قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث بقلم رضوى جاويش الفصل الثاني والثلاثون

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثاني والثلاثون

هتفت نعمة خلف المعلم خميس مؤكدة بحزم:- بقولك ايه يا معلم.. أتكلم معاه ياخويا.. كِده مينفعش.. و الله ده ما يرضى ربنا..ده بقاله يومين بايت ف الورشة و سايب بيته ينفع كده !؟..
اومأ خميس مؤكدا:- عندك حق.. انا هسحبه من الورشة و اقعد أتكلم معاه و ربنا يهديه..
أكدت نعمة:- صح كده.. و ربنا يهديه..

نزل المعلم خميس من بيته متوجها لمقهاه و ما ان طالعه محيا ناصر داخل ورشته و هو شارد الذهن مشغول الخاطر حتى علم ان نعمة لم تكن تهول الامر بل ان ابنه الوحيد فى صراع حقيقى و لابد له من التدخل حتى يساعده على حسم ذاك الصراع مهما كانت النتائج..
هتف مناديا اياه و ما ان جاء مهرولا اليه ملبيا حتى هتف به المعلم خميس امرا:- حصلنى ع القهوة.. على أوضة الخزين..
تساءل ناصر فى قلق:- هو فى حاجة يا معلم !؟..

اكد خميس بوجه صارم:- حصلنى و هاتعرف كل حاجة هناك..
ألقى ناصر كل ما كان يشغله و اندفع فى أعقاب ابيه مسرعا الى حجرة الخزين و ما ان جلس قبالة ابيه حتى ابتدره الاخير متسائلا:- هو انت لما اتنفضت تطلب شيماء لنفسك حد كان غصبك عليها يابنى !؟..

انتفض ناصر واقفا و الاضطراب يكسو محياه.. لم ينتظر خميس جواب ولده بل استطرد مستفسرًا:- طب ف الاول و قلنا حزنك على اخوك الله يرحمه مخليك زاهد ف الدنيا كلها.. لكن دلوقتى عشان كلمتين ف جواب بقيت ذاهد فيها هى.. ده يرضى ربنا!؟..
اندفع ناصر هاتفا باضطراب واضح لم يخف على ابيه:- جواب ايه.. و بتاع ايه!؟.. انت بتتكلم عن ايه يا معلم !؟..

اخرج خميس من جيب سترته جواب ولده الشهيد نادر ملوحا به:- بتكلم عن ده.. عن جواب اخوك اللى بعته و اللى وصلهولك صاحبه لما جه يعزينا فيه.. صح!؟..

اختفى اللون من محيا ناصر و ما عاد قادرًا على التفوه بكلمة.. تنهد خميس فى حزن و هو ينهض فى تثاقل متوجها ليقف فى مواجهة ولده هامسا بنبرة أب تقطر حنانا و تفهما:- انا عارف ان الموضوع صعب.. و انك بتلوم نفسك و فاكر ان ربنا بعده عنك عشان شيماء تبقى من نصيبك.. ده تفكير يودى ف داهية يا بنى.. و مش هيوصلك لحاجة الا خراب حياتك.. و اخوك لو كان عايش مكنش هايرضى لك بكده..

تطلع خميس لعينى ولده مباشرة و رأى فيهما صراع يحتدم فقرر الهجوم مباشرة لقلب الهدف هاتفا بحزم:- بقولك ايه يا ناصر.. انت حر ف نفسك يا بنى بس حرام عليك بت خالتك.. دى طول عمرها أمانة ف رقبتنا.. يعنى ايه تفضل جنبك لا هى متجوزة و لا هى حرة يجيلها نصيبها.. لو زاهد بجد..فارق.. و سيبها تشوف حالها متظلمهاش معاك..
انتفض ناصر صارخا:- لااا.. مش هسيبها..

كان ناصر يتنفس بشكل متتابع فى توتر واضح.. هو يعلم ان أباه لا يدرك السبب الأساسى الذى دفعه لطلب شيماء بهذا الشكل و لا يدرك صراعه مع مشاعره تجاهها و لا يعلم انه يريدها زوجة لكنه يخشى ان يفرض مشاعره و تقبل هى فقط لمجرد انها ترد له جميل ستره لها..

ابتسم خميس مؤكدا و قد عرف انه وصل لهدفه:- يبقى تعاملها بما يرضى الله.. و اللى ف دماغك ده ترميه ورا ضهرك و اخوك ف الجنة و نعيمها دلوقتى.. يعنى ف مكان احسن منى و منك و متفتكرلوش الا الرحمة و ان ربنا يلحقنا بيه على خير.. اما حياتك يا بنى ف مضيعهاش على أفكار ملهاش لازمة..

و صمت خميس لبرهة و اخيرا همس و هو يتطلع من جديد لعينى ولده بنظرات تقطر شجنًا:- انا نفسى افرح يا ناصر.. بعد اخوك ما راح قلبى اتكسر و مفيش غيرك هيفرحنى.. فرحنى بعوضك يا حبيبى.. عايز نادر صغير يقول لى يا جدى و يعوضنى غيبة اخوك..
تحشرج صوت خميس بغصة باكية فأحنى ناصر هامته مقبلا جبين ابيه فى تقدير و همس مؤكدا:-عنايا ليك يا معلم.. و الله ما ليا عوزة ف الدنيا دى لو مكنتش انا اللى أسعدك و أريح قلبك..

ربت خميس على كتف ولده هامسا:- ربنا يراضيك يا بنى و يسعدك..
ربت ناصر على كتف ابيه و انحنى مقبلا اياه من جديد و اندفع خارج غرفة الخزين و منها الى ورشته يتفكر و يتدبر كلمات ابيه التى حملته واجبا لن يتوانى لحظة عن تحقيقه.. عليه إسعاد ابيه مهما كان الثمن.. فأبيه يستحق ذلك بحق.. و عليه ان يلقى بكل ما عدا هذا الهدف خلف ظهره و لا يظلم نفسه و لا يظلمها بالمثل.. فهو لن يكون قادرًا على بعادها و سيعمل جاهدا ليجعلها تحبه مثلما هو يعشقها منذ امد بعيد..

سيجعلها تدرك انه ما طلب الزواج منها الا لانه يحبها فقط.. يحبها و يعشقها و لن يستطع الابتعاد عنها من جديد فليلتين غياب عنها يبيت ليله ف الورشة جعلته يدرك أنها اصبحت الهواء الذى يتنفس و ادرك اخيرا انه أعلن الاستسلام قلبا و روحا لها.. حتى و لو لم يحادثه ابيه بما يعتمل بقلبه لكان ذهب اليها و حاول ان يجعلها تهواه و لن يتوان عن استخدام اى طريقة ليخبرها انه عاشقها..

كان يجلس بالخارج امام غرفتها بعد ان سقطت بين ذراعيه غائبة عن الوعى.. و نقلها لفراشها و اجتمع الأطباء حولها من جديد..
تطلع الى كفيه فى قداسة.. ثم ضمهما حتى ابيضت مفاصل أصابعه.. تلك الأكف قد لمستها و حملتها و ضمتها اليه..هاتين الكفين تسبثتا بها و ما كانت لهما الرغبة فى اطلاقها بعيد عن احضانه..

زفر فى تيه هامسا:- ايه اللى بيچرى لك يا حمزة !؟..
و كأنه تبدل كليا و ما عاد ذاك الذى يحمل قلب من صوان.. حمزة الذى يجلس الان امام غرفتها لا يستطيع البوح لها ان قلبه سقط بين قدميه عندما رأها تسقط قبالته بين ذراعيه و انه على الرغم ان بينهما حاجز لا يتعدى ذاك الباب قبالته و المسافة الى فراشها لا تتعدى خطوات الا انها استشعرها كبعد الارض عن السماء..

بعد ان كانت بين ذراعيه اقرب لقلبه من نبضه ما عاد قادرًا على البعاد كل هذه المسافة.. كل هذا الفراق.. كل هذا الشوق..
انتفض عندما همست زينة جواره:- حمزة!؟..
نهض فى تحفز لعل هناك جديد يتطلب حركته سريعا هاتفا:- نعم يا مرت عمى..
ابتسمت تطمئنه:- هدير بتسأل عنك و مش مصدقة انك هنا.. ادخل لها وريها نفسك.. خليها تهدى و تنام..

شعر بحرج رهيب و تلفت حوله و ما عاد قادرًا على التطلع لوجه زوجة عمه التى همست من جديد:- ادخلها يا بنى..
و همت زينة بالانصراف فهتف بها مذعورا:- انتِ رايحة فين يا مرت عمى !؟.. هو انت مش هتخشى معايا ليها!؟..
ابتسمت زينة هاتفة:- باخد شوية راحة يا حمزة امشى رجلى فيهم شوية و اجيب فنجان قهوة و اشوف الدكتور يجى يشوفها..
اومأ برأسه متفهما و تطلع اليها حتى غابت فى ذاك الممر الضيق و زفر فى توتر و هو يضع كفه على مقبض الباب و فتحه مدعيا شجاعة لا يملكها و ثباتا فى حضرتها غادره منذ امد بعيد..

دخل مواربا بابها خلفه ووقف متطلعا اليها متمددة على فراشها فى سكينة غير معتادة على ابنة عمه تلك التى كانت تملأ الارض صخبا و صياحا..
تنبهت هى لحضرته فأدارت وجهها الى موضعه و هتفت فى سعادة:- حمزة !؟.. انت بجد هنا !؟.. ماما لما قالت لى مصدقتش !؟.. طب ازاى !؟.
مش المفروض كنت ف كتب كتابك!؟..

رد بنبرة صوت متحشرجة:- لاااه.. ما هو اتأچل.. متخديش ف بالك انتِ.. المهم نطمن على صحتك و تبجى عال..
ابتسمت فى براءة أذابت أعصابه:- انا عال طول ما انت عال..
ابتسم رغما عنه و هو يتشبث بأحد المقاعد المجاورة لموضع وقوفه و اخيرا هتف محاولا الهرب من ذاك الجحيم المستعر الذى يستشعر نفسه فى عمق أتونه:- طب اسيبك انا بجى.. و انا جاعد بره لو عوزتى حاچة..

هتفت تستعطفه فى رقة:- عشان خاطرى خليك هنا.. انا مش هتكلم و هنام زى الدكتور ما قالى.. بس انت خليك جنبى متروحش بعيد..
و كأنه قادر على الابتعاد من جديد.. لقد انتهى امرك يا حمزة.. هكذا همس لنفسه و هو يجلس على احد المقاعد فى احد أطراف الغرفة ينتظر مجئ امها بفارغ الصبر حتى يعود لعزلته بالخارج بعيدا عن محياها الذى ما عاد قادرًا على غض الطرف عنه و فقد السيطرة تماما على ذاك الخافق الذى دبت فيه الحياة فجأة لمرأها..

جال ببصره بالغرفة محاولا ان لا يسقط نظره عليها و لكن هيهات فما ان تلاقت نظراتهما و ابتسمت هى من جديد حتى أشاح بوجهه فى ذعر و قد أيقن ان قلبه رحل بلا رجعة فى طريق عشقها..

كانت تقف فى انتظاره امام باب دارهم فقد تأخر ماجد اليوم عن موعد وصوله المعتاد.. كان منضبط المواعيد كالساعة.. لابد ان امر ما قد حدث حتى يتأخر.. ستفوتهما المحاضرة الاولى بهذا الشكل..

تنهدت اخيرا فى ارتياح عندما لاحت السيارة من البعد و ما ان وصلت حتى اندفعت اليها و توقفت عندما رأت مقعده الامامى المعتاد فارغ منه.. صعدت العربة حيث مقعدها الخلفى و هتفت فى سائقها:- خبر ايه يا عم مصيلحى.. ماچد بيه فين !؟..
هتف الرجل:- معرفش يا ست ايمان..الست زهرة جالت لى روح وصل الانسة ايمان و خلاص..
صمتت ايمان للحظة و توجست ان يكون مريض او به ما يسوء فهتفت بالسائق دون تفكير:- طب ارچع ع السرايا يا عم مصيلحى..
هتف السائق:- من عنايا يا ست ايمان حاضر..

لحظات و كانت تشق بوابة السراىّ العتيقة بالعربة و ترجلت منها امام بابها الداخلى.. تنحنحت فى احراج هاتفة:- صباح الخير..
ظهرت زهرة من باب المطبخ هاتفة فى سعادة:- ايمان!؟.. اهلًا يا حبيبتى.. اتفضلى..
ابتسمت ايمان و هى تلقى التحية و تتلقى القبلات من زوجة خالها و هتفت فى حرج:- معلش يا مرت خالى انا بس چيت اطمن على ماچد.. مش بعادة غيابه.. يا رب يكون بخير!؟..

هتفت زهرة محاولة مداراة امرا استشعرته ايمان لكنها لم تعرف كنهه:- اه يا حبيبتى الحمد لله.. هو بس تعبان شوية و حب يريح النهاردة.. و..
هدر صوت ماجد مجلجلا و هو يندفع من حجرته متكئ على عصاه:- لااا بقى.. مش هروح خااالص.. مش النهاردة بس يا ماما.. فضيناه موال الكلية ده..
هتفت زهرة محاولة تهدئة ولدها:- اهدى بس يا ماجد هى البنت ذنبها ايه يعنى !؟..

كانت ايمان تقف فى تيه بلا حول لها و لا قوة لا تدرى ما يدور حولها و لا تدرك سبب ثورته و لا تمنعه عن الذهاب لكليتهما..
هتف ماجد بالمقابل مجيبا على سؤال امه:- انا مش رايح الكلية عشان احرس الهانم و ابقى بحوش الخُطاب اللى ع الشمال و اللى ع اليمين.. انا امبارح كنت هقتل لها واحد فيهم.. انا لو فضلت ف الكلية دى هرتكب جريمة بسببها..

فغرت ايمان فاها غير مصدقة ما تسمعه.. هل يغار !؟.. هل حقا يغار عليها !؟.. لا.. لا تتعشمى.. مجرد نخوة رجولية من رأس صعيدى لا اكثر.. رأس كل ما بها هو كيف يحميها تنفيذا لوصية اخيها الشهيد الذى اسلم الروح بين ذراعيه..
فهتفت ايمان رغبة فى تلطيف الأجواء:- انا آسفة ان ده بيضايجك.. بس هم بيعملوا كِده عشان عارفين انك اخويا الكبير.. يعنى هاياجوا لمين !؟

صرخ ماجد فى ثورة و امه تقف فى طريقه تمنعه عندما اندفع مطالبا برأسها بعد تلك الكلمات التى للأسف لم تلطف الإجواء كما رغبت بل زادت الطين بلة:- اقول ايه !؟.. جبلة.. مبتحسش.. بقولك ايه !؟.. انا مش اخو حد.. انا ايه..مش اخو حد.. خلاص يا بنت الناس فضيناها الليلة دى.. كده كفاية قووى و الله..اعصابى يا عالم.

هتفت ايمان و قد سال الدمع من عينيها رغما عنها لصراخه فيها بهذا الشكل و هى لم ترتكب ذنبا:- خلاص يا واد خالى.. انى آسفة.. مضايجش روحك.. سلام..
و همت بالرحيل لتستوقفها زهرة هاتفة فى ترضية:- استنى بس يا ايمان.. و الله ما انت ماشية زعلانة من بيت خالك..
و نظرت بعتاب لولدها الذى بدأ يخرج أدخنة من أذنيه من شدة ثورته و استطردت:- يعنى هى ذنبها ايه انها زى القمر و خطابها كتير !؟.. ناس بتفهم و بتقدر الجمال.. مش زى ناس..

انتحبت ايمان و لم تنبس بحرف ليرق لها قلبه فهتف محاولا تهدئتها:- خلاص يا ايمان حصل خير..
هتفت ايمان هاتفة بحدة و قد استعادت صلابة شخصيتها من جديد:- ايه هو اللى خلاص ده !؟.. انت بتعمل كل ده ليه !؟..
هتف صارخا من جديد:- عشان مينفعش يجى كل شوية واحد نطع يطلب ايدك منى.. محدش يخطب واحدة من خطيبها..

اتسعت ابتسامة زهرة فأخيرا نطق الحجر بينما اتسعت احداق ايمان بصدمة و فغرت فاها بعدم تصديق لما سمعت.. و بعد فترة صمت لا بأس بها انفجرت ايمان باكية من جديد فى احضان زهرة.. ليهتف ماجد مقهقها يشاكسها:- اهى رجعت لأصلها.. من يوم ما كانت تشوفنى و هى صغيرة و هى ع الحال ده.. اعمل فيها ايه دى يا ربى!..

هتفت ايمان من بين دموعها ردا على مشاكساته:- تاجى تخطبنى من ماهر و ساعتها تضمن ان محدش ف الكلية هياچى يخطبنى منك..
قهقهت زهرة و اتسعت ابتسامة ماجد و الذى هتف مستمرا فى المشاكسة:- طب ده بالنسبة للكلية سعادتك..طب و البكا ده حله ايه !؟..
لم تجبه و هى لاتزل على نحيبها بينما قهقهت زهرة من جديد و هى تضمها لصدرها فى حنان فأخيرا استطاعت تلك الفتاة الرائعة ان تعيد لها روح ماجد التى أفتقدها الجميع منذ زمن.. و عادت اخيرا..

كانت تريد ان تشغل حالها بالقيام بأى عمل بدنى حتى تلهى عقلها عن التفكير الذى يوردها مورد التهلكة.. لم يعد لها القدرة على التحمل و هى تراه كل يوم.. تضع له إفطاره نهارا و تحضر له عشائه ليلا و هو يجلس يتناولهما فى صمت ليس من عاداته يتطلع اليها فى ذهابها و ايابها مما يورثها الخجل و الرغبة فى الهرب بعيدا عن اسر نظراته التى تحاوطها.

ما عاد لها القدرة على المجادلة مع قلبها و الدفاع عنه او الهجوم عليه.. و ما عاد لديها القدرة ايضا على الثأر لكرامتها.. فوجوده بالقرب ابطل كل اسلحتها الدفاعية...

ارتدت احدى عباءتها المنزلية و بدأت فى رفع اثاث المنزل و مقاعده و بدأت فى مسح الشقة و ترتيبها من جديد.. لم يكن بالعمل الشاق بالنسبة لها لكنها شعرت كمن يرفع الجبال رفعا و ينتزعها من أوتادها و مع ذلك استمرت فى عملها فهى تريد ان تنهك ذاك الجسد حتى لا تدع له الفرصة لينفرد بها ليلا و يسهدها و يعذبها ما بين التفكير فيه و الرغبة فى الثأر لكرامتها المهدرة و قلبها المجروح..

دخل خلسة ووقف ينظر اليها متطلعا فى هدوء.. كانت تعمل بشكل حثيث و بهمة عالية رغم تلك الملامح البادية على وجهها و التى تنم عن حزن و تفكير عميق.. يبدو على قسمات وجهها اثر السهد و شحوب ليس من عادتها.. فهى فى المعتاد تمتلك بشرة نضرة مشربة بحمرة محببة تضفى عليها حسا طفوليا.. تعجب من ادراكه لتلك التفاصيل.. و تنحنح فى تأدب مخرجا نفسه قبل إدراكها لوجوده من بين طيات تلك الافكار التى راودته بشأنها.

انتبهت هى فى انتفاضة لمرأة و عدلت من وضع عباءتها التى كانت ترفعها قليلا مبتعدة بأطرافها عن بلل الأرض
جذبت غطاء رأسها و وقفت فى صمت متضطربة لمرأه و اخيرا هتفت:- هحضر لك الغدا..
اندفع هو ناحيتها محاولا إثنائها عن تحضير الطعام هاتفا:- لااه.. متتعبيش نفسك.. انى..

فجأة و دون مقدمات وجد نفسه ممددا ارضا بعد ان تعثر قدمه فى الماء و الصابون و قد شمله البلل تماما.. لم تستطع تمالك نفسها و هى تراه على هذا الشكل فأنفجرت ضاحكة رغما عنها..
تطلع هو اليها فى سعادة.. لم تكن المرة الاولى التى يستمع فيها لضحاتها الرنانة بهذا الشكل.. و التى كانت بمثابة سيمفونية من موسيقى مبهجة تعزف نشيدا مجسدا للفرحة..

توقفت تلك الضحكات فجأة عندما لاحظت تطلعه بها بهذا الشكل.. شعرت بالخجل و الندم.. فما كان لها ان تضحك بهذا الشكل فى حضرته.. و ما كان لائقا من الاساس الضحك على سقوطه..
همست بنبرة آسفة:- انت كويس !؟..
اكد بايماءة من رأسه و هو لايزل تحت تأثير ضحكاتها التى ترن حتى اللحظة موسيقاها فى أذنيه..

هم بالنهوض و هى تندفع بدورها مصرة على تحضير الطعام لتسقط بدورها هى الاخرى لينفجر هو مقهقها
اندفع يحبو لموضع سقوطها هاتفا مشاكسا إياها :- ربك بيخلص.. عشان تبجى تضحكى علىّ..
نهض فى حذّر و مد كفه لها امرا بمرح:- هاتى يدك.. جومى.. خلاص انى مسامح..
كان وجهها يزداد شحوبا و لم تعر امره اهتماما.. فأنحنى تجاهها هاتفا فى قلق:- مالك يا عيشة!؟.. هاتى يدك أجومك..

همست بصوت واهن:- مش قادرة اجوم.. مش قادرة يا حامد..
اندفع اليها مذعورا و حملها فى حرص و سار بها حتى أوصلها فراشها فى حذّر جراء الماء المنتشر هنا و هناك و خوفا من السقوط من جديد و هتف مؤكدا:- انى هروح اجيب داكتور و راچع هوا.. هبعت لك امى من تحت..
هتفت مؤكدة و هى تكاد تصرخ من شدة الالم:- ملوش لزوم.. هبجى كويسة دلوجت..

هتف و هو يندفع لحجرته ليبدل ملابسه:- كويسة ايه !؟.. انتِ مش شايفة وشك اصفر ازاى!؟.. انى مش هتأخر.. هچيب الداكتورة تسنيم بسرعة و اچى..
على قدر ألمها الذى يعتريها.. على قدر سعادتها بذاك القلق الباد على محياه و هذا الاهتمام الذى يمنحه إياها و خوفه عليها بهذا الشكل.. كل ذلك منحها سعادة خفية لا توصف..

تاهت فى خيالاتها حتى قاطعتها حماتها كسبانة و هى تندفع مهرولة اليها فى ذعر حقيقى:- مالك يا عيشة كف الله الشر !؟.. انتِ كويسة!؟..
اكدت عائشة رغبة فى طمأنتها:- الحمد لله يا خالتى.. متقلقيش..
اكدت كسبانة:- الواد حامد طلع يچرى زى المخبل يچيب الداكتورة.. ان شاء الله تطمنا عليكى.. يا رب اللى ف بالى يطلع صح.. ياارب..

تطلعت اليها عائشة بتيه و اخيرا غلبها فضولها فسألت كسبانة:- ايه اللى ف بالك دِه يا خالتى !؟..
ابتسمت كسبانة فى خبث محبب:- هيكون ايه يعنى !؟.. الظاهر يونس الصغير ف الطريج..
انتفضت كل خلية من خلايا جسد عائشة عندما صدمت مسامعها تلك الكلمات.. يونس الصغير.. ايعنى هذا انها حامل !؟.. هى تحمل طفله !؟

طفل من اهانها و جرحها فى تلك الليلة التى تمنت فيها ان تصبح حبيبته قلبا و روحا و جسدا فإذا به يحطم قلبها و يجرح روحها و يستبيح جسدها.. كيف ذلك!؟..
دمعت عيناها رغما عنها و كادت تهتف فى حماتها مكذبة ذاك الادعاء لكن كسبانة كانت قد تركتها بالفعل محاولة تجفيف الارض المبتلة قبل وصول الطبيبة.. و التى وصلت بالفعل و ما هى الا لحظات حتى دوت زغاريد كسبانة فى الحجرة معلنة صدق حدسها و تأكيد نبؤتها..

تطلعت عائشة مشدوهة للفراغ.. هى حامل اذن.. و المطلوب منها عدم مغادرة الفراش و الراحة التامة حفاظا على الجنين..
فُتح باب الغرفة لتلمح محياه للحظة.. كان يقف مبتسما مع امه و الطبيبة تبدو عليه الفرحة..

و ما ان رحلن حتى غاب لفترة قصيرة وعاد يقف على اعتاب حجرتها من جديد حاملا شئ ما بين كفيه.. اقترب من موضع فراشها ووضع الاكياس التى كان يحملها و لم تكن الا الدواء الموصوف من الطبيبة و همس بصوت متحشرج:- مبرووك
هتفت فى صوت نبراته ثلجية باردة مكررة كلمته بتعجب:- مبرووك !؟..

اضطرب فى موضعه و ما عاد قادرًا على التطلع اليها و هتف فى سرعة مؤكدا:- الداكتورة بتجول لازم تاخدى الأدوية دى.. وتنتظمى عليها.
و هم بالاندفاع هاربا من الغرفة ليس لديه الشجاعة للتطلع لعينيها اللائمة و توقف فجأة قبل اختفائه خارجها:- لازمًا ترتاحى.. و اى حاچة انتِ عوزاها انى ملزم بيها..

وًتردد للحظة ثم هتف بصوت تحمل نبراته ندمًا خالصًا.. سامحينى.. انى مش عارف انتِ هتسامحى على ايه و لا ايه !؟.. بس..
لم يكمل عبارته واندفع خارجًا من الغرفة.. بل من الشقة بأسرها حيث شعر بالاختناق و ما عاد لديه المقدرة على البقاء معها و شعور الذنب تجاهها يوجعه حد العذاب..

تسلل حمزة لداخل حجرة العناية الفائقة ليطمئن على حازم بن عمه
لم يكمن مسموح بالزيارة بعد لكنه استطاع التحايل على الامر و الدخول فى حذّر.. وقف امام سرير حازم الذى كان لايزل غائبا عن الوعى و تلك الخراطيم و الأنابيب الطبية تتصل بجسده المسجى فى سكينة..

تطلع الى بن عمه فى إشفاق و وجع حقيقى على حاله..فبالرغم من فترة تقاربهما البسيطة نسبيا الا انه شعر ان حازم لا يقل محبة و معزة عن حامد فى قلبه..
تمتم بالدعاء له فى تضرع حتى دمعت عيناه و ما ان هم بالخروج قبل ان يكتشف احد الأطباء امره الا و وقف مبهوتا يرهف السمع حتى يتأكد مما تناهى اليه.. كان حازم يردد فى حروف متقطعة اسمها:- تسبيح..

كان يعدها بأمر ما.. أرهف السمع من جديد ليجمع الأحرف التى استطاع ترجمتها اخيرا.. "انا.. راجع.. لك"..
دمعت عيناه من جديد و هو يدرك ان تسبيح ليست وحدها التى كانت ستشقى بزواجه منها بل بن عمه ذاك الذى يعشقها.. و لا حيلة لكليهما فى امر الهوى.. كان يمكن له ان يثور و يغضب لو كان لايزل حمزة القديم الذى ما كان يقيم لأمور القلب وزنا اما الان و هو عاشق حد النخاع و ذائب فى الهوى حد الثمالة فما هناك احد غيره سيشعر بما يختلج بقلبيهما و ما من احد يستطيع ان يحل تلك المعضلة الا هو سيفعل باذن الله و لن يقف مكتوف الايدى ابدااا..

ذاك القلب العاصى تاب عن اعلان العصيان لأمر الهوى و استسلم بلا قيد او شرط رافعا رايات بيضاء بلون الطهر الذى تسربل به لسنوات طوال نائيا بنفسه عن دنس المتع الا فى حلال الله.. أعلنت هى موافقتها على رغبة ماهر الزواج بها.. اعلنتها وقد ادركت انها عاشقة و راغبة فى الارتباط به للأبد.. اعلنتها بعد استخارة الله عدة مرات و فى كل مرة تزداد يقينا انه هو الذى كتبه الله لها لتكون زوجه و خير متاع له فى الدنيا و يكون لها ذاك السند و الأمان الذى كانت تتمنى بعد موت ابيها..

لا تعلم لما هو بالذات.. رغم كل ما كان منه و رغم علمها عن ماضيه لكن كل هذا وقف متخاذلا امام توبته التى استشعرتها و نيته الصادقة التى أظهرها فى كل افعاله..
ضمت نفسها و ابتسمت و هى تتذكر كم الأمان الذى شعرت به بين ذراعيه حاميا لها وهما يخوضا النار معا يوم حريق الدار..

وقفت خلف احد أعمدة السطح تتطلع للطريق الذى اعتاد القدوم منه فمنذ تزوجت عائشة و حامد بالشقة و هى انتقلت لحجرة بالدور السفلى و تركت غرفتها التى كانت تنظر من خلال نافذتها صوب ذاك الطريق الذى تعلم انه يمر عبره اذا ما قرر المجئ الى دارهم او الذهاب للمسجد فقررت الصعود الى هنا حتى تراه..

انتفضت عندما طالعته يهرول مقتربا كأنما يريد ان يطير حتى بابهم ليعرف الخبر اليقين ابتسمت رغما عنها و لم تقو على النزول لأسفل و الاستماع لمشاكسات النساء..

على الرغم من انها تشعر برغبة قوية فى رؤيته و شوق هائل فى الاستماع لصوته الرجولى بنبراته التى تبعث فيها الأمان و تغذى قلبها بكم لا يستهان به من مشاعر مستحدثة عليها لا تعرف لها كنه و لا تدرك لها مدلول الا الشعور الجارف بالاطمئنان فى صحبته..

اندفع ماهر لدارهم ما ان أتاه اتصال يونس يخبره برغبته فى رؤيته لسماع قرار اخته حتى هرول الى هنا حتى قبل الموعد المتفق عليه.. ما عاد لديه القدرة على الانتظار لدقيقة اخرى..
استقبله يونس فى ترحاب و جلس و هو ينتفض رغبة فى معرفة اجابة طلبه..

ابتسم يونس هاتفا فى سعادة:- انى سألت هداية و جالت لى انها مشفتش و متعرفش عنك غير كل خير.. و انها بعد استخارة ربنا طبعا موافجة على طلبك يا نسيبى..
هلل ماهر مكبرا دون وعى منه:- الله اكبر.. يعنى وافجت !؟..
انفجر يونس مقهقها:- امال انى جلت ايه !؟.. و انت بتهلل على ايه م الاساس..!؟.

و عاد يونس يقهقه من جديد عندما استشعر حرج ماهر و ابتسامته الخجلى التى كللت شفتيه.. لحظات و نطق فى لهفة:- بس بجول لك ايه يا حاچ يونس !؟.. مفيش عندينا خطوبة و الكلام دِه.. احنا نعملوا كتب كتاب و دخلة سوا و ف اجرب وجت..
اتسعت ابتسامة يونس من جديد:- مستعچل جووى انت !؟..

اكد ماهر دون خجل:- الصراحة اه مستعچل..ايه اللى هيأخرنا !؟.. دارنا بدل الدور اتنين و احنا هناخد الدور الثانى لحالنا و هجهزه جوام جوام.. و فرح !؟.. مظنيش هنعملوا فرح.. يعنى مع كتب الكتاب فرحة كِده ع الضيج ما انت سيد العارفين الظروف اللى عندينا..
اكد يونس بإيماءة من رأسه هاتفا:- اه طبعا معلوم دِه حاچة مفيهاش كلام..

ع العموم انى هشور العروسة و ربنا يجدم اللى فيه الخير و نحددوا ميعاد عن جريب و نبلغوك..و انت چهز الدار و احنا هنچهز اللى علينا..
ساد الصمت للحظة فتجرأ ماهر هاتفا فى احراج:- طب يعنى.. مش العروسة هاتاجى.. يعنى و كِده..
ابتسم يونس و خرج من باب الغرفة هاتفا:- هشوفها لو تجدر تاچى تسلم..

جلس فى انتظار قدومها كمن يجلس على جمر مشتعل.. لا يعرف ماذا دهاه و كأنه المرة الاولى التى يخبر فيها النساء او يطالع إحداهن..
انتفض بمكانه عندما شعر بحفيف عباءتها على الارض و تطلع فجأة لمحياها النقى بلا رتوش و لا أصباغ و شعر بالطهر يشمله كليا.. كان يجلس متسمرا موضعه حتى انه لم ينهض لأستقبالها و لا حتى دعاها للجلوس..كان مأخوذاً كليا بمرأها عن ادراك اى من الأصول المتبعة فى مثل تلك المواقف و اخيرا هتف منتفضا عندما ادرك فداحة فعله:- اتفضلى..

جلست على استحياء ليستطرد هو فى سعادة يشوبها الاضطراب:-مبرووك..
لم ترد الا بابتسامة خجلى و إيماءة من رأسها فاستطرد هو فى عجالة:- انى جلت للحاچ يونس نكتبوا الكتاب و الفرح مع بعض.. ف اجرب فرصة.. موافجة يا هداية !؟..

كانت المرة الاولى التى ينطق اسمها مجردا و المرة الاولى كذلك التى تسمعه يرن فى اذنيها بوقع جديد لم تجربه من قبل فأضطربت بدورها هامسة:- اللى يشوفه اخويا يونس انى موافجة عليه.. بس ليا طلب صغير..
هتف متعجلا:- انتِ تأمرى..

ابتسمت رغما عنها ابتسامة خجلى و تطلعت اليه فى حياء هامسة:- عايزاك توعدنى.. اوعدنى انى مندمش ابدا انى اخترتك سند و ضهر ليا.. اوعدنى انك تجربنى من ربنا و تساعدنى ع الطاعة..
تحشرج صوته و هو يتطلع اليها مستمعا لمطالبها الغالية و همس بتأثر:- أوعدك.. و عمرى ماهندمك انك بجيتى مرتى ف يوم من الأيام و اما صلتك بربنا.. دى اكتر حاچة علجتنى بيكِ.. و علجتنى بطريج ربنا اكتر.. فربنا يرزجنا طاعته و يجدرنا عليها..

ثم استطرد فى عشق جلى و بنبرات رخيمة اربكتها:- و دِه انى متأكد منه كويس جووى.. كيف أتوه و انى هيكون معايا.. هداية..
انتفضت عندما سمعت اسمها منه بهذا الشكل الذى جعل كل خلجة من خلجاتها تضطرب و نهضت على عجل تستأذن راحلة و اندفعت من امامه فى اضطراب نهض بدوره متطلعا اليها حيث غابت مبتسما فى تفهم و ما حاول استوقافها و عاد ليجلس من جديد عند دخول يونس و الذى اخذ يتحدث معه فى أمور شتى ما تذكر منها شئ مطلقا بعد مغادرته دارهم.. و كيف له ان يفعل و قد طغى لقياها على ما عاداه و احتلت صورتها مخيلته حتى ما عاد قادرًا على استيعاب غيرها ليزاحمها فى ممتلكاتها.

دخل عشتها فى تردد و تقدم اليها فى رهبة واخيرا توقف مبهوتا امام محياها الممدد فى استكانة على فراشها و انتفض بكل ذرة بكيانه فدوما كان لا يرى لوجهها ملامح فى المرات السابقة التى صادف و قابلها فقد كان دوما متربا و موحلا..و كانت تتشح بالسواد من رأسها حتى اخمص قدميها المغطاة بالوحل..لكن الان ظهرت معالمه جلية و هى تنام ملأ جفنيها فى استكانة بوجه نظيف واضح القسمات و ثياب نظيفة.. لم يقف ليتساءل من قام بهذا من اجلها !؟..

هو فقط ادرك انها هى تلك المرأة التى يراها دائما بأحلامه و التى رافقه محياها طوال ليال عمره الذى ناهز الثلاثين.. و التى تحتضنه بين ذراعيها اثر انفجار ما و قد كانت صرخاتها تدوى عاليا و هم ينتزعوه من بين ذراعيها.. صرخات دامية تردد اسمه فينهض مذعورا يتصبب عرقا كل صباح.. الان ها هو ينتفض من جديد و هو يسمع اسمه من بين شفتيها و هى تتململ فى رقادها تنعم بنوم عميق..

ارتجف و دمعت عيناه و هو يقترب منها يسمعها تكرر اسمه فى محبة و شوق و هى تحتضن بين ذراعيها شئ ما تضمه لصدرها.. مد كفا مرتعشة يجذب برفق ذاك الشئ الذى تطبق عليه كفيها بذاك التشبث و تدنيه من قلبها بهذا اليقين.. و ما ان طالع تلك الورقة اخيرا والتى ما كانت الا صورة فوتغرافية مهترئة الأطراف باهتة الملامح لطفل ف الخامسة على ثغره ابتسامة و هو يتعلق برقبة امه..

ما عاد قادر على الثبات على قدميه اكثر من هذا فسقط على ركبتيه منهارا يبكى فى حرقة و غامت معالم الصورة الباهتة اكثر امام نظراته الدامعة و هو يتطلع من جديد الى طفل لم يكن الا هو فى الخامسة و تلك المرأة التى انتزعوه من أحضانها صغيرا و التى هى.. امه..

سارت هى خارج السراىّ متجهة الى عشة سيدة كما فعلت البارحة منذ علمت بما لحق بها من ظلم على يد سليم الهوارى و هى تحمل لها النظيف من الثياب و ما لذ و طاب من اطعمة حتى لا تدعها تخرج من العشة و تلقى ما تلقاه من الاطفال الذين يأذونها قولا و فعلا..
تطلعت الى العشة لتجد بابها مواربا اقتربت فى حذّر لتجده يجلس ارضا يبكى فى صدمة..

تركت ما كانت تحمل فى عجالة و اندفعت ارضا قبالته هاتفة فى صدمة:- سيد.. سيد..
كانت المرة الاولى التى تنطق فيها اسمه مجردا رفع رأسه اليها ليقفز قلبها لوعة و اشفاقا على حاله..لابد انه علم بحقيقة ما فعله ابوه بهذه السيدة المسكينة..

همس فى حنق:- كنتِ تعرفى يا ثريا ان هى امى!؟..
هتفت فى صدمة:- امك !؟.. كيف يعنى !؟.. انت مش جلت لى مرة ان امك ميتة !؟..
اكد بايماءة من رأسه هامسا:- ده اللى كنت فاكرة لحد امبارح.. لحد ما شفت دى..
اخرج لها عقد زواج ابيه بسيدة لتتطلع اليه فى هدوء و همست:- بس ده ميثبتش انها امك !؟.. فين شهادة ميلادك انت..

همس مؤكدا:- اسم مرات ابويا هو اللى ف شهادة ميلادى..مرات ابويا مكنتش بتخلف و ابويا كتبنى باسمها بعد موت امى اللى كنت فاكر انها ماتت.. بس انا مش محتاج شهادة ميلاد عشان اعرف انها امى.. امى اللى بشوفها كل ليلة ف منامى و هم بيشدونى من بين دراعاتها و بصحى على صراخها باسمى..أمى اللى مش هسيب بتارها و لا بتار ابويا من اللى ظلمونا و حرمونا منها..
هتفت ثريا:- قصدك مين !؟.. الهوارية !؟.. انت لسه مطلعتش الغل ده من دماغك!؟..

هتف فى غضب هادر:- و مش هطلعه الا لما اخد حقى منهم واحد واحد..
ارتعشت ثريا هامسة بعتب:- حرام عليك روحك.. اللى ف دماغك كله غلط.. الهوارية اصلا ميعرفوش بوچودك و لا بچواز ابوك و امك.. صدجنى.. روح لهم و اسمع منيهم و اكيد وجتها هتغير رأيك..
هتف بنفس النبرة الغاضبة:- انا معرفش غير اللى قاله ابويا و اللى اتاكدت دلوقتى بس انه صح..

هتفت ثريا بحنق:- ابوك ملأ عقلك بحكاوى كذب..و..
انتفض سيد جاذبا إياها فى غضب هادر حتى انها اصطدمت بصدره و هو يهمس فى ثورة جازا على اسنانه محاولا السيطرة على ذاك البركان الذى يلقى بحممه:- اياكِ يا ثريا.. الا ابويا..

تطلع كل منهما لعمق عينى الاخر و ساد الصمت للحظات و اخيرا همست ثريا فى حسرة :- يا خسارة يا باشمهندس.. يا الف خسارة.. الغل اللى ف جلبك عاميك حتى عن شوفة حاچات كَتير كانت ممكن تفرج.. بس خلاص مبجاش فى حاچة فارجة..
استشعر حزنها و كلماتها المبطنة التى تحمل معان تمنى ان تكون حقيقة لكن ما هو بصدده الان يجعله يحيد اى امر اخر عن مجال تفكيره فهمس متسائلا:- ثريا..مش هاتبقى معايا..انا محتاجك..

همست بصوت متحشرج:- اعذرنى يا باشمهندس.. مجدرش اساعدك على باطل..
و اندفعت باكية خارج العشة نحو السراىّ..بينما جلس هو من جديد ارضا وامسك بكف امه المتغضنة الممددة جوارها على فراشها المتداع و قبلها فى شوق و أيقن ان كل ما اخبره به ابوه صدق.. و انه لن يترك ثأره من الهوارية الذين كره انتسابه اليهم و لن يصبح واحد منهم ابدا.. و اقسم انه لن يترك ثأره ما حيّا و الا لن يستحق ان يكون.. ابن سليم الهوارى.. او يحمل اسمه ليوم واحد..

دخل الى الشقة ليجدها على غير العادة ليست فى استقباله بألوان الطعام المختلفة على المائدة حتى انه لا يسمع لها حسا تنهد فى راحة و اندفع بدوره يحتمى بجدران غرفته فهو لايزل مشوشا من جراء ما اخبره به أبوه منذ ساعات قليلة..
هم بخلع قميصه ليرتاح قليلا الا ان صوت ضجيج قادم من الحمام مع صرخة مكتومة دفعته ليهرول اليها.. طرق باب الحمام فى لهفة هاتفا باسمها فى قلق:- شيماء.. شيماء.. انت كويسة!؟.. ردى.. انت تمام..

لم يصله الا صوت تأوهاتها بالداخل فوقف فى اضطراب لا يدرى ما عليه فعله و اخيرا قرر الدخول و ليكن ما يكون.. دفع الباب ليطالعه وجهها الباكى و هى ممددة على ارض الحمام تتألم فى صمت.. اندفع اليها هاتفا فى ذعر:- ايه اللى حصل !؟.. انتِ وقعتى و لا ايه!؟..
اكدت بايماءة من رأسها دون ان تتفوه بحرف واحد ليحملها بين ذراعيه و يخرج بها حيث غرفته و يمددها على فراشه و هى تتوجع من الم قدمها..
اشارت الى الخارج هامسة من بين أنأت وجعها:- دور ف الأدراج اللى بره يا ناصر على مرهم..

اندفع ينفذ فى سرعة.. غاب وقت لابأس به و ما وجد ما يطيبها فقرر النزول لشقة ابيه لعله يجد.. اندفع الى الشقة يبحث بلا هوادة لتتفاجأ به نعمة لتهتف متسائلة:- بتدور على حاجة يا ناصر!؟..
اكد هاتفا و هو لا يرفع عينيه عن الأدراج:- اه.. بدور على مرهم عشان شوشو وقعت ف الحمام..
شهقت نعمة:- بعد الشر عنها.. اهو هتلاقيه ف الدرج التانى ده خده و ابقى طمنى عليها..

اندفع بالدهان فى عجالة و ما ان غاب خلف الباب حتى أطلقت نعمة ضحكة مدوية و هتفت فى فخر:- عفارم عليكِ يا شوشو.. تربية نعمة بصحيح..
وصل هو لداخل غرفته حيث ارقدها و ما ان هم بأخبارها انه وجد الدهان المطلوب و المناسب لعلاج اصابتها حتى وجدها راحت فى سبات عميق.. تنهد فى قلة حيلة و هو يضع الدهان جانبا على الطاولة الملاصقة للفراش و تطلع اليها و هى بهذا الرداء الحريرى الذى يجعلها كتلة مجسمة من الفتنة و لونه الذى يتناسب و بشرتها العاجية و شعرها الكستنائى المنسدل على وسادته الناصعة البياض و ملامح وجهها التى يعشق..

اقترب يتشرب ملامحها المحببة لروحه و قد أضناه الشوق حد التهلكة و بلا وعى منه رفع كفا و مدها ليزيح بضع خصلات من شعرها تمردت و انسدلت على جبينها.. و همس فى عشق بصوت لم يكن يدرك انه مسموع:- اه لو تعرفى بحبك قد ايه..
انتفض كالمصعوق مبعدا كفه و صوتها الهامس يخبره مؤكدا:- عارفة..

فتحت عيونها فى بطء مثير و هى تتطلع لمحياه المصدوم.. لحظات مرت يتطلع اليها مشدوها و اخيرا قرر الهرب لتمسك هى بكفه قبل ان يرحل مبتعدا ليستدير متطلعا اليها و الى كفها المتشبثة بكفه هامسة بدلال أفقده ما تبقى من ثباته:- هو فى حد يسيب حد موجوع كده و يمشى!؟..
عاد القهقرى متوجها اليها بكليته هامسا و هو يشير للدهان الموضوع جانبا:- انا جبت لك الدوا اهو.. انا..
قاطعته هامسة و هى لا تزل تحتضن كفه و بدأت عيناها تدمع فرحا:- انا كمان بحبك يا ناصر..

جلس على طرف الفراش غير مصدق ما يسمع لتهمس من جديد و قد بدأت دموعها فى الانهمار بحرارة:- ايوه بحبك يا ناصر.. بحبك قووى..
مد كف مرتعشة فى عدم تصديق يمسح دموع اعترافها الغالى و اخيرا جذبها بين ذراعيه متنهدا فى لوعة و عشق و متأوها فى وجع و شوق يعتصرها اعتصارا حتى يكاد يخيفها بين أضلعه هياما و ولعا.. اخذ يردد اسمها كالمحموم و ما عاد قادرًا الا على البوح اخيرا بما اعتمل بصدره منذ سنوات طويلة..

سنوات بطول عمريهما.. سنوات من كتمان و وجع آن الاوان لنسيانه و لا يتذكرا الا ان زمان النوح قد ولى و حانت لحظات البوح بعشق ولد معهما و ربط بين قلبيهما و سيظل يحيا بين اضلعهما نابضا للأبد...

غابا معا.. فى دنيا اخرى و عالم اخر.. عالم غابت فيه الدموع و الآهات و اختفت فيه الأوجاع و تورات فيه الآلام و ما عاد هناك الا السعادة و الفرحة.. نعم تلك الفرحة الغامرة التى طلت على وجهه ما ان رفع رأسه من بين أحضانها و نظر اليها فى عدم تصديق لتتطلع اليه و هى تشهق باكية فى سعادة:- انا صاغ سليم يا ناصر.. انا بتاعتك انت بس.

اندفع اليها يرتمى فى أحضانها من جديد فقد كانت كلماتها تلك اروع كلمات عشق يمكن ان يستمع اليها.. تمرغ فى أحضانها بوله محاولا ان يدارى دمعاته السخينة التى سالت على وجنتيه غير قادر على كتمانها.. انه الاول.. و سيكون دوما مالك قلبها وعقلها الأوحد كما كان الأوحد بجسدها..
اعتصرها من جديد بين ذراعيه و قد ادرك انه ما عاد له حياة الا بين هاتين الذراعين.. و ان تلك الأحضان الدافئة التى يتمتع بحنانها الان هى ملجأه الأمن من الحياة و عبثها..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة