قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع عشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع عشر

دخلت الحاجة فضيلة بهدوء الى غرفة زوجها الحاج مهران.. كانت تتوقع انه نائم كما هى عادته فى مثل ذلك الوقت من اليوم..لذا همت بالخروج.. لكنه فتح عيونه ليناديها قبل ان تفتح باب الغرفة :- فضيلة.. تعالى انا مش نايم..
وبدأ فى الاعتدال فى جلسته على قدر استطاعته.. لتستدير هى لتجلس قبالته.. من الجانب الاخر للفراش..
ليبادرها متسائلا :- كيفه ولدك.. عاود بالسلامة..!؟؟..

حاولت ان تدارى اندهاشها وهى تقول :- كنت عارف يا حاچ..!!؟...
ابتسم فى ثقة :- طبعا.. هو اكمنى بجيت أسد عجوز.. يبجى معرفش دارى بيُحصل فيها ايه..!!؟..
هتفت شاهقة :- متجلش كده يا حاچ.. !!؟.. بس انا كنت خايفة اجولك على اللى حُصل لعاصم... عشان..
قاطعها فى مودة :- عارف يا فضيلة.. عارف.. بس مش ده اللى جابك لحدى.. انتِ فى هم مضايجك ومكدرك..!!؟..

ابتسمت فى وهن وهى تتنهد :- طول عمرك حافظنى اكتر من نفسى.. صمتت لحظات ثم استكملت.. اه فى يا مهران..ولدك ومرته.. هم فاكرينى مش شايفة ولا عارفة اللى بِناتهم.. بس.. انا مش عاجبنى اللى بيحصل ده...
قهقه العجوز فى حبورمختلط بسعاله المعتاد :- واااه يا فضيلة.. كن التاريخ بيعيد نفسه صوح.. فاااااكرة..

اشتعل وجه الحاجة فضيلة خجلا.. حتى يظن من يراها الان انها فتاة فى العشرين من عمرها.. وهى تتطلع الى زوجها فى محبة..ولم تعلق بحرف..
ليستطرد هو ولازالت عيونه تحمل بريق مرح:- سبيهم يا فضيلة..هم ها يعرفوا طريجهم لبعض.. جلوبهم هدلهم..
ولما يوصلوا.. هاتتعلج روحهم ببعض.. زى ما روحى متعلجة بيكى..
أومأت برأسها وقد زادت ابتسامتها اتساعا من كلمات زوجها الاخيرة.. والذى استطرد فى لهجة عابثة :- بس جوليلى.!؟
انتبهت وارتسمت على وجهها الجدية :- خير يا حاچ !؟؟

ابتسم فى مشاكسة :- هو انت احلويتى اكتر ما انتِ حلوة.. ولا ايه اللى حُصل..!؟؟..
لتنفجر الحاجة فضيلة بضحكة مجلجلة.. وهى تهتف قائلة :- ياحاااچ.. راحت علينا خلاص..
اجاب وبريق عينيه ينطق قبل كلماته:- والله يا فضيلة.. لحد دلوجت وانت جاعدة جدامى واعيلك لِسَّه بت التمنتاشر..
اللى رأسها دايما فى السما.. ومكنش عاجبها حد.. اللى من ساعة ما دخلت دارى.. وانا مشيفش من الحريم غيرها..

واللى جمالها كل يوم بيزيد عن اللى اليوم اللى جبله.. بعجلها الكبير.. وجلبها اللى يساع الكل.. انت نعمة..
دمعت عينا الحاجة فضيلة تأثرا لكلمات زوجها.. لتقترب منه فى محبة.. لتحتضن كفه الممدودة بالقرب منها لتقبلها فى امتنان وحب.. وتلقى برأسها المجهد على حجره لتمسد كفه على ذاك الرأس المحبب.. وهو يقول كمن استطاع قراءة افكارها :- هو ده بس اللى شاغلك..!؟؟..

تنهدت :- سهام يا حاچ وموضوع حسام التهامى..!!؟..انت ايه رأيك..!؟؟..
-والله انا اسمع ان ولاد جدرى التهامى التنين ذى الفل.. وطالما عايز سهام وشاريها بجد.. يبجى وماله.. ما احنا واخدين بتهم لعاصم. وانا كمان حاسس ان سهام مياله لولدهم يبجى على بركة الله.. بس تفتكرى هايجى يتجدم تانى بعد ما عاصم رفضه وجاله انها محجوزة لواد عمها... !!؟؟..
هنا صمتت الحاجة لحظات.. ثم اجابت فى شرود..:- مش عارفة يا حاچ..!!؟..
لكن على العكس تماما... هى تعلم.. بل تعلم جيدا.. اذا كان سيأتى ام لا..

تهللت اساريرها عندما رأته يدخل لقاعة المحاضرات.. كان يبدو على محياه الإرهاق والإجهاد.. اسبوع كامل لم يأتى للجامعة واعتذر فيه عن محاضراته.. لكن يبدو انه كان اسبوع كامل من المعاناة المتمثّلة على قسمات وجهه.. وعينيه المرهقتين.. أين كان يا ترى..!؟؟.. لما غاب كل تلك الفترة..!؟.. هل كان بصحبة زوجته..!؟.. توقفت افكارها عند هذه النقطة.. تتساءل.. هل هو متزوج من الاساس..!؟..

وجدت عينيها تبحث عن كفه الأيسر.. لتتأكد.. فزفرت براحة عندما لم تجد خاتم زواج أو خطبة فى كلتا يديه..وابتسمت كالبلهاء.. وهى تشعر بسعادة عجيبة لهذا الاكتشاف.. ولم تنتبه لنداءه.. الا فى المرة الثانية.. عندما وخزتها صديقتها المجاورة لها.. لتستفيق من شرودها.. وتنتفض :- نعم يا دكتور..!؟؟..
ليبتسم هو وقد ادرك شردوها :- كنت بسرد بنود النظرية اللى أثرتيها المحاضرة اللى فاتت.. عندك اى اضافة..؟؟..
اجابت بسرعة:- لا يا دكتور.. معنديش..

ابتسم وأشار لها بالجلوس وهى تلعن شرودها الف مرة.. فقد حضرت نفسها كثيرا لتلك المحاضرة.. ووضعت العديد من النقاط لمناقشتها.. كل ذلك ضاع ادراج الريح بسبب شرودها الغبى..
وحاولت على قدر الإمكان.. ان تستحث تركيزها..ليتوجه لنقطة واحدة.. هى موضوع المحاضرة.. ولا ينحرف متوجها.. لذاك الأسمر الوسيم الذى يلقيها.. والذى يبتسم الان فى ثقة.. جعلت قلبها يخفق فى اضطراب دون سبب مفهوم...

الساعة الان قاربت الرابعة فجراً.. وهو لايزل يتقلب على فراش من جمر.. لم يزوره النوم مشفقا على حاله.. ولم يمس الكرى أهدابه.. ولو للحظات..
وكان لابد له ان يعترف.. ان سهاده راجع اليها والى التفكير فى بعدها وتباعدها.. فها هى تقرر المبيت مع سهام.. متحججة بمرضها الذى شفيت منه سهام بالفعل
وتتركه يضنيه الحنين اليها..انه يعرف انها حتى وهى معه تحت سقف واحد.. سترقد على اريكتها متحاشية إياه قدر إمكانها..

لكن وجودها فى حد ذاته بنفس الغرفة التى ينام فيها.. واختلاط انفاسه بانفاسها.. يبعث الطمأنينة بنفسه.. بنفس القدر الذى يذهب براحة باله ويثيررغبته فى الحياة والموت بين هاتين الذراعين الحانيتين.. تنهد فى ضيق.. قربها نار حارقة.. وبعادها آلامه لا تحتمل.. وما بين هذا وذاك.. يموت هو قهراً..ورغبةً.. وندماً.. وعشقاً...
انتفض من فراشه.. واندفع خارج الغرفة فى تهور..
ليصل لباب غرفة سهام وهو يلهث من فرط انفعاله..

فتح الباب فى هدوء..ليتسلل معه للداخل بعض ضوء من الردهة ليرى من خلاله جسد واحد متدثر على الفراش.. ليجيل بنظره للطرف الاخر من الغرفة.. ليرى خيالا أنثويا ميزه بسهولة.. انه لها.. تلك التى يؤرقه ويضج مضجعه مجرد التفكير فيها... وهى تقف فى خشوع تؤدى صلاة الفجر تسلل الى داخل الغرفة على أطراف أصابعه.. ليجلس على يسراها فى هدوء وما ان انتهت من صلاتها لتنهض.. حتى هتفت منتفضة:- اعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

كاد ان ينفجر ضاحكا لولا خشيته من استيقاظ سهام والتى ولله الحمد... تغط فى نوم عميق فكتم ضحكاته هامسا:- اول كلمة اسمعها منكِ بعد رجوعى.. تبجى الاستعاذة.. مجبولة منيكى..

صمتت ولم تجب وهى تلتقط انفاسها بصعوبة..وابتسامة ما تقفز للظهور على شفتيها.. على الرغم من محاولتها وأدها.. ليستطرد هو بصوت متوسل أشبه بصوت طفل مشاكس يتحجج ليهرب من اداء واجبه المدرسى :- أنا جعااان..

جاء الان دورها لتجاهد جهاد الأبطال.. لؤد الضحكات التى كادت ان تفلت منها رغما عنها..وحمدت الله على الظلام الذى يغلفهما لحد ما.. حتى لا يرى تعابير وجهها...
جاهدت ناطقة فى هدوء :- حاااضر..
ونهضت بسرعة مندفعة خارج الغرفة لتطلق العنان لابتساماتها.. وهى تشعر به يتبعها ويغلق باب غرفة سهام خلفه.. دخلت المطبخ لتفاجأ به وراءها..

قالت فى نبرة حاولت ان تظهر متزنة :- ما تستنانى على السفرة لحد ما احضر الاكل..واجبهولك..
قال متحججاً:- لاه.. ما انا هستنى هنا.. عشان اسليكى..
هتفت فى نفسها.. يسلينى..!؟؟.. الله يكون فى عونى لأستطيع التركيز لدقائق فقط حتى احضر له بعض الطعام الخفيف..
واعود ثانية لأختبئ بغرفة سهام.. والتى كانت حاجتها إليّ
حجة رائعة لأبتعد عن طريقه وعن خطورة التواجد معه تحت سقف واحد..

حملت صينية الطعام حتى المائدة وهو يتبعها كظلها كطفل يتشبث بجلباب أمه..ليجلس أخيراً على كرسيه المعتاد على رأس المائدة.. لتهم هى بالذهاب فى عجالة فيمسك فى سرعة بمعصمها.. لترتد مرة اخرى حيث يجلس.. تكاد تصطدم به.. رغم بعض من تحكم.. جعلها تقف فى ثبات اخيرا قبل الاصطدام.. وقبل ان تشتعل عيونها غضبا كالمعتاد.. همس هو فى براءة مصطنعة:- أجعدى معاىّ.. عشان تفتحى نفسى وترك معصمها ليبعد الكرسى القريب منه عن المائدة.. ليدعوها للجلوس..لتخبو لحد ما نيران غضبها.. ويلاحظ هو ذلك.. فيبتسم فى حبور.. وخاصة بعد ان جلست بهدوء حيث أشار.. تناول الخبز وبدأ فى تناول طعامه بشهية..

كانت تهتف فى نفسها الان.. متى سينتهى هذا العذاب الاجبارى..!؟؟... ان نظراته مسلطة عليها.. لا على الأطباق أمامه.. تكاد تجزم انه يضع يده فى اى صحن تطاله دون ان يدرك اى نوع من الطعام هو..طبعا.. وكيف له التركيز فيما يتناوله.. والصحون على الطاولة.. لا على صفحة وجهها..
وكانت محقة لحد كبير..فَلَو سأله احدهم.. ماذا تناولت ؟!؟.

لأجاب لا اعرف بالضبط.. فكل ما أتذكره.. هو أننى كنت أتذوق الشهد من صفحة وجهها.. مع كل قضمة.. غيرذلك فلا أذكر..
انتهى اخيرا من تناول طعامه.. لتحمل صينية الطعام للمطبخ.. وتبدأ فى صعود الدرج.. لتجده يتبعها من جديد..
وصلت لغرفة سهام.. وهى تكاد تزغرد فى فرحة وهى تضع كفها على مقبض بابها لولم ينقلب كل ذلك فى لحظة وهو يحملها بخفة.. ويسير بها فى ثقة تجاه غرفتهما..
كانت لا تستطيع الاعتراض تحت وطأة حجابها الذى انزلق يغطى وجهها تماما وهو يحملها حتى وجدت نفسها اخيرا على قدميها.. لتندفع فى تخبط مبتعدة عنه وهى تبعد حجابها عن وجهها لتتنفس لاهثة...

لينفجر هو ضاحكا.. وهو يراها بمثل ذلك الاضطراب.. أغلق الباب.. فتحفزت هى.. ليقول بنبرة هادئة تخالف ثورتها المكبوتة :- أوضتكِ أولى بيكى... همت بالاعتراض... ليهتف.. وسهام خلاص ربنا شفاها..
تحرك للحمام.. فبدأت هى بتعديل الحجاب مرة اخرى.. على رأسها.. ليخرج ليجدها تقبع فى احد أركان اريكتها..
وتندفع للحمام.. ما ان غادره... لتغيب فيه وهويستعد ليلحق بصلاة الفجر..
وتخرج هى لتهم بالصلاة.. فيسأل متعجبا:- انتِ مش خلاص صليتى..

حركت رأسها رفضا :- كانت ركعتين السُنة اللى قبل الفجر..
ابتسم فى سعادة.. وهو يقول :- تمام.. صلى ورايا بجى..
انا لِسَّه هصلي الفجر اهو..
ووقف موليا وجهه لله.. مكبراً.. وتبعته هى.. وكل منهما فى قلبه الكثير والكثير من الامانى والدعاء..
فهل يستجيب.. مقلب القلوب..!!؟..

تحرك الحاج قدرى التهامى بصعوبة ليفتح باب داره الذى توالت عليه الطرقات.. واخيرا وصله ليفتح بوجه عابس بسبب الطرق المتواصل الذى لم ينقطع.. وما ان فُتح الباب
حتى طالعه شخص متشح بالاسود دفع الباب ليدخل فى سرعة ويغلق الباب خلفه.. ليرتد الحاج قدرى للخلف.. ليس خوفا.. بل تعجبا.. فقد كان من الواضح تماما.. ان ذاك الدخيل امرأة.. لكن من تكون..!؟؟..

سأل فى ادب :- خير يا بت الناس.. انتِ مين وعايزة ايه..!؟
هتفت صاحبة الصوت بثقة :- حمد الله بسلامة حسام ولدك يا جدرى.. بركة انه جام بخير..
اهتز الحاج قدرى لسماعه الصوت وبهت وجهه وكأنه يحاول ان يؤكد لنفسه ان استنتاجه لصاحبه الصوت صحيحا قبل ان يهتف فى نبرة ملؤها الحنين :- وااااااه يا فضيلة... والله زمان..

تحركت فى رزانة.. وهى ترفع غطاء وجهها.. وتجلس على اقرب مقعد صادفها.. وهى تقول بنبرة باردة :- أه فضيلة يا جدرى... كيفك..!!؟..
ابتسم الحاج قدرى :- بخير الحمد لله... يااااه زمن بيرمح رمح... وكنى لِسَّه شايفك امبارح.. متغيرتيش لساكى فضيلة ال..
هتفت مقاطعة :- جدرى.. بلاه الحديث اللى ملوش عازة ده... وجاوبنى على سؤال واحد..
-خير.. سؤال ايه..!؟.. انتبه الحاج قدرى فجأة.. وقد ألقى
وراء ظهره حديث الذكريات والحنين..

-ولدك.. عن جد عايز بتى..!!؟.. سألت فى جدية..
اجاب الحاج قدرى فى جدية مماثلة :- وهو فى حد لمؤاخذة
ع يهزر فى الحاجات دى..!؟؟.. ده يطير فيها رجاب..
-طيب.. حيث كده.. خلى ولدك يروح يتجدم لعاصم ويطلبها وكنها المرة الاولى..
-وايه اللى يضمن ان عاصم ميرفضوش تانى ذى ما عمل جبل سابج.. !!؟.. سأل الحاج قدرى فى حنق..
اجابت فى ثقة :- أنا أضمن.. فى اكتر من كده ضمان..!!؟.

هتف الحاج قدرى فى سرعة :- لاه طبعا.. كلمتك سيف على رجاب الكل.. وصمت لحظات ليسأل فى حيرة :- لكن معلش فى سؤالى.. ايه اللى يجيبك عشان تطلبى طلب زى ده..!؟؟.. يعنى.. غريبة شوية.. ولا انا غلطان..!؟..
اجابت فى هدوء ولم تهتز للحظة :- لاه.. منتش غلطان.. بس انا عملت كده لانى عارفة ان ولدك انسان محترم ومتربى واتمناه لسهام بتى...
رد فى حبور.. ده ولدك يا حاجة.. لتستطرد.. وكمان كان ممكن اخرج نفسى من الموضوع وكنت ممكن ابعت زهرة تبلغ واد عمها بالموضوع وخلصنا..هتف هو مؤكدا.. تمام..

لتستكمل هى حديثها... لكن انا حبيت ان الموضوع يبجى بين الكبار.. ومدخلش زهرة بيناتنا تانى..عشان.. وصمتت.. ليجيب رافعا عنها الحرج.. فاهم يا حاجة.. فاهم..
لتستكمل.. ده اللى جابنى يا حاج.. مصلحة عيالنا.. هم ملهمش ذنب فى اللى كان بناتنا زمان.. وهمست فى نفسها..كفاية عاصم.. واللى هو فيه بسببى وبسبب الكره اللى سجتهوله زمان..مش هتكون سهام كمان ضحية الانتجام..
ليهز رأسه مؤكدا :- صدجتى يا حاجة.. صدجتى..

لتنتفض من مكانها.. تغطى وجهها من جديد وهى تتجه للباب مؤكدة :- انا مجتلكش يا جدرى.. ولا انت شفتنى..
-طبعا يا حاجة.. طبعا.. مش عايزة كلام..
اندفعت خارج البيت مسرعة وهى تلقى السلام..ليلقى هو خلفها بسلام لم يصل لمسامعها بعد اختفاءها فى سرعة
وكأنها لم تكن موجودة.. وكأن هذا اللقاء كان دربا من خيال...

أغلق الباب وهو شارد فى ذكريات الماضى البعيد.. عندما كانت هى فتاة احلامه التى تمنى الاقتران بها.. وتقدم لها بالفعل.. لكن بطبيعة الحال رُفض من ِقبل رجال الهوارية.. والذين لم يروه ذاك الذى يليق بابنتهم.. وتحول الرفض.. الى عداوة دامية.. بعد هروب اخوه ناجى مع فاطمة اختها..ويصبح الوصول اليها دربا من مستحيل..
ليفاجئ بخطبتها لمهران الهوارى بن عمها.. لتتشعب بهم طرق الحياة ودروبها.. ويمضى كل منهما فى طريقه..

رؤيتها الان.. أعادت لمخيلته وايقظت فى قلبه وروحه ذكريات وخواطر.. كان يظنها دُفنت من عهد بعيد..
عادت كلها دفعة واحدة ما ان رأها.. وكأنه عاد بن الخامسة والعشرين.. ذاك العاشق.. الذى أحب ولم يطل..
وأبتسم فى حبور مرحباً بنوبات الحنين التى غمرته فتاه فيها لدرجة انه لم ينتبه لحسام الذى كان يتقدم اليه ببطء.. متساءلا فى وهن.. ليخرجه من شروده:- مين كان هنا يا حاچ..!؟؟.

ليجيب فى همس:- الماضى يا ولدى..
فيهتف حسام متساءلا :- مين..!!؟..
ليبتسم الحاج قدرى ابتسامة واسعة وهو يقول :- متخدش فى بالك يا حسام.. انت ايه اللى جومك من فرشتك.. ونزلك من فوج..؟!!..
رد حسام فى حنق:- زهجت.. انا مش متعود على الرجدة دى.. وبعدين انا الحمد لله بجيت كويس..فجلت امشى رجلى شوية..

نهض الحاج مقتربا من ولده وهو يقول متحفزا فى سعادة :- حيث كده.. تعال.. عايزك فى موضوع هيفرحك جوووى... ويخليك تجوم ترمح زى الحصان.. بس اللى اجولك عليه.. تعمله.. ومتسألنيش كيف.. وليه.. وعشان ايه..!؟.. حاكم انا عارفك.. انت تنفذ وبس.. اتفجنا..!؟..
أومأ عاصم برأسه فى حيرة وهو يهمس :- اتفجنا يا حاچ.

مالت الحاجة فضيلة على ابنتها سهام.. وهما على طاولة الافطار..تهمس فى تساؤل خبيث:- بت يا سهام.. هى لساتها زهرة بتبات معاكى فى الاوضة..!؟..
همست سهام بدورها لامها وصوتها يحمل نبرات مرحة ماجنة:- لاه.. اطمنى.. بجالها ليلتين بايته فى اوضتها.. وسيبانى وانا تعبانة..
هتفت الحاجة فضيلة معاتبة ابنتها :- ولا تعبانة.. ولا حاجة... ما انت زينة أها.. وذى الجردة...
هتفت سهام مستنكرة :- جردة.. هى دى اخرتها يا حاچة..!!

طبعا.. المهم ولدك... لكن انى مش مهمة..
انفجرت الحاجة فضيلة ضاحكة :- برضك يا سهام..!!؟؟.. ده انتى حبيبتى..
لتنفجر سهام ضاحكة بدورها:- طب ما انى عارفة..

عادت ام سعيد بباقى أطباق الفطور من المطبخ لنضم إليهما عاصم ومن وراءه زهرة.. وبدأ الجميع فى تناول طعامه.. كانت الحاجة فضيلة تختلس النظرات.. لعاصم تارة.. ولزهرة تارة أخرى.. محاولة ان تستشف ما يدور بينهما.. وتجاهد ان تكشف الحجب من خلال ردود افعالهما.. ثم ابتسمت فى سعادة.. عندما وجدت عاصم يختلس النظرات لزهرة فى محبة.. وهى لاتزل على هدوءها.. ورزانتها.. وخجلها المربك.. وهى تحاول قد استطاعتها الهرب من نظراته المتعقبة لسكناتها وحركاتها.. لتهمس الحاجة فضيلة فى نفسها.. والله ولجيت اخيرا.. حد يملك جلبك يا عاصم..

نهض عاصم من على الطاولة.. وتوجه بنظراته لزهرة..
يسألها فى تردد:- تجدرى تيجى معايا الاسطبلات.. ولا مش فاضية..!!؟..
كانت المرة الاولى منذ فترة طويلة التى يراها فيها متهللة الاسارير بهذا الشكل.. كان محقا عندما فكر فى ذلك الخاطر فسيرة الأحصنة والأسطبلات تسعدها.. وتذكرها بمهنتها التى تحبها.. فقد انتفضت فى سعادة وهى تقول :- اه طبعا.. ياريت.. انا فاضية ورايا ايه..

ابتسم بسعادة لحماسها :- طب تعالى اجهزى عشان نروح دلوجت..
اندفعت للدرج.. وهى تصعده بسرعة هاتفة :- اعتبرنى جهزت..
لتبتسم الحاجة فضيلة فى رضا ومحبة.. و تنادى عاصم.. ليندفع ملبياً قبل ان يهم بالصعود خلف زهرة..
-تعال يا عاصم.. عيزاك..
-أمرك يا حاجة..

تنحت به جانبا.. وهى تهمس له فى جدية :- بجلك ايه.. لو بفرض.. واد جدرى التهامى.. اللى كان طالب سهام جبل سابج.. چالك.. وطلبها تانى.. اوعاك ترده..
نظر عاصم لها مستفهماً :- هو ممكن يكررها.. !!؟.. حتى لو عايز.. مش هايعملها.. هايفتكر ان ممكن يجى فى بالى انه بيطالبنى برد للجميل.. اللى عمله معايا.. بشهادته فى جضيتى.. وهو الصراحة..راجل زين.. وميتعيبش.. بس كرامته هتوجعه ومش هايجى..

ربتت امه على ذراعه وهى تقول فى عجالة :- اسمع بس.. عشان معطلكش على مرتك.. انا بجول بفرض.. يعنى لو جه.. متردوش يا عاصم.. خلاص..
ابتسم عاصم :- خلاص يا حاجة.. ثم يتطلع اليها فى محاولة لكشف أغوارها.. طول عمرك بحورك غريجة يا حاجة فضيلة.. واتسعت ابتسامته مستكملاً.. بس ماشى.. هو انا أجدر اجول الا حاضر لست الكل..

انفرجت اساريرها وهى تربت على كتفه فى محبة خالصة داعية :- يحضر لك كل الخير والسعادة ياولدى.. ويرزقك براحة البال.. وهدوان السر.. يا رب..
ليهمس فى سره.. ومن أعمق أعماقه.. أمين.. وهو يتطلع لزهرة تهبط الدرج.. وقلبه يرفرف لمرأها..
انتظرته.. حتى انتهى من ارتداء ملابسه على عجالة.. ونهضت مسرعة عندما رأته.. هابطا الدرب.. وهى تكاد تطير فرحا... ابتسم لها هاتفاً :- يا الله بينا..

سارا جنبا لجنب حتى ادخلها السيارة.. واستدار ليركب امام مقودها منتشيا.. وما هى الا لحظات.. حتى كان منطلق بها.. كانت تغمره سعادة غير طبيعية لمرأها سعيدة بهذا الشكل.. اختلس نظرة جانبية اليها.. ليجدها تتطلع الى المقعد الخلفى.. ثم تشيح بوجهها بعيداً وقد اعتلت قسماته المحببة بعض من حزن.. لم يدرك مباشرة.. ما سبب هذا الانقلاب المزاجى... ولما كانت تنظر تلك النظرات المبهمة للمقعد الخلفى.. وفجأة.. تذكرانها نفس السيارة التى اختطفها فيها.. وذاك المقعد.. هو نفسه الذى ألقيت فيه لساعات.. لا تعرف لما..ولا الى أين..!؟..

لعن الصدفة التى دفعت به لركوب هذه السيارة فى هذا الوقت بالذات.. فهو نادرا ما يستخدمها الا فى أسفاره..
ويفضل السيارة القديمة.. او فرسه..
نظر من النافذة محاولا استنشاق اكبر قدر من الهواء النقى ليهدأ سخطه.. ومد يده ليضغط على مشغل الاغانى ربما يكون قادرًا على تغيير بعض من ذاك المزاج الذى تعكر لذكرى قاسية اجترتها... فصدح المذياع شادياً...

جيتك.. وشايل معى.. حقائب الدنيا اعتذار جيتك وكلى الم.. وبأيدك انت الاختيار..
يا ترى... هل تسمحين..!؟..
يا ترى... هل تصفحين..!؟..
أنا طفلك... أنا رجلك..
أنا بعضك... أنا كلك..
غير حبك.. غير حضنك.. مالى فى الدنيا.. دار..

أرهف السمع لتلك الكلمات.. والتى لو أراد ان يعبرعن ما يجيش بصدره.. ما وجد اروع منها كلمات لتصف حاله.
اشتدت كفاه تشبثاً بالمقود وهو يختلس اليها النظرات.. هل سمعت ووعت تلك الرسالة..!!؟؟.. وجاءه الجواب..
اسرع مما تخيل عندما وجدها تدارى وجهها فى النافذة.. وتحاول وأد دمعات خانتها وانحدرت على خديها..

نظراتها للمقعد الخلفى إعادتها لذكرى دامية.. هى حقا لا تعرف ان كانت تعتبرها ذكرى سعيدة ام تعيسة..شطريها لازالا يتنازعانها.. احدهما يوصم الذكرى بالتعيسة فمنذ تلك اللحظة تبدلت حياتها كلياً.. والآخر يؤكد على روعة الذكرى فلولا ما حدث.. واختطافه لها ما كانت هنا الان..

انها تبكى.. لا تبكى الذكرى.. بقدر ما تبكى تشتتها واضطرابها.. وها هى تلك الكلمات التى صدح بها مذياع السيارة..توقظ فى شطرها المحب له الامل.. منذ عاد من
محبسه.. وهى تلاحظ تغيرفى معاملته لها من جديد..
فهو يحاول ان يقدم اعتذار لها عما كان منه.. فهل تقبل اعتذاره.. !!؟.. هل تحاول ان تبدأ صفحة جديدة فى تعاملها معه..!؟؟.. هل.. وهل..!!؟.. عشرات الأسئلة انهكتها..
ولا تعرف ماذا عليها ان تفعل..!!؟..

هتف هو اخيرا فى نفسه..حمد لله.. فلقد وصلنا بالفعل للأسطبلات..
فربما تعيدها تلك الزيارة لمزاجها المنشرح من جديد..
ترجلت تسبقه.. فقد كانت تريد استعادة رباطة جأشها...

مر بها على جميع الاسطبلات فى جولة سريعة.. وتنبهت فجأة ان تلك المنطقة التى كانت دوما تعج بالرجال.. خالية تماما وكأنها مهجورة تقريبا.. حتى من العاملين فيها.. هل أخلى المنطقة أكراما لزيارتها..!!؟.. سألت وشعورمن سعادة يتسلل لداخلها لتبدأ فى استعادة انشراحها السابق.. وها هما الان امام أسطبل عزيزة الذى دخلته فى السابق.. كادت تقفز فرحا..فلطالما عشقت الخيل.. وعزيزة لها معزة خاصة..

وكان عشقها هذا سبب فى تصميمها لدخول كلية الطب البيطري.. لطالما تمنت تملك احداها.. لكن أين وكيف..!؟؟
همت بالتوجه لعزيزة ترحب بها فى فرحة.. الا ان عاصم أمسك بكفها يجذبها خلفه فى سعادة.. حتى وصلا لأحد الأركان.. وقعت عيناها على مهرة جميلة بلون العسل..

وقعت فى هواها فوراً.. اقتربت منها المهرة فى مودة.. وكأنها تعرفها منذ زمن.. تتطلع لقطع السكر من يدها.. حركتها الحميمة دفعت الضحكات على شفتى زهرة..
عندها اقترب منها عاصم ليكون خلفها تماما و فى فرحة.. مال قليلا ليهمس فى أذنيها :- شايفة عرفاكى كيف..!!؟..
رفعت رأسها لتصطدم بعيونه فتضطرب وهى تسأل بصوت مهزوز النبرات :- أنا برضة مستغربة..!!؟..
ابتسم وهو يجيب بنفس الصوت الهامس:- كيف تنساكى.. ولولاكى ما كانت جت ع الدنيا..!!؟؟..

قفزت زهرة فى تلك اللحظة فى سعادة :- بجد..!؟.. هى دى الفرسة اللى اتولدت على أيدى..!؟.. أومأ فى حبور.. لتكمل هى تساؤلها المبتهج.. هى دى بنت عزيزة..!؟..
لينحنى هامسا من جديد.. :- هى دى زهرة..
توقفت فجأة قفزاتها المحمومة بالفرحة.. لتستدير بكليتها تواجهه وهى تعتقد انها لم تسمعه جيداً كما يجب.. وعيناها تحمل تساؤل..هل انت جاد فى ما تقول..!!؟..

ليبتسم مجيبا :- ايوه.. هى دى زهرة.. اللى هديتهانى يا زهرة..
وتذكرت تلك الرسالة الغامضة التى كتبها بداخل هديته المنحوتة على هيئة زهرة رائعة الجمال و التى وضعتها جانباً فى احد رفوف خزانة الملابس التى لم تستعملها بعد.. ولا تعلم ان كان سيتاح لها فرصة استخدامها اذن.. فقد أعطى المهرة الرائعة اسمها.. اسمى مهرته الجميلة اسم زهرة..

كان اضطرابها على أشده.. وخاصة مع تلك النظرات الحانية التى يغمرها بها.. والتى تجعل تعقلها فى سبات عميق.. وتدفع قلبها للقفز فرحا كالابلة.. لتبدأ الأعياد بجوانب صدرها على دقات نبضاته الماجنة..
أخذ ثانية بكفها.. ليعود بها لعزيزة و التى أنقذتها زهرة من موت محقق..
هللت الفرسة وكأنها تعرفت عليها.. وأطلقت صهيلا خاصا مرحبة بها جعل عاصم يقترب مقهقها لترحاب الفرسة بزهرة بهذه الطريقة..وقف على الجانب الاخر من الفرسة.. وأصبح بالكاد يرى زهرة التى تناهز عزيزة طولا..
قال مبتهجا:- عزيزة فرحانة بيكى..

ابتسمت فى خجل ولم ترد ليتحرك وهو يربت على عنق الفرسة ثم رأسها ليصبحا الان على نفس الجانب من الفرسة التى بدأت فى مشاكسة عاصم رغبة فى قطع السكر التى يكافئها بها.. فأطلقت زهرة بأريحية ضحكاتها على صنيع الفرسة جذبت أنظاره اليها كالمغناطيس ليتوه لحظات فى تلك الضحكات الرنانة التى يرقص قلبه الان على نغماتها والتى نادرا ما يسمعها.. جذب أنظاره عنها بصعوبة..

عندما وجدها تطأطأ رأسها خجلا وقد تنبهت لنظراته.. وضع كفه فى جيب جلبابه يخرج بعض قطع السكر من اجل الفرسة.. مكافئ لها.. فهى من جذبت بمشاكساتها تلك الضحكات الندية.. اقترح فجأة :- عايزة تأكليها.. وهو يمد يده بقطع السكر لزهرة.. تناولت منه بعضها فى فرحة.. ومدتها لعزيزة التى تناولتها مسرعة بسعادة..
همست زهرة معجبة بالفرسة :- فرسة جميلة..

ليؤكد عاصم :- اه.. فعلا جميلة.. ثم يستطرد.. عمرك ما ركبتى فرس.. وحرفية.. وقد تراجعت هى للخلف خطوات.. تتركه يعمل بجد.. وسؤالها المعلق لم تجد له جوابا الا عندما انتهى من وضع السرج لعزيزة وتطلع بكفه الممدودة لها.. فظلت مشدوهة مترددة ما بين كفه وعينيه التى اتسعت ابتسامتها.. واخيرا.. وضعت كفها فى احضان
كفه.. ليقبض عليها بلطف وترتعش هى كالعادة ليجذبها كليا الى احضانه.. وقبل ان تتنبه.. تجده يحيط خصرها بكفيه وفجأة وفى أقل من ثانية.. تجد نفسها على صهوة الفرسة..

ابدا لم تكن بتلك الخفة التى شعرت بها وهو يدفعها لاعلى صهوة الجواد فقد شعرت بأنها كالريشة..
واجتاحتها سعادة غامرة وهى فوق ظهر الفرس.. تنظر اليه من علياءها.. وهو يتطلع اليها.. ونظراته تشع بهجة لا توصف كانت نادرا ما تراها مرسومة فى هاتين الحدقتين التى تأسرها الان.. وجدت نفسها تبتسم له بشكل تلقائي عفوى.. تعجبت له.. ولكن..

تلك الابتسامة غابت فجأة.. وحل محلها التشنج والتوتر.. عندما وجدته.. فى لمح البصر..يقفز ليستقر على صهوة الفرس خلفها..يمد كفه ليمسك بلجامه..لتصبح هى اسيرة صدره وذراعاه.. وفجأة يلكز الفرس بخفه.. لتتحرك متهادية.. فتنتفض زهرة مرتعبة.. فعلاقتها بالأحصنة.. كانت دوما علاقة ارضية.. تفحصهم وقدماها على الارض.. ابدا لم تكن فى ذاك الموضع منهم فى يوم ما.. ولم تجرؤ يوما على اعتلاء صهوة احدهم.. ولا حتى فى أحلامها..

تلك الانتفاضة.. كان من اليسير علي عاصم ان يستشعرها وكيف لا.. وهى الان بين ذراعيه حرفيا..
همس بصوت متحشرج :- متخافيش.. انا معاكى..
بدأت زهرة تعتاد الامر قليلا.. عندما بدأت الفرسة فى السير متبخترة.. لكن لازال تشنجها على حاله.. ليس فقط خوفا من سقوطها من على صهوة عزيزة.. ولكن.. خوفا من ذاك الإحساس الذى بدأ يتسلل اليها.. احساس بالامان.. وهى محاطة بذراعاه.. وقريبة بهذا الشكل من صدره..

بدأت الفرسة تدريجيا فى زيادة سرعتها.. وبدأت هى ايضا بشكل عفوى فى التعلق به.. حتى اصبحت بالفعل ملتصقة تحتمى بصدره وذراعاها تتشبث به.. شعر بخوفها
فحث الفرسة على الإبطاء.. لتعود سيرتها الاولى..
همس فى أذنها:- عجبك ركوب الفرس.. ؟؟!؟
لتهمس بصوت مرتعش:- أه.. جداا..

ليعاود الهمس فى أذنها بصوته المتحشرج الذى تخالطه نبرات البهجة :- مش اكتر منى..
ابتسمت محاولة رفع رأسها مستفهمة:- ليه..!؟.. هو انت اول مرة تركبها انت كمان ولا ايه..!!؟..
ضحك بأريحية اربكتها مجيبا:- لاه.. ثم صمت قليلا ليعاود الهمس بالقرب من أذنها.. بس أول مرة أركبها معاكِ..
ابتسمت فى خجل.. وللعجب وجدت نفسها على الرغم من بطء الفرسة متشبثة به ملتصقة باحضانه ولا تريد الابتعاد.. وكانما هناك ما يجذبها للبقاء حيث هى.. ولا قبل لها.. لتغادر..

-عارفة..!؟.. سأل هامسا.. ليخرجها من خواطرها المخجلة نفسى حياتى تبجى كلها فوق الفرسة..
سألت بصوت متهدج تأثرا :- اشمعنى..!؟..
اجاب وهو يقترب اكثر من أذنها ويهمس بعشق :- عشان تبجى على طول.. زى ما انتِ كده..جريبة من جلبى..

وللمرة الاولى.. الاولى تماما.. ترفع نظراتها اليه ولا تكون نظرات نارية متحدية.. تمور بالغضب.. بل نظرات عاشقة نظرات هائمة.. نظرات تحمل الكثير وتقول الكثير..
نظرات جعلته يتشبث بها قريبة من صدره وهى ابدا لم تمانع.. بل كانت أكثر من مرحبة.. مما جعله ينطلق بالفرسة.. بسرعة كبيرة وهى بين احضانه لا تخشى شيئا..ينطلق حيث مكانه المفضل.. الذى ينطلق اليه.. كلما أهمه أمر ما.. بعيدا عن الاعين المتطفلة..

عند تلك التبة الجبلية التى يسلك لها طريقاً مهجوراً من مكان الاسطبلات.. ليصلا له فى دقائق ليتوقف بها.. على قمة تبته المفضلة.. والتى تشرف على الكفر كله من الأعلى.. تراه من بعيد.. وترى السراىّ سامقة عريقة من البعد.. كان منظراً مهيباً.. جعل روحها تحلق بعيدا فى هدوء ووداعة.. عيناها تتطلع اليه.. تراه ملكاً يطل على رعاياه من علياءه.. والاهم.. انه لازال يضم ذراعاه حولها.. أسرا إياها لاحضانه.. التى ما عاد لديها ادنى شك.. انها هى المكان الذى تنتمى اليه..

هى الوطن الذى بحثت عنه طويلا.. ليستوطن فيه جبينها..
لا تعلم كم مر من الوقت وهى معه.. على صهوة ذاك الجواد.. كل ما أدركته.. انها كانت هناك.. حيث لا مجال لانتقام او حقد او عداوة.. كانت بقربه وقد شعرت وللمرة الاولى.. بأنها أمنة تماما.. وان تلك الوساوس القديمة التى لطالما كانت حاجز بينهما.. قد تلاشت.. وشعرت انها تتمنى نفس أمنيته.. ان تعيش معه على صهوة الجواد العمر كله.. بعيدا عن الارض وصراعاتها.. وبالقرب من قلبه كما تمنى هو.. وكما تتوق هى وبشدة..

عادا الان للاسطبلات.. يترجل فى حسرة لانه سيبعدها عن صدره..تطلع اليها وهى لاتزل بالأعلى بنظرات تمور بعشق فاضح مد كفيه لخصرها فلم تعترض بل ازداد وجيب قلبها خجلا وشوقا.. رفعها ببطء عن صهوة الفرس.. ليدنيها من صدره حتى انزلها برفق وهى قابعة بين احضانه.. لا تصدق أن قدماها لامست الارض أخيرا.. بعد تلك الرحلة التى ما تمنت شيئاً.. الا امتدادها للأبد..

لم تكن لديه الرغبة فى إفلاتها من أسر احضانه.. ولم تكن هى بأقل منه رغبة فى البقاء..
همس بصوت يموج سعادة :- مبسوطة..!؟..
أومأت برأسها وهى تجيب هامسة بدورها وبصوت يذوب خجلا:- مكنتش مبسوطة فى حياتى.. أكتر من دلوقتى..
همس مشاكسا والابتسامة تكلل محياه العاشق.. وهو يشدد من جذبها لاحضانه أكثر :- دلوجتى..!؟؟.. ولا لما كونتى على الفرسة..!!؟..

تنبهت من خطأها.. فاضطربت.. وبدأت تتملص من حصار ذراعاه.. وجاءت النجدة أخيرا فى صورة.. صوت الخفير وهو يهتف من خارج الاسطبلات بصوت جهورى:- عاصم بيه..!؟؟.. حسام التهامى فى المضيفة من بدرى وعايز يجابلك.. أجول له ايه..!!؟..

بدأت زهرة فى التشنج.. وحمدت الله انه افلتها.. حيث اقترب من باب الاسطبلات مجيبا الخفير وهو يزفر فى ضيق :- جوله چاى.. وحضر العربية..ورجع الهانم السرايا.. ثم من مكانه أشار لها مودعاً.. واندفع ليقابل حسام لم يرغب فى العودة اليها.. لانه لو عاد فما من قوة على وجة الارض ستجعله يتحرك من قربها.. غادر اخيرا اما هى فقد بهت لونها.. وعادت كل مخاوفها للظهور من جديد..وانتهت الهدنة الرائعة التى مرت كالحلم.. همست فى نفسها.. يا آلهى لما عدت يا حسام.!؟

الا يكفى ما حدث بالسابق..!؟؟..
كانت تظن ان عبوسه بسبب مجئ حسام من جديد.. لم تدرك ابدا.. ان عبوسه هذا.. وحنقه الواضح كان بسبب اضطراره لافلاتها.. وابعادها عن ذراعيه..
ركبت السيارة.. ونظراته تتبعها حين مرت به وهو يتوجه لحسام... وقد قرر ان يرى ما بجعبته.. هذه المرة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة