قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث بقلم رضوى جاويش الفصل التاسع عشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل التاسع عشر

دخلت زهرة من باب السراىّ بعد ان سلمت سندس لعريسها باسل و هى تشعر ان قطعة من روحها انتزعت منها.. كان فى انتظارها عاصم الذى جلس على احدى الارائك التى كانت مفضلة لأمه الحاجة فضيلة ايّام ما كان في إمكانها النزول لتجلس في صحن السراىّ .. رأى زهرة تندفع للداخل كاتمة دموعها متوجهة للدرج.. ناداها فى إشفاق:- زهرة!؟؟..

توقفت قدماها على الدرجة الاولى و نظرت حيث كان يقف عاصم.. اندفعت اليه ليتلقفها بين ذراعيه رابتاً على رأسها فى حنو فهو يعلم تماما ما تشعر به الام عند مفارقة ابنتها التى تنتقل لبيت اخر.. بيت زوجها.. بعيد عن أحضانها..
هتف فيها متمالكا نفسه ليبدو شديدا رغم تأثره لغياب سندس بالمثل:- خبر ايه يا زهرة.. !؟؟.. ليه كل البكا دِه.. !؟؟.. دى اتچوزت و راحت بيت چوزها.. نفرحولها و لا نبكوا!؟..

شهقت زهرة و هتفت من بين دموعها:- مكنتش فاكرة انى هتاثر قوى كده يا عاصم!؟.. و كنت دايما بستغرب على الامهات لما بيعيطوا يوم فرح بناتهم..
و رفعت نظراتها الدامعة اليه هامسة:- يمكن عشان ما شفتش ده بيحصل معايا.. !؟؟..
مزق تساؤلها قلبه.. اشارتها تلك ليتمها و فقدها لحنان الام حتى فى يوم كهذا جعله ينتفض لاأراديا ليدفع بها لصدره من جديد و يدثرها بذراعيه..

تنهد فى إشفاق و هو ينحنى ليقبل هامتها واخيرا هتف فى نبرة مرحة بغية اخراجها من حزنها:- تعرفى!؟.
رفعت رأسها لتنظر اليه بفضول ليستطرد بنفس اللهجة التى يكسوها المزاح:- انى خايف على الواد باسل و الله...
انفجرت زهرة ضاحكة رغم دموعها التى تغرق وجنتيها..
ثم هتفت مدافعة عن ابنتها الحبيبة:- ليه.. هى سندس هتاكله!؟..

هز عاصم رأسه مازحاً و هو يسحب زهرة باتجاه الدرج لأعلى:- لاه.. دى تلاجيها بتحضر من زمن ازاى تجتله و تاويه و تطلع منها كيف الشعرة من العچين.. مش محامية بجى.. !؟؟..
هتفت زهرة من بين قهقهاتها:- عشان كده هروح لهم من الفجر.. اطمن ان الأمن مستتب..
وصلا لأعلى الدرج و توجه كل منهما ليقطع الردهة الطويلة المؤدية لحجرتهما ليهتف عاصم:- لااه فچر ايه!؟..

و مال باتجاه زهرة هامساً بعبث:- انتِ ليلة صباحيتك كنتِ عايزة حد يصحيكِ من الفچر برضك.. !!؟..
تعلقت بذراعه هامسة فى عشق:- و لا كنت عايزة حد يصحينى من اساسه.. كفاية انى كنت فى حضنك يا عاصم..
انتفخت أوداج عاصم فرحا و همس دالفا للحجرة خلفها:- هى الليلة ليلة مفترچة بينها.. !!؟.
لتتعالى قهقهات زهرة من جديد..

عاد يونس وحامد ابيه من جولتهما حول الأرض ربما للمرة العاشرة.. فقد كان دوما ما يصر حامد على اصطحاب يونس لأرضه حتى يحفظ عن ظهر قلب ما له و ما عليه.. و فى كل مرة يأتى يونس لزيارته يصر على تلك الرحلة ..

قضيا اليوم بطوله في صحبة اخته هداية و ابنة عمه عائشة حتى هم بالرحيل مودعا ليهتف حامد مصرا:-ما تبيت معاى يا يونس.. خلينى اشبع منيك يا ولدى..
هتف يونس:- معلش يا بوى هاجيك تانى و هجيب عيالى و مرتى معاى.. اهو يعرفوا هداية و عيشة و هم يعرفوهم.. كل اما اجول أجيبهم يحصل ظرف يأخر مجيتهم.. معلش اللجا نصيب.. و عشان أوصل امى كمان..

هتف حامد:- يعنى مصمم تروح و تسيبنى.. دِه انى ما صدجت لجيتك..
مس كلامه وتر حساس في نفس يونس لينحنى مقبلا كف ابيه في إجلال:- متجوليش كِده يابوى دِه انى اللى ما صدجت لجيتك.. و الود ودى مفارجكش ابدا.. بس لحد ما نشوف هنظبط حالنا ازاى و هتلاجينى وياك على طول.. معلش.. دِه عمر جضيته ف نچع الصالح و مش بالساهل كِده اجلع نفسى من هناك..

هتف حامد متفهما:- عِندك حج يا ولدى.. روح شوف حالك و تعال.. بيتك هنا مفتوح لك و مستنيك.. خلينى أعيش اللى باجيلى و انى مسنود و متحامى فيك..
هتف يونس:- متجوليش كِده يا بوى ربنا يديك الصحة و طولة العمر و نفضل كلنا متحاميين فيك و عايشين بحسك..
ربت حامد على كتف ولده البكر في سعادة و نهض كل من هداية و عائشة خلف حامد لوداع يونس و امه..

وقفوا امام باب الدار الخارجي يتبادلوا التحية مودعين.. هم يونس بالابتعاد لخطوة خارج الدار الا ان حامد صرخ في ذعر دافعا يونس ليسقط ارضا و ااذى ما ان تنبه لما يحدث منتفضا لينهض حتى تلقف جسد ابيه يسقط بين ذراعيه..

لحظات فارقة ما بين الموت و الحياة هي ما عاشها يونس و كاد ان يلقى حتفه لولا ان حامد كان الأسبق ليدرك ان هناك سلاح موجه في اتجاه ولده ليقف حائلا بينهما و يتلقى الرصاصة عنه.. صرخات هداية و عائشة و شهقات سكينة تبعها صراخ يونس ما ان وعى لما يحدث هاتفا في لوعة و هو يضم جسد ابيه المضرج بالدماء اليه:- ابوى.. يا حاچ حامد رد علىّ.. رد على يونس ولدك البكرى اللى لسه مشبعش منيك..

فتح حامد عينيه مزدردا ريقه بصعوبة متطلعا ليونس بابتسامة باهتة على شفتيه:- انى خلاص مبجتش عايز حاچة م الدنيا بعد شوفتك يا يونس..
انى رايح لعبدالله.. بس أمانة يا يونس خلى بالك على اختك هداية.. حطها ف عنيك.. و بت عمك عيشة.. دى الأمانة الكبيرة يا ولدى.. محدش هايعرف يصونها غيرك.. اتچوزها على سنة الله و رسوله.. و أوعى تفرط فيها.. اوعدنى يا يونس..

تخشب يونس لسيل الوصايا التي تخرج من فم ابيه في تلك اللحظة الفارقة و ما عاد قادراً على التفكير فى ما يجب عليه قوله ليهتف مطمئنا ابيه الذى أعاد كلمته الأخيرة عندما تأخر جواب يونس لصدمته من طلب ابيه الأخير بخصوص عائشة ابنة عمه.. هتف حامد شاهقا في ألم:-اوعدنى يا ولدى..
هتف يونس مجيبا:- أوعدك يابوى.. دول ف أمانتى.. مفيش تفريط فيهم و لو على رجبتى..

ألتقط حامد أنفاسه الأخيرة في تتابع و أخيرا شهق متشبثا بكف يونس وهو يردد الشهادة و فاضت روحه لبارئها
و علت صرخات هداية و عائشة و سكينة حتى شقت عنان السماء منذرة بإنفراج أبواب الجحيم على مصرعيها
بعد موت عائلهم الذى كان لأخر لحظة بحياته يلوز عنهن و يحفظهن من لهيب مستعر ستزداد نيرانه اشتعالا بعد موته.. و ما هذه الا البداية..

استيقظ يحاول التمطع على فراشه لكنه سمع همهمة عجيبة تصدر جواره فتيقظ بكامله متنبها لتلك الرائعة التى تتمدد بالقرب منه غافية فى استكانة تطلع اليها من اخمص قدميها حتى قمة رأسها التى يتوجها ذاك الشعر الكستنائى الذى كانت يتناثر فى فوضى محببة أسرت قلبه و اخيرا استقرت نظراته على قسمات وجهها الذى كان حلم عمره هو التطلع اليه بحرية و التشرب من كل تفصيلة به حتى يحفظها عن ظهر قلب.. الان هو يطالعه و يطالعه و لا يمل فأبتسم فى رضا و نهض فى تثاقل و حذّر رغبة فى عدم إيقاظها حتى يتم ما هو مقدم عليه..

توجه لخزانة الملابس و فتح احد ادراجها فى هدوء و اخرج منها علبة مخملية صغيرة و بعض الاوراق المطوية.. حملها و عاد بها للفراش من جديد و جلس على ذاك الطرف الذى تنام هى فيه.. بدأ فى مداعبة باطن قدمها فى مشاكسة فتملمت و هى تضم قدمها لصدرها فأعاد الكرة من جديد يحاول كتم ضحكاته على افعالها الطفولية.. لكنها استدارت مولية له ظهرها متمتمة بتأنيب:- بس يا ماما.. عايزة انام.

كتم باسل ضحكاته من جديد و حاول التماسك مقلدا صوت زوجة خاله زهرة هاتفا:- كفياكِ نوم يا استاذة.. ميعادك مع مشرف الرسالة هيفوت عليكِ..
انتفضت سندس متيقظة عند سماعها ذاك التحذير و اعتدلت فى فراشها تهم بالنهوض حتى اصطدمت بصدر باسل الذى انفجر ضاحكا ما ان طالع محياها المصدوم و لم يستطع كبح جماح قهقهاته على مظهرها و هى تتطلع حولها فى ذهول و اخيرا تقع نظراتها عليه و قد ايقنت انها وقعت فى فخ مزاحه فهتفت:- كده تخضنى برضو!؟.. بقى دى طريقة تصحى بيها عروسة ليلة صبحيتها!؟..

ابتسم مقتربا فى مجون:- لااه طبعا.. فى طرج كَتييير بس انى كنت موفرها لحد ما اديكِ هدية فرحنا..
ابتعدت فى خجل هامسة:- باثل.. عشان خاطرى..
هتف و قلبه يرقص طربا:- ما هو عشان خاطرك يا بت خالى.. كل حاچة و اى حاچة عشان خاطرك.. عشانك و بس..
هتفت فى تعجب:- انت قصدك ايه!؟

قرب باسل من سندس تلك العلبة الصغيرة الغالية على قلبه و قدمها لها
نظرت اليه فى تعجب و مدت كفها و تناولتها لتفتحها و شهقت فى دهشة عندما طالعتها اساورها القديمة التى كانت تعشق و التى تركتها يوم ان كُسرت و ما ان عادت تبحث عنهن ما وجدتهم فكان حزنها مضاعفا..

همست فى تعجب:- انت جبتهم منين يا باثل!؟.. ده انا قلبت الدنيا عليهم..
همس بصوت متحشرج:- و هى الغوايش الچديد اللى لجيتيهم ف العربية الجديمة.. جم منين!؟..
شهقت من جديد هامسة:- انت اللى حطتهم!؟..

امد بايماءة من راْسه مبتسما:-اخذت الجدام عشان اچيب لك زيهم.. لفيت مصر كلها يوميها لحد ما لجيتهم و كنت طاير م الفرحة و حطتهملك ف العربية مطرح ما انى عارف انك بتحبى تجعدى دايما.. و خدت الجدام معاى اهو تبجى حاجة من ريحتك هو المنديل دِه.. و اخرج من نفس العلبة منديلا مضرج بالدماء مخبأ اسفل حاشية العلبة.. تطلعت سندس المنديل و تعرفت عليه فورا.. انه منديلها حيث تركته حول جرحه منذ عدة سنوات..

تطلعت للاساور المكسورة فى كف و منديلها المضرج بدمائه ف الكف الاخر و دمعت عيناها فى سعادة و همست بنبرة تحمل الكثير و الكثير من العشق و هى تتطلع اليه فى تلك اللحظة و هو يجلس قبالتها فى هدوء و محبة:- انا بحبك قووى يا باثل.. قوووى..
و اندفعت تلقى بنفسها بين احضانه فى شوق حقيقى لذاك الرجل الذى كانت ستندم عمرها كله اذا لم تقترن به..

ضمها باسل اليه فى قوة و دمعت عيناه لإعترافها الذى انتظره طويلا حد الوجع و القهر.. و اخيرا تمالك نفسه هامسا بالقرب من اذنها بمشاكسة:- بس على فكرة.. مش هى دى هدية چوازنا..
أبتعدت قليلا عن احضانه هامسة و لازالت الدموع تترقرق بعينيها ليرفع باسل تلك الاوراق المطوية و التى تركها جانبه و فردها أمام ناظريها هامسا:- دى هديتى ليكِ يا بت خالى.. هدية اخدت من عمرى و من صبرى عشان اعرف اجدمهالك النهاردة.. و النهاردة بالذات..

تطلعت سندس بذهول لتلك الورقة المنشورة امام ناظريها و شهقت و هى تقرأ بعيونها كل حرف خُط فيها.. و اخيرا تضع كفها على كفه الممدودة بالورقة تخفضها حتى يتسنى لها التطلع لعينيه بعيون دامعة غير مصدقة هاتفة بنبرة مهزوزة و صوت متأثر:- انت عملت ده كله عشان خاطرى!؟.. دخلت الجامعة المفتوحة و اخدت بكالوريوس تجارة عشان خاطرى!؟..

هز رأسه متأثرا و هتف:- اربع سنين طوال كنت هموت فيهم و اجولك.. بس جلت لاه.. اشوف هاتجبلينى من غيرها و لا هترفضى.. اربع سنين عذاب و انا كل سنة بزج نفسى زج عشان انچح و اخلص بسرعة.. اربع سنين ولو كنت أجدر لكنت خليتهم اربع شهور.. لااه اربع ساعات.. بس.. عشان اعرف اجرب منيكِ.. كنت هتچنن و انا بتخيل ان ممكن تضيعى من يدى.. لاااه دِه انى أچننت بچد يوم ما دخلت السرايا بالسلاح و فى وچود خالى و اللى ما يتسمى دِه اللى كان چاى..

و لم يكمل جملته الاخيرة التى نطقها بكل ذرة غيرة بمحياه.. و تنهد اخيرا و هو يتطلع اليها محتضنا وجهها المندى بالدموع هامسا:- انى ممكن كان يحصل لى حاچة لو مكنتيش من نصيبى.. واااه يا بت خالى..
شهقت سندس غير قادرة على التفوه بكلمة و اخيرا ألقت بنفسها فى احضان زوجها و حبيبها و بن عمتها الذى لطالما أحبته و تمنته زوجا و ها هو يؤكد لها انها كانت ستصبح اكثر امرأة نادمة على وجه الارض اذا لم توافق على الزواج به..

ضمها باسل لصدره فى قوة يكاد يعتصرها بين ذراعيه اعتصارا .. و اخيرا هتف مشاكسا:- اهااا.. شايف يا خالى.. والله ما عِملت حاچة.. دى بتك هى اللى..
تنبهت سندس لما يقول فأنتفضت مبتعدة عنه تتطلع حولها فى ذهول هاتفة:- بابا!؟..
انفجر باسل مقهقها و هو يجذبها من جديد لأحضانه هاتفا:- تعال يا خالى شوف بتك..

تطلعت اليه مؤنبة بنظرة طفولية ليستطرد هامسا و هو يعاود غرسها بأحضانه من جديد:- تعال شوف روحى متعلجة بيها كيف.. بتك يا خالى سرجت جلبى..
همست و هى مختبئة بحنايا صدره بعشق:- باثل..
و قد كان اسمه من بين شفتيها بهذه الطريقة التى تفقده صوابه قادرًا على جعله ينسى العالم ماعداها و يتذكر فقط انها اخيرا بين ذراعيه..

امتلأ صوان العزاء بالمعزين من كل صوب و حدب.. و العجيب ان معظمهم كان سلام يونس عليهم صباحا مع ابيه للمرة الأولى ليستقبلهم في تلك اللحظة و هم يؤدون واجب العزاء فيه..
وقف يونس يتلقى العزاء فى مقدمة الصوان بجواره ابنه حامد و كذلك حمزة الذى صادف وجوده في النجع تلك الأيام من اجل متابعة المشروع..

كانت فرصة ليعلم الجميع ان ذاك الرجل هو يونس الحناوى الابن البكر لحامد الحناوى و الذى عثر عليه بعد توهة كبيرة.. زحف الليل سريعا و ما زال المعزين على حالهم بل ان أعدادهم في ازدياد.. و فجأة ظهر جاسم من قلب المعزين يُظهر حزنه الزائف لوفاة عمه.. و اقترب في تؤدة من موضع وقوف يونس هاتفا في لهجة تحمل من التشفى اكثر مما تحمله من حزن:- البجية ف حياتك يا واد عمى.. ملحجش يتهنى برچعتك.. الله يرحمه..

جز يونس على اسنانه غيظا و تماسك و هو يرد في هدوء مصطنع:- حياتك البچية ياواد عمى.. منجيلكش ف حاچة وحشة ابدا..
اندفع احد الخدم من الداخل ليخبر يونس امر ما ترك جاسم على اثره و اندفع للداخل لتقابله هداية باكية و هتفت في غيظ مشيرة للخارج:- واد عمك جاسم يغور م العزا دلوجت يا يونس..
هتف يونس مهدئا إياها:- اهدى بس يا هداية.. ايه في!؟..

هتفت في حزن:- ابوك الله يرحمه يوم ما جالنا على وچودك اول واحد اعترض كان هو و جل أدبه على ابوك و يوميها ابوك حلف ما يمشى ف چنازته و لا ياخد عزاه.. هتمشيه يا يونس و لا اخرچ انى اطرده من صوان ابويا جدام الخلج كلها!؟..
هتف يونس في ضيق:- لما تعملى انتِ كِده يبجى لزمتى ايه انى ساعتها!؟.. هغوره متجلجيش..

و خرج يونس من الداخل عند الحريم ليعاود الوقوف في موضعه لتقبل العزاء في ابيه ليجد جاسم في انتظاره لم يتزحزح عن موضعه ليتقدم اليه هامسا بلهجة تحذيرية:- روح لحالك يا جاسم معيزينش مشاكل ف عزا عمك.. ميصحش..
ابتسم جاسم في سخرية هامسا:- مشاكل!؟.. و انت لسه شوفت مشاكل.. يا واد الغازية..

اندفع يونس في اتجاه جاسم يمسك بتلابيه في غيظ هاتفا و هو يجز على اسنانه:- لو مغورتش دلوجت من خلجتى مش هتعامل كنى يونس الحناوى واد عمك لااااه.. هتعامل معاك كنى سنچأ رد السچون و واد الغازية و ساعتها هتشوف كيفها تربية الغوازى.. يااا واد عمى...
و دفع بجاسم بعيدا و الذى لوهلة صُدم من ذاك الهجوم المباغت الذى فاجأه به يونس ليرى وجها ما كان يعتقد قط ان يونس ذاك الصامت الساكن و المستكين قد يحمله..

اندفع حامد يلوز عن والده هاتفا :- في حاچة يابوى!؟..
هتف يونس في تأكيد و بلهجة تهديدية لم تكن معتادة على مسامع ولده:- لاااه مفيش.. واد عمى جاسم جام بالواچب و هيمشى حلاً..
اندفع جاسم مبتعدا عن صوان العزاء و هو يقسم و يتوعد و قد هدأ المعزون و عاد كل لموضعه بعد ان جذبت مشاحنة يونس و جاسم انتباههم..

اندفع ماجد داخل استراحته التي يتشاركها مع صديقه منير بعد انتهاء تدريبات اليوم.. ليطالعه منير ما ان مر من باب الاستراحة مهللا:- ايه الاخبار!؟.. خلصت التدريبات يا چنرال!؟..
اومأ ماجد هاتفا و هو يلقى بجسده المنهك على فراشه:- خلصت و هموت م الجوع..
و استطرد مؤكدا:- انا هبعت العسكرى يجيب لى شوية حاجات من الكانتين.. اجيب لك معايا!؟..

هتف منير متعجبا:- ليه!؟.. أوعى تقولى ان الأكل و الفايش اللى انت كنت جايبة ده كله م الصعيد خلص!؟.
قهقه ماجد مؤكدا:- ده خلص و اتهضم من بدرى.. و أتصرف كمان.. هم بقية الشلة بتسيب حاجة على حالها.. دى امى بتقولى انت بتأكل الكتيبة كلها يا ماجد!؟..

قهقه منير هاتفا:- ما هي متعرفش احنا هنا ف مجاعة.. ده لولا المعونات بتاعت نجع الصالح لكنا ضعنا من زمن..
قهقه ماجد مؤكدا:- و حياتك خايف اعزمكم هناك تقضوا ع الأخضر و اليابس.. و الله ابويا يتبرى منى..
انفجر منير ضاحكا:- لاااا.. بلاش خلينا عايشين ع المعونات احسن..

سأل ماجد:- هااا.. مقلتش.. اجيب لك حاجة معايا م الكانتين!؟..
هتف منير:- لا يا سيدى انا نازل إجازة و هروح لأكل امى يا عم و لا الحوجة و كمان خطيبتى و حماتى هيتوصوا بيا تمام.. جايلك يا مصر..
تنبه ماجد اخيرا لحركات منير في شرق الغرفة و غربها ليهتف
متسائلا:- اه صحيح.. ده ميعاد إجازتك.. انت لسه محددتش ميعاد فرحك امتى!؟..

هتف منير:- لا و الله يا ماجد.. اهو هشوف الإجازة دى لو الشقة تمام و مش ناقصها كتير ممكن نحدده بإذن الله.. دعواتك.. و عقبالك يا شقيق..
هتف ماجد:- ربنا يسهلهالك و عقبالى يااارب..
تململ ماجد في موضعه يتطلع لصاحبه يجمع اغراضه و على لسانه رغبة واحدة هي مفاتحته في امر الارتباط بأخته نرمين و تمهيد الطريق لطلبه مع والده حتى يتغاضى عن شرط إنهاء نرمين لدراستها قبل ارتباطهما..

اخذ يفكر و يفكر كيف يفاتحه و ما ان هم بالتحدث حتى فاجأه منير مودعا على باب الاستراحة و خرج في سرعة دون ان يتفوه ماجد بحرف..
تنهد في غيظ فقد أضاع على نفسه فرصة سانحة لمفاتحة منير في امر نرمين التي اشتاقها كثيرا و اشتاق لصوتها الشجى الذى مر وقت طويل دون ان يسمعه يداعب مسامعه..

طرقات على باب الاستراحة أخرجته من خضم خواطره.. دعى الطارق للدخول و الذى لم يكن سوى مؤمن بن عمته سمية..
هتف ماجد مرحبا:- اهلًا يا مؤمن.. اتفضل..
دخل مؤمن على استحياء هاتفا في محبة:- ازيك يا حضرة الظابط.. هتف ماجد:- احنا اتفقنا على ايه يا مؤمن.. طول ما احنا لوحدنا نادينى بأسمى عادى..
ابتسم مؤمن في تأدب و امتنان:-زى ما تحب يا واد خالى.. انى مش هعطلك عارف انك جاى تعبان..

بس جايب لك دول.. و مبروك للآنسة سندس ربنا يهنيها و باسل كمان يستاهل كل الخير..
هتف ماجد ممتنا:- الله يبارك فيك يا مؤمن.. عقبالك.. نظر ماجد مستطلعا ما كان يحمله مؤمن ليهتف في سعادة:-فايش!؟.. بن حلال و الله يا مؤمن.. ده انا كنت ميت م الجوع و لسه شوية ع العشا.. ده انت جيت ف وقتك تمام..
ابتسم مؤمن و هو يهم بالرحيل:- طب الحمد لله.. اروح انى بجى..

هتف ماجد متمسكا به:- لااا.. تروح فين!؟.. تعال بس اقعد معايا تشرب شوية شاى و ناكل الفايش ده لحد ما يجهز العشا..
ابتسم مؤمن قابلا الدعوة:- ماشى كلامك يا واد عمى..
ربت ماجد على كتف مؤمن الذى جلس في راحة يتطلع لماجد في معزة و اكبار...

تنحنح حازم و هو يطل من باب بيت عمته سهام هاتفا فى جرأة غير معتادة منه:- يا اهل الله يا اللى هنا..
تنبهت سهام من الداخل لتندفع فى سعادة مرحبة:- اهلًا.. اهلا بواد الغالى.. ادخل يا حازم.. انت محتاج عزومة ف بيت عمتك..
تنحنح حازم من جديد و هو يدخل هاتفا فى محاولة لتبرير قدومه الغير معتاد:- كنت مارر من هنا يا عمتى قلت أعدى اسلم عليكِ و على العريس بقالى مدة مشفتكوش و اعتذر له عشان مقدرتش احضر الفرح بسبب مأمورية جت فجأة..

هتفت سهام فى مودة:- يسلم لى ذوجك يا حازم يا ولدى.. انت تاجى ف اى وجت.. و احنا واعيين لظروف شغلك ربنا يكتب لك السلامة انت و اللى زيك يا غالى و بعدين ابوك و امك و هدير جاموا بالواچب و شرفونا.. فرحنا لجيتهم و تعبهم.. دايما متچمعين معانا ف الفرح يا رب.. اتفضل خش على چوه هتلاجى باسل جاعد ف الچنينة..

اندفع حازم فى سرعة يمر الردهة الطويلة المفضية للباب الاخر للدار المطل على الحديقة.. كان يمنى نفسه برؤيتها فهو بالفعل لم يرها منذ فترة طويلة.. كان يعلم ان ما يفعله لا يجوز من الاساس فهى خطيبة بن عمه الغائب.. لكنه لم يستطع ان يمنع نفسه من القدوم لرؤيتها و لو من بعيد.. شئ ما لا ارادى يدفعه دفعا ليفعل ذلك..

شئ ما يخالج دواخله و يجعله يكاد يجن ان لم يتبعه و ينفذ ما يأمره به.. و امره كان ان يأتى ليراها دون حيلة او سيطرة تذكر على ذاك الامر الناهى الذى يحتل وجدانه تماما و خاصة فيما يتعلق بها.. اقسم آلاف المرات انه لن يفعل و لم يبر بقسمه ابدا.. و كيف يفعل و ما ان يقسم ان لن يأتى حتى يستهزأ به ذاك الصوت داخله هاتفا فى سخرية.. ستذهب و انا اعلم انك ستفعل و انه لا قبل لك على الرفض..

و كان محقا فها هو الان فى قلب دارها و قد يراها ما بين لحظة و اخرى و..
تنبه فى اللحظة الاخيرة لتلك المندفعة من باب الحديقة تحمل المانجو فى سعادة كأنما تحمل هدية ثمينة يندر وجودها.. توقف و ازداد وجيب قلبه لمرأها و هى تحاول الهرب من اخيها بما تحمله من مانجات و ما يحمله محياها من شقاوة محببة و عفوية تفقده صوابه.. أصدمت به.. او بالأدق أصدمت به مانجاتها التى تحملها لتعلن احداها غضبها و تنفجر ساخطة دافعة بمحتوياتها على قميصه..

ساد الصمت للحظات ظل هو فيها لا يتنبه الا لمحياها و طلتها التى سحرته.. اما هى فشهقت لظهوره المباغت بطريقها و ازدادت شهقاتها عمقا بعد ما رأته تلك البقعة البرتقالية تظهر على قميصه جراء اندفاعها..
كان اول من قطع الصمت هو باسل هاتفا فى ترحيب:- اهلًا يا حضرة الظابط.. ايه دِه!؟.. واااه.. اجول ايه ع المخبلة دى!؟..

تنبه حازم و اندفع يلقى التحية على باسل فى مودة محاولا الاستفاقة من سحرها الذى سيطر عليه للحظات اما هى فوقفت على غير عادتها صامتة حتى هتف فيها باسل:- روحى هاتى فوطة نضيفة عشان حازم ينضف اللى على جميصه.. اچرى.. و اعملوا لنا شاى..

اومأت برأسها و اندفعت للداخل مهرولة وجيب قلبها يتخطى معدله الطبيعى بمراحل.. هى لا تعلم ماذا يحدث لها ما ان تراه او حتى يأتى ذكره مصادفة فى اى حديث عابر.. انها تموت من شعورها بالذنب تجاه حمزة ما ان يطل حازم فى الصورة.. كيف لها ان تشعر بتلك المشاعر تجاه غريب عنها و لا تشعر بالمثل تجاه من سيُصبِح زوجها عما قريب!؟.. انها تكاد تجن لما يحدث لها..

انها لا تريده ان يحدث من الاساس.. و لا تعرف كيف يمكنها إيقاف ذاك الشعور اللاارادى تجاه بن خالها زكريا.. ذاك الغريب الذى ما ظهر بعالمها الا منذ أشهر قليلة و لم تره الا عدد مرات تكاد تُعد على كف اليد الواحدة.. يا ألهى.. ماذا يحدث لى!؟.. هكذا هتفت و هى تحضر المنشفة المبللة التى طلبها اخيها و تحمل صينية عليها أكواب الشاي و طبقين من الحلوى..

و توجهت فى هدوء حيث يجلسا و وضعت الصينية امامهما و مدت كفها لحازم و همست فى نبرة اعتذار:- معلش.. مخدتش بالى من دخلتك.. اتفضل..
تناول حازم منها المنشفة هاتفا:- و لا يهمك.. محص..
و تنبه فجأة للأطباق الموضوعة امامه فتوقف عن متابعة كلامه و هتف فى سعادة و هو يلقى المنشفة جانبا و اصبح لا يعنيه ما علق بقميصه من اثار المانجو:- ايه ده.. !!.. بسبوسة.

و اندفع يتناول طبقا من على الصينية و اخذ يلتهمه فى سعادة غامرة و قد نسى تماما انها لازالت تقف امامه مشدوهة لما يفعل على غير عادته المتحفظة..
قهقه باسل فى سعادة لما رأى عليه بن خاله و الذى نادرا ما يبتسم او يعلن اعجابه بشئ ماً و هتف معلنا:- و الله و طلع لك فايدة يا تسليح.. و الباشا عچبته البسبوسة اللى بتعمليها..

زمجرت تسبيح فى ضيق لما نطق به باسل.. فتسليح هو الاسم الذى يطلقه عليها باسل رغبة فى اغاظتها فدوما ما كان يؤكد انها تتسلح بلسانها ضد هجمات الأعداء.. تمنت من صميم قلبها ان يكون حازم لم يسمعه.. لكن تلك القهقهات الغير معتادة على الإطلاق و التى شقت الطريق الى سمعها بكل سعادة لم تكن الا قهقهاته التى تسمعها للمرة الاولى.. و كم كان ذلك صعب على تحملها.. فألتقطت انفاسها فى صعوبة و هى تحاول الوقوف على قدميها متطلعة اليه لترى محياه الباسم الذى كان ظهوره مناسبة غير اعتيادية و غير مسبوقة الحدوث.

انتهى من قهقهاته المدمرة لثباتها ليهتف متسائلا:- انت بتسميها تسليح.. انت رهيب يا باسل..
ابتسم باسم و ازداد امعانا فى اغاظتها هاتفا:- هو حد بيجدر يهرب من لسانها.. تجول مدفع رشاش.. تسليح آلى يا واد خالى..
تنبهت تسبيح انها لاتزل مأخوذة بذاك المنشرح على غير العادة فهتفت محاولة مدارة اضطرابها متصنعة الحنق:- بجى كِده.. طيب.. و ادى البسبوسة.. محدش هيدوجها عشان تبجوا تتمسخروا عليا براحتكم..

همت بحمل صينية البسبوسة بما عليها من أطباق ليهتف حازم معتذراً:- خلاص.. سماح يا آنسة تسبيح.. الا البسبوسة..
فتركت الصينية موضعها و ابتسمت هاتفة:- ماااشى.. بس شوية احترام و الا هحرمكم م الميراث..
ابتسم باسل هاتفا:- خلاص يا استاذة محترمة فارجينا.. و ورينا عرض كتافك..
انسحبت تسبيح فى هدوء و هى تراه يستأذن باسل فى تأدب ليسطو على الطبق الاخر من بسبوستها فأبتسمت فى سعادة و اندفعت للمطبخ..

مر الوقت و هى تترقب رحيله.. و ما ان هم بالنهوض حتى هتفت تنادى أخاها الذى لبى فى سرعة مستفسرًا لتعطيه لفافة بها صينية بسبوسة كاملة قد جهزتها لتعطيها له عند رحيله.. تناول اخوها اللفافة و عاد لضيفه يودعه و يدفع بصينية البسبوسة بين كفيه ليهتف حازم فى تعجب:- ايه ده يا باسل!؟..
ابتسم باسل هاتفا:- البسبوسة اللى عچبتك يا سيدى.. اول ما عمتك سهام عرفت انك بتحبها حلفت ما حد ضايجها غيرك..
ابتسم حازم ممتنا و تناول اللفافة فى محبة هاتفا:- سلم لى عليها يا باسل و على عمى حسام..
هتف باسل:- يوصل يا حضرة الظابط.. شرفتنا.. و إبجى تعال مطولش الغيبة..

اومأ حازم برأسه موافقا و اتجه لعربته يفتحها و ما ان هم بإدارة محركها حتى أنجذب ناظره للأعلى بقوة لا إرادية ليراها تقف فى نافذتها المشرعة قليلا.. شعر ان البسبوسة هدية منها.. و ان عمته سهام بريئة من إدعاء إرسالها.. وكم شعر بالسعادة لهذا الخاطر و احس منذ اللحظة انه ما عاد يعشق البسبوسة فقط بل اصبح مغرما بها حد الولع حتى انه اندفع بالسيارة فى سرعة متهورة غير معتادة منه و قهقه فى فرحة جنونية و هو يتطلع الى لفافة البسبوسة هاتفا:- بسبوسة تسليح..
و عاود قهقهاته من جديد و هو يتحسس اللفافة فى محبة..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة