قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث بقلم رضوى جاويش الفصل الحادي والثلاثون

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الحادي والثلاثون

اندفع بطرقات المشفى يحاول ان يبدو طبيعيا لكنه بدا متوترا رغما عنه و هو يسأل هنا و هناك عن حجرتها.. لا يعرف ما بها و لا ما دهاها.. كل ما يعرفه هو نحيب امها الملتاع على ابنتها و هى تتحدث بكلمات غير مفهومة لا تجعله يدرك وضعها و لا ماهية حالتها.. و اخيرا ها هو يرى زوجة عمه على مقربة امام احد الأبواب تقف فى اضطراب و قلق.. أشفق عليها و اندفع يحاول ان يطمئنها رغم انه بالفعل من يحتاج لمن يطمئنه و يهدئ من روعه فقد قضى طوال طريق القدوم اليهما فى توتر تزداد وتيرته مع كل لحظة تأخير عنهما..

هتف فى لهفة و هو يطالع محيا زينة الشاحب ذعرا:- خير !؟.. ايه فى يا مرت عمى!؟.. هدير مالها !؟..
هتفت زينة و هى تتشبث به فى نحيب مضطرب و هى تترنح إرهاقًا:- مش عارفة يا حمزة.. مش عارفة!؟.. اهو الدكاترة عندها م الصبح و محدش خرج يطمنى.. دى وقعت من طولها من غير مقدمات..بس هو فين زكريا!؟.. مجاش معاك و لا ايه !؟..

هتف حمزة مهدئا لها و هو يرى حالتها المذعورة قلقا على حال ابنتها الوحيدة و تأكد بعد سؤالها عن عمه انها لم تدرك بعد خبر اسر حازم و ما يعانيه عمه من جراء تلك المصيبة التى ما كانت لا على بال و لا خاطر:- اهدى يا مرت عمى و هاتبجى تمام باذن الله.. متجلجيش..و انا مجلتش لعمى.. محبتش اخضه على هدير.. جلت اچى انا و ابجى اطمنه لما نعرف ايه فى..

هتفت زينة من جديد و كأنها لم تسمعه:- انا اللى غلطانة.. انا ازاى مخدتش بالى انها بتدبل قدامى !؟.. الفترة الاخيرة و بالظبط من ساعة ما انت قررت ترجع النجع عشان تكتب كتابك و هى مش طبيعية..
ازدرد ريقه بصعوبة و ازدادت ضربات قلبه اضطرابا للحقائق التى تصبها زوجة عمه على مسامعه.. استطردت فى ذهول و هو يتابع فى هدوء ظاهرى:- تخيل.. دى فسخت خطوبتها و مقلتش لحد و عرفت بالصدفة لما خطيبها كلمنى عشان ادخل اصلح بينهم..

لقد علم خبر إنهاء خطبتها فى المكالمة الهاتفية لكنه لم يستوعبه لتلك اللحظة و تساءل لما فعلت ذلك !؟.. و زاغت نظراته و كأنها أشارة ما بعد ما حدث فى اثناء عقد قرانه..تعالت شهقات زوجة عمه فأخرجته من شروده و هى تهتف من بينها مؤنبة نفسها:- انا ازاى مخدتش بالى!؟.. ازاى!؟..

ربت حمزة على كتفها محاولا مواساتها و جذبها فى حنو لتجلس على احد المقاعد المتراصة امام الغرفة و فى مقابلة بابها و الذى فُتح فجأة لينتفض كلاهما متأهبين لمعرفة أسباب ما يحدث لهدير.. كانت زينة هى الأسبق والتى اندفعت تسأل فى لهفة عن حال ابنتها:- خير يا دكتور.. فى ايه!؟..

هتف احد الأطباء و الذى يبدو انه كبيرهم:- ان شاء الله خير متقلقيش.. بنت حضرتك عندها صدمة عصبية شديدة نتيجة ضغط عصبى اتعرضت له ف الفترة اللى فاتت.. هى هاتفضل شوية معانا تحت الملاحظة و باذن الله تتحسن.. بس نبعد عنها اى اشخاص غير مرغوب فى رؤيتهم بالنسبة لها و اى اخبار ممكن تحزنها او تضايقها.

نكس حمزة رأسه مشفقا على حال زينة و هدير عندما تعلم كلتاهما ما حدث لحازم و قرر عدم أبلاغهما و ابلاغ عمه عاصم بما يحدث حتى يكون على علم بسبب سفره المفاجئ و خاصة فى ظل ظروف حادث حازم و الذى لا يعرف كيف انتهى به الحال و تضرع بقلب واجف ان تكون النجاة من نصيب بن عمه الوحيد..

هتف الطبيب من جديد لزينة:- حضرتك يا ريت تيجى معانا محتاجين منك شوية معلومات هتساعدنا اكيد فى علاج الحالة..
اندفعت زينة خلف الطبيب و تركت حمزة يجلس وحيدا امام غرفة هدير و التى تطلع لبابها فى وجل لا يعلم ماذا دهاه.. انه يشعر فى قراراة نفسه انه سبب ما حدث للمسكينة التى ترقد بالداخل.. انه يشعر بكل خلجة من خلجات نفسه بذلك.. لكنه ابدا لم يقصد.. هو فقط حاول ان يبتعد حتى ينفذ وعده و يقطع اى سبيل لأمور ليست فى الحسبان..

انه بالتأكيد لا يستطيع ان ينكر انها وحدها هى من استطاعت تحريك ذاك الحجر الصوان النابض بين أضلعه و المسمى مجازا قلب.. هى وحدها من جعلته يدرك ان حمزة يمتلك فؤاداً قادر على المحبة و بسخاء و هو الذى اعتقد انه سيعيش عمره كله و ربما يموت دون ان يدرك ما معنى كلمة عشق و لن يتعرف على مدلول لها بحياته لكن تلك البريئة بنظراتها التى تقطر سذاجة و بأسئلتها التى تعج بفضول محبب دفعته دفعا لحافة الهاوية و طلبت منه ان يقفز و عندما فعل دون تردد تلقفته هى غير قادرة على إطلاقه بعيدا من جديد و ما عاد هو نفسه قادرًا على الابتعاد..

مرر أصابعه متخللة شعره فى حركة تنذر عن التوتر و اضطراب الفكر و هو يتطلع شاردا فيما يحدث مدركا تماما رغم ذلك التيه على محياه انه ترك عقد قرانه معلقا و رحل فى لمح البصر ما ان علم بمرضها و هذا يعنى الكثير يا حمزة..اكد لنفسه فى إيماءة رأس و تنهد فى راحة عندما تذكر ما سمعه من تسبيح و اعترافها بحب حازم.. و اخيرا حمد الله فى سره فمن يدرى اين خيره من شره !؟.

و أيقن ان هناك حكمة ما فيما حدث.. و تأكد ان تسبيح لا تصلح زوجة له و انه بالفعل كاد يظلمها اذا ما مضى فى اتمام هذا الزواج.. لابد ان يحلها من هذا الرابط الذى يخنقها و يكبل قلبها تجاه من تعشق.. و تضرع من جديد ليعود حازم سالما من اجل عمه المفطور قلبه على ولده و من اجل تسبيح التى يتمنى لها ان تجد من يسعدها حقا و يعوضها بعض من ألمها جراء حادثتها القديمة و التى كان دوما ما يستشعر مسؤليته عنها و كان يفكر ان ارتباطه بها هو افضل تكفير عن ذاك الذنب لكنه أيقن متأخرا ان تعويض تسبيح الحقيقى هو فى الزواج ممن تحب لانها بالفعل تستحق رجل يعشقها بحق و يسعدها و هو لن يتوان عن تنفيذ ذلك..

انتفض من مكانه كالإعصار عندما رأى ذاك الاحمق خطيب هدير السابق و المدعو عمر يقترب فى رعونة باتجاه غرفة هدير و دون اى حياء يُذكر يندفع لفتح الباب.. جذبه حمزة من قميصه فى قوة ليترك عمر مقبض الباب قبل فتحه و يستدير متطلعا لحمزة الذى ابتدره متسائلا فى غيظ:- واخد ف وشك و رايح على فين سعادتك !؟..

هتف عمر فى تأفف:- داخل ل ديرو.. عندك مانع !؟..
امسك حمزة بتلابيب عمر فى حنق بالغ هاتفا بالقرب من احد أذنيه بصوت كالفحيح يشعر برغبة فى قتله و هو يسمعه يدللها بهذا الشكل القمئ فى جرأة:- ايوه عندى مليون مانع.. و اسمها الانسة هدير.. لان على حد علمى هى فسخت خطوبتها بيك و مبجاش ليك حاچة عنديها و لو حتى عايز حاچة كلامك من هنا و رايح معاى انا.. سامعنى!؟..

هتف حمزة بتحذيره الاخير لعمر صارخا و هو يدفع به بعيدا حتى ان الاخير اختل توازنه و سقط فى اضطراب.. لكنه نهض مسرعا من جديد يهتف فى رعونة:- انا مش هاخد اذن منك و لا من حد.. انا لما أحب اشوف هدير هدخل و أشوفها غصب عن عينك انت و اللى يتشدد لك..
و بدأ هذا الأحمق عمر فى الصراخ و الهتاف بأسم هدير رغبة فى السماح له برؤيتها مما دفع حمزة ليندفع نحوه صارخا فى غضب اعمى:- هو البعيد مبيفهمش.. متنطجش اسمها على لسانك.. و غور من هنا..

و كال حمزة لعمر ضربة بقبضة حديدية جعلت الاخير يترنح و سقط يعوى متألما و هنا تجمعت بعض الممرضات و ظهر الأمن اخيرا ليُدفع بعمر خارج المشفى بعد سماع شهادة الشهود التى اكدت ان عمر من كان يحاول التهجم و الدخول عنوة لغرفة هدير الممنوع عنها الزيارة بالفعل الا بأمر الطبيب..
رفرفت هدير بعينيها فى وهن متطلعة حولها لاتدرك اين تكون.. تناهى لمسامعها صوت يناديها.. و رفرف قبلها بين جنباتها لانها استمعت لصوته بالمثل.. هل حمزة هنا !؟.. لابد و انها تهزى فكيف يكون و هو بالتأكيد الان بين الأهل المهنئين له و لعروسه على عقد قرانهما!؟.. شعرت بغصة ما بحلقها و نغرة بقلبها..

لقد انتهى الامر و ما عاد لها.. اصبح ملكا لامرأة سواها.. سال الدموع السخين على وجنتيها فى صمت موجع الا ان صوت الهتاف ما زال يتناهى لمسامعها و مازال صوت حمزة يصلها بقوته و جبروته و حنانه و دفئه.. مازال رغم البعد يدثرها بالامان حتى ولو كان طيفا تتوهمه..
لكن رغبة مُلحة دفعتها لتنهض فى تثاقل تتحرك بوهن بإتجاه الباب تستكشف ما يحدث..

انفض الجمع و جلس حمزة من جديد امام الحجرة و ما ان عاود التطلع لبابها الا و شهق فى صدمة عندما رأى باب الغرفة يُشرع ببطء لتقف هدير على أعتابه شاحبة فى وهن أورث قلبه الوجع حزنا على حالها.

كانت تتطلع اليه فى سعادة غير مصدقة انه هنا.. تقدمت خطوة مترنحة لا تحيد بنظراتها عنه و قد نهض هو من فرط ذهوله لمرأها غير قادر على الإتيان برد فعل سوى التطلع لمحياها الذى ما كان يعلم انه يفتقده بهذا الشوق حد اللانهاية حتى رأها تلك اللحظة و أقر انه ما عاد قادرًا على المكابرة و معاندة قلبه و انه لن يستطع الابتعاد من جديد حتى و لو حاول ذلك..انه يعشقها بحق..

تطلع اليها ولهًا و هى تمد كفها المرتعش تحاول الوصول لتلامس ملامح وجهه لتدرك انها لا تهزى الا انه كان بعيدا عن موضعها عدة خطوات بالفعل حاولت التحرك تجاهه من جديد الا ان قدميها خانتاها و شعرت بالدوار يكتنف رأسها بشدة واخيرا سقطت غائبة عن الوعى ليتلقفها بين ذراعيه و ابتسامة على شفتيها هامسة بحروف اسمه الذى تعشق.. حمزة

نهض من فراشه مترنحا كعادته صباحا حتى يشرب كوب شايه ليبدأ مزاجه فى الانضباط.. فتح باب حجرته و هتف:- شيماء..اعمليلى كباية شااااى..
يبدو انها لم تسمعه.. و كيف تفعل و هى تفتح المذياع بذاك الصوت المرتفع.. اندفع للمطبخ فى غيظ موبخا إياها حتى تخفض الصوت و تحضر له الشاى فرأسه يكاد يتحطم ألما من جراء الصداع الذى يسكنه.. فقلة النوم تفعل به الافاعيل و كيف لا و هو يغفو عند الفجر يوما مسهدا يفكر فى تلك التى تحتل حياته و تقلبها رأسا على عقب.. لقد عدم الراحة منذ ادرك وجودها بهذه الحياة و كانت سببا دائم لصداع أبدى لم ينتهى و ها هو يعانى بعض منه جراء السهر مفكرا فى محياها الذى يعشق و لا حيلة له فى ذلك..

وصل عند عتبة المطبخ ليقف مبهوتا يفتح عينيه فى صدمة و فيه فى بلاهة و هو يتطلع لتلك التى تتمايل بكل اغراء على أنغام تلك الاغنية المبهجة الصادحة من قلب المذياع و تردد كلماتها فى سعادة بالغة و بصوت شقى مس شغاف قلبه حتى كاد يظن ان تلك الكلمات قد كُتبت خصيصا لأجله..

تاه فى محياها للحظات و هى نفسها لم تدرك انه هاهنا يقف يتطلع اليها فى وله الا عندما جذب نفسه عنوة من أتون المشهد النارى ذاك هاتفا فيها مدعيا الغضب و هو يندفع مغلقا المذياع فى عنف:- بقالى ساعة بنادى.. بس هاتسمعى ازاى و انت فاتحة الاغانى بالصوت الحيانى من غير خشا و لا دم و ناسية ان عندنا وفاة ف البيت.. خلاص.. اتنسى..!؟

انتفضت شيماء مذعورة و لم تنبس بحرف للحظة.. و اخيرا همست معتذرة:- انا مقصدش.. معلش.. اصل..
هتف صارخا يخرج كل ما يعتمل بصدره من مشاعر مكبوتة يسقطها على ثورته:- معلش ايه و زفت ايه.. انت معندكيش دم و لا احساس..
و اندفع كالمجنون ممسكا بذراعيها يهزها فى شدة:- نسيتى نادر.. نادر اللى كان مبيحملش الهوا عليكِ.. نادر اللى راح قبل ما..

وعند هذه النقطة صمت و لم يُكمل و دفعها بعيدا و هو يتنفس فى تتابع رهيب يدل على اشتعال جحيمه الداخلى و الذى يحرقه و لا يستطيع البوح..
اندفع خارجا من المطبخ كالاعصار وألقى بجسده على اقرب مقعد و وضع رأسه الموجوع الذى يكاد ينفجر بين كفيه و ساد الصمت للحظات بينهما قطعتها هى بصوت إغلاق باب حجرتها و سماعه لصوت نحيبها من الداخل رغم محاولتها وأده..
تنهد فى ندم لما فعله و زفر فى قوة و نهض فى تثاقل متوجها لحجرته ليغلق بابها خلفه بعنف كالمعتاد..

كانت تجلس على مصلاها تتضرع الى الله فى خشوع لعله يستجيب لدعاء قلبها المسكون ألما و النابض وجعا..
هى لا تعلم ما يحدث له تلك اللحظة و لا تدرى من الاساس ان كان على قيد الحياة ام.. و لم تستطع استكمال الخاطر فبكت بدموع تعبر عن مدى قهرها و حيرتها.. متى أحبته بهذا الشكل !؟.. متى توغل عشقه بقلبها بهذا العمق !؟..

ان روحها تستشعره رغم البعد بشكل أورثها رغبة فى العزلة العجيبة حتى تظل هائمة حيث تستشعر قربه الذى تشتاقه حد الوجع.. هى تشعر فى قرارة نفسها انه حى يُرزق.. انه عائد بعون الله.. لكن لم لا يوجد خبر يطمئن قلبها الملهوف على سلامته و ليكن ما يكون بعدها..

رفعت أكفها للسماء فى تضرع هامسة:- ياااارب..
ساد الصمت للحظات و اخيرا انتفضت على انفراج باب غرفتها بهذا الشكل العنيف و دخول تسنيم الصاروخي ذاك و الغير معتاد من اختها العاقلة الرزينة و التى دفعت نفسها لتجلس ارضا مشاكسة:- هاتى البشارة..

تطلعت تسبيح اليها بعيون زائغة و قد ادركت انها تحمل خبرا عن حازم فلم تنطق حرفا بل شهقت باكية تتطلع لتسنيم التى رق قلبها لأختها فأومأت برأسها ايجابا تؤكد ظنها و جذبتها بين ذراعيها رابتة على ظهرها فى حنو هامسة لها من بين شهقات تسبيح:- الحمد لله يا حبيبتى.. هو بخير.. و الله بخير.. كلهم سافروا على مصر يحصلوه لانه أتنقل المستشفى.. ربنا يتم شفاه على خير..

رفعت تسبيح رأسها من احضان اختها هامسة و دموعها تغرق وجهها:- يعنى هو كويس.. طب ليه مستشفى!؟.. اوعى تكونى بتضحكى عليا!؟..
ربتت تسنيم على كتفها مهدئة:- ابدا و الله.. اللى سمعته من مهران اول ما چاه الخبر انه طبعا تعبان.. دوول كام يوم ف الچبل بين المچرمين دوول.. الله اعلم كانوا بيعملوا معاه ايه... و استحمل ايه !؟..لكن الحمد لله انه رچع بالسلامة..وهيبجى تمام بإذن الله..
همست تسبيح و هى تمسح الدموع عن وجهها:- يااارب..
لتبتهل تسنيم بدورها:- ياارب..

لا يعلم منذ لقائه الاخير بها و من بعد ما سمعه من ثريا و ذاك الخاطر لا ينفك يغادر فكره حتى اطار النوم من عينيه لينهض مندفعا حيث مكتبه القديم فى ذاك البيت الذى كان يسكنه و ابيه منذ سنين خلت.. ثلاث ساعات مرت و هو ينقب بين الاوراق هنا و هناك حتى عثر اخيرا على ملف قديم باهت اللون مهترئ الاوراق وضعه امامه يتفحصه.. يتذكر ان كل الاوراق فى مكتبه القديم ذاك قد فحصها جيدا من قبل و ما وجد ذاك الملف يومها..

فتح الملف فى حرص خوفا على الاوراق القابلة للتلف و تحتاج للتعامل معها بحذر شَديد.. تطلع لتلك الوثائق الصفراء اللون الباهتة.. كانت شهادة ميلاد والده و بعض العقود لبعض الأراضى و العقارات القديمة و التى ما عاد يملكها من الاساس و اخيرا عقد زواج.. اعتقد انه لأبيه و امه او بالأدق زوجة ابيه والتى ربته كأبنها..رحمهما الله..و الموضوع اسمها بشهادة ميلاده بديلا عن اسم امه الأصلية.. لكن ما ان تطلع لأسم المرأة حتى شهق فى صدمة..

ظل ينظر الى الورقة فى ذهول..الى خانة اسم الزوجة.. سيدة حسنين الحاوى.. و الى تاريخ عقد القران انه تقريبا قبل مولده بتسعة اشهر كاملة.. انها هى لا محالة.. كان يستشعر ذلك و كأن هناك رابط خفى بينهما..

دمعت عيناه و هو يضع على سطح المكتب قبالته عقد زواج ابيه بسيدة تلك المجذوبة التى دوما ما يصطدم بها ما ان تطأ أقدامه النجع و كأن القدر يأبى ان يجعله ينتقم من الهوارية لأمر واحد فقط بل الان اصبح الدين مضاعفا.. فهذه المرأة ليست الا امه و التى يحلم بها كل ليلة منذ انتزعوه من بين ذراعيها و التى يسمع صوتها يناديه فى صرخة وجع تجعله ينتفض مستيقظا كل صباح.. و التى سيرد لها حقها كما سيرد حق ابيه.. و سيفعل..

تطلع الجميع لجسده المسجى من خلف زجاج غرفة العناية الفائقة.. كانوا جميعهم فى ترقب للأطباء و حركتهم الدؤبة بالداخل و فى انتظار خروجهم..كاد زكريا يفقد وعيه هلعا عندما جاءه الخبر اليقين اخيرا و اتصل به احد قيادات وزارة الداخلية و المختص بمتابعة حادث حازم ليخبره انهم بفضل الله و جهود الوزارة قد عثروا على حازم بداخل احد الكهوف الجبلية بعد ان تم تضييق الحصار على الجماعة الإرهابية التى كانت تتخذه رهينة و استطاعوا انقاذه حيّا..
و تم نقله لمستشفى الشرطة بالقاهرة لتلقى العلاج المناسب و الإشراف على حالته الصحية..

هرع الجميع من النجع الى القاهرة و وصلوا لغرفة العناية الفائقة حيث يرونه الان و لكن لم يقف احد بعد على مدى حالته الصحية..
بكى زكريا بصمت و ربت عاصم على كتفه مؤازرا فقد شعر بوجعه كأب و قد تذكر ما كانت عليه حاله فى مشهد مماثل يوم ان جاءه خبر إصابة ماجد.. يا له مش شعور لا يوصف بالعجز و التيه و انت ترى فلذة كبدك أمامك تكاد تفقده و لا تستطيع ان تحرك ساكنا لإنقاذه و لا تملك الا الدعاء و التضرع راجيا من الله نجاته..

خرج بعض الأطباء اخيرا ليندفع الجميع محاوطا اياهم فبادرهم زكريا متسائلا فى لهفة:- ايه الأخبار يا داكتور !؟.. طمنا..
ربت الطبيب على كتفه مطمئنا:- الحمد لله.. سيادة النقيب بنيته قوية و هايقدر يعدى الأزمة دى على خير..متقلقش.. الأيام اللى قضاها هناك كانت صعبة و المجرمين عذبوه جامد بس الحمد لله احنا قمنا بالازم و باذن الله هيكون بخير.. اطمن..
هتف عاصم بدوره:- يعنى هو تمام يا داكتور!؟..

اكد الطبيب:- اه و الله بخير.. بس عايز فترة راحة و جراحه تلتأم و هايبقى زى الفل..
هلل عاصم:- طب الحمد لله.. الف حمد و شكر ليك يا رب..
هتف زكريا مؤكدا و هو يتطلع لجسد ولده المسجى و تلك الضمادات التى تحيط بصدره و رأسه و الأسلاك الممتدة منه للأجهزة الطبية:- الحمد لله..وربنا يتمم شفاه على خير..
هتف الجميع عاصم و باسل و مهران و حمزة الذى لحق بهم ما ان علم بالخبر مؤمنين على دعاء زكريا فى تضرع..

ثلاثة ايّام قاهرة.. ثلاث ليال ما لمح محياها حتى و هذا كثير على قدرة احتماله.. هو يعلم انه اخطأ فى حقها و انه يستحق ذاك الاعتكاف الذى تتخذه وسيلة لتأديبه و يالها من وسيلة !.. لقد أيقن انه ما عاد قادرًا على الاستغناء عنها فى حياته حتى و لو كانت سبب كل العذابات التى يعانى..انه يريدها بكل طريقة و اى طريقة ممكنة و بأى وسيلة و كل وسيلة يمكن ان تجعله يصل اليها.. الى قلبها.. انه لا يريدها لترد جميل.. انه يريدها لانها تحبه..

دخل للشقة و كالعادة منذ تلك الحادثة يرى طعام عشائه معد مسبقا على المائدة و هى بداخل غرفتها تغلق بابها.. حتى افطارهما المشترك مع ابيه و امه ما عادت تنزل لتحضيره معها و تركت لأمه هذه المهمة..

حاول الجلوس على المائدة يدعى اللامبالاة و عدم الاكتراث و مد كفه يتناول احد الأرغفة ليشرع فى تناول طعامه.. بالفعل وضع اول لقيمة فى فمه ليغض بها.. ما استطاع حتى تذوق الطعام دونها.. كاد يهتف صارخا يناديها.. ايتها الحمقاء بالداخل اخرجى و تعالى فهاهنا يقبع رجلا ما عاد قادرًا على تذوق الحياة دونك.. لكن هيهات ان يفعل.. لذا لزم الصمت و ابتلع كبريائه بجرعة ماء هى كل ما تناوله من على تلك المائدة العامرة.. و نهض فى تباطؤ لعلها تفتح الباب او حتى تخرج لحمل الاطباق.. لكنها لم تفعل..

دخل غرفته و هوى على الفراش يقظا غير قادر على الخلود للنوم دون ان يراها و لو كلفه ذلك سهر الليل بطوله
أرهف السمع لعلها تخرج لقضاء اى امر فمن غير المعقول ان تحبس نفسها فى غرفتها كل هذا الوقت..

مر الوقت حادًّا كسكين و بطئ كليل المظلوم.. حتى اخيرا ألتقطت أذناه حركة ما بالخارج.. فأنتفض من موضعه مندفعا تجاه الباب و ما ان فتحه حتى تصنع الهدوء و هو يخرج من الغرفة بشكل اعتيادى فى سبيله للحمام الذى ما ان وصله حتى كانت هى تخرج لتوها منه..

مرت جواره كأنها لا تراه و ما حتى رفعت ناظريها تجاهه كأنما هو هواء تطلع اليها يشبع ناظره الجائع الى محياها و الصائم عنه لثلاث ليال عجاف.. و ما ان ادرك انها فى سبيلها للأختفاء من جديد خلف باب حجرتها حتى هتف مناديا:- شيماء..
وقفت دون ان تستدير لتواجهه منتظرة اوامره دون ان تنبس بحرف واحد ليستطرد هو متعللا كالعادة:- عندى صداع شديد و عايز كباية شاى..

عادت القهقرى للمطبخ تنفذ فى آلية ما طلبه منها ليدخل المطبخ خلفها فى هدوء و يمد كفه للمذياع مشغلا اياه هامسا:- مش هاتفتحيه تسمعى زى عادتك!؟..
صدح المذياع بأغانيه المعتادة لتمد هى كفها تغلقه ليسود الصمت للحظات قبل ان تمد كفها بكوب الشاى تسلمه اياه و هى لاتزل متمسكة بصمتها فى
بسالة كادت تخرجه عن طوره..

رفع كفه فى ضيق يستلم كوبه الذى ما كان يشتهيه من الاساس و إنما كان مجرد حجة ليجعلها تظل بقربه اكثر وقت ممكن فأصطدمت كفه بالكوب ليسقط بعض من محتواه على كفها فتترك الكوب ليسقط ارضا محطما بينهما.. انتفض هو جاذبا إياها فى سرعة بإتجاه صنبور المياه لعله يهدئ من آلام الحريق التى لحقت بكفها و هى تبكى فى صمت أورثه الشعور بالذنب ألف ضعف عن السابق..

جذبها خلفه من جديد و هى مستسلمة لقيادته و اجلسها على احد المقاعد و ذهب يبحث عن احد الدهانات التى يعالج بها حريق بشرتها.. و ما ان وجد حتى عاد لينحنى مقابلا لها و بدأ فى فرد الدهان على وجه كفها المصاب.. تطلع اليها من جديد و الى وجهها الباكى كأوجه الاطفال فلان قلبه لها و أشفق عليها من شدته التى تتحملها و ما اشتكت..

همس فى نبرات معتذرة:- انتِ لسه زعلانة !؟..
جذبت كفها من بين كفيه فى هوادة و لم تنبس بحرف ليستطرد بنفس النبرة
المعتذرة:- طب حقك عليا.. متزعليش.. كنت تعبان و مصدع ساعتها..

همست باكية:- انا مش زعلانة و لا عمرى هزعل منك بعد كل اللى عملته معايا و عشانى..شعر بالضيق من كلماتها فما زالت على اعتقادها انه يفعل ما يفعله شهامة.. استطردت هى و هو على صمته الثائر ذاك:- انا بس صعبت عليا نفسى عشان انت بتحاسبنى على حاجة مليش يد فيها..

اومأ برأسه متفهما و قد ظن انها تقصد وفاة نادر فهو لا يعلم انها قرأت خطاب اخيه و تدرك تماما لما يعاملها بهذا الشكل..و لما يعافها كزوجة و ينأى بنفسه عنها لشعوره بالذنب انه نالها دون اخيه الشهيد الذى رحل و هو يحبها بالمثل..

و الأدهى من ذلك كله انه لا يدرك انها تهواه و ترغبه كزوج لها.. و يعتقد ان مشاعرها تجاهه و صفحها و غفرانها شدته و قسوته فى معاملتها ناتج عن شعورها بالامتنان تجاه ما قدمه لها بعد حادثة الاعتداء عليها..
و اخيرا الزواج منها رغبة فى سترها..

نهض مبتعدا عن مجال تأثيرها هاتفا محاولا إنهاء الحديث:- يعنى خلاص صافى يا لبن!؟..
لم يكن بمقدورها ان تقول كل ما يعتمل بداخلها لذا اثرت الصمت لبرهة ثم هتفت بدورها مبتسمة:- حليب يا قشطة..
عاد مقتربا اليها..كان يتطلع اليها كالمسحور بعد تلك الابتسامة التى اذابته حرفيا و بلا وعى منه مد كفه يتلمس خدها فى حنو.. جذبها فجأة نحو صدره لتشهق و هى تجد نفسها مغروسة و معتصرة بين ذراعيه..

كان هو فى تيه تام مأخوذ بها و هى قابعة هاهنا بأحضانه حيث تمنى دوما
و بدون وعى منها همست هى بإسمه فى عشق.. ليستعيد فجأة تعقله و يبتعد عنها كالملسوع..

ساد الصمت بينهما للحظات صمت قاهرو كل منهما يتطلع لمحيا الاخر فى صدمة و ذهول يتمنى لو يبوح لصاحبه بما يعتمل بصدره لذاك الذى يقف على اعتاب قلبه ينتظر الاذن بالدخول و هو لا يعلم انه قابع بالداخل بالفعل منذ امد بعيد و قد غلّقت أبواب القلب بعد دخوله دون غيره من البشر..
انتفض ناصر مندفعا لخارج الشقة..

تطلعت هى لمكان خروجه للحظات و نهضت بدورها و اغلقت باب حجرتها خلفها و قد انتابتها حالة غريبة من اختلاط المشاعر.. تبكى لا ألم حرق كفها بل ألم حريق اخر شب فى جوفها رغبة فى وصال قلب اعتقدت ان لا امل فيه ابدااا..تبكى فرحة ان ذاك الطود الأعظم بدأ فى الاهتزاز و انه قريبا سيعلن الاستسلام و لن يكون بمقدوره الا الاعتراف بان لا قوة له على البعاد ثانية..و هى لن تجعله يفكر حتى فى البعاد ما حيت..

طرق باب دارهم عدة مرات حتى طلت سمية من خلف الباب مرحبة فى سعادة:- كيفك يا ماچد يا ولدى!؟.. تعال اتفضل..
هتف ماجد بابتسامة دبلوماسية على شفتيه:- تسلمى يا عمتى.. بس استعجلى ايمان عشان اتاخرنا.. انا برن عليها ع التليفون مبتردش..
هتفت سمية:- ايمان تعبانة شوية.. يمكن متروحيش النهاردة.. انا داخلة اسألها تانى..

وقف فى نفاذ صبر و تمنى لو يندفع الى حجرة تلك الصلبة الرأس ليلقنها درسا فى الطاعة فمنذ البارحة و هى لا تعيره اهتماما و لا ترد على سؤالا له حزنا على العريس المفقود..
ظهرت اخيرا خلف امها التى تنحت مبتعدة لتقف هى قبالته فى كبرياء هاتفة:- خير يا واد خالى!؟..
هتف جازا على اسنانه:- ايه !؟.. لسه فترة الحداد ع العريس الضائع مخلصتش !؟..

نظرت اليه شذرا فى غيظ و هتفت:- انا مش رايحة الچامعة النهاردة.. مش انت چاى عشان كِده !؟...
اشتغل غيظا بدوره و هتف:- روحى ألبسى انا مستنيكِ.. ياللاه بلاش دلع..عندنا محاضرات مهمة..
هتفت بعناد:- ما چلنا مش هروح..
هتف بعناد مماثل و لهجة متوعدة:- عارفة لو مرحتيش تلبسى دلوقتى عشان تروحى معايا هعمل ايه !؟..
هتفت متحفزة:- هتعمل ايه !؟..

ابتسم مجيبا و هو يراها بهذا التحفزالممتع:- مش هروح انا كمان..
قهقهت رغما عنها و هتفت تستفزه:- طب و العرسان اللى مضايجينك!؟..
هتف يغيظها بدوره:- هو عريس واحد على فكرة.. حالا خليتهم عرسان!؟..

قهقهت من جديد ليرقص قلبه بين ضلوعه فى سعادة و هتفت مؤكدة:- ادينى خمس دقايق بالعدد هلبس و احصلك..
استدار متوجها للعربة ينتظرها بها هاتفا مدعيا الشدة:- ستات متجيش الا بالعين الحمرا..
تعالت ضحكاتها و هى تغلق خلفه الباب مندفعة ترتدى ملابسها لتلحق بذاك الذى ما عادت تتخيل حياتها دون وجوده بها..

دخل مهران للسراىّ عائدا من القاهرة بعد الاطمئنان على حازم ليجد زهرة و تسنيم تتسامرتان.. توجه الى مجلسهما ملقيا التحية:- السلام عليكم.
هتفت كلتاهما فى حبور لعودته سالما:- و عليكم السلام و رحمة الله..
و استطردت زهرة:- حازم كويس يا مهران!؟.. شوفتوه يعنى !؟.. هو تمام..

اكد مهران:- اه الحمد لله.. هو لسه ف العناية.. بس الدكاترة جالوا انه هيتحسن عن جريب.. ادعوله بتمام الشفا..
هتفت كلتاهما:- اللهم امين..
هم بالنهوض صاعدا حجرته للراحة الا ان تسنيم نهضت مسرعة بدورها متسائلة:- أحضر لك حاچة تاكلها..
تطلع اليها فى سعادة هامسا:- يا ريت..

سألت بابتسامة و هى تمربه فى اتجاه المطبخ:- تحب اعمل لك ايه!؟..
همس بالقرب منها:- اى حاچة من يدك هاتبجى شهد..
تخضب وجهها بحمرة قانية كعادتها و تطلع هو الى ذاك الوجه الصبوح الذى يعشق للحظات حتى غابت عنه مندفعة باتجاه المطبخ..

كانت زهرة تتابع المشهد من مسافة ليست بالبعيدة تحاول ان تدعى انها منشغلة ببعض الامور على جوالها و ابتسمت فى حبور عندما استشعرت ان الامور بدأت تأخذ مجراها الطبيعى بين ولدها البكر و زوجه و التى اعتقدت لفترة ليست بالبعيدة انها ليست على ما يرام و لا كما يفترض ان تكون بين زوجين فى بداية زواجهما..
انشرح صدرها و ابتهل قلبها ليديم الله عليهما السعادة..و يرزقهما راحة البال...

كان يسير باتجاه دارها يقدم رجل و يؤخر الاخرى.. و رأسه يضج بالأسئلة.. هل ستقبله !؟.. هل سترضاه زوجا لها !؟.. و ها قد وصل
لعشة الخوص التى أعادوا بنائها من جديد بعد الحريق الاخير..
توقف فجأة عندما وجد يونس اخوها يجلس بداخل العشة يدخن الارجيلة
فألقى السلام و جلس قبالته عندما دعاه يونس بترحاب و مودة.. ساد الصمت بينهما لبرهة و اخيرا استجمع ماهر شجاعته و هتف:- يا حاچ يونس.. أنى طالب منك طلب !؟..

هتف يونس مرحبا:- يا سلام.. انت مش تطلب.. انت تأمر يا واد الغاليين.. كفاية وجفتك معانا ليلة الحريج..
ابتسم ماهر:- انى معملتش حاچة.. ربنا اللى ستر بفضله..
و استطرد متنحنحا فى حرج:- انى بس طالب.. يعنى.. لو مفيش مانع.. يد اختك..
تطلع يونس اليه متعجبا:- هداية !؟..
هتف ماهر:- دِه لو مكنش عنديك و لا عنديها مانع..

ابتسم يونس:- و نمانعوا ليه!؟.. انت سيد الرچالة.. بس هى توافج و الف مبروك..
انتفض ماهر فرحا:- يعنى افهم من كِده انك موافج!؟..
قهقه يونس مؤكدا:- ايوه موافج.. بس بشرط موافجتها هى.. هى الاساس..

همدت فرحة ماهر و جلس مستكينا و لم ينبس بحرف فتطلع اليه يونس و قد ادرك ما بقلبه تجاه اخته فتبسم فى فرحة و ربت على كتفه مطمئنا و همس:- لو فى نصيب و ربك رايد هتكون ليك بإذن الله.. انى هسألها و هيوصلك الرد ف اجرب وجت.. جول يا رب..
ابتسم ماهر و هتف:- يااارب..

و نهض مستأذنا و هو يتطلع الى خصاص نافذتها العزيزة التى يتمنى ان يقبع تحتها النهار بطوله لعله ينل منها نظرة رضا تسعد قلبه الذى يئن وجعا فى بعادها و يرنو الطرف للحظة الى محياها الذى افتقده منذ اخر مرة إلتقاها عند باب المسجد بالصدفة فأسقطت خافقه بين قدميه شوقا و رغبة فى الوصال..
و بدأ يسأل نفسه من جديد و هو يرنو بطرف لحظه لنافذتها.. هل ستقبل !؟.

دخل شقته فى هدوء ليدرك انها بالمطبخ كعادتها فى وقت كهذا تحضر طعام الغذاء.. اقترب فى هدوء و قد جذبه ذاك الشدو الهامس الذى ما ان تجلت نبراته الحانية حتى اهتز فؤاده طربا له..
كانت تهمس بأغنية لشادية بذاك الصوت الرخيم ذو الشجن.. وقف كالمشدوه مأخوذا كليا بها..

اخيرا تنبهت عائشة لوجوده فأنتفضت متطلعة اليه فى غيظ هاتفة بنبرة مؤنبة:- الناس تدخل تسلم مش تتسحب زى الحرامية كِده..
لم يرد بل دخل للمطبخ ووقف جوارها و همس بصوت متحشرج لازال متأثرا بشدوها الذى ملأ اركان روحه:- انى هساعدك..
هتفت تقر بدورها:- مش محتاچة مساعدة من حد.. لما اخلص غداك هياجيك لحد عيندك..
همس مؤنبا:- اه.. عشان أكله لوحدى زى كل يوم..

تطلعت اليه فى غضب مكبوت و تجاهلته تماما ليندفع ممسكا بسكين و يبدأ فى تقطيع بعض الخضروات لتجهيز طبق من السلطة..
ساد الصمت بينهما و كل منهما يحاول تجاهل رفيقه.. لكن للقلوب رأى اخر يخالف رأى أصحابها..
فلقد انتفض قلبها ذعرا مندفعا اليه عندما صرخ متوجعا عندما جرح إصبعه بذاك السكين الحاد و هو شارد يتطلع اليها..
هتفت و هو تمسك بكفه النازف:- سويت ايه بحالك !؟.. ما جلت لك بلاش..

وضع كفه اسفل الماء الجارى لتندفع هى بدورها تحضر بعض القطن الطبى و مطهر..
طهرت جرحه و هو يتطلع اليها بمشاعر مختلطة مزيج من محبة وليدة و سعادة غامرة و ندم جارف و حسرة موجعة..
سحب كفه من بين كفيها الشافيتين هامسا و هو يتطلع لعمق عينيها:- ربنا بياخد لك حجك منى ف كل دجيجة..
شهقت متطلعة اليه وهو يعترف بتلك النبرة الموجوعة ليستطرد بنفس النبرة
و شعور الذنب يطفو جليا على محياه الأسمر الذى تعشق:- سامحينى..
نهض فى هدوء و اتجه لغرفته و اغلق بابها خلفه تاركا إياها مصدومة من اعترافه تتنازعها مشاعر عاشقة و كرامة مهدرة.. و هى بينهما تتمزق فى وجع..

بحثت ثريا عن امها نجاة داخل السراىّ و لم تجدها كعادتها فقررت البحث عنها بالحديقة الخلفية حيث ذاك الباب الاخر للسراىّ و الذى لا يُفتح الا نادرا.. تطلعت من موضعها حيث وصلت لتجد امها بالفعل تقف من خلف البوابة الحديدية التى اعتلتها النباتات المتسلقة فأخفت جزء كبير من معالمها تتحدث الى شخص ما لا تره من موضعها كادت ان تناديها الا ان ان امها جلست القرفصاء بجوار البوابة مما استرعى انتباه ثريا لتقترب بغية التعرف على ماهية الشخص الذى تكلمه امها..

و اخيرا اتضحت لها الصورة كاملة لتظهر سيدة تلك المرأة المجذوبة التى تمر دوما بالسراىّ حيث ان عشتها الخوص التى تعيش بها من بعد ما عادت من رحلتها المجهولة التى لا يدرى احد بالنجع عن تفاصيلها الا النذر القليل.. تذكرت ثريا حديثها مع الحاجة فضيلة و ان امها نجاة كانت صديقة مقربة منها يوما قبل كل ما حدث لها و ربما تعلم ما لا يعلمه احد..فقررت معرفة الحقيقة و معرفة سر اهتمام سيد العجيب بتلك المرأة..

اقتربت فى بطء و هدوء تستمع لأمها و هى تحادث سيدة بصوت ملئ بالحسرة هامسة:- ليه بس كِده يا سيدة!؟.. ليه سمعتى كلامه المعسول و خلاكِ تچرى وراه.. ما لنا احنا و مال الناس دوول.. مكنوش من توبنا يا خية.. شوفتى وصلوكِ لفين يا غالية!؟..
كانت نجاة امها تقريبا تحادث نفسها و سيدة فى واد اخر تغيب فى صحن الطعام الذى جلبته لها امها كما هى العادة و الذى تناولته سيدة فى نهم شَديد ينم عن جوع وصل لذروته يدل على انها لم تتناول طعاما منذ ايّام..

همست سيدة و فمها مملوء بالطعام:- عايزة فلوس.. هاتى فلوس.. عايزة يكون معايا فلوس كَتييير عشان محدش يخده منى..
هتفت نجاة مستفسرة:- هو ايه دِه اللى يخدوه !؟.. و مين دوول اللى خدوه من اساسه !؟..

لم تجبها سيدة كالعادة فتنهدت نجاة تهمس لنفسها و هى تتطلع فى شفقة لصديقة عمرها التى كانت زهرة ندية فى يوم ما و أحرقتها نار الهوارية لانها اقتربت اكثر من اللازم.. اقتربت فوق الحد المسموح لأمثالها.. لم تحظ واحدة بحظ كحظ كسبانة صديقتهما الثالثة التى خدمتها الظروف بظهور زكريا و تركه إياها مع امه لتربى ولدها..

اما انتِ يا مسكينة فلا يعلم بحالك احد منهم.. لا يعلم بسرك الا انا.. حتى كسبانة نفسها لا تدرى فدوما كنتُ انا المقربة لكلتاكما.. كان سر كل واحدة منكما معى.. انا وحدى تحمل اعباء حفظها و عدم البوح بها لمخلوق.. انا وحدى أتعذب لأجلك لأنى اعلم اين يكون حقك و من اى فرد فى الهوارية يجب القصاص لما لحق بكِ..

نهضت نجاة وتركت سيدة تنهى طعامها و ما ان همت بدخول دارها حتى ظهرت ثريا هامسة:- مش هتجوليلى برضك ايه سر الست دى معاكِ !؟..
انتفضت نجاة فى ذعر و عندما ادركت وجود ابنتها هتفت فى عتاب:- وااه يا ثريا.. كِده يا بتى.. ضرعتينى.. كنت هروح فيها..

احتضنت ثريا امها فى محبة هاتفة:- بعد الشر عنك يا چميل.. بس برضك مش هسيبك الا لما تجوليلى.. ايه حكايتك مع سيدة بالظبط!؟.. دى مش اول مرة اشوفك معاها.. و كمان بتجعدى و تتحدتى معاها كنها فهماكِ وواعية للى بتجوليه..
هتفت نجاة محاولة التهرب من ابنتها التى تعلم انها وضعت الامر فى رأسها و انتهى و لن تتركها الا و قد علمت كل ما تريد:- كنك فايجة و رايجة و انى مش فاضية لك.. روحى شوفيلك حاچة عدلة اعمليها.. روحى.

ابتسمت ثريا و هى تعلم ان امها تعلم علم اليقين انها لن ترحل حتى تنال ما ترغب فى معرفته فتطلعت اليها بنظرة واثقة كأنها تقول لها انت تعلمى انى لن افعل.. فالافضل اعترفى حتى أريحك.. و كانت نجاة من نوع الأشخاص الذين يرضخون بسرعة و يعترفون تحت اقل ضغط ممكن فتنهدت فى قلة حيلة و هى تجلس على طرف الأريكة هاتفة فى نفاذ صبر:- عايزة تعرفى ايه بس !؟...غلبانة و بندوها اللى فيه النصيب.. أيه فيها دى !؟..

هتفت ثريا فى فضول:- سيدة دى ليها جصة و لازما اعرفها.. انا سمعاكى بتجوليلها مكنش المفروض تسمع له و تروح وياه.. مين دِه !؟..
انتفضت نجاة هاتفة فى اضطراب:- مبلاش السيرة دى يا بتى !؟.. ليه بس نجلب المواچع!؟.. كل حاچة راحت لحالها..
هتفت ثريا من جديد و الفضول يتأكلها حتى تعلم ما حدث بالماضى:- عشان خاطرى يا نچاة.. ياللاه حكى.. و مش هجول لحد..

جلست نجاة من جديد و تطلعت امامها فى سكون مقلق و اخيرا همست:- سيدة طول عمرها جمر.. كانت حلوة جووى و عارفة انها حلوة و الرچالة كلهم وراها بالمشوار.. عيونهم مكنتش بتفوتها لا ف روحة و لا ف چاية و هى كانت بت عم حسنين الحاوى اللى شغال ف المولد اللى بره النچع..طول عمرها تجول انى مش هجع الا واجفة و هتچوز بن باشا.. چمالى ده خسارة ف راچل اجل من بيه.. كنّا انى و كسبانة نتريج عليها و نجول لها هاياجى منين البيه يا فجرية!؟.. بصى على كدك..

و فچأة راحت من النچع.. و ما بين يوم و ليلة محدش وعيلها لا هى و لا ابوها الحاوى.. محدش خد ف باله.. الا انى.. انى الوحيدة اللى كنت اعرف هى راحت فين..
هتفت ثريا تستحث امها فى لهفة:- راحت فين !؟..

هتفت نجاة بحسرة:- راحت وياه هى و ابوها.. راحت مصر.. اتچوزها هناك..هى جتنى ليلتها و سلمت عليّ و جالت لى انها رايحة مصر مع ابوها و معاه.. جلت لها بلاها الروحة دى.. حاسة ان مش هاياجى من وراها خير ابدا.. بس هى مسمعتنيش..
هتفت ثريا من جديد فى ضيق و نفاذ صبر:- برضك معرفتش مين دِه اللى راحت معاه !؟.. حد نعرفه!؟..
هتفت نجاة:- و مين ميعرفهوش..!؟.

الله يرحمه.. ميچوزش عليه الا الرحمة بجى.. بس انتِ متوعيش عليه.. مات جبل ما ربنا يرزجنى بيكِ..
هتفت ثريا بغيظ:- ايوه.. يعنى هو مين دِه برضك!؟..
همست نجاة و كأنها لا ترغب فى نطق الاسم من الاساس:- سليم الهوارى..
انتفضت ثريا فى ذعر هاتفة فى صدمة:- بتجولى مين !؟...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة