قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الأول للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول

كان يقود سيارته وهو غارق فى أفكاره وخواطره...
التى تزاحمت جميعها... تتصارع... ولا فكاك منها...
أن قلب الصعيد... حيث وُلد... كان و مازال من أكثر الأماكن التي تموج بالاحداث الساخنة... والصراعات التي لاتنتهي...
تتجسد أمام عينيه الأن... صورة أبيه الحاج مهران الهوارى كبير الهوارية فى نجع الصالح... وقد أقعده المرض... فألقى كل أحمال العائلة على كتفىّ ولده البكر منذ سنوات...

لم ينعم بالراحة بعد تلك المسؤولية... والتى لم يكن له رفاهية قبولها او رفضها... ولم يكن يستطيع أن يتقاعص عن حملها... فهو الأبن البكرلوالده... والذى لم ينجب غيره من الذكور... بجانب أخته سهام... والتي تصغره بأكثر من سبع سنوات...
وأمه الحاجة فضيلة... تلك المرأة بشخصيتها القوية والتى ربته على الحزم والشدة... والتى طالما كانت تتباهى
بأن ولدها منذ نعومة اظافره... قلبه ميت... لا يعرف الرحمة مع من لا يستحقها..
الفضل يعود لتلك السيدة فيما وصل إليه الأن...

و هو لا ينكر ذلك أبداً... فالكل يهابه... ويقيم له ألف حساب... ولا يمكن لأي من كان... أن يعترض على حكمه...
أو يرد له كلمة... فهو الأمر الناهي فى ذاك النجع..
منذ سنوات... وهو يعرف أن الناس تدعوه بالغول...
أو الوحش... لشدته... وقساوة قلبه... لكن...

لولا ذلك لكان الهوارية... وسيرتهم..مضغة تُلاك فى الأفواه... ... و سخرية لأهل النجع والنجوع المجاورة...
خاصة بعد تلك القصة القديمة... التى كللت أسم الهوارية بالعار... وأحنت هامات رجال العائلة...
لطالما أعادت أمه على مسامعه أحداث تلك القصة...
وأزكت الرغبة بداخله... يوما بعد يوم...
في الأنتقام... والذي يعتبره واجب مقدس...
لا يموت بالتقادم... ولن يقدر علي أتيانه... أحد سواه..

وأنه لابد من أن يأتى يوم... ..لينتقم من ذاك الذى تجرأ
ليخطئ فى حق الهوارية... ويحنى رؤوسهم... لفترة ليست بالقليلة...
حتى أعادت... قسوته وسطوته تلك الهيبة المفقودة...
أخته سهام... انها تلك النسمة الرقيقة...
فى ظل أجواء حياته المحاطة بالكراهية و الصراع...
الأن هي موضع... قلق وتوجس أمه الحاجة فضيلة
فهى ناهزت الخامسة والعشرين ولم تتزوج بعد...
كيف ذلك !!!... وهى أيه من الجمال بجانب حسبها...

ونسبها... وأصلها الطيب...
ربما كان له دوره فى ذلك..
أن سطوته وجبروته... أثرت بالسلب...
على زواج أخته الوحيدة... والتى لم يتجرأ الكثيرين..
للمثول أمامه لطلب يدها... ومن تجرأ و فعل لم يجده هوجديراً بأخته الرائعة...
تنهد... وقد لاحظ انه تقريبا قطع أكثر من نصف المسافة حيث مزرعته بالقرب من القاهرة...
حاول ان يقطع ذاك الحبل الممتد من الافكار والخواطر... أنه يشعر بأنه يعيش دائما على حد السيف..
يجد نفسه دوماً... فى خضم من الصراعات والقلاقل..
التى لا تنتهي...

حتى أقرب الناس إليه... لم يسلم من ضغائنه..
وتجسدت أمام عينيه... صورة عمه غسان رحمه الله...
وابنه سليم... لطالما حذرته امه من مكرهما وكيدهما..
و لطالما كانت غيرة سليم... منذ ان كانا طفلين...
هى كل ما يكنه له من مشاعر...
ثم زاد عليها... بعض من الحقد والكراهية...
كم تمني أن يكون سليم ذاك الأخ الذي لم يحظي به..
لكن سليم كان مثل النار... التى تحرق من يقترب منها..
نار تزكيها الكراهية...
التى زرعها عمه غسان... فى قلب ولده.. تجاه بن عمه الوحيد...
لطالما شعر عمه... بأن مكانه دائما...
هو رأس العائلة وعميدها... لكن أبوه الحاج مهران...

لم يأتمن عمه على العائلة ومصالحها... لأسباب كثيرة...
رفض أبوه ذكرها... ربما... رغبة فى بقاء...
صورة العم نقية... بعض الشئ فى مخيلته...
تقدم سليم لخطبة سهام أخته عدة مرات... وكان أبوه..
في كل مرة... أول الرافضين...
كان دائما ما يقول... مبرراً رفضه...

انه لو يعلم... انه سيصونها... لكان أولى بها فهو بن عمها... لكن كل ما يهمه... هو ميراثها... بعد عمر طويل...
مد يده ليشغل مذياع السيارة الفارهة التى يقودها..
محاولا أن يقطع ذاك السيل العارم... من الاحداث والخواطر... ..والتى تداهمه ما أن يبقى وحيدا...
فتهادت الموسيقى الناعمة الرقيقة... لأحدى الأغاني العاطفية... التى تقطر شجنا وهياما...
ظهرت على شفتيه ابتسامة ساخرة... وهو يستمع لكلمات الحب التى تقطر هجراً.. ولوعة.. وقال محدثا نفسه:-... حب وعشج ومسخرة... وكلام فاضى... اهو بيضحكوا على الحريم بكلمتين...

تنبه انه على مشارف الوصول للمزرعة...
والتى يتشارك في ملكيتها مع أحد أصدقائه منذ أيام الجامعة..
وترك له الأشراف على إدارتها... ولولا إلحاحه..
للقدوم... بسبب بعض الأمور الإدارية الهامة...
والتى يتوجب عليه القيام بها... ... ما استطاع ان يترك النجع
وأموره المعلقة والتي لا تسير إلا تحت إمرته...
اخيراً وصل الى حدود مزرعته...

وها هو يعبر بوابتها... واذ فجأه تمر من البوابة...
فى نفس اللحظه سيارة اخري مسرعة...
توقف على الفور يتطلع لذاك المتهورالذى يقودها... فلم يلمح من خلف الغبار سوى خيال لغطاء رأس انثوى خلف مقود العربة...
عبر البوابه فى ثقة...
وهلل له الحراس فى حبور :- حمد الله بالسلامة يا باشمهندس(عاصم ) نورت مزرعتك...
ابتسم لهم فى حبور... واومأ برأسه..

واتجه حيث مبنى الإدارة... ليستقبله شريكه المهندس( ممدوح) فى حبور مماثل :- حمد الله على السلامة... ايه الغيبة الطويلة دى يا عاصم...
هو انا لازم ابعتلك علشان اشوفك مفيش مرة تغلط وتيجى لوحدك... وتقوم باعت بدالك بن عمك...
اللى على طوول مشكك فى كل حاجة...
الصراحة... بن عمك دى حاجه صعبة بجد.
رد عاصم بلهجة تدل على أصولة الصعيدية :-معَلش يا( ممدوح) المشاغل مبتخلصش فى البلد...
وانت عارف كل حاچة على راسى...
فببعت سليم بن عمى يشوف طلباتكم... تنحنح فى احراج مستطردا... أنى عارف ان التعامل معاه صعب حبتين...
بس لو ساچ فيها كلمنى... وانا اشوف شغلى معاه.

-كان الله فى العون... على العموم... انا بعتلك علشان السلالات الجديده اللى طلبتها وصلت...
وكمان وظفنا اكتر من بيطرى وعامل...
لازم طبعا تعتمد اوراقهم بتوقيعك...
بس ده طبعا بعد ما ترتاح من الطريق...
ونتغدى مع بعض...

- اعذرنى يا (ممدوح) مش هجدر... يا دوب اشوف طلباتك... وامضى الاوراج المتعطلة... وارچع...
علشان انت عارف المصالح فى النجع كَتيرة...
ومجدرش اتأخر عنها... وكمان المسافة... من هنا لجلب الصعيد مش جُليلة.
-طيب حيث كده... يا الله بينا... نعدى على المزرعة تعاين السلالات... وتتعرف على الموظفين الجداد.
نهضا سويا... يتفقدا أقسام المزرعة فى سرعة...

ويرحبا بالعاملين القدامى... ويتعرف على الموظفين المستجدين..حتى وقف عند أحد الأقسام...
التى تجتمع فيها السلالات الجديدة...
فأخذ يشرح ( ممدوح) مميزاتها المختلفة... والفائدة التى ستعود عليهم بالنفع... لو تم تلقيح السلالات القديمة بالجديدة...

وفى أثناء ذلك وقعت عينا (عاصم)... على خيال أنثوى بالقرب منهم وتنبه لحجابها السماوى... اليست هى من كانت تقود سيارتها بتهور قاتل وأجتازته برعونة عند بوابة المزرعة... !؟؟.. وجدها تقوم بفحص بعض الأبقار فى مكان غير مؤهل لذلك... وهناك على الجانب الأخر منها يقف احد العمال لا يراها
فى انحناءها اثناء الفحص... يدفع الأبقار ناحية الجهة التى تقف فيها دون ان يدرك وجودها...

تنبه (عاصم) سريعا لما قد يحدث... واندفع اليها.. يجذبها بعيداً فى نفس اللحظة التى اندفعت فيها الأبقار حيث كانت تقف...
ثوان فقط يمكن ان تفصل بين الواقع والحلم..بين التحليق فى الفضاء الواسع.. او السقوط بلا سابق إنذار..
وسألت نفسها لماذا لا تلامس قدميها الأرض... ؟؟؟!!!
وما هذا القيد الحديدى الذى يقبض على خصرها...

نظرت للأسفل الى قدميها المعلقتين... و تباطأت... وهى ترفع انظارها لأعلى... لتقابل عينين حادتين.. عيون قاسية مخيفة أرعبتها... لكن تلك العينيان... كانت فى واد أخر... تتعلق بشئ ما تتابعه فى شغف...
و لم تدرك ما هو... حتى شعرت بتلك الخصلات المتمردة من شعرها... وقد هربت من عقال حجابها تمرح فى سعادة... وتتعلق بها عينا ذاك الغريب بوله...
ثم فجأة... فقدت عين الغريب شغفها...
وأنحدرت فى بطئ... لتقابل عينيها الجوزيتين...
يالقساوة عينيه...
خليط من الحزم... والصرامة... والقسوة..
معجون بلون عينيه الأسود الفحمى...
خليط مهيب يجعلك تفكر ألف ألف مرة...
قبل أن تحاول الأقتراب منه...
لكنها الأن أكثر من قريبة... إنها بين ذراعيه..
والأفضل لها أن تبتعد... والأن...

همست فى توتر.. بنبرات مرتجفة خجلاً:- ممكن تنزلنى؟؟!!!... يبدو انه لم يسمعها... ..فأعادت طلبها من جديد بنبرة ازداد ارتجاف حروفها... بعد اذنك... انزل... ممكن؟؟؟!!
ويبدو أنه لم يكن مستعداً للتنفيذ...
فتدخل (ممدوح ) مسرعاً... دى الدكتورة (زهرة)... يا(عاصم)... أزعن أخيراً لمطلبها... وأطلق سراحها... والعجيب... أنه أنزلها فى رقة بالغة حتى لامست قدماها الأرض... فتنهدت براحة وهى تعدل من هندامها..ووضع حجابها... واستطرد ممدوح ليخرجها من شرودها:-الدكتورة (زهرة)... من البيطريين الممتازين عندنا... على الرغم من انها لسه جديدة معانا... من شهرين بس... لكن اثبتت جدارتها بسرعة كبيرة.

هز(عاصم) رأسه فى تثاقل... وهو يقول :- بس اللى حُصل ما بيجلش كِده... أى دكتور بيطرى مبتدئ... عارف كيف يراعى قواعد السلامة وهو وسط البهايم... ولا ايه يا باشمهندس ممدوح!!!؟؟... سعل (ممدوح)بأحراج...
أما هى فكانت تستشيط غضبا وهو يتهمها بالإهمال وعدم معرفة أبسط قواعد مهنتها التى تعشقها...
لا تعرف ما الذى عقد لسانها عن الرد عليه بما يليق... وذلك ما جعلها تكاد تنفجر غيظا...
أيها المتعجرف عديم اللياقة... سحقاااا لك.

كانت تهم بالإنصراف... إلا انها وجدت يده ممدودة بالتحية فى عجرفة مقيتة قائلا :- تشرفنا يا داكتورة...
وخدى بالك المرة الچاية مش كل مرة هبجى موچود..
مدت يدها... تستقبل يده الممدودة فى ضيق وعدم رغبة... ... وشعور جارف يتملكها ويطن فى رأسها بأن تجرى..
نعم تجرى وبأقصى سرعة ممكنة... وتبتعد عن طريق ذاك الرجل للأبد..

انها بحق تشعر فى حضوره الطاغى... بعدم الأمان... والرغبة الجارفة فى الاختباء عن عينيه الثاقبتين...
والتى تكاد تجزم... انهما تدركا بسهولة...
ما يدور بخلدها الأن...
لم يطلق سراح كفها... فشعرت بالأسر فعلا...
وهو يسأل :- الأسم مرة تانية ؟!!... أجابت فى نفاذ صبر... رغبة فى إطلاق كفها من يده بأسرع ما يمكن...
(زهره ناجى التهامى )...

ثم عضت على شفتيها فى ندم...
كيف ترتكب ذلك الخطأ الفادح...
كيف تنسى وصية والدها المعتاده لها..
بأن لا تذكر اسم العائله مطلقا لأى كان...
وها هى بكل حماقة وتهور... كالعادة...
تلقى على مسامعه... هو... وهو بالذات...

ما تم تحذيرها منه... طوال سنوات عمرها الخمسة والعشرين
كان يجب أن لا تخطئ أمامه فى شئ كهذا..
فلهجته تؤكد أنه صعيدى... يا آلهى ماذا فعلت !!!...
لولا تأثير حضوره على أعصابها... ما اخطأت...

وها قد تحققت كل شكوكها... عندما بدأت عيناه تضيق... لتصبح اشبه بعينى فهد... يستعد للإنقضاض على فريسته... وقال فى لهجة... تحمل الكثيرمن الجذل :- زهرة ناچى التهامى... اسم ميتنسيش بسهولة أبداً... تشرفنا يا داكتورة... وفرصة سعيدة جدااااا...
ثم اطلق كفها كما تمنت... وأستدار مغادراً دون أن يلتفت ولو لثانية واحدة... وعلى الرغم من إطلاق سراح كفها... لكن شملها شعور تملكها... بإنها لازالت أسيرته...
وأن الهواء الذى تتنفسه... لازال يحمل انفاسه...

وحضوره الطاغى... لازال يعكر الأجواء فيما حولها...
لم يتأثر عندما ذكرت إسمها... اليس كذلك؟؟!...
..كانت تطمئن نفسها... وتؤكد هذا...
مراراً... وتكراراً...
وفى غرفة الإدارة...
سأل (عاصم) فى إهتمام:- أنت تِعرف الداكتورة (زهرة)... دى زين... يا ممدوح!!؟؟؟...

-هى دكتورة شاطرة... كل مؤهلاتها بتقول كده...
والشغل في الشهرين اللى فاتوا... أثبت ده...
اللى حصل ده كان مجرد... قاطعه (عاصم) متسائلا ً:-... انا مجصدش مؤهلاتها العلمية... ولا اللى حُصل فى العنابر..
أنا جصدى..تِعرف هى منين... !!؟؟...
أهلها..بالأخص... منين!!!؟؟...
-أه... واحد قريبى اللى رشحهالى علشان تشتغل هنا...

يعرف والدها الدكتور ناجى... ده دكتور جامعى.
وأعتقد أصله من الصعيد... على العموم...
اسمها موجود رباعى فى اوارق التعيين...
اللى ناقصها توقيعك...
وقدم ممدوح الاوراق... التى تناولها عاصم فى لهفة...
ليقرأ فى بطء... زهرة ناچى وصفى التهامى...
وعند هذه النقطة... ابتسم (عاصم) فى جزل وهو يقول :-... كنت متأكد...
-أيه..!!؟؟... بتسأل بإهتمام... شكله موضوع نسب...
استفسر ممدوح فى حبور... فأجاب عاصم فى شرود :-... تجريباً...

حان موعد عودتها لمنزلها... فأستقلت عربتها..
وأخذت طريقها المعتادة...
وهى تتلو على نفسها...
ما سوف تخبر به أبيها عما حدث فى يومها...
مقررة تناسى ذكر ذاك الصعيدى الغريب الذى قابلته... ... وكذلك الحادثة التى أنقذها منها...
لن تعكر صفو مسائها...
بذكر ذلك الرجل مرة اخرى على مائدة العشاء...

وتثير قلق ومخاوف ابيها...
والذى قد يمنعها مطلقاً من العودة ثانية للعمل بتلك المزرعة... وقد تبدأ حياة الترحال التى كرهتها... فقط لمجرد بضع مخاوف... قد تثير حفيظة والدها...
لقد رحل... ولن تقابله ثانية قبل أشهر... كعادته...
فهو نادراً.. ما يأتى المزرعة كما سمعت...
لكن كل توقعاتها والتى منت بها نفسها...
خابت... عندما توقفت سيارتها تزمجربلا حراك...
ولم تجد على الطريق سوى سيارة سوداء...
لم تعرف صاحبها إلا عندما ترجل منها قاصداً مكانها...

وهو يدارى ابتسامة انتصار تحاول القفز على شفتيه فلقد توقفت العربة حيث توقع بالضبط، بعد ان دفع احد عمال المزرعة
ليعبث فيها بطريقة محترفة تجعل العربة تتعطل بعد انطلاقها بفترة ويظهر الامر وكأنه عطل مفاجئ بها... وها هو يسأل فى براءة.. :- خير يا داكتورة... العربية فيها حاچة!!!؟؟؟...

-الظاهر كده... أجابت وهى متوترة... لعدم رغبتها فى بقاءها معه وحيدة... فتح مقدمة السيارة... نظر لحظات فيها... متصنعاً الاهتمام باصلاح العطل المتعمد..
ثم قال :- مفيش أمل إنها تتصلح... ..تسمحيلى أوصلِك؟؟...
قالها فى لطف يتنافى تماما مع طبيعته الحادة...
لكنها رفضت بذوق قائلة :- لا.. مفيش داعى أتعب حضرتك.. هتصل بوالدي.. وهو هايجى ياخدنى..
هتف فى دهشة مصطنعة :- وهاتجعدى لحالك فى المكان دِه.. والعتمة داخلة.. دِه يصح يا داكتورة..!!؟..

لم ترد.. وهى تنظر لهاتفها.. تحاول ان تحقق اى اتصال بأبيها
ولسوء حظها.. لا وجود للتغطية فى هذا المكان المتطرف.. فهى دوما ما تُطمئن أباها بانها على الطريق.. عندما تخرج من باب المزرعة مباشرة.. لعلمها بعدم وجود تغطية على طول الطريق للمزرعة.. الا فيما ندر.. لذا... لم يكن لديها خيار أخر...
فقالت فى إحراج :- طيب..ممكن لو سمحت... ترجعنى للمزرعة... انا مبعدتش كتير.. هم هيوصلونى باتوبيسات العاملين.
- متجلجيش يا داكتورة... أكيد هوصلك للمكان المناسب...

قالها بلهجة لم تعجبها... يكمن فيها الكثير من الغموض... وكالمذنب الذى يساق لتنفيذ الحكم فيه.
سارت بجواره حتى باب سيارته ودخلتها...
وذلك الصوت الداخلى... والذى طالما يحثها على الهروب لحظات الخطربات يصم اذنيها
لكن إلىً اين تذهب ؟؟؟؟... ... وكيف ؟؟؟...
والليل بدأ يسدل ستائره...

وهى وحيدة فى ذاك المكان الموحش مع ذاك الغريب... ... الذى تشعرناحيته.. بقلق مبهم يكتنفها...
وما ان أستقرت فى المقعد المجاور له...
حتى سمعته يهمهم ببضع كلمات.. بنبرة حاقدة جمدتها..
ورائحة غريبة.. تخترق انفاسها..لتذهب بثباتها..
لتسقط فى بئر عميقة...
من ظلام دامس غزا عقلها...
وأحاط بعالمها...

فى تثاقل... بسبب دوار رأسها الذى يفتك بها...
وبألم... حاولت أن تتحرك... لكن جسدها كان متيبس... نظرت فى ذهول حولها... لم تري سوى ضوء البدر يدخل من نافذة السيارة... والتى كانت تتأرجح على طريق غير ممهدة... أصابتها بالغثيان...
سألت نفسها... والدوار لا يزال يكتنف رأسها كغمامة بيضاء... إين أنا !!؟؟ وماذا حدث... !!؟؟ تفكيرها لا يزال مشوشا...
ولا تستطيع إسترجاع الأحداث الأخيرة... ثم فجأة...
أنقشعت الغمامة عن عقلها... لتذكر كل ما حدث دفعة واحدة... فصرخت وحاولت الحركة... لكنها وجدت نفسها مقيدة
وملقاة... فى المقعد الخلفى لسيارة السيد المتعجرف...

هل يختطفها... هل جن ليفعل ذلك... ولماذا... ؟؟!!...
شعر بحركتها فى المقعد الخلفى...
فنظر فى جزل اليها قائلا :- أخيراً فوجتى..
- أنت واخدنى على فين !!؟؟... سألت فى نبرة لاتخلو من الرعب على الرغم من محاولاتها عدم اظهار ذلك...
- دلوجتى تعرفى كل حاچة... جربنا نوصلوا...
- نوصل فين !!؟؟... انت واعى للى بتعمله... هتفت برعب من جديد.. وجسدها ينتفض بذعر حقيقى...
- نوصلوا بلدنا... وطبعا واعى جووى للى بعمله... واللى كان نفسى فيه من زمااااان... وأخيراً... جالى على طبج من فضة..
ماذا يقول !!!؟؟ سألت نفسها... هل يتعاطى شئ ما!!!؟؟..

لا تعتقد... فلا يبدو من أولئك المغيبين... إنه واع تماما لكل ما يفعل... إذن لما يختطفها !!!؟؟؟... وإلى اين يذهب بها!!؟؟؟
وهل من يريد ان يختطف... شخصا ما يذهب به الى بلده... !!!!... ما هذا الجنون... حاولت التحررمن قيودها لكن لا فائدة...
أخذت تتشنج... وتضرب بأقدامها المقيدة ظهر مقعده...
لكنه لم يبالى..ينظر الى الطريق فى ثبات شديد... ولم يستدير مرة أخرى... لإلقاء نظرة الى الخلف... حيث تكمن أسيرته...
سمعت رنات هاتفها المحمول... مراراً.. وتكراراً...
بلا شك والدها الأن فى قمة قلقه وتوتره...
تراه... ماذا سيفعل عندما يعلم ما حل بها..!!!؟

تشفق عليه وعلى حاله... فأبوها يعشقها..لن يحتمل اذا ما اصابها خطب ما... يا آلهى... أعنه على ما سيكون فيه عندما يعلم... وما سيكون حال امها... هل ستحزن عليها بقدر حزن ابيها!؟... وأختها الصغرى (ندى)... كيف ستبيت ليلتها وحيدة وهى التى تخاف... من البقاء بمفردها فى غرفة منفصلة...
على الرغم من انها ليست طفلة... فهى شابة جميلة...

فى عامها الجامعى الثالث...
اللعنة على ذلات اللسان فهى ما اوقعها فى هذه الورطة فمنذ سمع بأسمها... وهى تتوجس منه...
وشعرت بفطرتها انه يضمر لها شئ ما...
لم تعرف ما هو بالتحديد... لكنها ادركته الأن...
واقع ملموس... واقع يجعل الرعب يدب فى اوصالها...
كلما تخيلت... ما قد يكون فى انتظارها مع هذا الكائن اللأدمى... الذى يقود العربة لجهة مجهولة بالنسبة لها... ولمصير... قد يكون الموت أفضل منه...
يا آلهى... كيف أنت الأن يا أبى !!؟؟؟...

كم اشتقت إليك !!!!... فجأة...
وجدته يمسك بحقيبتها الشخصية... يفرغ محتوياتها على الكرسى المجاور له... ويمسك بهاتفها...
-ماذا تفعل !!؟؟... لم يعير سؤالها... أى أهتمام كالعادة...
وأستمر فى النقر على الشاشة...
حتى انتهى وألقى بالهاتف على المقعد المجاور...
وماهى إلا لحظات... حتى بدأ الهاتف فى الرنين الذى لم ينقطع... كانت تعلم... أن تلك الرنات المجنونة المتلاحقة... مصدرها... أبوها المسكين...
الذى لابد وأن التوتر يمزقه... وقد بلغ به القلق... مبلغه
بدأت فى البكاء... بصوت مكتوم...
لا تريده ان يستشعر ضعفها...
أمامه هو.. دون عن جميع البشر...

لن تظهر ضعفها مهما حدث... بل وستكون أقوى وأصلب من حقيقتها بمراحل... فقط..حتى لا يستشعر خوفها و خضوعها مهما فعل...
وفجأة... توقفت السيارة...
وشعرت بأن قلبها توقف معها... ثم بدأ فى الخفقان... بشكل جنونى يصم أذنيها عن ما حولها...
لم تستوضح ما يحيط بها فى ذاك الظلام الدامس... عندما اعتدلت فى جلستها محاولة مقاومته...
لكن يده الصلبة القاسية... جذبتها من مكانها...

حملها عنوة بعد مقاومة شرسة منها... لم تؤثر في عزمه... ولو للحظة... ومن فوق ذراعيه...
شاهدت ذاك القصر المنيف... الذى لم يدخل من بابه الرئيسى واستدار بها ليدخل من باب جانبى... أدى بهما لردهة يكتنفها الهدوء المريب...
سار بها حتى نهايتها... ثم دفع الباب فى خشونة بضربة من قدمه... فإذا بها غرفة للنوم... جالت فيها بنظرها سريعاً.. لتجدها
تضم فراشاً... وخزينة ملابس... وطاولة للزينة...
ونافذة محاطة بقضبان حديدية...

إنها الغرفة الأمثل لسَجن شخص ما...
وتأهبت عندما أقترب من الفراش... وأنتفضت كل خلاياها فى رعب... وبدأت فى التمرد والزمجرة لتفلت من يده...
لكن قبضته... كانت محكمة كقيد حديدى...
ألقى بها على الفراش فى تأفف...
فتأوهت متألمة لأن يديها لازالت موثوقة خلف ظهرها...
أقترب منها... فتحفزت من جديد...
إلا أنه أدار جسدها فى عنف كجوال من القطن...

وبدأ فى فك وثاق يديها... وما ان انتهى.. حتى انتفضت جالسة..
وكالعادة لم يعير ردات فعلها اهتماماً... جلس أسفل قدميها... ليفك وثاقهما...
لكنها جذبتهما... لتضمهما إلى صدرها...
فنظر إليها بنفاذ صبر... ثم تعلقت عيناه بشئ ما...
أدركته على الفور... وهى تدلك معصميهما بألم...
كانت تلك الخصلات المتمردة اللعينة... من جديد...

والتى تسللت مرة أخرى خارجاً... بعد انحصار حجابهاعن رأسها بعض الشئ من جراء مقاومتها له... فمدت يديها لتعيدها فى حنق وتقطع شروده وهى تقول :- انا هفك رجلى بنفسى...
أستمتعت بمعارضته... حتى على شئ لا يستحق...
وشعرت بالانتصار... عندما نهض بلامبالاة...
وهو يقول بلهجة حازمة :- ها تفضلى هنا... الأوضة فيها كل اللى هاتحتاجيه... لحد ما ربنا يسهل..
- أنا هنا ليه... يا باشمهندس عاصم!!؟؟؟

- السؤال دِه أجابته عمرها سنين... أطول من عمرى وعمرك يا داكتورة... بس اللى أنا متأكد منيه...
إنك إنت ِ... اللى ها تدفعى تمن اللى ابوكى عِمله...
اندفع فى عنف خارج الغرفة...
وأغلق بابها بشكل عاصف خلفه...
لتكون صوت الاقفال التى اغلقت باب زنزانتها...
أخر الأصوات... التى تسمعها فى تلك الليلة الدامية.

 - كده كتير... كتير قوووى... أكيد حصل لها حاجة...
دى أول مرة تتأخر كده... هتف الدكتور ناجى التهامى بتلك الكلمات فى توتر بالغ... أفقده وقاره وهدؤه المعتاد...
-ما تقلقش يا ناجى... المكان هناك شبكة الإتصال فيه معدومة... وأكيد فى حالة مستعجلة فى المزرعة...
هى اللى أخرتها... تعالى أهدا بس وهتلاقيها داخلة عليك دلوقتى...
نظر ناجى لزوجته... فى حنق بالغ لبرود أعصابها...
كان يهم بأن يعلق على كلامها المثير للغضب...

لكنه آثر الصمت... فيكفيه ما به من توتر وقلق يفقده صوابه... يا ترى ماذا حدث لها !!!؟؟...
لن يقف مكتوف الإيدى... سيذهب للمزرعة...
ربما تعطلت سيارتها فى الطريق ولسوء شبكة الإتصال لم تستطيع أن تستنجد به...
أنتفض خارج من بيته... يتخذ الطريق حيث المزرعة... التى تعمل بها ابنته...
كان يدور فى رأسه مئات الأفكار السيئة...
التى كان يطردها بالإستعاذة والدعاء بأن يحفظ الله له ابنته... انها أغلى ما يملك فى دنياه...
عالمه كله فى كفة... وابنته فى كفة أخرى...
ودائما ما ترجح كفة ابنته الحبيبة...

كان يقود سيارته بأقصى ما يستطيع...
حتى أقترب من المزرعة وأتخذ الطريق الذى يؤدى إليها... وفجأة... أبصر سيارتها... على جانب الطريق...
فتوقف واندفع خارجا... يمنى نفسه... بأنها داخل السيارة... تنتظر العون...
لكنه وجد سيارتها فارغة... فتحها بالمفتاح الإحتياطى... الذى تتركته زهرة فى حوزته...
نظر فى المقعد الخلفى... والأمامى... لم يجد ما يريبه...
أدار السيارة... وأكتشف عطلها...
إذن تعطلت بها فعلا... لكن إين هى !!!... يا الله يكاد يجن

ربما وصلت الان البيت.. وهو لا يستطيع معرفة ذلك بسبب سوء التغطية.. عاد لسيارته من جديد يقودها.. عين على الطريق.. والأخرى على تغطية الهاتف.. التى ما ان لاحت على شاشته.. حتى اختطفه يحاول الاتصال بها مجدداً... ولكن... فجأة... إنتفض على صوت وصول رسالة على جواله...
فضها مسرعاً...
لم يع شيئا مما هو مكتوب... أوقف سيارته على جانب الطريق.. حتى يستطيع التركيز فى ذاك الجنون المرسل اليه... بالتأكيد مستحيل...
قرأ الرسالة مرة أخرى... وهو يحاول تهدئة أعصابه الثائرة...

( بابا..سامحنى... أنا مع اللى أختاره قلبى... عملت كده علشان عارفة انك مش هتوافق على جوازنا..)
قرأ الرسالة عدة مرات... وتأكد من الراسل...
انها ابنته... لا يمكن... لا يصدق... زهرة لا تفعل ذلك... حتى ولو كانت تحب شخص ما...
كانت ستدفعه للحضور لمقابلته... وستناقشه فى اسباب رفضه... إذا كان يستحق الرفض فعلا...
لا... لا يصدق... فلقد رباها على الصراحة والوضوح معه فى كل الأمور...
كيف لها أن تقدم على فعلة كهذه...

هل حقا يمكن أن تقدم على خزلانه... !!؟؟..
وأن تخون ثقته فيها... بهذا الشكل القاسى..!؟..
أن ابنته لا تفعل ذلك... ليس زهرة...
قاد سيارته عائداً إلى بيته... تتقاذفه الظنون...
وتلعب بعقله الأفكار...
هتف مناديا زوجته... عند وصوله منهاراً على أحد المقاعد:- منيرة..
فأندفعت حيث يجلس متسائلة فى لهفة :- ها.. فى جديد يا ناجى..!؟... طمنى...
فتح الرسالة وقدمها لها...
فقرأتها... لتشهق واضعة يدها على فمها...
مأخوذة بما تقرأ...

ثم تنتفض فجأة هاتفة فى حنق:- ياما قلت لك انت مدلعها يا ناجى... ومديها حرية و ثقة كبيرة...
وكنت ترد عليا... انا مربيها وعارف بنتى كويس...
وثقتى فيها ملهاش حدود... أتفضل قولى بقى هاتعمل أيه دلوقتى..!!؟؟... ونفعك دلعك فيها... والله وحده أعلم هى هربت مع مين !!!!...
أتفضحنا خلاص... سمعتنا بقت فى الأرض... وأختها الغلبانة اللى جوه... مين هيعبرها ويتقدم لها بعد الفضيحة دى... !!!؟؟

انتفض الدكتور ناجى صارخا فى غضب عارم... أودع فيه كل قلقه وتوتره :- كفاااية... انتِ ايه..!!؟..مش كفاية طووول عمرك بتفرقى بينها وبين اختها فى كل حاجة...
وأنا ساكت... عمرها ما شافت منك حنية ولا عطف ولا كلمة عدلة... يا شيخة اتقى الله بقى... أنا قلت هتعوضيها عن أمها... اللى ملحقتش تتمتع بحنانها وراحت بعد ما ولدتها بأيام... هى عمرها ما عرفت لها أم غيرك...
غير دادة بخيتة اللى رعتها بعد موت أمها...

واللى أصريتى برضة تبعديها وتمشيها بعد جوازنا... لكن للأسف عمرك ما قدرتى تكونى الأم اللى هى كانت محتجاها... ولما ربنا رزقنا ببنتنا (ندى)...
قلت هيقربوا من بعض... لكن برضة انتى بعدتى (ندى) عنها على قد ما قدرتى... كان لازم... أنا أحاول أكون جنبها أب وأم وكل اللى ليها فى الدنيا...
وحتى ده أستكترتيه عليها...
حرام عليكى حسى شوية...
لو كانت ندى اللى عملت كده...

كنتِ قلتِ الكلام ده كله... وخاصة انى عارف ان زهرة متعملش كده..واللى فى الرسالة ده كله كدب..
نهضت زوجته فى تثاقل وملل وهى تقول..:- خلصت محاضرتك يا دكتور... انا رايحة أنام..أه... وبالمناسبة..
أنا ندى بنتى متربية ومتعملش كده...
لكن الظاهر..دى وراثة..مجبتهوش من بره...
عن إذنك... وأندفعت لغرفة نومهما...
وصفقت الباب خلفها فى عنف... تاركة إياه فى ذهول من كلماتها الأخيرة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة