء الأكبر من الخطأ فيما حدث .. وأد تلك الرغبة المتنامية بصعوبة بالغة و لم يستطع ان يحيد بنظراته عنها حتى خرجت من البوابة الحديدية يودعها الخفير سعيد و هى تركب سيارة ما كانت تنتظرها بالخارج ..

تنهد فى ضيق و وقف على باب السراىّ الداخلى هاتفا :- السلام عليكم.
اندفعت ام سعيد لترى القادم :- وعليكم السلام يا سعادة البيه .. خير ..!؟..
اكد حازم :- عاصم بيه موجود ..!؟
اومأت ام سعيد بالإيجاب ليعالجها امرا :- طب يا ريت تبلغيه ان النقيب حازم زكريا الهوارى هنا و عايز يقابله ..

اندفعت ام سعيد تجاهه فى فرحة هاتفة :- الله اكبر .. انت حازم بن سى زكريا .. يا ماشالله .. ياماشالله ..
و اجفلته و هى تطلق زغاريد دوت صادحة فى ارجاء السراىّ جعلت عاصم يظهر من الاعلى متسائلا فى تعجب و هو يهبط الدرج متمهلا :- خبر ايه يا ام سعيد .. هى نتيچة بت ولدك ظهرت ولا ايه ..!؟..

تطلع لذاك الشاب الذى يقف عند الباب الداخلى لتهتف ام سعيد موضحة سبب فرحتها :- دِه حازم يا عاصم بيه .. بن سى زكريا ..
هتف عاصم و هو يندفع فى محبة جاذبا حازم الى احضانه :- واااه .. يا واد الغالى ..
و ربت على ظهر حازم فى قوة تنبئ عن معزة لا يمكن إغفالها ابدا جعلته رغم صلابته المعتادة يتأثر بها بشكل لم يعتده فى نفسه .. و شعر برابط عجيب يربطه بتلك السراىّ و هؤلاء الأشخاص الذين كانوا حديث ابيه دوما و الذين سيقابلهم  واحدا تلو الاخر ..

جذبه عاصم من كفه لداخل السراىّ هاتفا فى فخر:- ابوك كلمنى يا حضرة الظابط و جالى انت اللى طلبت نجلك لهنا .. صح الكلام دِه و لا ابوك اللى لعب ف دماغك !؟..
ابتسم حازم ابتسامة واثقة هاتفا :- لا يا عمى انا فعلا اللى طلبت نقلى لهنا .. من كتر كلام بابا عن النجع و ناسه بعد اخر زيارة قلت لازم اجى اشوف بنفسى..

هتف عاصم مشاكسا :- و لجيت ايه يا بطل !؟..
ابتسم حازم :- لقيت كل خير و الله يا عمى .. كفاية مقابلتى لحضرتك .. و الزغاريد اللى استقبلتنى بيها ام سعيد .
قهقه عاصم و هو يربت على اعلى فخد حازم فى قوة و استحسان لرده مؤكدا له انه اليوم معهم و لن يتركوه قبل ان ينال حصته من طعام الصعيد الذى لا يجب ان يفوته تذوقه من يد ام سعيد ..

لا تعرف اذا كان ما تفعله هو الصواب ام لا لكن كل ما تدركه انها ما كانت لتترك تسبيح تأتى بمفردها لهذا المكان من اجل تسليم المال لذاك الحقير لذا شاغلتها و هربت منها مندفعة وحدها تقوم بما يلزم .. انها دوما ما تستشعر مسؤوليتها تجاه تسبيح برغم فارق السن البسيط بينهما الا انها تعتبرها ابنتها و تحس دوما انها في حمايتها و خاصة بعد حادثة قدمها التي جعلتهما تتقاربان اكثر من كونهما اختان بل اصبحتا كأنهما كيان واحد لا يمكن فصله..

انها لا تتخيل مجرد تخيل ان مكروه ما قد يمس تسبيح مرة أخرى فيكفيها ما عانته و لازالت تعانيه جراء حادثة الفرس قديما و التي أودت الى عاهتها التي اثرت على نفسيتها لفترات طويلة و مازالت تؤثر لولا لجوء تسبيح للفكاهة و المرح حتى تغطى على ذاك الجرح الذى لازال ينزف داخلها ..
تنهدت في قلق و هي تتطلع للطريق و تتحسس تحت خمارها ذاك النصل الذى أعدته مختبئا أسفله تحسبًا لأى غدر او خسة متوقعة من ذاك القذر الذى ينتظر اختها ..

ها قد وصلت و ترجلت من السيارة الأجرة التي استقلتها فهى بالتأكيد ما كانت لتأتى الى هنا بسيارة ابيها و بصحبة بكرى سائقها الذى لن تفوته شاردة او واردة مما يحدث ..
وصلت الى تلك الدار المهجورة منذ زمن بعيد على اول طريق النجع و بدأت في تلاوة ما تحفظ من آيات القران الكريم لعله يهدئ من اضطراب تنفسها و ارتجافة قدميها..  سمت باسم الله و دخلت الدار بعد ان شرعت بابها قليلا ..

و انتفضت عندما جاءها صوت أجش من مسافة ليست بالبعيدة امرا إياها بالاقتراب و الدخول ..
توقف مهران عندما توقفت السيارة الأجرة التي استقلتها تسنيم و فاق عجبه الحد عندما وجدها تغادرها و تتجه الى حيث ذاك البيت المهجور الذى لا يقربه احد مهما كانت شجاعته .. فمنذ كانوا أطفالا و هم يسمعون الكثير من القصص و الحكايا عن ذاك البيت المبنى على أطراف النجع و الذى لم يُسكن منذ زمن بعيد و لم يعد مأهولا الا بالجن و العفاريت ..

ترجل مهران بدوره و اندفع خلفها ما ان رأها تخط أولى خطواتها داخل تلك الدار المرعبة شكلا و فعلا ..
ماذا هي فاعلة في مثل هذا المكان و في مثل تلك الساعة ..!؟.. لم يعهد تسنيم بذاك الطيش و لا تلك الجرأة ابدا .. لكنه لا يعلم انها على استعداد لفعل اكثر من هذا من اجل تسبيح و في سبيل راحتها و سعادتها ..

تقدم مهران بوجل من احد النوافذ يتطلع منها للداخل رغم ذاك الظلام الذى عم المكان و لكنه لم يستطع ان يرى اى من معالم الدار الداخلية فتسلل بهدوء حتى استطاع دخول الدار من بابها الخلفى ووصل الى حيث تقف تسنيم في مقابلة ذاك الظل الأسمر الذى يرتدى السواد متشحا به من رأسه حتى اخمص قدميه هاتفا بها في سخرية :- اهلًا بست البنات .. جبتى المعلوم يا حلوة ..

هتفت تسنيم بصوت مرتجف رغم محاولتها تغليقه ببعض ثبات لكنها لم تستطع :- ايوه ..
و فتحت حقيبتها منتزعة من داخلها ظرفا فيه المبلغ المطلوب لكنها لم تقربه اليه الا بعد ان سألت بدورها
هاتفة :- و انت جبت اللى اتفجنا عليه..!؟..

هتف بها :- طبعا جبته ..برغم ان صورك فيه زى القمر و خسارة و الله تروح هدر .. بس ميغلاش على عيونك يا جميل ..
امتعضت في ضيق لأسلوبه الفج لكنها حمدت الله انه للشبه بينها و بين تسبيح رغم امتلاء جسدها قليلا ظن انها اختها و لن يعاند فى تسليمها الفيلم القذر المصورهاتفة:- طب و أتأكد منين ان ده السى دى الاصلى و انك مش عامل نسخ تانى ..

قهقه بصوته الاجش اجفلها هاتفا :-مفيش ضمان معايا .. عاجبك هاتى المعلوم و خدى صورك مش عاجبك انت عارفة ايه البديل ..
لم تستطع ان تتفوه بحرف واحد لذا أومأت برأسها إيجابا و هي تمد كفها له بظروف النقود و لكنه بغتة تقدم منها عدة خطوات دفعة واحدة ليجذبها نحوه هاتفا في سعار حقيقى :- ايه يا حلوة لهو انتِ فاكرة ان دخول الحمام زى خروجه .. اخد حقى فيكى الأول و بعدين اخد الفلوس .. كده العدل يا امورة ..

حاولت ان تتلمص تسنيم من بين ذراعيه لتصل ذراعها للنصل المخبئ لكنه احكم وثاقه حولها ..
ما كان من مهران الذى وصل في تلك اللحظة الا التدخل ليخرج  سلاحه صارخا في غضب هادر موجها سلاحه نحوه:- بعد يدك عنها يا نچس.
انتفض ذاك الحقير مبتعدا عن تسنيم في اضطراب و قد تفاجئ بوجود مهران ..

هم مهران بإطلاق النار فأندفعت تسنيم تجاهه صارخة :- لااا .. بلاش دم يا مهران ..
الا انه سبق السيف العزل و انطلقت احدى الرصاصات من سلاح مهران في اتجاه الرجل مصوبة بحرفية الى قلبه الأسود ليسقط الرجل مضرجا بدمائه مصحوبا بصرخات تسنيم و ذعرها ..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة