قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع عشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع عشر

قادته قدماه بشكل فطرى لاستراحة الاسطبلات.. حتى من دون ان ينتبه للطريق الذى قطعه سيرًا على الأقدام.. انفاسه تسبقه.. يزفرها فى غضب لا يعبر باى حال من الاحوال عن الثورة المتأججة فى شرايينه.. والتى بثت نيرانها فى روحه.. يغلى من جراءها قلبه كمرجل..
وصل اخيرا ليلقى بجسده المنهك على احد الأرائك فى انهيار كانت الايام الماضية أشبه بالجحيم مرض والده وسهره بجواره.. ومن بعدها إعدادات الزفاف المحمومة.. واخيرا تلك التى تنهكه وتستنزف مخزون روحه الطواقة لقربها..

والتى اصبحت أشبه بالسراب.. كلما تقدم منها خطوة وظن انه قاب قوسين او أدنى منها.. وانه على اعتاب نعيمها الوردى.. حتى يكتشف انها لاتزال بعيدة.. بعيدة.. بعد نجمة عالية.. لا تطولها الايدى.. الا فى الخيال..همس لنفسه متألما..
وااه يا عاصم.. مفيش امر من طعم الظلم..
وخصوصى.. ظلم الحبايب..

اللى كنت مستنيهم يبجوا دواك تريهم هم الجرح..
واللى الناس كلاتها لما تبعدك.. تلاجيهم هم اللى بيجربوك.. ويخدوك فى أحضانهم وينسوك.
مين تانى هايفضل يا عاصم بعد ظلم الحبايب.. مين..!!؟

زفر بقوة.. زفرة حارقة تحمل بعض من نيران ذاك الأتون المستعر بصدره.. وقد تنبه اخيرا.. لهذا الصوت الشجى الذى يصله.. والذى لم يعيه عندما وصل من شدة انغماسه فى شجون أفكاره.. فهمس لنفسه.. وهذا قصة اخرى.. كان يقصد زرزور بالطبع.. صاحب الناى.. الذى يعزفه الان مقلباً عليه مواجعه التى لا مهرب منها حتى هنا..اقترب فى هدوء.. من المكان الذى يختلى فيه زرزور بنفسه.. واخذ ينصت فى استحسان لذاك العزف الرائع الذى يقطر عذابا وحرمانا.. لا يع ان الذى يعزف ليس زرزور
بل قلبه الذى يئن شوقا.. لحبيبه غائبة حاضرة.. ورغبة مستحيلة التحقيق فى القرب.. ولا حيلة له الا دموع..

تخفف بعضا من أسى وقهر لا حيلة له فيهما.. سوى البكاء وحيدا بعيدا عن الاعين المتلصصة التى تأبى البكاء على الرجال ويوصمون دموعهم بالعار.. وكانهم ليسوا ببشر..و لم تخلق من اجلهم الدموع..
انتهى اخيراً زرزور من عزفه ومسح دمعه.. ونهض..
ليفاجأ بعاصم يقف مشدوها من روعة العزف التى لم يشهدها من قبل..

انتفض زرزور واضعا كفه على رأسه يربت بها عدة مرات متتالية كإشارة سلام لعاصم ويندفع لصنع الشاى كما هو معتاد عند رؤيته له..و ما ان أولاه زرزور ظهره..حتى
هتف عاصم فى تأثر :- زكرياا...

توقف زرزور فجأة متخشباً وكانما إصابته صاعقة.. لقد نسى هذا الاسم والذى لا يعلم به احد ولم يناديه به احد.. واستدار فى بطء.. ليطالع عاصم الذى كان يقف فى انتظاره فاتح ذراعيه فى ترحاب.. ليندفع اليه كالسهم ملقيا بنفسه بين احضانه مقبلا كتفه.. وهو يجهش بالبكاء أحاطه عاصم بذراعيه.. رابتاً على كتفه فى قوة.. وهو يهتف بصوت غلبه التأثر.. محاولا مداراته فى المزاح :- واااه.. بجى كده.. فى رجالة بتبكى.. وتنهنه كمان..

ولم يتوقف زكريا عن شهقاته وكانما اكثر من عشرين عاماً من الظلم والدونية قد استيقظت فجأة واندفعت كسيل من دموع عينيه...
ربت عاصم من جديد على كتفه وهو يقول بصوت يأتى من اعماق روحه الموجوعة.. :- ابكى يا واد عمى.. ابكى.. الظلم صعيب جووووى.. ولما يجيلك من اجرب ما ليك.. بيبجى وچعه واااعر.. كن سكينة انغرست بجلبك وانت ما جادر تجول آه...
وكانما يذكر عاصم نفسه بظلمها... ظلمها الذى تآن له روحه حد العذاب.. الظلم الذى بدأ هو اول حلقاته.. لتدور عليه الدوائر..فيصبح هو المظلوم..لا الظالم..
ظلم يدفع ثمنه الان غالياً...

بعد لحظات.. ابتعد زكريا عن كتف عاصم.. ينظر اليه متسائلا وببعض إشارات استفسر كيف عرف عن اسمه
وحكايته.. فاجاب عاصم :- أبوى جالى على كل حاچة.. وسلمنى الاوراج اللى تثبت انك واد عمى غسان.. وربت عاصم على كتف زكريا مطمئناً.. متجلجش والله لأچيبلك حجك.. ولو ده اخر يوم فى عمرى..

انحنى زكريا محاولا تقبل يد عاصم الذى سحبها مستغفراً وقال فى تأكيد:- ده حجك..نستنوا بس لحد بعد فرح سهام هنا اخفض زكريا نظراته متألما عند ذكرها.. ليستطرد عاصم ولم ينتبه.. هجمع الهوارية كلهم وأخوك سليم..
وجدامهم هعلن انك واد عمى غسان واللى حيلته كلمة يجولها ويورينى كيف هايجف جصادى..!

رفع زكريا يديه علامة الدعاء لعاصم وهم بالاندفاع لصنع الشاى.. لكن عاصم استوقفه معاتباً.:- لاه.. خلاص خلصت الشغلانة دى.. انت هنا واد عمى.. وهاتجعد معاى ونشرب الشاى سوا.. بس مش انت اللى هاتعمله هنده على الواد عوّاد يسويلنا كبايتين.. تعال.. اجعد چارى..
وسحب عاصم.. زكريا من يده مبهوتا ليجلسه على احدى الأرائك بجواره وهو لا يصدق ان حقه سيعود له اخيراً حقه الذى فقد الامل فى عودته.. منذ امد بعيد..

كان العمل فى السراىّ.. على قدم وساق منذ السادسة صباحا تحضيرات الطعام والمشروبات.. وأماكن مجالس الرجال..
وعقد القران.. وتحضيرات العروس التى قرر حسام احضار اصحاب الخبرة فى عالم الزينة حتى باب غرفتها..ووقفت زهرة بجوارها حتى اتمت زينتها على اكمل وجة ترتضيه.. وقد اصبحت رائعة بمعنى الكلمة..
لتهتف زهرة فى مرح تحاول اصطناعه :- يا بختك يا حسام يا بن عمى..

لتبتسم سهام فى خجل.. ولم تدرك تلك النبرة المؤلمة التى غلفت كلمات زهرة والتى أرهقها البكاء ومزقها القهر ليلاً كاملاً بعد ان رحل وتركها تلعق جراحها وحيدة بدون حتى تبرير واحد ينفى به فعلته.. او يشرح به أسباب إخفاءه عنها ما اكتشفته.. او.. حتى.. يخبرها ولو كذباً.. انه احبها قبل ان يعلم الحقيقة.. وانه يحبها..

سواء كانت ابنة خالته.. او لم تكن.. لكنه لم يقل ولم يفعل ما ينفى أقوالها ويضحد شكوكها وطنونها... ان جرحها منه اصابها فى مقتل.. وهى الحمقاء التى كانت على استعداد لتكون امرأته.. قلبا وقالبا..

واعترفت لنفسها... انها حقا تعشقه.. ولكن ماذا بعد الاعتراف..!!؟.. وماذا بعد المصارحة..!؟.. هل تستطيع ان تكذب روحها التى تئن وجعا لمجرد مطالعة محياه الذى اصبح موشوما بجدرانها..وصوته الذى تغلغل فى أعماقها مقرونا بكل نبضة من نبضات ذاك القلب الذى يحتضر شوقا وعشقا.. وعقل لا يعلم.. هل يتألم ام يتحسر على عدم الاستماع لنصائحه..فيقف حائرا.. خائرا... لا يجد سبيلا للخلاص..

انتفضت.. عندما وصل الى مسامعها صوته وهو يهتف بالأسفل مؤكداً ان كل شئ على ما يرام.. وانه بدأ توافد الرجال والعريس فى طريقه للسراىّ وانهم فى انتظار المأذون..
دقات على باب الحجرة جعلتها تجفل.. فهى تعلم انها طرقاته التى اعتادتها كدقات قلبها على باب صدرها..

وما ان سُمح له بالدخول.. حتى دخل فى هدوء يتطلع لسهام التى اصبحت فى كامل زينتها.. تقدم اليها فى بطء متطلع الى تلك الجميلة التى كانت منذ أعوام تصرخ طالبة منه ان يحملها على كتفيه.. وتتدلل ليحضر لها ما تشتهيه..

انها الان عروس جميلة.. بل فائقة الجمال.. ستغادرهم بعد ساعات قليلة.. لبيت زوجها.. ولن تعود هنا.. مرة اخرى الا كضيفة لن تطالعه ملامحها المحببة.كل صباح على مائدة الافطار ولن تشاكسه بمداعباتها طوال النهار..

ولن تصبح مسؤولة منه فسوف يسلم مسؤولية راحتها ودلالها لزمام رجل اخر يتمنى ان يصونها وتنعم فى كنفه بالامن والسكينة و المودة والرحمة...
لم يستطع ان يتفوه بكلمة وهو يقف أمامها الان.. انحنى يقبل جبينها فى محبة حقيقية.. ويقول بصوت متحشرج يغلبه التأثر..:- مبروك..

ترقرقت الدموع فى عينى سهام.. فشعر بها فهتف فى بهجة مشاكسا إياها :- لااااه.. فى عرضك.. هتبكى وتبوظى الحاجات اللى حطوهالك على وشك دى واللى دافع فيها عريسك دم جلبه.. حرااام.. يجول مسلمينله عفريتة سهام انفجرت سهام ضاحكة فابتسم بدوره.. هاتفاً:- ايوه كده رب يخليكى.. خلى الليلة تعدى على خير..

واستدار مغادرا.. لتقع عيناه على زهرة.. التى كانت تنكمش فى احد أركان الغرفة.. تتابع المشهد من بعيد حمل نفسه ونظراته بعيدا عنها واندفع خارجا..لتلحق به فى عزم لتخبره بما قررت..
دخل غرفتهما ليبدل ثيابه فتبعته هاتفة وهى تغلق باب الغرفة خلفها:- انا هبات الليلة مع ندى اختى.. عند عمى قدرى.. قالت فى لهجة مترقبة لرفضه.. ولكن لدهشتها قال بلهجة باردة وهو يخرج ملابسه من خزانة الملابس..

-وماله.. حجك.. بجالك شهور مشفتيش اختك.. ولا ابوكى.. ولو تحبى.. جبيها هنا.. واهى أوضة سهام ها تفضى الليلة..
-لا.. قالت فى عزم.. انا كمان عايزة اقعد مع بابا فى حاجات كتير عايزة توضيح منه..
اجاب بنفس اللهجة الباردة :- وماله..ولو تحبى... أوصلك لحد عنديهم...
سألت فى تعجب :- يعنى انت موافق..!؟..

-وااه.. همنعك عن اهلك..!؟.. طبعا موافج.. و دى عايزة كلام.. نظر بابتسامة مبهمة على جانب شفتيه..
-اصل انا لازم اقعد مع.. قالت تحاول التبرير.. وتتعجب من نفسها لما تبرر.. فقاطعها هو قائلا بلامبالاة:- مفيش داعى تبررى..انت تروحى وجت ما انت عايزة..
-يعنى عادى اروح..!؟.. سألت بتعجب ودهشة من موافقته السريعة وعدم رفضه..
لينفجر ضاحكا فى سخرية :- وااه.. هو انا بتكلم فرنساوي..جلنا روحى..

وتركها فى حيرتها.. وحمل ملابسه للحمام ليستعد لعقد القران.. وقفت فى منتصف الغرفة.. تضرب أخماسا فى اسداسا.. لا تعرف.. ما سر ذلك البرود الذى يحدثها به..
وما السبب وراء موافقته السريعة وعدم رفضه لأبتعادها عنه كما كان يحدث فى السابق عندما كان يتحجج لتكون دوما بقربه.. هل يمكن ان يكون كف عن محاولاته
لارضاءها بعد ان اكتشفت علاقة الدم التى تربطهما..!؟..

ام ان.. ما سمعه منها البارحة جعله يعيد حساباته لتكون هى خارج تلك الحسابات.. !؟..
لم تعد تدرى ما يحدث.. حتى انها صرخت فى نفسها معاتبة.. أليس انت من أراد الابتعاد.. !!؟.. وتشعرين بأنك غير مرحب بك كواحدة من التهامية.. لكن مرحب فقط بكونك تحملين الدم الهوارى.. اذن لما تشتكين الان !؟

وأين هى المشكلة..!؟؟.. اتدرين..؟!!.. انت هى المشكلة..
عند هذه النقطة.. اندفعت فى غضب.. لتغلق الباب خلفها بعنف.. فى نفس اللحظة التى خرج هو فيها من الحمام..
وعلى شفتيه نفس الابتسامة المبهمة..

ارتفعت الزغاريد معلنة وصول العريس واهله.. لتدخل ندى لداخل السراىّ منضمة للنساء واللائي اشتعلت قاعتهم بالزغاريد والرقص..
حتى تحضر العروس..
اخذ عاصم بيد المأذون والعريس والشهود مستأذناً الجمع ليصعد لعقد القران..
استأذن الرجال للدخول.. فصمت كل من بالقاعة من نساء حتى مروا فى سرعة لاعلى..
طرق عاصم على باب غرفة ابيه ودخل ليهتف الحاج مهران :- برضك عملت اللى فى رأسك يا عاصم..

هتف عاصم فى فخر :- وااه.. ابوا العروسة منور الدنيا.. وانا ابجى وكيلها.. دى لا عشت ولا كنت.. انت وكيل العروسة يا حاچ.. ويديك طولة العمر وتشيل عيال عيالها..
وانا هبجى شاهد على العقد انا والحاج جدرى ابو العريس تمام كده.. !؟؟..
ابتسم الحاج مهران فى حبور :- تمام..

جلس المأذون مسميا بالله.. ومصليا على رسوله.. ووضع الحاج مهران يده فى يد حسام.. وبدأت مراسم عقد القران وما ان انتهت.. حتى قال الحاج مهران والدمع يترقرق فى مقلتيه:- خلى بالك منها يا حسام.. انا مديلك حتة من جلبى..
ابتسم حسام.. وانحنى يقبل كف حماه فى تقدير قائلا :- دى فى عينى يا عمى..
اندفع عاصم ليطرق باب العروس مهللا..:- مبروك.. كتبنا الكتاب..

لتشتعل الغرفة زغاريدا.. لتقابلها زغاريد انطلقت من القاعة النسائية بالأسفل عندما وعت النساء الإشارة..
امسك عاصم كف اخته التى كانت ترتجف فى خوف..
وفى نفس الوقت تجتاحها الفرحة فى تضارب عجيب من المشاعر التى لا يسهل وصفها..ضم كفها فى حنان..
مطمئناً وهو يسير بها لغرفة ابيها..

افسح الجميع الطريق للعروس.. التى تقدمت لأبيها فى وجل لا تستطيع ان ترفع نظراتها لتقابله حتى لا تنفجر باكية وترفض المغادرة بعيدا عن احضانه..
مد الحاج مهران اليها كفه والتى وضعت كفها الباردة المرتعشة فى أحضانها.. ليجذبها اليه مقبلا جبينها..
وطفقت عيناه بالدموع.. ولم يستطع ان يتفوه بحرف واحد بل أشار لعاصم الذى وعى الإشارة.. ليهتف مهللا فى فرح
-الناس كلها منتظرة العرسان تحت.. يا الله يا چماعة..

ومد كفه يسحب اخته المتسمرة بجوار فراش ابيها وكأنها تأبى المغادرة.. ويسلم كفها لكف زوجها والذى التقطه فى سعادة جاذباً إياها خارج الغرفة.. والكل خلفهما..
ما عدا عاصم الذى انتظر حتى خرج الجميع.. لينحنى يقبل جبين ابيه رابتاً على كفه ويخرج فى أعقابهم..
وقد اشتعل صحن الدار بالزغاريد عندما هل العريس مصطحبا العروس يهبطان الدرج.. حتى سلمها للنساء واولهم امها الحاجة فضيلة التى كانت تغالبها الدموع.. فتقهرها مبتسمة..

ويخرج العريس ليحيى جمع الرجال وينال مباركتهم بعد عقد القران.. وتمتد الموائد.. ويبدأ الاحتفال الفعلى..
ظهر سلطان يمتطيه عاصم فى عزة.. وبدأ الطرق على الطبول والنفخ فى المزامير.. ليبدأ سلطان فى التمايل طرباً وعاصم على صهوته موجهاً.. اشتعلت الدائرة المحيطة بالفرس الراقص تهليلاً وحبوراً بمهارات سلطان الذى انتشى من صوت المزامير ليقدم افضل عروضه الراقصة على الإطلاق.. كان عاصم يتمايل مع فرسه فى رشاقة منقطعة النظير وشعر فجأة بإحساس مبهم بالمراقبة فتطلع لا ارادياً للأعلى حيث شرفة حجرته.. ليجدها تقف مع اختها التى يبدو عليها الحماسة يشاهدان العرض الراقص..

تعلقت عيناه بها.. وتذكر ان هذه قد تكون المرة الاخيرة التى يراها فيها تطل من تلك الشرفة.. فهى الليلة ستغادر السراىّ وقد لا تعود.. عندما وصل لهذا الخاطر فقد رغبته فى الاستمرار بتقديم عرضه.. لينسحب هو وسلطان.. والذى كان معترضاً على إنهاء العرض ويرغب فى المواصلة..

عندما عاد ليجلس وسط الرجال لاحظ انها اختفت من على الشرفة.. فجلس ساهماً لا يدرك الصخب الدائر حوله.. فصخب أفكاره كان يحاصره..وفوضى مشاعره كانت تدميه
ولم يخرجه من تلك الدوامة الا جذب احد الرجال له.. ليجد نفسه فى وسط دائرة مدعواً للتحطيب بالعصا.. ليبدأ تهليل الرجال دعماً له.. للغول.. الذى بدأ فى هزيمة الرجال احدهما تلو الاخر.. ليشتعل الصخب نشوة راغباً فى المزيد حتى اندفع حسام طالباً المبارزة..

لينتفض الجمع مهللاً ويبدأ كلاهما فى التلويح بعصاه وقرع كلتاهما بصوت مزلزل.. حتى أعلن كل منهما فى نفس اللحظة بلا اتفاق ترك عصاه محبة فى الطرف الاخر.. ليهلل الجمع.. ويحتضن كل منهما الاخر فى سعادة..

انتصف الليل..وبدأت الطلقات النارية.. والتى بدأ اطلاقها منذ الصباح.. فى الوصول لذروتها عندما أعلن العريس رغبته فى اصطحاب عروسه لعشهما السعيد لتشتعل حمى الزغاريد والطبول حد اللامعقول عند وصول العروس للخارج ليأخذها العريس داخل عربتهما..
ويخرج الجميع خلفهما بالسيارات مهللين...

حتى زهرة ذهبت فى سيارة نبيل.. بصحبة ابيها وندى وعمها قدرى دون أدنى اعتراض منه.. حتى انها ألقت بنظرة جانبية اليه.. تنتظر اعتراضه.. لكنه حتى لم يأبه بها
ولا نظر يبحث عنها كعادته..بل كان منشغلا بأمه التى غلبتها دموعها اخيرا.. فاخذت تبكى.. عندما رحلت سهام مع عريسها.. فى سيارتهما المزينة..

ظلت نظراتها معلقة به.. حتى غاب طيفه عنها بابتعاد السيارة وخروجها عن أسوار السراىّ.. والتى لا تعلم هل ستعود اليها من جديد.. ام لا..و قد جذب انتباهها فى تلك اللحظة طيف ذَاك الشخص على اطراف تلك الاسوار العتيقة.. وبالتحديد.. عند تلك الحجرة المتطرفة فى اخرها.. يبكى فى لوعة.. حبيبة راحلة.. وقلب ممزق.. وحق عائد فى الوقت الضائع..

اندفعت ندى فى احضان اختها على الفراش الوثير فى تلك الحجرة التى خصصها عمهم قدرى لتبيت فيها ندى منذ وصولها انها نفس الحجرة التى باتت فيها زهرة ليلة عقد قرانها على عاصم ليلة ان عزمت على جعله يدفع ثمن إجباره إياها على الزواج منه بهذا الشكل وإذلال اَهلها امام عينيها.. ولكن هل استطاعت تنفيذ ما عزمت عليه..!؟

أخرجتها ندى من شرودها.. هامسة فى أحضانها بلقبها الذى افتقدته وأصبح غريبا على مسامعها :- روزى.. ايه رأيك فى بن عمك نبيل..!؟.. ولم تنتظر منها الإجابة لتستطرد..
تصورى يطّلع الدكتور بتاعى فى الجامعة.. وانا وهو منعرفش اننا ولاد عم... !!؟..
همست زهرة فى شرود:- هى دى ضريبة الانتقام الأعمى..
لازم الكل يدفعها.. وكنت انا اولكم..

نهضت ندى فى شقاوة جالسة وهى تقول فى مرح وكأنها لم تسمع تعليق اختها :- قوليلى بقى..!؟.. عاملة ايه مع جوزك ده..!!؟.. شكله كده.. وأخذت تبحث عن كلمة مناسبة.. وهى تحرك كفها.. وحدقتيها لاعلى فى وضع التفكير لإيجاد اللقب المناسب.. لكنها لم تجد.. لتبتسم زهرة لأول مرة هذا المساء لتساعدها فى إيجاد الوصف الذى تبحث عنه.. هامسة :- غول ملوش قلب..

لكن ندى هتفت فى نفس اللحظة فلم تسمعها..:- اه.. له هيبة كده.. تخليكى تخافى تقربى منه وتعمليله الف حساب.. انت بتتعملى معاه ازاى ده..؟!!..
ضحكت زهرة لسؤال اختها الساخر ولم تخبرها بطبيعة الحال انها الوحيدة التى استطاعت ترويض الوحش..او كانت تظن ذلك.. حتى اكتشفت انه لم يُروض بعد..
بل.. ان هوسه بأصوله وعراقة دماءه والذى اكتشف انها تجرى بعروقها.. هو الذى دفعه ليعلن الهدنة فى حربه معها.. وهى التى اعتقدت انه رفع رايات السلام الابدى لتسلمه قلبها بسذاجتها المعتادة.

-بس تعرفى يا زهرة..!؟؟... انتبهت زهرة لسؤال اختها..
واضح انه بيحبك.. لتنتفض عندما وصل الكلام لتلك النقطة وهى تنظر لأختها بتعجب متسائلة:- وانت عرفتى ازاى..!؟
ابتسمت ندى فى تفاخر :- انا ليا نظرتى.. لو شفتيه وهو بيبص عليكى من الشباك الاربيسك وانت بترقصى امبارح فى حنة اخته.. مكنتيش...
قاطعتها زهرة منتفضة و.. معتدلة فى جلستها.. وهى تسألها من جديد:- بتقولى شافنى فين..!؟..

اعادت ندى كلماتها بتفصيل اكثر:- انا كنت داخلة السرايا عشان اوصل للقاعة اللى الستات مجتمعين فيها.. لقيته واقف..طبعا مخدش باله منى.. بس انا شفته وهو بيبص عليكى من شباك ارابيسك بيطل على القاعة اللى كونتوا فيها كان كل لمحة من تعبيرات وشه بتقول انه بيعشقك يا بنتى..
هتفت زهرة فى سخرية.. تدارى وجيب قلبها واضطرابها الذى دفع الدماء الحارة لوجنتيها :- طب نامى يا اختى.. بقيتى خبيرة فجأة.. والله ما انتى فاهمة حاجة..
لتنفجر ندى ضاحكة..:- انا اللى مش فاهمة حاجة.. بكرة تقولى ندى كان عندها حق..

لتستطرد مشاكسة.. يا الله بقى خدينى فى حضنك زى زمان.. فتحت زهرة أحضانها لأختها تستقبلها بشوق حقيقى... والتى راحت بسرعة كعادتها فى سبات عميق.. ابتسمت زهرة وهمست.. صحيح ما ينام الا خالى البال..

اما بالها هى وخواطرها ولبها وقلبها فكلها تلقائيا تتوجه لشخص واحد فقط.. ذاك القاسى الحانى.. الذى تعترف انها تفتقده بشدة..نهضت ببطء حتى لا تقلق نوم اختها تجيل بنظراتها بجدران الغرفة التى شهدت دموعها وعزمها ليلة زفافها وشاركتها قسمها فى الانتقام منه لما حل بها وتذكرت ذاك الفستان الاسطورى الذى جاءت به سهام.. كيف بكت يومها.. لانها تمنت ان ترتديه لحبيبها ذاك الرجل الذى يختطف قلبها..

فها هو قد اضحى ذاك الحبيب و لكن ماذا بعد..!!؟.. هى من ابتعد.. ابتعدت كى تجمع شتات روحها الممزقة بين كرامتها وكبرياءها وإحساسها بالم الخديعة التى عاشتها معه.. وبين تلك الرغبة التى تشتعل فى قلبها تدفعها للغفران والصفح وبداية صفحة جديدة..

صفحة نقية بلا اى احقاد او أسرارمن الماضى تعكر صفوهم.. وتذكرت تلك اللحظات التى قضتها معه على صهوة فرسه.. والتى كانت فيها اقرب من قلبه اليه..والتى شعرت فيها بصدق مشاعره.. وتذكرت امنيتهما المشتركة فى الحياة على صهوة الفرس دون الحاجة للعودة للأرض من جديد.. وكأن كل منهما كان يدرك.. ان عودتهما لارض الواقع ستفرقهما حتما فحاولا التشبث بلحظات مرت كالحلم.

وها هى الان امام المرأة تتطلع لصورتها وكأنها تحيى تلك الصورة القديمة لها..و التى وقفت تتبخترأمامها يوما فى ثوب زفافها والذى ارتدته له بكل كره وإكراه
وها هى الان تقف أمامها مرة الاخرى.. لا ترتدى ذاك الثوب مكرهة..بل هى بعيدة عن عينيه مكرهة.. نظرت لتكتشف ان ما تغير فى الحالتين ليس وجود الثوب من عدمه.. لكن الذى اختلف شئ أخر تماماً.. ورفعت ذراعها لتضع كفها على قلبها الموجوع شوقا له.. هذا هو ما تغير.. قلبها..

تنهد حسام فى نفاذ صبر وهو يلتقط انفاسه ملقيا بجسده المنهك على احد المقاعد فى جانب الغرفة التى تجمعه بعروسه والتى تقف الان فوق الفراش بثوب زفافهما الذى تحمل أطرافه بيدها متحفزة ليهتف هو متحسرا... وهو ينظر اليها وهى متنمرة بهذا الشكل :- والنبى أنا لو اعرف ان الچواز كده.. ما كنت اتچوزت..

لتهتف هى فى حنق مصطنع :- يا سلاااام..
-يا بت الناس.. ما انا لوعارف انى داخل اخد بطولة فى الچرى مسافات طويلة كنت اتمرنت الاول على الأجل.. مش تخدينى على خوانة كده.. وانا لساتنى جرحى تعبان.. وانتِ لففتنى وراكى الاوضة چرى.. ياجى عشر مرات...
لتنفجر هى ضاحكة مخرجة له لسانها فى مشاكسة وهى تقول..:- احسن..
ليهتف هو متوعداً :- طب والله لأجول لاخوكى..

نزلت من على الفراش فى توجس وهى تقترب متسائلة :-هتجول لأخويا أيه..!!؟..
هتف متصنعاً الحنق :- هجوله اختك مبتسمعش كلام چوزها
لتقترب منه فى حذّر.. هامسة :- وأهون عليك يا حسام..!!؟
ليهتف متصنعاً الجد :- اه.. تهونى.. ما انا هونت عليكى اها.. وانا تعبان.. وحاسس ان جرحى أتفتح..
اندفعت فى لوعة تجاهه هاتفة :- صح..!!.. جرحك أتفتح.!؟

ليظفر بها اخيراً جاذباً إياها لتسقط على حجره.. فيهتف بنشوة المنتصر وهو ينفجر ضاحكا :- كده.. نبجى خالصين حاولت الافلات من يده.. لكنه احكم احتضان خصرها وهو يهمس قائلا فى جدية :- سهام..!!
استكانت فى ثوان وهى تنظر اليه فى تساؤل فرضه نبرة صوته ليكمل هو :- انتِ فاكرة صوح انى ممكن اشكيكى لاخوكى..!؟.. لم ترد.. ليكمل هو.. ولا عمره هيحُصل
انتى بجيتى مرتى.. ويوم متزعلينى..

فهتفت هى فى عشق مقاطعةً..مش هايحُصل..
ليبتسم هو مستطردا فى شوق.. هشتكيكى لسهام.. عندما سمعت اسمها من بين شفتيه بهذا الشوق واللهفة..نظرت الى عينيه بعيون دامعة فرحا.. ليهمس بصدق وهو يقربها لاحضانه.:- بحبك يا مجنونة..

خرج من غرفة ابيه بعد ان اطمأن عليه.. وظلت الحاجة فضيلة بقربه دافعة إياه خارج الغرفة ليستريح قليلا فى غرفته بعد ذاك العناء الذى لاقاه فى الايام الماضية.. لم تكن تعلم انه احوج ما يكون الان للبقاء بقرب ابيه.. مبتعدا قدر الإمكان عن غرفته الباردة الخالية منها والتى اصبحت ببرودة القطب الشمالي..

عندما ادار مقبضها شعر بخواء غريب يتملكه.. دخل وجالت أنظاره بجوانبها وكأنه يتعرف عليها للمرة الاولى.. واخيرا سقطت عيناه على اريكتها.. تلك الأريكة التى اقسم ذات يوم ان يحرقها حتى لا تجد ملتجأ.. تلجأ اليه الا فراشه.. الان يعتذر لاريكتها اعتذارا صامتا... وكل همه هو وجودها بمحيطه حتى ولو على تلك الأريكة البائسة التى يمقتها.. تنهد فى حسرة.. وجذب عينيه بعيدا عنها.. واتجه ليحضر ملابس نظيفة..

فربما حماما ساخن يعيد له هدوء نفسه وصفاء باله..هو يعلم ان ذلك لن يحدث وهى بعيدة.. لكن.. هو يمنى نفسه.. بان إرهاق الايام الماضية.. كفيل بجعله يغوص فى نوم عميق دون جهد يذكر..فتح خزانة الملابس وهو شارد.. وتنبه انه فتح الجانب الخطأ... انه جانبها.. هل اخطأ حقا.. ام انه أراد التطلع الى اى شئ يتعلق بها.. يذكره بأنها الحاضرة الغائبة.. الحاضرة بقلبه وعقله والمتعلقة بتلابيب روحه... والغائبة عن محيطه بمحياها الذى يفتقده كثيرا..

كافتقاده ملامح روحه.. طالعه ثوب الزفاف الذى أنتقاه خصيصا لها... فقد ظل طوال نهاريوم عرسهما يبحث عن ثوب يناسب عنفوانها وروحها المتمردة وعيونها النارية النظرات حتى وجده أخيرا... وأخذ يتخيلها وهى ترتديه... لكن الحقيقة.. كانت أروع آلاف المرات.. فعندما رأها وهى تتعلق بيد ابيها وهى تخطر به فى ليلة زفافهما... لا يعلم لماذا زاد وجيب قلبه.. وشعر بشئ غريب يتسلل.

إلى روحه.. شئ لم يستطع ان يجد له تفسراً... وكأن..
يد رحيمة. كانت تهدهد فؤاده وتواسى روحه القلقة.. وتبعث أملاً... ظن منذ زمن.. أنه ولى بلا رجعة...
أقترب من الثوب يتحسسه.. ويمرر أصابعه على مخمله..
يغبطه... بل يمقته.. لأنه لامسها.. كان قريب منها دونه.. قماشه الحريرى كان يحنو على بشرتها العاجية..
وهو مطرود من فردوسها ولا امل فى مغفرة تعيده... أحتضن الثوب بين ذراعيه متخيلاً انها لازالت ترتديه.. فتسربت رائحة جسدها المعطر لأنفاسه جعلته يثمل بغير شراب..

يا الله.. هتف متضرعاً وهو يعيد الثوب لمشجبه...
وهو يعترف الف الف اعتراف... انه بحق يعشقها..
وسيفعل اى شئ.. اى كان.. حتى يستعيدها مرة اخرى لاحضانه وساعتها.. لن يدعها تبتعد ابدا مهما حدث..
تمدد على فراشه.. يتطلع لسقف الغرفة متنهداً فى يأس
وأغمض عينيه يتذكر محياها...

لا يعرف متى غفل وزار النوم جفونه مترفقا مشفقا.. كل ما تذكره.. انه رأها هناك تدعوه لفردوسها.. وكلما اقترب يرتشف من نبعه الرقراق.. يكتشف انه سراب..
انتفض مذعورا.. يتلفت حوله.. مسح وجهه بكفيه يدعو نفسه لطرد النعاس..عندما انطلقت الزغاريد من جديد فى أنحاء السراىّ.. جعلته يستيقظ كليا.. فنهض فى تثاقل متوجها لخارج الغرفة ينظر لاعلى الدرج ليجد النسوة مجتمعات.. لتجهيز فطار العروس.. والذهاب به لبيت زوجها.. ابتسم فى حبور..

وهبط الدرج فى تؤدة.. يفرك رأسه.. ويلقى بجسده على اول أريكة مقابلة لمجلس الحاجة فضيلة التى ابتسمت له :- نوم العوافى يا حبيبى..
رد مبتسما:- يعافيكى يا حاجة.. ويسلمك.. حضرتوا فطور العرايس.. !!؟.. ويشير لتلك الصوانى التى تحملها النساء
أومأت الحاجة فضيلة فى فخر :- اومال ايه..!؟.. فطور ملوكى.. يليج ببت الحاج مهران الهوارى.. وأخوها زينة الشباب..

انفجر عاصم ضاحكا :- ماااشى يا حاجة.. هنا وشفا على اللى هايكله.. مطرح ما يسرى يمرى.. خلى العرايس يتهنوا
سألت الحاجة فضيلة وقد تغيرت ملامح وجهها:- وانت يا عاصم.. ميتا تتهنى..!!؟...
لم يجب عاصم على سؤال امه.. الذى لا يعلم له جوابا..
وانتفض مبتعدا تتبعه نظراتها المتحسرة حتى وصل لباب السراىّ.. ينادى سعيد.. الذى حضر فى لمح البصر كعادته..:- امرك يا عاصم بيه..

أمره مشددا:- تفوت على بيوت مشايخ الهوارية.. بيت بيت
وتبلغهم يجمعوا كلهم عندى فى الاستراحة.. اها لحجناهم جبل ما حد يجول عندى مُصلحة ولا حاچة.. جلهم ضرورى وأوعى حد ميچيش.. وأخربيت تفوت عليه بيت عمى غسان..تاكد على سليم انه ياچى مهما كان وراه.. حاكم انا عارفة..
وجوله الموضوع يخصه.. ومينفعش ميبجاش موچود..
تمام... يا الله هم عشان تلحج..

اندفع سعيد منفذاً الامر بسرعة البرق.. وعاد عاصم لداخل السراىّ.. يجلس على مائدة الافطار التى أعدوها للتو..
-لساتك عايز تفتح الموضوع بتاع واد عمك مع الهوارية.!؟.
- وااه.. ده حج يا حاچة..

-ربنا يجيب العواجب سليمة.. رددت فى همس.. ولم يعقب هو.. بل تناول إفطاره فى عجاله.. يتجنب النظر لعينى امه التى كانت تحاصره تثبر أغوار نفسه.. وما ان انتهى.. حتى نهض فى عجالة يعتلى الدرج وهو يقول لها :- خليكى چاهزة يا حاچة على المغرب كده.. عشان نروح ننجط سهام ونباركولها.. فهزت هى رأسها موافقة ولم تزد حرفا..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة