قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن عشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن عشر

استيقظت ندى باكرا على غير عادتها.. ولم تشعر برغبة فى العودة للنوم من جديد.. فخرجت للحديقة المحيطة بدار عمها تستنشق نسمات الصباح البكر المحملة بالهواء النقى..
والذى ملأت به رئتيها.. تمشت قليلا.. لتفاجأ به يجلس فى أريحية على احد المقاعد الجانبية.. أسفل احدى أشجار المانجو الوارفة.. ونظارته الطبية تصنع اطارا قيما للوحة عينيه العميقة بلون العسل المذاب.. رفع تلك العيون لها الان فجفلت للحظات.. ثم ابتسمت :- صباح الخير..دكتور نبيل.

ابتسم ببشاشة معتادة :- صباح النور.. مكنتش أتوقع انك من اللى بيحبوا يصحوا بدرى..!!؟..
ابتسمت بإحراج :- بصراحة.. انا فعلا مبحبش الصحيان بدرى.. بس الجو هنا يرغمك.. انك متفوتش الصبح الرائع ده ومتستمتعش بيه..
-عجبتك بلدنا..!؟.. سأل فى مرح..
اجابت عاقدة ما بين حاجبيها :- على فكرة.. دى بلدى انا كمان..
ابتسم مبتهجا لأجابتها :- انتِ صح..

ابتسمت فى خجل ولم تعقب.. فاستطرد هو فى تساؤل..وهو يرى من على بعد.. خيال زهرة.. وهى تتوجه للجانب الاخر من الحديقة.. ويتبعها عمه بعدها بلحظات:- عجيبة.. !!؟..
تعقبت نظراته حتى انتبهت لخيال زهرة ووجهتها لتسأله :- ايه هو اللى عجيب..!!؟..

شرد قليلا وكانما يفكر بكلماته :- انتِ وزهرة.. أختين.. لكنكم مختلفين فى كل حاجة تقريبا.. انتوا حتى مش شبه بعض..
امتعضت وكانما شعرت ان الحوار ينحى باتجاه هى تعلم انه لن يرضيها لكن مع ذلك فضولها دفعها لتسأل :- قصدك ايه!؟.. مش شرط كل الأخوات يكونوا شبه بعض فى الملامح.. ولا حتى فى الطباع..

هز راْسه متفهما :- صحيح.. لكن على الاقل.. الأساسيات اللى أتربوا عليها واحدة.. القواعد.. النظرة للامور.. عادة واحدة.. و ده بصراحة مش شايفه معاكم...
احتدت الان وهى تقول :- لو قصدك تقول على طريقة اللبس وأسلوب التعامل.. فدى حاجة شخصية.. وقاطعها هو فى هدوء :- مقصدتش ابدا المقارنة على فكرة.. وانا يمكن وضحت فى موقف سابق.. ان دى حرية.. انا بس بسأل يا ترى.. ايه السبب فى الاختلاف ده..!!.. مش اكتر..

لم تكن لتستطع ابدا ان تعترف ان سبب هذا الاختلاف هو امها التى كانت تدفعها دفعا للتحرر والانغماس فى مجتمع الشباب.. ولم تكن تكترث لزهرة او توجهاتها.. التى دفعتها لارتداء الحجاب.. والاحتشام الذى لاقى من أبيهما فرحة غامرة.. لطالما كانت زهرة.. هى حبيبة ابيها والمفضلة عنده.. وهى كانت حبيبة امها والمفضلة لديها..

مما جعل البيت دوما فى حالة انقسام لفريقين.. وجعلها مسيرة فى صف امها.. ومتبعة لتعليماتها.. والتى كانت تحاول بشتى الطرق ان تبعدها عن أفكار زهرة و تأثيرها على حياتها شعر نبيل بحيرتها وشرودها.. فاشفق عليها من تلك الدوامة التى شعر انه السبب فى زجها بداخلها.. فقال بمرح يجتذبها للحديث من جديد :- يا الله زمانهم حضروا الفطار.. وبصراحة انا جعان جدااا..

ابتسمت وقد شعرت.. انه يغير دفة الحديث لارضاءها فأومأت فى رضا.. وتبعته لداخل الدار..
ربت عاصم على كتف زكريا فى محبة.. وهو داخل غرفة الاستراحة على اطراف إسطبلات الخيل.. هامسا فى ثقة :-
خليك هنا.. وأول ما انده لك تاچى.. جبل كده ما تظهرش تمام..!؟

أومأ زكريا موافقا.. وقد غابت عن وجهه ملامح الحياة خوفا.. فربت عاصم على كتفه من جديد مطمئنا :- متخافش.. كل حاچة هاتبجى تمام.. ولو حُصل ايه..!؟.. مش هيجوموا من هنا الا وهم معترفين بيك.. وبأنك هوارى.. وبن هوارى وحجك فى ورث عمك هتاخده.. بمزاچهم او غصب عنيهم.
ابتسم زكريا فى امتنان لعاصم.. وهذا الاخير يندفع خارجاً لمكان التجمع.. الذى بدأ يحتشد بالهوارية.. وقد ارتفعت اصواتهم متسائلين عن سبب تجمعهم بهذه الطريقة المريبة والعاجلة.. وقد تعطلت مشاغلهم ومصالحهم..

هلّ عليهم عاصم.. فالتزم الجميع الصمت.. والذى قطعه عاصم ملقيا التحية وهو يتخذ مكانه فى صدر المجلس.. يجول بناظره فى الجمع المحتشد.. يتأكد من حضور الجميع.وخاصة سليم الذى لمحه يجلس على اليمين فى الزاوية البعيدة تبدو عليه الحيرة والحنق فى آن واحد...
سأل عاصم فى صوت جهورى:- انتم عارفينى.. عمرى ما كلت حج حد.. وعمر ما كان ليا عند حد حج وسبته..وعمر ما فى صاحب حج.. لجأ ليا ورديته.. صوح !!؟..
هتف الجميع بصوت واحد :- صوح..

فاستطرد هو فى ثقة :- ولما يبجى صاحب الحج ده.. اجرب ما ليا.. ينفع اسيبه من غير ما اخد له حجه..!؟..
هتف الجمع من جديد :- لاه طبعا.. ليضيف احدهم.. بس ايه الحكاية فهمنا... أيه الفوازير دى كلها يا كبير..!!؟..

دفع عاصم يده فى جيب جلبابه مخرجا بعض الأوراق.. دافعا بها لأول الأشخاص من على يمينه.. طالبا منه مطالعتها وتمريرها للجميع.. والذى بدأ الفضول يلعب بوقارهم.. لينهض كل منهم دافعا بعينيه للأوراق قبل ان تصل ليديه فيطالعها بنفسه.. وابتدأت الشهقات تعلو.. مع كل يد تمرر الأوراق لليد الاخرى.. وتعلو وتيرة الفضول.. وعاصم يجلس فى ثقة.. متكئاً على عصاه الابنوسية فى صبر.. ينتظر ان تعود الأوراق ليده من جديد بعد ان تتم دورتها..

ليقاطعهم هاتفاً :- الاوراج دى صور.. مش الاصل طبعا..
الاصل انا محتفظ بيه.. ومش هخرجه الا للمحامى لو متحلتش ودى بناتنا ودلوجت وفى الجاعدة دى..
كان دور سليم.. ليشهق وتجحظ عيناه عندما وقعت على ما تحتويه الأوراق فيصرخ مكذبا :- لاه.. ده كدب.. كله كدب.. أبوى الله يرحمه مكنلوش واد غيرى..
كان يتوقع عاصم تلك الثورة التى يشهدها من سليم :- اهدى يا سليم.. وكل حاجة هنجشوها بالعجل..

صرخ سليم مندفعا بتهور فى أتجاه عاصم :- عجل ايه !!؟.. انت خليت فيها عجل يا واد مهران..
انتفض عاصم من مجلسه فى غضب هادر ممسكا بتلابيب سليم يرفعه بيد واحده ملصقا ظهره بأحد الأشجار.. رافعا إياه عن الارض..
وهو يكلمه من بين اسنانه :- اسمه الحاج مهران يا عويل..

واللى لِسَّه حسه بالدنيا.. تاج رأسك ورأس الهوارية كلاتهم كان سليم الان يشبه الفأر الذى سقط بالمصيدة معلق لا يستطيع فكاكاً.. مما دفع احد المجتمعين للربت على كتف عاصم مهدئا.. :- ميجصدش يا عاصم.. معذور يا واد عمى.. اللى شافه فى الورج مش هين برضك.. نزل واد عمك يا عاصم.. وخلونا نهدا ونفكر.. كيف نحلها الحكاية
المغفلجة دى.. ومين هو زكريا ده.. ووينه من الاساس !!؟

ترك عاصم سليم ليسقط على قدميه ساعلا فى قوة.. يلتقط انفاسه بصعوبة.. رافعا راْسه ينظر فى حقد وغل لعاصم..و الذى هتف بصوت جهورى ينادى على زكريا
ليظهر الاخير مقتربا من الجمع.. الذى هتف كل من فيه غير مصدق فى صدمة :- زرزور!!؟..

ليستقيم سليم.. ليكون واحد من الذين أخذتهم الصدمة للحظات.. ثم ينفجر ضاحكا بشكل هيستيرى اقرب للمجذوبين وهو يهتف فى عاصم :- واااه يا واد عّمى..
فكرة مليحة برضك.. وزرزور اخرس وميجدرش ينطج ويجول الحجيجة.. وأنك انت اللى كاريه.. عشان الحدوتة الخايبة دى اللى ميصدجهاش عيل صغير..
هنا فاض الكيل بعاصم.. الذى جذب سلاحه من جيب جلبابه وهو يهتف :- كلمة واحدة زيادة يا سليم وبعدها.. لا انت بن عمى.. ولا اعرفك.. ولا ليك عندى دية..
اندفع احدهم مهدئا عاصم.. مبعدا يده التى تحمل السلاح عن اتجاه واد عمه..

ليهتف عاصم وهو يحاول ان يتمسك بالهدوء لاخر رمق :-زرزور هو زكريا اللى عندكم فى الاوراج.. و ده بشهادة الحاچ مهران والحاچة فضيلة.. اللى شهدوا الحكاية من زمن.. واللى أنكرها طبعا عمى غسان الله يرحمه.. واللى هدد ام زكريا بالجتل هى وولدها لو مخدتوش وغارت بيه من البلد.. واللى طبعا استجارت بالحاچ مهران عشان يحمى ولدها.. وسابته فى رعايته.. وهربت من الخوف.. والاوراج دى كلها اللى معاكوا انا عرضت الاصل على المحامى.. اللى أكد انها سليمة.. و ان زكريا يبجى واد عمى غسان الله يرحمه.. وأخو سليم.. وله حجوج لازم تترد له..

هتف سليم فى غضب هادر :- اللى هيجرب على شبر واحد من ارضى هجطع رجله.. ومحدش له عندى حاچة..
تنهد عاصم فى نفاذ صبر موجهاً حديثه لسليم :- برضاك.. او غصب عنيك زكريا هياخد حجه.. وانا كمان ليه منى دار.. يعيش فيها هو وأمه معزز مكرم واحد من الهوارية.. حد عنديه كلمة خلاف اللى جلتها.. ونظر عاصم فى وجوه الجمع المحتشد فى فوضى الان.. ما بين واقف.. وجالس.. ومذهول.. ولا مبال... ولم ينطق احد بحرف واحد.. الا سليم بالطبع الذى اندفع مبتعدا عن طريق عاصم مغادراً الاستراحة باكملها..وهو يهتف فى ثورة :- دى كانت اخر جشة فى كومك الكبير يا عاصم.. وبكرة تشوف مين سليم الهوارى..

لم يعر عاصم اى انتباه لتهديدات سليم الجوفاء.. وصرف ذهنه للهوارية.. الذين حسهم على الترحيب بزكريا كفرد جديد بينهم.. لا يجرؤ احدهم على معاداته او عدم الاعتراف به.. وهو فى حماية... الغول.. عاصم مهران الهوارى نظر ناجى التهامى لابنته.. التى تجلس الان فى احد اطراف الحديقة تفكر بعمق.. حتى انها لم تنتبه لاقترابه من مجلسها
كم يشعر بالاشفاق عليها.. فلقد ظُلمت كثيرا... ولا زال الظلم قائما..فبقاءها مع عاصم الهوارى.. يعد اكبر ظلم ارتكبه فى حقها.. كان عليه تحمل تبعات افعاله القديمة.. بدل من ان يتركها تدفع هى ثمنها كاملاً..

انه يشعر بالخزى والعار يكلله.. وقد اتخذ قراره وحزم أمره فلن يعود هذه المرة بدونها.. لن يتركها مع ذاك الرجل.. حتى ولو كان الثمن حياته..
تنهد فى عمق وهو يجلس بالمقعد المجاور لها.. فتنبهت له اخيراً.. لكنها أعرضت عنه بنظراتها.. فهذه المرة هى مختلفة.. ليست هى زهرة التى دوماً.. ما تقابله بابتسامتها
البشوش التى لا تفارق شفتيها..
مد كفه لذقنها يرغمها فى محبة ان تنظر اليه :- فى ايه يا زهرة.. اول مرة تخبى عيونك عنى..!؟..
طفقت من عيونها الدموع وهى تقول :- ليه خبيت عنى !!؟

طول عمرى كنت حاسة انها مش امى.. الكل يبقى عارف هنا حتى الغريب.. وانا اخر من يعلم..مكنتش أتوقع منك كده يا بابا..
تنحنح فى تأثر محرج ومصدوم فى آن واحد :- فى ظروف كتير يا زهرة كانت بترغمنى انى اخبى الحقيقة دى لكن اللى عايزك تعرفيه.. انك الحاجة الجميلة اللى سابتها لى امك.. اللى كانت وما زالت حب حياتى..واللى مقدرتش اعوضها.. واللى بشوف فيكى صورة منها..

دمعت عيناه.. فرق قلبها ولم تعلق ليستطرد هو :- انا وامك ضحية عقول متحجرة.. وتقاليد عقيمة.. وعادات ملهاش اصل.. لا فى دين ولا سنة.. اتقدمت لاهلها.. ٣ مرات.. وفى كل مرة اترفض واطرد.. وهى تقع من طولها مريضة بالشهور.. كنّا بنموت.. انا وهى.. وروحنا متعلقة ببعض.. ومحدش حاسس بينا.. واخيرا قررنا الهرب.. واننا نرمى كل البلد دى باللى فيها ورا ضهرنا.. كاننا عمرنا ما عشنا فيها.. ولا عمرنا هانرجعها تانى..

وهربنا واتجوزنا... وعشنا اروع سنين حياتنا.. قعدنا سبع سنين.. ربنا مرزقناش فيهم بأولاد.. كانت هى بتبكى.. وتفتكر ده عقاب ربنا لينا.. عشان عصينا اهلينا..مكنتش تعرف ان ده رحمة من ربنا.. لحد ما ربنا كرمنا بيكى..

لكن.. صمت متأثرا يزدرد ريقه.. ملحقتش تتهنى بوجودك فى حياتنا.. وراحت و سابت لى نسخة تانية منها انتِ.. مكنتش اعرف.. لا انا ولا هى.. ان هروبنا بحبنا.. واللى معرفش كان صح ولا غلطة.. بنتنا اللى هاتدفع تمنه.. بعد كده بسنين طويلة... وان البلد اللى كنت فاكر انا وهى يوم ما هربنا.. ان عمرنا ما هنخطيها... اتارى جذورنا متبتة فى ارضها و رجعنا لها مغصوبين.. زى ما فتناها مغصوبين... تنهد.. ثم قال فى نبرة هادئة تحمل نبرات عزم.. اعملى حسابك.. انتِ هاترجعى معايا على بيتى النهاردة.. وموضوعك مع عاصم الهوارى ده خلاص انتهى.. وأعلى ما فى خيله يركبه.. سامحينى يا زهرة..
انى سبتك ومدافعتش عنك.. بالقدر اللى تستحقيه..

اندفعت تبرر له.. محاولة ان تقلل من شعوره بالذنب.. والذى شعرت به يمزقه :- متقلش كده يا بابا.. انا اللى اخترت.. وانا اللى وافقت على جوازى منه.. وانا اللى اصريت ومحدش كان ليه ذنب فى حاجة.. وانا مش ندمانة على التجربة دى..وبالنسبة لرجوعى معاك.. متهئ لى انا فعلا محتاجة ابعد شوية..
-خلاص جهزى نفسك.. وباذن الله نكون كلنا سوا فى بيتنا النهاردة..

أومأت برأسها ايجابا.. وعلى الرغم من ان عقلها كان موافق على كل كلمة نطقتها.. وعلى قرارها الاخير بالابتعاد حتى تستجمع شتات نفسها وتعيد ترتيب مشاعرها المبعثرة لكنها شعرت بانقباض شديد بقلبها.. وكأن يدا باردة تعتصره فى قسوة.. اما الم روحها.. فكان قصة اخرى من العذاب لم تسطع ان تجد لها تفسيرا..

ارتفعت الزغاريد بدخول الحاجة فضيلة بيت التهامية.. والذى اصبح منذ اليوم.. بيت ابنتها سهام.. وفى أعقابها عاصم الهوارى.. والكثير من الهدايا المحمولة للعروسين..
اندفع حسام هابطا الدرج.. مرحباً بأهل عروسه.. داعياً الحاجة فضيلة وبنات عمه زهرة وندى.. لمباركة العروس بغرفتها بالطابق العلوى..

بينما احتضن عاصم حسام مباركاً وعيونه معلقة لا أرادياً بزهرة التى تتجه لأعلى الدرج ولا تعيره اهتماما حتى انه لاحظ أن ملامح ابيها لا تحمل بشاشتها المعهودة وهو يتجنب النظر اليه او حتى المشاركة فى الحديث الدائر..
اخرج عاصم رزمة من الأوراق المالية.. وضعها فى كف حسام هاتفاً وهو ينهض يهم بالرحيل :- نجوط العرايس.. وألف مبروك..
هتف حسام فى امتنان :- بس ده كتير يا عاصم..

ابتسم عاصم فى حبور :- مفيش حاجة تغلى عليكم.. المهم تحط سهام فى عينك.. وتخلى بالك منها..
ابتسم حسام :- طبعا.. دى فى عنايا..
هتف عاصم للجميع وهو يهم بالمغادرة:- طب أستأذنكم أنا..
هتف كل من نبيل وحسام والحاج قدرى..:- لساتك ما جعدت ولا خدت واجبك.. و دى تيجى..
ابتسم عاصم :- معلش.. مرة تانية.. ثم توجه للدكتور ناجى هاتفاً :- عايزك فى كلمتين يا داكتور ناجى..

نهض الدكتور ناجى فى تثاقل وخرجا سويا للحديقة المحيطة بالدار وجلسا فى المقاعد المتطرفة بآخرها.. كل منهما صامت ينتظر المبادرة من شريكه حتى تنحنح عاصم مستهلاً حديثه قائلا :- أنا عارف يا داكتور ناجى ان العلاقة بناتنا بدأت بداية غلط.. بداية كلها انتجام وكره جديم.. وعارف انك مش طايجنى بسبب الموضوع ده.. لكن احنا بجينا نسايب خلاص و ده يأكد ان الموضوع الجديم ده راح لحاله.. وخصوصى.. ان زهرة فى الاول والآخر.. بت خالتى فاطنة الله يرحمها.. واللى حضرتك تعرف زين.. غلاوتها عند أمى الحاجة فضيلة..

تكلم الدكتور ناجى اخيرا بلهجة معاتبة :- كنت هتوفر علينا كتير يا عاصم.. لو خلتنى أقابل الحاجة يوم كتب الكتاب..
اومأ عاصم براسه مجيبا :- يمكن يا داكتوريكون عندك حج وحاجات كتيركانت اتغيرت ساعتها... ويمكن كنّا اتمسكنا بكتب الكتاب اكتر.. لان الحاجة ما كانت هتصدج ان بت اختها رجعت لحضنها..

قاطعه الدكتور ناجى منفعلا:- اه بس لو كانت الحاجة عرفت من اول يوم على الاقل كانت معاملتك ليها كانت هاتبقى افضل.. انا زهرة مقلتش اى حاجة.. ولا رضيت تذكر تفاصيل.. بس انا حاسس بالالم النفسى اللى هيا عيشاه.. واللى انت سبب فيه.. وللاسف انا كمان سببه لانى ممنعتكش ووقفت فى وشك وحميتها منك.. وكمان معرفتها ان نصها هوارى خلاها تربط ده بالمعاملة الكويسة اللى لقتها بعد اكتشافكم انها منكم.. ده خلاها حاسة انها ملهاش قيمة عند حد لنفسها.. لكونها زهرة وبس..

أومأ عاصم برأسه متفهما فقد سمع منها ذلك فى اخر حوار بينهما ذاك الحوار الذى فارقته بعده.. :- عندك حج يا داكتور.. عشان كده.. انا جاى النهاردة.. وبتجدم لك من جديد.. واطلب يدها..

بهت الدكتور ناجى لهذا العرض المفاجئ.. والذى لم يتوقعه ابدا من شخصية مثل عاصم.. ونظر بتعجب لتلك اليد الممدودة اليه..لا يعرف هل يقبلها ام يرفضها !؟..
نظر لعاصم الذى ولدهشته كانت ملامح وجهه الان تحمل ابتسامة هادئة.. ورغبة قوية فى السلام تنتظر من يجيبها مد الدكتور ناجى كفه مترددا وهو يقول :- مقدرش أديك ردى.. لازم اسألها الاول.. هل هى ليها رغبة فى الاستمرار او الرجوع معايا.. وكمان عايز اضمن انها فعلا هاتبقى مرتاحة معاك.. قال كلماته الاخيرة.. وقد اصبحت كفه بالفعل بكف عاصم..

الذى تشبث بها فى راحة وهو يقول فى نبرة صادقة.. وصلت لقلب الدكتور ناجى فأنصت باهتمام :- صدجنى يا داكتور..لو هى اختارت تجعد وبخطرها مش غصب عنها هشيلها على كفوف الراحة.. مش عشان هى بت خالتى.. لاااه.. عشان هى زهرة.. زهرة وبس..زهرة بت الداكتور ناجى التهامى..

وصمت ولسان حاله يقول.. زهرة.. التى خطفت انظارى بعفويتها.. وأسرت روحى.. واعتلت عرش قلبى الذى لم ينبض لامرأة قبلها ولن يكون لأخرى سواها..
ابتسم الدكتور ناجى فى سعادة وقد شعر ان احساس فظيع بالذنب قد انزاح من على كاهله وهو يجيب :- خلاص يا عاصم.. الموضوع دلوقت فى ايدها هى.. هسألها.. واكيد هاتعرف القرار منها..

نهض عاصم فى سعادة غامرة وهو يشكر الدكتور ناجى..
ويرحل فى انتظار الرد.. الذى يتوقف عليه حياة قلبه..
خرج منتشيا من دار التهامية.. لديه احساس عميق بأنها لازالت ورغم كل ما كان.. ترغب البقاء بقربه.. وتريده كما يريدها.. سار الهوينى يمنى نفسه بعودتها وبقرب
وصالهما الذى انتظره طويلا.

كانت ضحكات النساء تتعالى فى غرفة العروس.. التى كانت سعادتها تقفز من عينيها.. تتلقى التهانى وهدايا الزفاف من زهرة وندى.. والحاجة فضيلة التى شعرت بفرحة غامرة وهى ترى تلك السعادة التى تكسو ابنتها من رأسها حتى اخمص قدميها..

وبرغم محاولة زهرة الاندماج مع ضحكاتهم ومزاحهم.. الا انها لم تنسى تلك النظرة الجانبية التى شملها بها عاصم وهى فى طريقها لاعتلاء الدرج.. لقد اشتعلت عندما شعرت بنظرته عليها والتى لاحظتها بطريقة خفية.. نعم هى علمت بانه كان مظلوم فى اتهامها له.. وانه اخفى عنها سر امها بناء على طلب من ابيها وقد احترم عاصم تلك الرغبة..

لكن هذا لا ينفى عنه.. انه لم يحبها قط لشخصها.. بل اعتبرها دوما ابنة غريمه.. او ابنة خالته.. لم يجردها من هاتين الصفتين ابدا.. لم يعاملها ابدا.. كزهرة.. لم يخبرها قط انه يحبها.. انه يريدها.. انه يتمنى بقاءها.. وحتى عندما أخبرته بذهابها لابيها.. لم يتمسك بها..
انها الان ايقنت انها اتخذت القرار المناسب بالسفر مع ابيها مبتعدة عنه وعن كل الالم وعن كل التخبط فى مشاعرها والذى عاشته بقربه..

خرجت للنافذة متسللة بعيداً عن تجمع النساء الضاحك.. وطلبت رقمه بأصابع مرتعشة.. رد على الهاتف فى لهفة حاول ان لا تظهر على نبرات صوته.. وأمر زكريا بالتوقف بالعربة حتى يستطيع سماعها :- كيفك يا زهرة !!؟
ردت فى نبرة مرتعشة حاولت ان تغلفها بالثبات :- الحمد لله كويسة يا عاصم..
-طيب الحمد لله.. اجاب.. يا رب على طول بخير..

اجابت فى تعجل حتى لا تتردد فى الإفصاح عن رغبتها :-
-عاصم.. بعد إذنك.. انا هسافر مع بابا..
صمت غلفه للحظات.. وبرودة قاسية كست قلبه..
وأجاب بنبرة باردة قدر استطاعته :- هو ده اللى انتى عوزاه!!؟..
-ايوه.. اجابت بصوت مرتعش
-والدكتور ناجى.. عرف بالكلام ده.. !!؟..سأل مستفسراً
-اه.. عارف طبعا..
صمت قاتل شملهما من جديد... حتى اجاب اخيرا فى نبرة
ثلجية :- اعملى اللى يريحك يا بت الناس..

واغلق الهاتف وكاد يلقى به جانبا فى ضيق.. لكنه وضعه فى جيب جلبابه وهو يزفر فى غضب عارم لا يعرف له حد.. عاد زكريا للعربة التى غادرها عندما استلم عاصم مكالمتها التليفونية.. لكن عاصم لم يمهله ليصرخ به :- انزل يا زكريا.. واستنى الحاچة رچعها على السرايا..

أطاع زكريا وترك العربة على الفور.. لينطلق عاصم وصهيل الأحصنة وهياجها وصل عنان السماء.. معبرا عّن ذاك الغضب المستعر بداخله.. حد الجحيم..
انها لا تريده.. لا ترغب بقربه.. لا تتمنى البقاء.. تريد الرحيل مبتعدة..
تروووح... بس تسيب جلبى..صرخ بقوة..
وهو يلهب الأحصنة بسوطه..
تبعد... بس تسيب روحى.. صرخ من جديد..
لتصهل الأحصنة وتصبح اكثر اندفاعاً وسرعة..

ظلت الأحصنة على سرعتها حتى ألقى أخيرا بجسده على أريكة العربة تاركاً الجوادان يسيران وفقا لرغبتها.. يلتقط انفاسه فى تلاحق..
بدأت سرعة الاحصنة تهدأ... تسير الهوينى لا تلوى على شئ..حتى توقفت..
شعر هو بحركة ما بالقرب من صف الأشجار يساره.. ليتنبه مخرجاً سلاحه النارى ويقفز فى سرعة مختبأ خلف عربته.. لتنطلق اولى الرصاصات باتجاهه..ليبدأ هو فى تبادل إطلاق النار مع ذاك المجهول.. الذى يغير مكان إطلاقه للنار فى كل مرة.. وفجأة.. دوى ذاك الطلق النارى الذى جعل احد الفرسين يجفل.. ليرفع قوائمه الأمامية فى ذعر.وتنطلق العربة مبتعدة لتترك عاصم بلا غطاء يحتمى خلفه.. ليندفع باقصى سرعة محاولا الاختباء خلف احد الأشجار الضخمة على الجهة المقابلة..

لكن للاسف كان الرامى المتربص.. هو الأسرع.. ليسقط عاصم وقد اصابته احدى رصاصته التى كان يمطره بها... وما ان عّم الهدوء المكان.. وتأكد ذاك المجهول من إصابة عاصم..حتى اندفع حيث سقط عاصم مضرج بدمائه ينحنى يفتش عن شئ ما بطيات جلبابه.. فلا يجده فيندفع متوارياً عن الأنظار فى سرعة..

رِن هاتف زهرة ولم تعره اهتماماً تحاول الاندماج مع النسوة بعد ان حدثت عاصم لقد أعلمته بما تريده وهو لم يعترض على الرغم من شعورها بعدم رضاه من نبرات صوته.. لكنها ستنفذ ما ترى فيه راحتها وسترحل بعيدا..
اذن لما هى ليست سعيدة.!؟؟.. او على الاقل لا تشعر بتلك الراحة التى كان من المفترض ان تشعر بها..!؟.. حقا لا تعلم.. لكن هى ترى ان الابتعاد هو الأفضل فى تلك اللحظة للجميع..

استمر الرنين ليطالعها اسم عاصم.. فتنتفض مبتعدة للشرفة من جديد لتجيب :- نعم يا عاصم.. !!؟؟..
لكن على الطرف الاخر لا تسمع الا صوت مبحوح.. لا تستطيع ان تستوضح منه ما يقول.. يا ترى ماذا هناك !!..
ولما هاتف عاصم فى يد غريبة تعبث به.. !!؟..
دخلت فى هدوء مصطنع تنسحب خارج الغرفة حتى لا تشعر احد من النساء بقلقها ثم تندفع فجأة تكاد تسقط من على الدرج وتقتحم مجلس الرجال صارخة :- عاصم جراله حاجة.. فى حد على تليفونه.. ومش فاهمة منه ولا كلمة..

اختطف حسام الهاتف من يدها وهو يهتف فيه صارخاً:- انت مين..!؟. مين..!؟؟. زرزور..!!؟ زرزور كيف.. هو انت بتتكلم من امتى..!؟.. عاصم ماله.. ايه.. طيب انا جاى حالاً..
كان الجميع يترقب كلمات حسام التى كانت تشبه الألغاز
فاغرين فاهم غير قادرين على استيعاب ما يحدث..
وأخيراً.. صرخ حسام :- عاصم مضروب بالنار فى اخر البلد..

لم تكن صرخة زهرة وحدها التى انطلقت.. بل صرخة سهام التى كانت تساعد امها على نزول الدرج استعداداً للرحيل... وصراخ الحاجة فضيلة لوعة على ولدها..
ارتبك الرجال جراء الصراخ المتواصل المحيط بهم من النساء.. واخيرا هتف حسام.. يا الله بينا نلحجه.. وهتف فى نبيل.. خليك انت يا نبيل.. هنكلمك تجيب الحريم على المستشفى.. الا ان زهرة صرخت :- لا.. مش هستنى.. هاجى معاكم حالا..

لم يعترض حسام وهو يرى لوعتها.. واندفعوا جميعا لللسيارات..تقلهم حيث عاصم.. يصارع الحياة والموت كان زكريا يمسك بكف عاصم الغارق بالدماء.. هامساً فى صوت متقطع.. كطفل ينطق أحرفه الاولى.. وعيونه تغرقها الدموع :- ها تبجى كويس.. وتجوم بالسلامة يا واد عمى..
ربت عاصم على خده بحنان :- وااه يا زكريا.. قال لاهثا..
وعتتكلم كمان.. يا بحورك الغريجة.. يا واد عمى..!!

ابتسم زكريا ابتسامة شجية مغتصبة ولم يجيب.. ليلهث عاصم فى ألم :- خلى بالك يا زكريا على امى وأختى.. دوول أمانة فى رجبتك..
تهته زكريا من جديد :- متجلش كده.. هاتبجى بخير.. انا شفت اللى عملها..
سأل عاصم لاهثا :- مين..!؟..
-أخوى.. سليم.. انا كنت بچرى وراك.. مسبتاكش زى ما جلتلى.. ووصلت لما بدأ ضرب النار.. اداريت لحد ما شفت سليم بيجلب فى جيوبك على حاچة ملجهاش.. راح چارى.. وانا چيتك اتصل من على تليفونك.. ودوست معرفش فين.. ردت مرتك..

لمعت عينا عاصم عند ذكرها.. فهى كانت اخر من رد عليها.. اخر من استمع لصوتها..
لمعت فجأة اضواء السيارات المقتربة.. حتى توقفت جميعها فى ان واحد.. ليترجل منها الجميع مندفعا لمكان الحادث..

وكانت اولهم زهرة والتى تيبَّست قدماها فجأة وهى تحاول الإسراع اليه.. سبقها الجميع محيطين به حاجبين مرآه عن ناظريها... كان هو يجول بنظره فى الوجوه المحيطة يبحث عن وجهها.. لعله يكون اخر ما يطالع بدنياه.. لكنه لم يجدها بين دائرة الوجوة التى تشرف عليه من علياءها وهو ممدد مضرج بدمائه فاشاح بوجهه جانبا..

كانت قدماها تتحرك بصعوبة حتى وصلت اليه.. افسح لها الجميع لتجثو على ركبتيها تحتضن عاصم فى لوعة بعد ان ترك لها زكريا موضعه.. ليتنبه لتلك الكف التى تحتضن جانب وجهه بارتعاشة لهفة.. فيفتح عينيه بتثاقل وابتسامة فرحة شاحبة ترتسم على شفتيه..

عيونها غمرتها الدموع وهى تضع كفها على موضع الجرح بصدره.. لعلها توقف ذاك النزف المستمر كان ينظر اليها الان كانما يراها بعد فراق دام طويلا.. يرى تلك اللهفة بعينيها والتى تمنى رؤيتها يوماً.. والخوف على فقده مجسدا على ملامحها التى يعشقها كانت تبكى بلوعة وحرقة.. لا تعرف ماذا تقول او تفعل.. غير ان تبكى.. وتكرر اسمه بارتجافة.. وتضغط على جرحه لعلها تمحيه.. همس اليها..

وهو يحمل كفها من جانبه الأيمن المصاب.. ويضعه على موضع قلبه.. وقد بدأ يتفصد العرق من جبينه :- الچرح هنا يا زهرة اضغطى هنا.. وجفى الوجع اللى چوه.. جبل ما تروحى.. او جبل ما اروح انا..
همست فى لوعة شاهقة وهى تحتضن رأسه لصدرها :- مش هروح مش هبعد.. هفضل جانبك.. بس قوم بالسلامة عشان خاطرى..

ابتسم لها فى وهن و هويفتح عيونه بصعوبة متطلعا لعينيها هامسا وكأنه يهزى :- وااه لما روحك تفارجك وانت لساك حى.. روحك اللى كانت مرتك وبجت حبيبتك وبعدها بت خالتك وبعدها واجفة فى صف الدنيا عليك..
ازداد نحيبها وهى تستمع لكلماته وتزيد من ضم رأسه لصدرها تكاد تموت هلعا لمجرد التفكير فى غيابه عن عالمها
كان كل من الحاج قدرى والدكتور ناجى يقف مبتهلا الى الله فى لوعة حقيقية..بينما صرخ حسام حانقا :- الإسعاف اتأخرت ليه..!!؟...

لحظات وكانت سرينه الإسعاف يدوى صوتها فى المكان.. بجانب سيارات الشرطة التى أتت على ضوء الحادث..
اندفعت زهرة بجواره داخل سيارة الإسعاف.. تبتهل الى الله
ان ينجيه.. وقد غاب الان عن الوعى تماما..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة