رواية متيمة بنيران عشقه للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث عشر
لقد كُشفوا وانتهي أمرهم، هكذا همسوا في أنفسهم عندما استمعوا لذلك الصوت الغليظ الذي يوجه عليهم سلاحه، التفتوا له فكانت ملامحه حادة، غاضبة، لا تُبشر بالخير، قسمات وجهه تشبه سليم المنشاوي بشدة، يبدو أنه أبيه أو ما شابه، لكن بالنهاية هم نفس الدم والإجرام.
ابتلع ريان ريقه بخوف وهو يكاد يبكي تحسرًا على حياته التي ستذهبُ هباءًا، والآن يتخيل أكثر الطُرق بشاعة والتي من الممكن أن يموت بها على يد الذي أمامه، نظر ل غزل التي كادت تموت رُعبًا، خاصةً عند رؤيتها لذلك السلاح الذي يُوجه ناحية رؤوسهم، لاحظت نظرات ريان الغريبة تجاهها لتقطب جبينها بعدم فهم وهي تهز رأسها كأنها تسأله ماذا تريد.
أشار بعينه تجاه الباب لتهرب كما أبلغها منذ قليل لو حصل واتقفشنا أهربي وصوتي وقولي بيتحرشوا بيا عشان ينقذوني، ولقد كانت لكلماته الغبية فائدة في موقفهم هذا، كادت أن تتحرك ببطئ ناحية الخارج، لكن ذلك الصوت الغليظ الذي صرخ بها مُهددًا إياها جعلها تتسمر في مكانها: لو اتحركتِ من مكانك هفرغ رصاص المسدس دا في دماغك.
عادت لمكانها لتقف بجانب ريان وهي تهمس لنفسها: منك لله يا ريان، أبقى كلبة لوسمعت كلامك تاني.
تحدث ذلك الذي يقف أمامهم ناظرًا لهم بغموض: انتوا مين وبتعملوا هنا إيه!
فكرت غزل سريعًا في إجابة منطقية تستطيع بها إستمالة من يقف أمامهم قبل أن يخرب ريان كل شئ بغباءه، لذلك أردفت بكاء: احنا الروم سيرفس والأستاذ سليم طلب مننا إن احنا نغير له عفش الأوضة بتاعة حضرته.
أخفض الرجل سلاحه ثم ضحك ساخرًا وهو يضع يده على رأسه يرتب خصلاته البيضاء مردفًا بخبث: يعني انتوا مش ريان و غزل اللي هربانين من الحكومة!
هز ريان رأسه نافيًا ثم تحدث بذكاء يظن بأنه سيُخرجه من هذا المأزق: هي غزل. لكن أنا مش ريان.
نظرت له غزل بعدم تصديق من حديثه، لا يمكن أن يكون غباء العالم قد اجتمع برأس هذا الرجل! هل يظن بأنه هكذا سيُبرأ نفسه من تلك التهمة!
دار حولهم ذلك الرجل وهو يمط شفتيه بتفكير مصطنع: اممممم، ويا ترى بتعملوا إيه هنا ياللي اسمك مش ريان!
لم يُجيبه أيًا منهم، بل فضلوا الصمت حتى يجدوا حلًا لذلك المأزق، لن يمر هذا الموقف مرور الكرام، يبدو أن هناك شئٌ عظيم يُحاك خلف ظهورهم، وهذا ما يُثير حفيظتهم للحقيقة، وقف الآخير قبالتهم ثم تحدث مباشرة دون التطرق للأحاديث الملتوية: بتدوروا على دليل برائتهم وحاجة تدينوا بيها سليم المنشاوي وتدخلوه بيها السجن. صح!
صُدموا من تحليله المُفصل لما يفكرون به، فلم يملكوا القوة الكافية للرد، أمسك ريان بيد غزل ثم أرجعها خلفه ليحميها من أي غدر قد يحدث في أي وقت، تشبثت هي بذراعه جيدًا وأحست بالرعب يُسيطر على جسدها، سألها ريان مباشرة ناظرًا له بجمود: انت عايز مننا إيه!
رفع الآخير رأسه مُحدجًا الأثنين بنظرات مُبهمة قبل أن يبدأ بحديثه الذي صدمهم: مستعد أساعدكم في ظهور برائتكم وتسجنوا سليم المنشاوي.
سيطرت الحيرة على ملامحهم أكثر ولم يعلموا بما يُجيبوه، وقفت غزل بجانب ريان لتكون بمواجهة ذلك الرجل الغامض بالنسبة لها، ثم أردفت: انت مين!
منير المنشاوي، عم سليم المنشاوي وليا عنده طار وآن الأوان إني أخده.
تحدث ريان بشك: واحنا إيه اللي يخلينا نصدقك! مش يمكن دي لعبة بتلعبوها سوا عشان تورطونا في جريمة أكبر!
هز ذراعه بلامبالاة ثم تحدث بثقة تعجبوا منها: معنديش دليل يخليك تصدقني، ولو كنت معاه مكنتش هتفضل واقف قدامي وعايش زي دلوقتي.
لحدٍ ما اقتنعوا بحديثه بعيدًا عن الأسباب التي جعلته يقف في صفهم ويغدر بإبن أخيه، لكن بالأصل سليم المنشاوي لديه العديد من العداوات الكثيرة بسبب عمله المشبوه، ومن الممكن أنه قد تسبب ل منير المنشاوي بكثير من العقبات بسبب طبيعة عمله، لذلك قرر مساعدتهم.
نظر ريان حوله متسائلًا بحيرة بعد أن قرر الإتحاد معه لإثبات برائتهم: والورق دا هلاقيه فين! دا ملوش أي أثر هنا.
بخطوات بطيئة ذهب منير تجاه الأريكة ثم جلس عليها براحة، واضعًا قدمًا فوق الأخرى وهو يتحدث بعنهجية: الورق مش هتلاقيه هنا لو قلبت القصر كله باللي فيه، ممكن تلاقي شوية ورق ملهوش لازمة في أوضة مكتبه، بس الورق الأساسي هتلاقيه في مكتب الشركة عنده.
عضت غزل على شفتيها بيأس ناظرة ل ريان الشارد في نقطة ما: وإزاي هندخل الشركة دي! هيبقي صعب علينا نعتب لها أصلًا.
أنا ممكن أساعدكم تدخلوها ببساطة والباقي عليكم، وانتوا شطارتكوا بقا.
انتبه له ريان ولحديثه، ليقول بلهفة وكأنه وجد طوق النجاة: وانا عندي استعداد أهكر كاميرات الشركة وأوقفها خالص، ودا هيسهل مهمتنا.
مط منير شفتيه بإعجاب، ثم هب من مكانه فجأة غالقًا زر بدلته الرسمية وكأنه على وشك الذهاب: ودا شئ هيساعدنا جدًا، ميعادنا بكرا الساعة عشرة عند (، ) تكونوا هناك على الميعاد، هتلاقوا باب تحت من الجنينة اللي ورا هحاول ألفت إنتباه الحارس اللي برا لحد ما تخرجوا، سلام.
تركهم وخرج بهدوء مثلما جاء تمامًا، نظر كُلًا منهم لبعض براحة، ليتحدث ريان بإبتسامة جميلة وهو ينظر لها: مش قولتلك كل حاجة هتعدي على خير!
أومأت له بسعادة وعيناها تلتمع بشغف، ثم تحدثت مسرعة وهي تهمه على الخروج: يلا بسرعة بقا نخرج قبل ما حد يحس بينا تاني وتحصل مشكلة المرادي.
هز رأسه بنفي قاطع ثم ترك يدها وعاد للداخل ممسكًا بالبذلتين رافعًا إياهم أمام وجهها المشدوه: مقولتليش آخد البدلة السمرا ولا الرصاصي!
منذ يومين والألم مازال يسيطر على فؤاده، عودتهم تعني عودة الذكريات الذي حاول دفنها، ذكريات والدته الحنون التي قُتلت غدرًا على يد فرد من العائلة الآخرى، كم كَره وجودهم ورؤيتهم أمامه، ابتلع تلك الغصة التي سيطرت على حلقه، مانعًا ذاته من البُكاء والتفكير في الأمر الذي يُرهقه ويُرهق بدنه، أعاد فارس رأسه للخلف مُستندًا على الحائط من خلفه، ورغمًا عنه هبطت دموعه حسرةً وإشتياقًا لوالدته، ليعود بذاكرته للخلف، لذلك اليوم المشؤوم الذي غيَّر مجرى حياته كُليًا، لقطات خفيفة من الماضي الذي يُسارعه حتى الآن ويُلاحقه.
عادت ميادة والدة فارس من الخارج بعد أن اشترت العديد والعديد من الأشياء التي يحتاجها المنزل، جلست على أقرب أريكة قابلتها لترتاح قليلًا من عناء المشوار الذي أتته سيرًا على الأقدام، دلكت قدميها التي تؤلمها بمرفقيها عدة دقائق علَّها تُزيل من بعض الألم الذي يحتلها، استمعت إلى صوت جرس الباب لتزفر بتعب، وقفت بصعوبة قليلة ثم اتجهت ناحية الباب لفتحه، اتسعت ابتسامتها فرحًا عندما وجدت إبنها البِكري فارس يقف قبالتها أمام المنزل، لتفسح له الطريق للدخول ومن ثَم احتضنته بشوق وحنان كبيران: وحشتني يابني، وحشتني يا ضنايا، كل دي غيبة!
قبَّل يدها بحنان ومن بعدها جبهتها مردفًا بإعتذار: حقك عليا يا أمي والله، السفرية جت فاجأة وملحقتش أقول لحد.
جلست على الأريكة ليجلس جانبها، ثم ربتت على ذراعه متشدقة بحنان: ربنا يعينك يابني على اللي انت فيه.
ربنا يخليكِ ليا يا ست الكل، ها عاملة إيه بقا! شكلك لسه جاية من برا.
أشارت للمشتريات التي أتت بها للتو: كنت بشتري شوية حاجات للبيت ويا دوب لسه جاية.
عاتبها برقة نابعة من خوفه عليها: مش الدكتور قالك يا ماما لازم ترتاحي شوية عشان رجلك!
متقلقش عليا يا حبيبي، أنا كويسة وبخير الحمد لله.
قبَّل يدها مرة أخرى بحب لتلك المرأة، السيدة الأولى التي امتلكت لُب قلبه، وهذا حقها، التفت حوله ينظر في أرجاء المنزل ثم تحدث بتأفف: أومال فين جوزك!
تنهدت بإحباط مُستندة بظهرها على الأريكة: نِزل القهوة من شوية، كان جاي من الشغل مأريف وبيتخانق مع دبان وشه.
نظر إليها بضجر ثم تحدث بإستنكار: مش عارف إيه اللي خلاكِ تتجوزيه! ما كنتِ اتطلقتِ من بابا وخلاص وأنا كنت هشوفلك شقة وأتكلف بكل حاجة انتِ عايزاها بدل تعبك دا.
وعلى سيرة ذِكر والده شعرت بالحزن الشديد، لقد تخلى عنها في أكثر الأوقات إحتياجًا له، ولم يكتفي بذلك بل قام بتطليقها وتركها وحيدة تُعاني من الويلات، ليس لديها لا أهل ولا أصدقاء في ذلك العمر الكبير.
سحبت نفسًا عميقًا ثم ردت بإيجاز متجنبة تلك السيرة التي لا تأتي عليها سوى بالألم: النصيب يابني بقا واللي عايزه ربنا هو اللي هيكون.
التزم فارس بالصمت حتى لا يُذكِّر والدته بما عايشته من أيام تجلب لها العناء، تبادلوا بعض الأحاديث العملية حول صحته وكيفية إستمرار حياته في ظل تلك الظروف الإقتصادية الصعبة التي كان يمر بها من نقصٍ في الأموال في ذلك الوقت، وأثناء حديثهم فُتح باب المنزل بحدة ليدخل نجدت وعلى ملامحه علامات الغضب العارمة، ازدادت خاصةً عند رؤية فارس قبالته، لم يُحبذ فارس التواجد في مكان واحد خاصةً مع ذلك الرجل الذي لا يُطيق وجوده، لذلك هبَّ من مقعده ثم انحنى على يد والدته يُقبلها بحنان جارف لتُربت على رأسه بحب شديد، في ذلك الوقت انقبض قلبه خوفًا دون سبب، وكأنه كان يعلم بأنه على وشك خسارتها، لكنه لم يُعطي للأمر أهمية حتى لا يُقلِق والدته.
سدد نظرة عابرة ل نجدت الذي كان يُتابعهم بتأفف، ثم خرج من المنزل ليستمع لصوت إنغلاق الباب خلفه مُباشرة في حركة مُباغتة، لم يحتاج لكثير من الوقت لمعرفة من صاحبها، وضع يده على قلبه عندما تزايد الألم، ثم همس في نفسه: يارب استرها يارب.
خرج من البناية الخاصة بعائلة أبو زيد ثم دلف إلى منزل عائلتهم، ليجد إبراهيم يجلس مع بكر وصوت ضحكاتهم ترتفع في المكان، فقد كانا أكثر من صديقين حبيبين في ذلك الوقت.
ألقى التحية على إبراهيم بعد أن سأله عن أحواله وأحوال عمله ليُجيبه بإختصار مهذب، ثم صعد إلى منزله لينام قليلًا ويُريح جسده من مشقة العمل.
ويا ليته لم ينم، فقد استيقظ على فاجعة خسارته لوالدته الحبيبة، تلك السيدة التي كانت تغدقه من الحنان أطنانًا منذُ قليل فقدها وللأبد، لن يراها بعد الآن مُجددًا، ازادت صدمته عندما علم بأن الفاعل هو نجدت، الذي قام بطعنها بكل غل في قلبها عدة طعنات، ومن بعدها قام بالإنتحار هو الآخر، صرخ وبكى وانهار حُزنًا على فراق والدته، لم ينم لليالٍ كثيرة من الألم النفسي والجسدي الذي سيطر عليه، أراد أن يعلم ما سبب ذلك ولكن الجميع رفض في إخباره مستخدمين طريقة المراوغة حتى يُبعدوه عن السبب الحقيقي، وحتى الآن السبب مجهول، لكن الذي يعلمه بأنه يحمل كُرهًا كافيًا لإحراق عائلة أبو زيد حية، يكرههم ويكره كل ما يُخصهم وما له علاقة بهم.
عاد من تذكره وصوت شهقاته تتزايد، لم يستطيع التحمل أكثر، أراد أن يبكي على فقده للأغلى والأحن والأرق، شعر بأصابع تلمس على ذراعه ليجدها زوجته والتي تُطالعه بحزن شديد.
أحاطت رأسه بذراعيها وكذلك هو، ثم تحدث ببكاء وشهقات مُتعالية: رِجعوا تاني يا زهر، رِجعوا تاني بعد ما قتلوا أمي، آااااه، أنا عمري ما هسامحهم.
لم تجد بما تُجيبه به، علمت مؤخرًا بمدى تعلق فارس بوالدته الراحلة، كل الألم يقبع بقلبه الآن ولا يُمكنها التخفيف عنه، مسدت على شعره بحنان وحاولت التماسك أمامه: ادعيلها بالرحمة هي دلوقتي في مكان أحسن بكتير، مفيش في إيديك حاجة.
ظل يدعو لها كثيرًا وشهقاته تخفت تدريجيًا لكن عند تذكره إياها ولمواقفها الحنونة تشتد عليه غصة البكاء مُجددًا.
لا قلب ك قلب الأم، ولا حنان كحنانها، عند غيابها نشعر باليُتم، تضيقُ جميع الطرق أمامنا، كأن الحياة كانت تسير بدعواتها التي تُغدقنا بها، هي ك الزهرة في حياة الجميع، إذا اُقتُلِعت؛ ذَبُلت جميعُ البناتات.
فكَّر في الإبتعاد عنها حتى تشتاقُ إليه، وهذا بالفعل ما حدث، فلقد اشتاقت إهداء إلى شهاب بشدة، ويزداد حزنها عند تعمده لتجاهلها، يبدو أنه قد ملَّ منها ومن عنادها المتواصل معه، شعرت بالضيق من نفسها عند التفكير به كثيرًا، هي بذلك تخون خطيبها مهاب السمج كما يُلقبه شهاب هي لا تحبه لكن ظنت بأنها بذلك ستسطيع نسيان شهاب وخيانته لها.
سحبت نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل، لتستمع إلى طرق الباب، ذهبت لفتحه لينبض قلبها فجأة بشدة، إنه هو، لقد إشتاقته واشتاقت لتغزله الوقح بها، رغم أنها تدعي الضيق لكن قلبها يكن يرقص فرحًا، خفتت سعادتها عندما استمعت لحديثه البارد: ازيك يا بنت عمي! أومال فين مرات عمي!
ابتلعت تلك الغصة التي سيطرت علىها، لتفسح له الطريق مُشيرة للداخل: جوه في المطبخ.
دلف لزوجة عمه دون حتى أن يلقي نظرة واحدة إليها، تشكلت طبقة رقيقة من الدموع في حدقتاها سريعًا ما أخفتها حتى لا يُلاحظها أحد، كادت أن تُغلق الباب فوجدت خطيبها مهاب يقف أمامها.
قطبت جبينها بتعحب متحدثة بإستغراب: مهاب!
لوى شفتيه بسخرية ثم أردف بإستنكار: مستغربة ليه! ما الأستاذة مش عايزة ترد على مكالماتي قُلت آجي أشوف فيه إيه!
حاولت أن تكون طبيعية معه ولا تُظهر ضيقها منه، ليس لديه ذنب بأنه أحبها، بل كل الذنب على عاتقها هي، جاء من الداخل كُلًا من والدة إهداء و شهاب وهم يتسامران كعادتهم، ليجدوا أن مهاب يقف على الباب ويبدو عليه الضيق، ذهبت إليه سميحة لتُرحب به بسعادة: ازيك يا مهاب يابني، اتفضل متقفش كدا.
دلف مهاب للداخل بعد أن أفسحت له إهداء الطريق ونظراته الحانقة لا تهبط عن وجه شهاب الذي يُطالعه ببرود، استدار شهاب لزوجة عمه ثم استأذن منها بإحترام: عن إذنك يا مرات عمي همشي أنا دلوقتي وهجيلك وقت تاني.
ليه يابني ما تخليك، دا انت بقالك كتير مبقتش تيجي زي الأول.
معلش الجامعة واخدة كل وقتي وانتِ عارفة إني هتخرج السنادي.
قرر مهاب إنتهاز الفرصة لمضايقته، لذلك تحدث بسماجة مُطلقة متعمدًا التقليل من شأنه: ذاكر كويس يا شهاب بدل ما تعيد السنة.
اقترب منه ثم ربت على كتفه: متقلقش أنا عارف مصلحتي كويس.
صمت قليلًا ثم تحدث بنفس السماجة التي تحدث بها الآخر: عرفت إنك اتطردت من الشغل الكلام دا صحيح!
شحب وجه الآخر وجف ريقه من معرفته بالأمر الذي جاهد كثيرًا على تخبئته، وجهت إهداء حديثها ل مهاب بعدم تصديق: الكلام دا صحيح يا مهاب!
توتر في الحديث ولم يعلم بما يُجيبها لبضعة ثواني، تلعثم قائلًا: اا، اه. حصلت مشكلة بيني وبين المدير فسبت الشغل.
اتطردت.
صحح له شهاب حديثه ونظراته الباردة توجه له.
جز مهاب على أسنانه بغيظ متوعدًا ل شهاب ورد الصاع صاعين له، ثم استدار ل إهداء مبررًا: بس هلاقي شغل تاني وأحسن من دا كمان إن شاء ا...
قطع شهاب حديثه ثم تحدث لزوجة عمه: عن إذنك يا مرات عمي عشان الجو بقا خانقة.
أنهى حديثه ثم تركهم ينظرون لبعض بحيرة و مهاب يُحدج أثره بإحتقار، هو بالأساس لا يُطيق شهاب وذلك بسبب المشادات الكلامية الكثيرة التي تحدث بينهم عند وجودهم سويًا، لا يتفقان أبدًا لو اتحد المشرق والمغرب سويًا.
قرر مهاب أن يهرب بذاته قبل أن تبدأ كُلًا من سميحة و إهداء عن سبب طرده، لذلك استأذن سريعًا مدعيًا الضيق ليهرول للأسفل قبل أن تُلاحقه الأسئلة التي لا يملك لها إجابة.
نظرت إهداء لأثره بغرابة ثم قطبت جبينها بتعجم من توتره هذا، أيقنت أن هناك ما يخفيه بشأن عمله، وهي بالطبع عليها معرفة ما يُخبئه عنها، نفضت مهاب عن رأسها وظلت تفكر في معاملة شهاب لها، حتى تعبت من كثرة التفكير ودخلت لغرفتها لإستكمال دراستها.
البقاء للأنقى، للأوفى، للأحن، عادةً ما يكون الحنان هو السبيل المباشر للسيطرة على القلب، تقاربهم في الفترة الأخيرة جعل التقارب بينهما شديد الخطورة، أصبحت لا تُطيق فكرة الإبتعاد عنه، إنه بدر الرجال كما تلقبه هي، الحنان الذي يُغدقها به لم تعيشه في حياتها، باتت تحب نقاؤه، حنانه، وقاحته، وخبثه، إقترابه منها يجعل قلبها يطرق بشدة، أحبته نعم، ومن الممكن أنها قد تكون عشقته وأكثر.
كانت نوال تجلس في غرفتهم تقوم بطي ملابسهم وعلى وجهها إبتسامة بلهاء، إبتسامة تتشكل عند وجوده وحضوره، ينسج من كلماته المعسولة خطوط عشقه، ليحتل على لُبها ببساطة.
شهقت بفزع عندما شعرت بيد غليظة تُحيط بخصرها من الخلف، هدأت قليلًا عندما استمعت لهمسه الضاحك: مش اتخافي يا حبة الجلب، دِه أني.
عاتبته برقة وهي تضع يدها موضع قلبها: حرام عليك يا بدر خضتني.
وبحركة مباغتة قبَّل جنتها برقة متمتمًا بإعتذار: حجك عليا يا جلب بدر.
اِحمر وجهها خجلًا وتمنت أن تنشق الأرض وتبتلعها في هذا الموقف المُحرج بالنسبة لها، عضت على شفتيها بحرج، ورغم أنها حركة عفوية حركت الكثير من المشاعر داخله، حاول السيطرة على ثباته أمامها حتى لا تذهب هيبته هباءً.
حمحم بصوت عالي حتى يجذب إنتباهها وبالفعل نظرت إليه بتعجب لصمته المريب، سيطر عليها الفضول لتسأله بغرابة: في إيه بتبصلي كدا ليه!
بصراحة في ناس عايزة تجابلك ومستنينك تحت.
ازدات حيرتها وقطبت جبينها بتعجب أكثر: حد مين دا اللي عايزني! أنا معرفش حد هنا غيركوا.
أمسك يديها بحنان ليحتويها، يعلم أن الزائران اللذان بالأسفل من الممكن أن يتسببان لها بالحزن، لذلك تحدث برقة وهو يُمهد لها الحديث: طبعًا انتِ عاجلة وواعية وكَبيرة صُح!
وما زادها ذلك الحديث إلا حيرة، لذلك سألته بنفاذ صبر: في إيه يا بدر انت كدا قلقتني أكتر. مين دول اللي مستنيني!
سحب نفسًا عميقًا قبل أن يرمي بحديثه في وجهها دفعةً واحدة: أبوكِ وامك مستنيينك تحت.
نظرت له بصدمة وحاجب مرفوع، أحقًا أتوا لرؤيتها! أتذكروا أن لديهم إبنة تُدعى نوال الآن! تحدثت بعدم تصديق ومازال عقلها لا يستوعب حديثه: بتتكلم بجد ولا بتهزر!
وقف وأوقفها أمامه؛ ثم مسح على وجهها بيده متشدقًا بعقلانية: انتِ دلوجتي ست عاجلة وناضچة، هتنزلي بهدوء تسلمي على أمك وأبوكِ وتجعدي معاهم شوية لغاية ما يمشوا وتطلعي تاني، اتفجنا!
هي اشتاقت لهم لا تُنكر ذلك، لكن ما زالت قلوبهم مُتحجرة عليها وهذا أكثر ما يُحزنها، تسللت الدموع إلى عيناها رغمًا عنها، ثم تحدثت ببكاء: هما مش بيحبوني، لأ أنا مش عايزة أشوفهم.
علم بدر بأنها ستُعاند؛ وهو يعذرها في ذلك، فهي ضحية لإهمال والديها، شعورها بالنقص جعلها شخصية ضعيفة مهزوزة لا تثق بذاتها، مسح دمعاتها بحنان بإصبعه، ثم همس أمام وجهها: لو مش بيحبوكِ مكنوش چُم لحد عنديكِ إهني، مش يمكن حصلتلهم ظروف عاد وانتِ معتعرفيش! يبجي ظلمتيهم إجده! وبعدين أهلك ليكِ عليهم حج حتى لو هما غلطانين، ربنا سبحانه وتعالي بيقول؛ وبالوالدين إحسانا، يلا يا نوال، يلا يا حبيبتي تعالي سلمي على أهلك.
اقتنعت بحديثه؛ وغير ذلك هي تشتاق لهم وبشدة، لذلك عدلت من ثيابها ثم هبطت معه للأسفل راسمة قناع البرود على وجهها، لكن عند رؤيتها للهفة والدتها الواضحة التي هرولت ناحيتها؛ أسرعت لها هي الأخرى تبكي في أحضانها، متحدثة ببكاء وعتاب: وحشتيني يا ماما، كل دا متسأليش عليا!
قبَّلت والدتها كل إنش في وجهها وهي تبكي إشتياقًا لفلذة كبدها، ثم قالت: سامحيني يا بنتي، بس أبوكِ كان تعبان ومعرفناش نجيلك، حقك عليا.
ولا إراديًا حولت أنظارها لوالدها الذي يحاول إخفاء أشتياقه إليها بجموده الظاهر، ذهبت نوال إليه ثم جلست بجانبه مردفة بقلق: عامل إيه يا بابا! مالك فيه إيه!
أجابها بهدوء وعيناه تفضحان إشتياقه لها: أنا بخير يا بنتي، متشيليش همي.
وبدون سابق إنذار احتضنته بشوق بالغ، رغم قسوته عليها؛ لكن بالنهاية هو أبيها، لم يمنع نفسه أكثر من مبادلتها العناق، كانت قسوته عليها نابعة من خوفه، خوفه من الأيام وما قد تفعله في عقلية ابنته، لذلك رأى أن أنسب حل هو التشدد عليها من الصغر، حتى يستطيع السيطرة عليها في كِبرها، لكن اكتشف أن طريقته خاطئة، خاصةً حين هربت ذلك اليوم مع ذلك الشخص الذي أذعن بحبه الكاذب لها، فهي كانت تبحث عن الحنان، وعندما وجدته تعلقت في تلك القشة المُتهالكة والتي كادت أن تُخسرها ذاتها.
ابتعد عنها قليلًا ثم مرر يده على وجهها قائلًا بإشتياق: عاملة إيه يا بنتي! سامحيني معرفتش أجيلك زي بقيت الخلق.
وكأنها ببضعة كلمات نسيت تلك المآسات، لُتقبل يده بحب ثم قالت: ولا يهمك يا حبيبي، المهم إنك دلوقتي بخير وكويس.
هنا فقط تأكد أنه ظلمها، فقد تخيل منها معاملة جافة؛ قاسية مثلما كان يُعاملها، لكن وجد الحنان عكس ما كان يتوقع، فليشهد ربه أن قسوته كانت خوفًا من أن تقع ابنته في نفس الذنب الذي وقعت به شقيقته، لذلك كان يُحاول تربيتها على طريقته الخاصة، وللأسف الشديد كان مخطئًا في ذلك، فها هي إبنته تمتلك طيبة العالم في قلبها، لقد سامحته بسرعة بعد عدة كلمات ألقاها على مسامعها، ليشعر بمدى حقارته، قبَّل جبينها ثم نظر لها بأسف: سامحيني يا بنتي، نربيتي كانت غلط ليكِ من الأول، قسيت عليكِ وأنا كنت فاكر إني بحميكِ، لكن ربنا يشهد إن أنا كنت خايف عليكِ.
ابتسمت بعدم تصديق وقد انشرح قلبها لحديث والدها رغم بساطته، لتقول بفرحة عارمة لم تستطيع السيطرة عليها: مسمحاك يا بابا على أي حاجة، المهم إنك معايا دلوقتي.
احتضنها بحب، ثم ربت على ظهرها بحنو شديد، أما هي فقد عادت الدموية لجسدها، وصَغِر وجهها عدة أعوام لتعود كالطفلة، أبيها لم يَعد قاسي، كانت تظن بأنها لن تتمكن من مسامحته، لكن كانت عكس ذلك، فقد سامحته أسرع مما توقعت، لكن لا يُهم، الأهم أن والدها الحنون معها الآن.
نحتاج لمن يُعاملنا برقة، يُدخل السعادة على قُلوبُنا، فنحن ك الفراشات، تتمنى أن تطير عاليًا في الهواء بأمان، دون قلقها مما هي مُقبلة عليه، قلوبنا من زجاج، تُخدش لكنها يُمكن أن تعود سليمة ببضعة كلمات.
اليوم هو أكثر من مهم بالنسبة لذلك العاشق، كان يقف أمام المرآة بإبتسامة سعيدة تُزين وجهه، عدَّل محمود من وضعية قميصه الجديد الذي ابتاعه مؤخرًا، ثم أغلق أزراره وعقله شارد في معذبته، تنهد بسعادة وفخر من تلك الخطوة الذي سيُقبل عليها، لقد أنهى قسط المنزل وها هو مستعد للتقدم من محبوبته منذ الصِغر، لقد جاء الوقت الذي سيُكتب فيه اسم ميران بجانب اسمه، مجرد التخيل يجعل قلبه يرقص ويُهلل فرحًا.
دخلت عليه والدته ناظرة لملامح وجهه السعيدة بحنان، وقفت قبالته ثم احتضنته لتدعو له بحب: ربنا يهنيك دايمًا يابني وأشوفك مبسوط على طول كدا.
احتضنها هو الآخر ليطلب منها برجاء: ادعيلي يا ماما، ادعيلي يوافقوا، أنا لسه يا دوب رايح أتكلم معاهم، خايف أترفض.
ربتت على ذراعه متشدقة بما برَّد من خوفه قليلًا: متقلقش، الأستاذ إبراهيم ومراته عارفينك وعارفين أخلاقك كويس وإزاي انت شاب مُكافح، دا سبحان الله الست فوزية هي الوحيدة اللي كنت بحكيلها عن اللي بتعمله معانا، وإزاي انت بتشتغل ليل نهار عشان تسِد إجار البيت.
تمتم برجاء ناظرًا لهندامه للمرة الأخيرة: ربنا يعديها على خير يا أمي، يلا سلام عليكم.
ردت عليه السلام، ثم أمطرته بسيلٍ من الدعوات التي تُعطيه القوة، حديث والدته أدخل على قلبه السعادة الشديدة والطمأنينة بذات الوقت، لم يبقى سوى المواجهة الآن.
عاد ريان و غزل لمكانهم مرة أخرى، بعد أن ضمنوا الخطة التي سيتبعونها لإظهار برائتهم، استندت غزل على حائط الكهف وهي تتنهد بتعب: آااه يا خرابي على دا مشوار! رجلي ورمت.
ارتمى ريان على الأرض من خلفه ليتسطح عليها، ثم وضع ذراعه أسفل رأسه مُتخذًا منها كوسادة، ثم أجابها بتنهيدة طويلة: بكرا دا كله هيتحل.
اعتدل في جلسته بحماس ثم جلس قبالتها مُباشرةً وهو يُمسك بالبذلتين الذي أصرَّ على أخذهم سويًا: بس إيه رأيك في البدلتين دول! هيكلوة مني حِتة صح!
أيدته في رأيه قائلة بسخرية: صح، الحاجة الحرام دايمًا بتكون حلوة يا ضنايا.
لم يُعطي لحديثها إهتمام، بل كان ينظر للملابس بسعادة حقيقية وكأنه أقدم على فعل شئ يستحق التقدير، هزت غزل رأسها بيأس من تصرفاته التي لا تتماشى مع سِنه أبدًا، فهو يُعتبر كطفل يرتدي زي الرجولة المُغلفة بالحنان.
جال ببالها سؤالًا فلم تتردد ثانية لمعرفة جوابه منه، لذلك تسائلت على بغتة: فكرت تتجوز بعد موت مراتك يا ريان!
صنمه السؤال محله، لا يعلم أبسبب الصدمة أو لشئٍ آخر، نظر لها مطولًا محدجًا إياها بنظرات غريبة أربكتها، ثم نطق بكلمة واحدة: ليه!
أحست بأنها تخطت حدودها في الحديث معه، لذلك أجابت مُبررة: عادي، بما إننا قاعدين حبيت فاضيين أسألك.
استند على الحائط من خلفه، ثم شرد قليلًا قائلًا بتيهة: منكرش إني فكرت في كدا زي أي راجل، لكن مش عشاني، دا عشان ابني، طبيعة شغلي كانت بتحكم عليا إني أتأخر ودا طبعًا كان بيأثر على نفسيته بالسلب، لكن فكرت لو اتجوزت واللي اتجوزتها دي متقتش ربنا في ابني هيبقي إيه الوضع! هكون خسرت ابني اللي لما يكبر هيحملني المسؤلية إني اتخليت عنه، وفي نفس الوقت ربطت نفسي بواحدة أذتني.
اقتنعت بإجابته كثيرًا، احترمت عقلانيته وتفكيره في ابنه قبل أي شئ، رجلٌ غيره ك كثير من الرجال لم يكونوا لينتظروا كل تلك المدة دون زواج، لكن هو وضع مصلحة طفله قبل أي شئ، وما أربكها حقًا هو حديثه التالي الذي أكمله بخبث ومكر: لكن لو لقيت البنت المناسبة واللي ههحبها وفي نفس الوقت تعامل ابني زي ابنها معنديش مانع آخد الخطوة دي.
ارتبك جسدها، ومرت رعشة خفيفة في معدتها، لكنها أحبت ذلك الشعور، لذلك تمتمت بخفوت وحرج: ربنا يوفقك.
أخفى ابتسامته المرحة عن ناظريها، ودَّ حقًا لو يضحك بملئ فاهه لنجاحه في إرباكها بهذا الشكل، لكن ليكن بها رحيمًا ويصمت الآن.
مرت الدقائق صامتة بينهم حتى جاء إليهم حفيظ وأفزعهم بصوته الغليظ: تعالوا معايا دلوجتي، الريس عايزكم.
نظرا الإثنان لبعضهما بإستغراب، لتتسائل بقلق: عايزنا في إيه!
هزَّ ريان كتفيه دلالة على جهله، ليقول وهو يهم بالنهوض: تعالي نشوف عايز إيه، متقلقيش.
وقفت بجانبه، ليسيروا بجانب حفيظ الذي كان يلتزم الصمت منذ البداية، وكلاهما يُفكر في هذا الأمر المجهول الذي يريدهم به موسى.