رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي عشر
ظلت حرب النظرات مُشتعلة بين العائلتين، كان مظهرًا مُهيبًا لم يحدث منذُ عدة أعوام كثيرة، نشبت النيران في صدورهم متذكرين كل كبيرة وصغيرة حدثت، بما حدص لا يُمحي من العقول ولا القلوب.
اعتدل سلطان بتهجم من على ابنه، ولكن قبل أن يقف باغته بضربة من كف يده على وجه شهاب، تأوه الآخر بألم ناظرًا لوالده بغيظ، تربع محله وهو يُطالع الجميع بنظرات ضاجرة.
توقفت نظراته على والدته التي كانت تُنظر لعائلة أبو زيد بنظرات خائفة مذعورة، لم يلحظ نظراتها تلك، بل نداها بصوت هامس ثم وجَّه يده على رقبته دلالة على الذبح.
لم تعطي له أي إهتمام، بل ظلت ترتعد من الداخل بسبب رؤية تلك العائلة، ابتلعت ريقها بتوتر ثم انتظرت بترقب حديث زوجها ليعلم سبب وجودهم بعد كل تلك السنوات التي مرت عليهم وهم في إنقطاع دائم.
اقترب سلطان منهم بغضب، واتضح على وجهه علامات النفور التي اتضحت لهم، لكن هذا لا يهم، هم قد جاءوا لسببًا محدد ثم سيذهبوا مثلما جاءوا.
خرجت نبرة سلطان متسائلة بفحيح مرعب: جاي هنا ليه يا أبو زيد!
لوى أبو زيد شفتيه بإستنكار، ثم تحدث بسخرية لازعة ممزوجة بقسوة مقصودة: هو دا حُسن الضيافة يا، اخويا!
نزلت الكلمة على مسامعهم بقسوة، ليشتد الكره في الأنفس ويملئ الحقد القلوب أكثر وأكثر، صاح سلطان هادرًا بنشيج حاد: متقولش ابن أخوك، كل العلاقة اللي بتربطنا كانت علاقة و ملهاش أي ستين لازمة، ودسنا عليها بالجزمة من سنين طويلة من ساعة ما مراتك آ...
توقف عن إكمال عندما امسك به طه من تلابيبه يهزه بعنف: سيرة أمي لو جت على لسانك الو دا تاني أنا هقعهولك، انت سامع!
كان شهاب ينظر لهم ببلاهة لا يفقه شئ مما يُقال، فقد كانت العداوة بينهم منذ صغره وحتى الآن لا يعلم سببها، لكن يبدو بأن جميع كبار العائلة على صلة به.
عندما احتدم الأمر وأوشك على تطاول الأيدي، تدخل شهاب فورًا ناظرًا ل طه بضيق مردفًا بغضب: انت إزاي تتجرأ وتمد إيدك عليه!
افلت طه ذراعه من يد الآخر، ثم نظر ل شهاب بإستخفاف مُرددًا بما اشعل فتيل الغضب لدي الجميع: هو انت ابن المحروسة!
قالها وهو يُشير ل ماجدة التي كانت ترتعد من الخوف بمجرد رؤيته يقف أمامها.
اخرس.
صعدت تلك الكلمة من فم بكر الذي استمع لصوت الشجار من منزل أخيه، ليهبط مسرعًا للأسفل مدهوشًا مما يسمعه من فم مَن كان صديقه قديمًا.
اقترب بخطوات غاضبة ثم وقف أمام طه رافعًا سبابته أمام وجهه متشدقًا بتحذير: جيت لحد بيتنا يبقي تقف بإحترامك وإلا ردة فعلي مش هتعجبك يا سُلطان.
لوى طه ثغره بسخرية ونظرات الحقد واضحة في عيناه بشدة، كاد أن يتحدث يتحدث ليُقاطعه ذلك صوت فارس الذي هبط للتو: في إيه يا بابا!
نظر الجميع لمصدر الصوت ليُلاحظ إبراهيم ذلك التشابه الكبير بينه وبين شاكر، لم يحبذ أن يتدخل في الأمر، لكن لما يُنادي سلطان بأبي! هل حدث شئ بعد قطعهم للعلاقات، هناك حلقة مفقودة.
حاول سلطان تهدئة نفسه، ليأخذ شهيقًا كبيرًا يملأ به صدره، وجه بكر حديثه للجميع متسائلًا بخشونة: جايين ليه بعد العمر دا كله يا أبو زيد!
نظر الجد الكبير الذي رفض التدخل في ذلك الحوار العقيم بالنسبة له للجميع بنظرات مطولة وكأنه يقرأ تشوشهم وأفكارهم، ثم تحدث بهدوء وهو يتحدث بعقلانية: طبعًا انتوا عارفين إن ابنكم هرب ومعاه بنتنا غزل، أنا ميهمنيش ابنكم، كل اللي عاوزه هي حفيدتي وبس.
وقف أمامه بكر مُجيبًا إياه: واحنا منعرفش مكانهم.
مسح الآخير على لحيته رافعًا جابيه بسخرية وكأنه يقول له حقًا: مش جاي اسمع منك كلمة معرفش، أنا جاي عايز اعرف مكان حفيدتي فين.
تدخل تلك المرة فارس مجيبًا إياه بمصداقية: احنا فعلًا يا حَج منعرفش مكانهم، هما هربوا لحد ما يثبتوا دليل برائتهم وبعدين هيرجعوا تاني.
وانتوا عايزينا نثق في حد منكم، خصوصًا إنكم متعرفوش دا ابن مين ولا جاي منين!
كانت تلك كلمات إبراهيم الذي نطق بها نتيجة خوفه على فلذة كبده، ليهدر به فارس بقسوة: مسمحلكش. كله إلا ريان، وبعدين الخوف كله من بنتك لتقتله زي ما أخوك قتل أمي زمان!
قرر عابد مواصلة عمله بعد إجازة دامت لمدة أربعة أيام متواصلة بسبب ذلك الظرف الطارئ لإبنة عمه، تجهز مرتديًا ثيابه كاملةً والتي كانت عبارة عن قميص من اللون الأزرق الغامق وسروال من خامة الجينز من اللون الأسود، عدَّل خصلاته ثم أخذ مفاتيح المنزل الذي يعمل به ك معلم للغة العربية، خرج من غرفته فلم يجد أي فرد من أفراد عائلته، لم يهتم بالأمر كثيرًا بل اتجه نحو الخارج بخطوات بطيئة متمهلة، سار عدة خطوات حتى أتي برأسه تلك الفتاة مجددًا، ضرب على رأسه بضجر وهو يتمتم بضجر: نسيت أبلغها خالص، إيه الحل بقا، أطنشها خالص ولا أكلمها وأخليها تيجي واكسب فيها ثواب!
ظل واقفًا يفكر في تلك الفتاة التي دخلت لعالمه دون استئذان، لن ينكر أن هناك شئ جذبه لها، وكلما تذكرها يستغفر ربه في هذا الذنب الذي يفتعله، أخرج هاتفه المحمول بعد تردد كبير في مهاتفتها، ثم قرر الإتصال بها.
علي الجانب الآخر كانت وصال جالسة على فراشها تنظر لكل شئ حولها بضجر، فقد استائت من تلك الجلسة المملة وخاصةً إنها بين والداها المراهقان، قضمت قطعة كبيرة من ثمرة الجزر حتى إمتلأ بها فمها على آخره، استمعت لصوت هاتفها يرن في الأرجاء لتلتقطه ثم نظرت للرقم فوجدته غير مسجل لديها، همست لنفسها بسخط: ودا مين ياختي اللي بيرن دلوقتي! أنا ناقصة قرف!
اغلقت الهاتف ليعود الرنين مرة أخري لتنفعل بشدة ثم أجابت صارخة على المتصل وفمها ملئ بالطعام: هو أنا مش قفلت يا عديم الإحساس والمشاعر، هو إيه مفيش دم خالص كدا! رد يا جبان. رد ولا خايف!
أبعد عابد الهاتف عن أذناه وهو ينظر له بصدمة، وضعه مرة أخري ثم تمتم متعجبًا بصوت خافت وصل لمسامعها: انتِ هبلة يا بت انتِ!
شهقت بردح وهي تُجيبه بوقاحة: نعم نعم يادلعااادي! لأ بقولك إيه، أقف عِوج واتكلم عِدل بدل ما وديني أفضحك.
استفزته وقاحتها ليهدر بها صارخًا: ما تتكلمِ يا عدل آنسة. إيه شغل الهمج اللي انتِ بتتكلمِ بيه دا! أنا عابد يا أستاذة.
سعلت بصدمة وفرغ فكها من الدهشة، لتفتح عيناها على آخرهما بعدم تصديق، لطمت على وجهها وهي تسب نفسها وتلعن غبائها، وفي أقل من الثانية كان صوتها يتحول كُليًا إلى الرقة، وكأنك كنت تُهاتف شخصًا غيرها منذ قليل: ا. استاذ عابد! إزي حضرتك! عامل إيه! أخبارك إيه! كله تمام!
ورغم حالة الغضب التي تلبسته في البداية لوقاحتها، إلا أنه كتم ضحكته بصعوبة على ردة فعلها الحمقاء، حاول الثبات ثم أردف ببرود: مستنيكِ كمان ساعة في المكان اللي بدي فيه الدرس، لو اتأخرتِ اعتبري نفسك مرفودة.
كادت أن تجيبه بلهفة لكنها استمعت إلى صوت صافرة الإغلاق، ليتحول وجهها للإمتعاض من معاملته الجافة معه، ذهبت إلى خزانتها لتنتقي منها ثيابها ثم تمتمت بسخط: وأنا عملت إيه يعني عشان يعاملني المعاملة دي!
القلوب تحتاج إلى من يُربتُ عليها بدفئ، يُشعرها بالحنان، يَعِدُها بالبقاء، فالقلوب إذا أطمئنت أحبت، وإن تألمت تلهفت، ليجعل الله بين قلبين مودةً ورحمة.
وصلا كُلًا من ريان و غزل إلى المكان المعزول حيثُ يختبئ موسى ورجاله، رأوا على بُعد أمتار أحشاد من الرجال، مظهرهم كان مُهيب للغاية، خاصةً بجلبابهم الصعيدي، على عكس موسي كان يرتدي قميصًا وبنطالًا من اللون الأسود.
أشار موسى لرجاله المخلصين بسبابته، ثم تحدث بتحذير وجدية مفرطة: اللي قولته يتنفذ بالحرف الواحد، أي غلطة ولو كانت صغيرة هتطير فيها رقاب، فاهمين يا رجالة!
فاهمين يا ريس.
أجابوه بإحترام وتقدير لذلك الشخص المثالي بالنسبة لهم، الذي يسعى جاهدًا لإثبات براءة جميع الرجال الذين كانوا يعملون بأحد المصانع بما فيهم هو وتم إتهامهم بتهريب الممنوعات لإخفاء جريمة رب عمله الشنيعة.
تحفزت حواسه عند استمع لصوت وقع خطوات قريبة، ليسحب سلاحه من خاصره موجهًا إياه في إتجاه مصدر الصوت.
لحظة. واثنان. وثلاثة. حتى ظهر آخر شخص توقع حضوره، اخفض سلاحه مرة أخري، ثم قطب جبينه بتعجب عند رؤيته ل ريان وتلك الفتاة التي تتبعه: إيه اللي جابك هنا!
حرك ريان أصابعه ببلاهة مردفًا بإبتسامة حمقاء: هاي.
نظر الرجال لبعضهم بإستنكار واضح وصريح، يينما أعاد موسى سؤاله بصيغة حادة: بقولك بتعمل إيه هنا.
تقدم منه ريان عدة خطوات واثقة جاعلًا غزل تقف بالخلف، ثم وقف قبالته مربتًا على كتفه: عارف إن صدمة وجودي أثرت عليك، أنا قررت إنس أجي أقعد معاك هنا.
تشنج وجه موسى عقب إجابته، ليردد خلفه بإستنكار: قررت!
هز ريان رأسه بتأكيد ثم تشدق مكملًا: بما إننا هربانين ومش عارفين نروح فين لحد ما نثبت برائتنا، قولت أجي أونسك هنا في وحدتك.
أغمض موسى عينه يُحاول تمالك أعصابه قبل ان يفتك بهذا الأحمق الذي أمامه، فتح عيناه على مهل، ليتحدث وهو يجز على أسنانه بعصبية: غور من هنا ومش عايز أشوف وشك بدل ما أأكلك للديابة.
واصل ريان التحدث دون أن يُعطي لحديثه أي أهمية: بس عايز مكان بعيد عن الرجالة بتوعك عشان معايا واحدة نسوانة، ومينفعش طبعًا تبات وسط الرجالة دي كلها.
تحدث موسى بهمس خطير وعيناه تتقيدان شررًا: هتمشي من وشي ولا أفصل رقبتك عن جسمك!
آه وكمان عايزين أكل عشان مكلناش من الصبح وعلى لحم بطننا.
صرخ موسى بصوت عالي بأحد رجاله: حفيظ.
ذهب إليه المدعو حفيظ مسرعًا قائلًا بإحترام: اؤمر يا كَبير.
خُد الإتنين دول وارميهم في أي حِتة بعيدة عن هنا بدل ما أقتلهم واخلص عليهم.
أوامرك يا كَبير، ولو عايزني أطخهملك عيارين جول وأنا أنفذ طوالي.
سدد له نظرة نارية ثم هدر به ناهرًا: نفذ اللي قولته بس يا حفيظ، ومتتصرفش من دماغك بدل ما يكون ردة فعلي هي موتك.
ابتلع الآخر ريقه بتوتر وخوف من زعيمهم، ليجذب معه ريان ومن خلفهم تسير غزل التي تُطالعهم بغرابة شديدة.
وصلا إلى مكان بعيد قليلًا عن موقع الرجال، ليجدوا مكانًا أشبه بالكهف حالك الظلام من الداخل، يُدخل في النفوس الرهبة والخوف، أشار لهم حفيظ لذلك الكهف وهو يقول بلهجته الصعيدية: هتجعدوا إهني، وطول ما انتوا جاعدين ولعوا حطب بدال ما الديابة تاكل جتتكم، الديابة عتخاف من النار.
هزوا رأسهم بالموافقة فكاد أن يذهب حفيظ ليُناديه ريان وهو يسأله: بس احنا مش معانا ولاعة، هنولع الخشب بإيه!
طالعه الآخر بسخرية ثم ذهب ولم ينبس بكلمة أخري، تاركًا الإثنان ينظران لبعضهما بحيرة وقلق، احدثت غزل بخوف وهي تنظر للمكان من حولها: هنعمل إيه دلوقتي!
تصنع ريان الأسى رغم أنه من حتم عليهم ذلك الموقف، ليردف بطيبة: هنضطر نبات هنا بقا لحد ما النهار يطلع ونشوف هنعمل إيه.
طالعته بضجر ثم خطت عدة خطوات مبتعدة عنه، ممسكة بحجرين كبيرين وأخشاب كانت تطل من داخل الكهف، ثم وضعتهم أرضًا وظلت تضري الأحجار ببعضها بقوة عدة مرات.
ناظرها ريان بتعجب ثم أردف لها بغرابة: بتحضري عفاريت ولا إيه!
نفذ صبرها لترميه بنظرات نارية صارخة بوجهه: تعالى ساعدك في حاجة بدل ما انت ماشي تلبسنا في أي مصيبة وخلاص.
جلس القرفصاء بجانبها ثم مصمص على شفتيه متحدثًا بضجر: الحق عليا ياختي إني بحاول أهون عليكِ، عايزة إيه وأنا اعمله!
قذفت له الحجرين مردفة بمضض: خُد اضرب الاتنين دول ببعض لحد ما يعملوا شرارة عشان نولع.
أخذ منها الحجرين وظل يضربهما ببعضهما بقوة كثيرًا إلا أن يئس من محاولاته، لكن ولحسن حظه قام بإشعال الأخشاب التي أمامه بعد أن فقد الأمل، نظر ل غزل بنظرة متباهية ثم همس لها: ما يجيبها إلا رجالتها.
استندت غزل على حائط الكهف من الداخل بعد أن أخذت موضعها، وامامها جلس ريان الذي لاحظ وجومها، فتسائل: مالك!
أطلقت زفيرًا من جوفها ثم تمتمت بيأس وبدأت طبقة من الدموع تتشكل على حدقتاها: هنفضل في الوضع دا لحد امتى! أنا تعبت وحياتي اتلغبطت بسبب جريمة أنا معملتهاش.
ذهب ريان إليها وجلس أمامها مباشرة ثم تحدث بحنان: متقلقيش كل حاجة هتتحل، من بكرا هنحاول ندور على أي دليل يثبت برائتنا، مش هنفضل قاعدين كدا.
سألته بحيرة ويأس: هندور فين ونثبت دا كله إزاي بس!
أجابها بعملية محاولًا إمتصاص خوفها وقلقها وإبتسامة صغيرة تتشكل على ثغره رغم جدية حديثه: واحد زي سليم المنشاوي عنده شركات وممتلكات كبيرة زي دي ومن وراها بيدير أعمال مشبوهة أكيد فيه ورق يدينه ويوديه في ستين داهية، والورق دا هيكون عاينه يا إما في خزنة شركته أو في ال يلا عنده، أو مكان تاني احنا مش عارفينه، بس الأكيد إن احنا هنوصله.
حديثه بَث لها الطمأنينة بعض الشئ، لذلك ابتسمت له بسمة هادئة توحي بمدى إمتنانها له، تشنجت ملامحها فجأة وتحولت للوجوم، ليسألها بريبة: في إيه تاني!
حمحمت بحرج ولا تعلم كيف تخبره بأنها تريد قضاء حاجتها والآن، ما هذا الحظ العثر الذي ليس في صالحها بالمرة، أعاد سؤاله عليها مرة أخري، لتقول له بصوت خفيض حرج: ع. عايزة أدخل الحمام.
ابتسم لها بعبث وعلم سبب خجلها ليُجيبها بوقاحة لم تكن غريبة عليه: اعملي ورا الكهف وأنا هقف أداريك
فغرت فاهها بصدمة من وقاحته، لم يكن بالشخص البرئ كما لقبته، خاصةً مع نظرات الخبث والمكر الظاهرة في عيناه، لتصرخ به موخبة إياه: يا. يا سافل يا قليل الأدب. إيه أداريكِ دي. أنا غلطانة أصلًا إني اتكلمت معاك.
قهقه بمرح حتى أدمعت عيناه من شدة الضحكات وهو يرجع رأسه للخلف، ملامحها المنزعجة والخجلة أمتعته فهي مُسلية بحق، رمت له نظرة نارية قبل أن تلتفت للناحية الأخري بينما هو مازال صوت ضحكاته ترن في الأرجاء.
كانت وقع كلمات فارس على أذن الجميع صدمة لهم جميعًا، حديثه أعاد تشكيل الماضي مرة أخري بكل ما فيه، ومضات من الذكريات أتت بعقولهم التي كانت تحاول النسيان، بينما شهاب لم يصدق ما تسمعه أذناه، نعم يعلم أن فارس هو الأخ الشقيق له، لكن لم يكن يعلم بأن والدته والتي كانت زوجة والده تم قتلها، وعلى يد عائلة أبو زيد! ما هذا الهراء بحق الله!
بينما اشتعلت عين الجميع حقدًا وكرهًا عاد ليتشكل مرة أخري مع تذكرهم، ثار خليل تلك المرة الذي صاح بدون وعي: أمك اللي كانت خاطية.
ومع انتهاء كلماته كانت هناك صفعة مدوية نزلت على وجهه بغل، وكان مصدرها هو سلطان الذي كان يُطالعه بحقد لم يستطيع الزمن محوه، هدر به صارخًا وهو يُمسكه من تلابيبه بقوة: أخوك اللي كان وسخ، فرق بيني وبينها وخلاني أطلقها عشان يتجوزها هو، صاحبي اللي كان بيدخل بيتي كانت عينه على مراتي، اللي كنت بعتبره زي أخويا وواحد من عيلتي طلع زبالة، وانت جاي تقول إن مراتي أو اللي كانت مراتي خاطية! انتوا اللي عيلة حقيرة، واحمد ربنا إنه انتحر بعدها وإلا كنت هخليه يتمني الموت ولا يطوله، ربنا يجحمه مطرح ما هو موجود دلوقتي.
أنزل خليل يدي سلطان بشراسة، ثم تحدث بفحيح وإتهام مقصود: قبل ما تتهم أخويا بإتهام باطل، شوف مين من عيلتك اللي دخّل الفكرة في دماغه.
لم يفهم أحد منهم مقصده، استعاد فارس ثباته والذي إنهار مجرد تذكره لوالدته المتوفية، تلك الحنونة التي قُتلت غدرًا على يد هؤلاء: ق. قصدك إيه.
كاد أن يتحدث لكن قاطعه الجد أبو زيد المُشاهد للموقف بصرامة: لا قصده ولا مقصدهوش، أنا كنت جاي على أساس أشوف حل بس التفاهم بين العيلتين طلع مُنعدم.
نظر لأولاده آمرًا إياهم بصرامة قاسية وخاصةً خليل الذي كان أن ينفلت منه الحديث: قدامي على برا ومش عايز أي كلمة زيادة.
امتثل له أولاده بإحترام، لكن نظراتهم كانت تعكس كُرهًا وحقدًا كبيران، لحق بهم أبو زيد وظهره محني بيأس من تذكره لما وعد به نفسه لنسيانه، لكن بضعة كلمات أعادت له ما حدث بنفس الألم وكأن تلك الحادثة حدثت بالأمس، ابتلع تلك الغصة المريرة التي بحلقه ثم خرج من المنزل نهائيًا.
مع خروجهم. التفت فارس ل بكر يسأله بعدم فهم: يقصد إيه إن اللي ساعد أخوهم يبقي حد من عيلتك!
هز بكر رأسه بجهل وهو يُفكر في حديث خليل الذي سيُغير مجري الأحداث كُليًا: مش عارف يابني واللهِ قصده إيه بالكلام دا، بس قريب كل حاجة هتتكشف.
نظر لهم فارس بتيهة ثم تركهم وصعد للأعلي ينظرون له بحزن، هم يعلمون مدى تعلق فارس بوالدته المتوفية، كان أمر موتها صعبًا للغاية بالنسبة إليه، خاصةً أنه كان صغيرًا عن وفاتها، جلس سلطان على الأريكة بتعب هامسًا: إيه اللي رجعهم تاني. منهم لله. منهم لله.
وصلت وصال إلى الحارة المقصودة، حيث ذلك المكان الذي ستعمل به مع عابد، تقدمت عدة خطوات لذلك المنزل، ثم دلفت للداخل بهدوء، لتجده يتجرع قليلًا من الماء قبل أن يبدأ بشرح المواد للتلاميذ المكدسين بالداخل، أحانت منه إلتفاتة حيثُ تقف ليجدها تتطلع عليه بهدوء، وضع زجاجة المياة على الطاولة ثم حدق بها مردفًا بسخرية: أهلًا باللي مهزقاني.
حمحمت متصنعة الحرج، لتقول بصوت خفيض: مكنتش أعرف إنه انت يا أستاذ عابد
أستاذ إيه بقا. انتِ خليتي فيها أستاذ ولا نيلة.
صمت قليلًا ثم أشار لها على مكتبها شارحًا لها بإختصار وجدية شديدة: دا المكتب بتاعك، هتظبطي المواعيد، والمجموعات، وهتعلمي الواجبات للطلبة، وفلوس الدروس هتحطيها في الدرج التاني اللي مقفول بالقفل، المفتاح قدامك على المكتب. أهم حاجة عندي الأمانة ثم الأمانة. مش بتهاون في أي حاجة من اللي قولت عليها.
التمعت عيناها بجشع عند ذكره للمال لتومئ له بحماس غريب لم يستشعره بعد، هو يعلم بأنها فتاة تعمل من أجل والدتها المريضة ولا شئ آخر، طالعها بنظرة أخيرة ثم ولج للداخل ليبدأ بشرح منهجه لتلاميذه بحرافية شديدة.
جلست هي على المكتب ناظرة للمفتاح الذي بيدها بنظرات شغوفة متحمسة، لكنها ستنتظر بعض الوقت حتى يستطيع وضع كل ثقته فيها ومن ثَم تستولي على أمواله كما تفعل مع ضحاياها.
أخرجت هاتفها لتُهاتف أحمد ابن عم عابد والمقترِح عليها تلك الفكرة من الأساس، ليُجيب بعد عدة ثواني، ثم تحدثت بصوت خفيض للغاية حتى لا يستمع لها: ايوا يا أحمد كل حاجة تمام وبدأت شغل من النهاردة، اسبوعين تلاتة كدا ونطلع بالقرشين اللي بيكسبهم، ماشي سلام.
أغلقت الهاتف معه حاملة للمفتاح ثم فتحت الدرج الذي يحتوي على المال، لتلمع عيناها بطمع عند رؤيتها لكل تلك الأموال الطائلة، همست لنفسها بوعيد وهي تحدجهم بنظرة غريبة: قريب أوي كل الفلوس دي هتبقي ليا.