قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية متى سيهتدي الوصال ( الجوكر والأسطورة 5 ) للكاتبة آية محمد رفعت ف16

رواية متى سيهتدي الوصال ( الجوكر والأسطورة 5 ) للكاتبة آية محمد رفعت ف16

رواية متى سيهتدي الوصال ( الجوكر والأسطورة 5 ) للكاتبة آية محمد رفعت ف16

غاب القمر عن ليله المظلم، وصعدت السماء لتحتل عرشها الذهبي، ليتسلل خيوطها على بقاع الأرض بأكملها، تهادت بخطاها وهي تمر من بين عربات الفرس التي يقودها بعض الفلاحين، لتجتاز ذاك الزقاق الضيق حتى وصلت للمنزل، صعدت شجن لشقة نجلاء، فولجت للمطبخ المتهالك لتضع مشترياتها البسيطة على الطاولة البلاستكية، ثم جذبت القداحة لتحول مراراً اشعال النيران حتى تعد الفول الحار الذي اشترته منذ قليل من بائع الفلافل، قلبت محتوياته بعدما وضعت القليل من الزيت، صفنت قليلاً بليلة الأمس، فأحتلت الحمرة وجهها بالتدريجٍ وتلك الابتسامة العاشقة تنير وجهها، شرود محبب اليها وهي تتذكر لحظاتهما الرومانسية معاً فأفاقت من غفلتها على صوت انسكاب الحليب بعدما حصل على الحرارة اللازمة لغليانه، أحضرت منشفة وأخذت تمسح بقاياه في ضجرٍ من سهوها الغير مقبول للمرة، ثم جذب صينية مستديرة الشكل لترص أطباق الجبن والفلافل وبعض السلاطات والخبز، ثم حملتها وصعدت لسطح المنزل، وضعتها على الأريكةٍ المقربة منها، ثم دنت من الطاولة القديمة لتجذب المقاعد الموضوعة على سطحها، سعلت كثيراً حينما انفضت الغبار عنهما، فأخذت تمسحها بحرصٍ ثم وضعت الأطباق عليها والأكواب والمياه، مشطت بعينيها الطاولة بنظرةٍ رضا، فتوجهت للغرفة من خلفها، دخلت وهي تبحث عنه بعينيها، فوجدته مازال نائماً على الفراش الصغير الذي أعدوه بالأمس، اخفت بسمتها الحالمة لتقترب منه وهي تناديه باتزانٍ يخفي مشاعر عظيمة:.

رحيم!.
لم يستجاب لها، فلأول مرة ينام بعمقٍ وراحة، لطالما كانت أحدى عينيه مفتوحة، يستمع لما يحدث حوله، ولكن حينما تكون لجواره بنسى العالم بأكمله، لم يكن أمامها سوى اختيار واحد، انحنت بجسدها وهي تهزه برفقٍ:
رحيم..

صرخت بفزعٍ حينما وجدت ذاتها بداخل أحضانه، خدعها بأنه لم يستيقظ بعد ليجذبها بسرعةٍ كبيرة لأحضانه، تلقائياً استندت بيدها على صدره العاري فاشتعلت الرغبة بداخلها وكأنه أحيا بذكرها ما حدث بالأمس بينهما، رفعت رأسها اليه وهي تحاول المناص من بين قبضة يديه القوية القابضة على خصرها بتملكٍ، فهمست بتذمرٍ:
دي مش طريقة دي، أبعد شوية..
ابتسم وهو يفتح عينيه ببطءٍ، فقال ونظراته تتابع حركة شفتيها بتأثرٍ عجيب:.

أنتِ مفيش أي طريقة بتعجبك!.
انسحبت بنظراتها عن تأمله وقد لفح خديها حرارة لطيفة، فهمست على استحياءٍ:
سبني عايزة أقوم..
قال بمكرٍ ويديه مازالت تحاصر خصرها الممشق:
أنا بعيد أهو..
جزت على أسنانها وهي تهتف بغيظٍ:
مفيش فايدة فيك!.
بفعلتها تلك أججت لهيب المشاعر المختبئة خلف هذا الصدر القاسي، دنا منها ليعاقبها بجرعةٍ من الأحاسيس المرهفة، فأرتعش جسدها بين يديه، دفعته للخلف وهي تردد بأنفاسٍ متقطعه:
الأكل هيبرد..

رفع حاجبيه وهو يتساءل باستغرابٍ:
أكل أيه؟!.
نهضت من جواره وهي تعدل من حجابها ثم أشارت له بابتسامةٍ مشاكسة:
قوم شوف بنفسك..
وقبل ان تخرج من الغرفةٍ، استدارت لتشير له بابتسامةٍ مسلية:
على فكرة أنا سرقت من جيبك شوية فلوس بس متقلقش مش كتير..

نهض عن الفراش المسطح أرضاً حتى وقف مقابلها، ينجح دائماً دون أي مجهود منه بأثارة الرهبة بداخلها حينما يكون مقابلها بجسده الصلب، عبثت بحاجبها حينما اقترب منها ليحاصرها بين ذراعيه، متعمداً الاطاحة بها ليرى توترها بحضرته، فقال بصوته الرخيم:
فلوس الدنيا كلها تحت رجلك، وأولهم أنا..

بللت شفتيها بارتباكٍ، فتهربت من التطلع لزيتونية عينيه المهلكة، رأف بها يكفي ما حدث ليلة أمس، شعر وكأنها تقترب منه تدريجياً حتى أصبحت العلاقة بينهما مثالية، التقطت انفاسها بحريةٍ حينما تنحى جانباً فقالت بخجلٍ وعينيها أرضاً:
أنا جهزتلك الحمام تحت..
أجابها بعدما انحنى ليلتقط قميصه الأبيض الملقى أرضاً وجاكيته الموضوع على أحد المقاعد:
كمان، فطار وحمام لا كده كتير عليا..
ابتسمت وهي تجيبه بحبٍ:.

مش كتير ولا حاجة..
ثم قالت بمزحٍ: .
لو كنا عملنا الشقة اللي كنا بنحلم بيها هنا كنت هغسل وأنضف وأطبخ وأعملك كل حاجة، غير جو القصر والخدم اللي فيه..
أحكم بأصابعٍ يديه العريضة على أصابعها، فقربها من شفتيه ليطبع قبلة بطيئة وهو يردد بابتسامةٍ مهلكة:
أقل حاجة منك بترضيني..
ثم ابتعد وهو يشير على ثيابه:
شوية وراجع..

أومأت برأسها بخفوتٍ فما أن غادر من أمامها للاسفل، حتى وضعت يدها على قفصها الصدري تتحسس خفقات القلب المجنون، لوهلةٍ شعرت بأنه سيقفز من داخله، خرجت شجن لتجلس على الطاولةٍ التي أعدتها بالخارج، كانت تحتاج للهواء المنعش يبدد تلك الرغبة التي تشتعل بقربه منها، طرقت بأصابعها على الطاولة الخشبية عدة طرقات وهي تعبث بما يقابلها حتى يعود..

انتهى من أخذ حمامه ثم ارتدى بنطاله أولاً، ثم ارتدى قميصه فشعر بوجودها لجواره، ابتسامة صغيرة داعبت شفتيه حينما تذكرها ترتديه ليلة أمس طوال الليل، فحتماً ستطبع رائحتها به، ربما بالماضي كان ليثورٍ أن تسللت رائحة امرأة أخرى لتمتزج برائحته الرجولية، اما اليوم وبتلك اللحظة بالتحديد يود أن يحبسها بداخل أضلاعه، بأن تظل لجواره في كل لحظة يتنفس هو للحياة، راق له بأنه يضع ما ارتدته حول جسده فشعر وكأنها تحتضنه، جذب رحيم جاكيته ليحمله على ذراعيه ثم صعد لسطح المنزل مجدداً فوجدها بانتظاره، تأملته باعجابٍ شديد، شعره الفوضوي الذي تحد المياه أطرافه منحه مظهر رجولي جذاب، تعمد رحيم أن لا يصفه فيكفي الصعود للأعلى سريعاً لرؤياها، جلس على الطاولةٍ من أمامها وهو يتطلع لأصناف الطعام من أمامه بابتسامة واسعة، تحرر صوتها المكبوت وهي تخبره بعبثٍ:.

مش شبه فطار القصر بس ده أصلك وأصلي ولا أنت ليك رأي تاني يا فريد!
التقط الخبز ليتناول الباذنجان المقلي مع الفلافل بنهمٍ، فقال وعينيه مركزة على طعامه:
أصلي مش بفتكره غير معاكِ أنتِ..
ثم رفع عينيه وهو يخبرها:
الماضي والحاضر بعيشه لما ببص في عيونك، أمنياتي مش مرتبطة غير بيكِ أنتِ، اي حلم حلمت بيه كان علشانك أنتي..
ازدردت ريقها الجاف الغير موجود بصعوبةٍ، فسحبت يدها بخفةٍ وهي تشير على الطعام قائلة:.

طيب ايه مش هنأكل!.

جذب قطعة من الجبن ليقربها من فمها، وزعت نظراتها بينه وبين أصابعه الممسكة بالجبن فاقتربت لتلتقطها باسنانها برقةٍ ثم مضغتها على مهلٍ وبشرتها تزداد بلونها الأحمر الخجل تدريجياً، هربت من حصار نظراته للمرة التي تعدت الرقم القياسي وهي تسكب الشاي بالكوب القريب منه، ودت لو فرغ من نظراته لها و ألتهى بطعامه ؛ ولكنه كان يراقبها طوال الوقت حتى وهو يتناول طعامه، رن هاتفه برنينٍ بدى مزعجاً له، فالتقطه ليردد بعد أن فتح:.

لا خليك انا اللي هسوق..
علمت من مختصر المكالمة بأنه حارسه الشخصي، وضع رحيم هاتفه جانباً ليخبرها على مضضٍ:
هنعدي على إياد بالمستشفى قبل ما نرجع القصر..
أومأت برأسها وهي تضيف:
ياريت علشان أطمن على صباح..
اكتفى بمنحها ابتسامة صغيرة ثم اكمل تناول طعامه بشهيةٍ مفتوحة متناسياً طعامه الصحي عن عمدٍ، وكأنه لا يود ترك اي شيئاً صنعته بيدها له..

يعشق رؤياها كل صباح حينما يستيقظ، يحاصرها بين ذراعيه بالاجبار حتى تكون اول ما يراه، ابتسم مراد وهو يراها غافلة كالطفلة الصغيرة وخاصة بتلك الجدائل التي تعقصها على شكل قرون متدالية، طافت نظراته يدها الموضوعة على صدره واليد الأخرى الموضوعة على خديه باهمالٍ، اقترب بوجهه منها ليستند بجبينه على جبينها، ففرك بأنفه على انفها، لوت شفتيها بضيقٍ فهمست بتذمر:
مراد سيبني انام الله..
أتاها رده المشاكس:.

أنا اللي أحدد تنامي أمته وتصحي أمته، كلامي مفهوم؟.
فتحت عينيها بغضبٍ قد نجح باثارته فاعتدلت بجلستها ويدها تتوسط خصرها، ليتحرك فكيها بانفعالٍ:
ليه بقى أن شاء الله كنت سلطان النوم ولا معتش لقي شغلانة!.
نهض هو الأخر ليجلس مقابلها وهو يجيبها بسخريةٍ:
معنديش مانع تكون وظيفة ثابتة ليا مدام حاجة تخصك..
لكزته بصدره وهي تخبره بغيظٍ:
نفسي مرة أنام براحتي وأصحى براحتي..

احتضنها بالقوةٍ التي منعتها عن لكزه وهو يهمس بطريقة مغرية:
كلها أحلام أنا بس اللي بتحكم فيكِ وبقرر أمته تنامي وأمته تفتحي عيونك..
كادت بأن تجيبه بحدةٍ ولكنها توقفت حينما استكمل وعينيه مركزة على شفتيها بنظرةٍ أفتكت حصونها:
حظك الوحش إني بصحى قبلك ومش بقدر اتحرم من نظرات عيونك لوقت طويل..
وبابتسامة ماكرة قال:
ولسانك السليط ده..
كركرت ضاحكة وهي تميل على صدره لترتمي باحضانه وهي تهمس بجديةٍ:.

لما بصحى مش بلاقيك جنبي بحس أن يومي كله ناقص..
رفع خدها بيديه ليجبرها على التطلع اليه، طالت النظرات بينهما واندفعت دقات القلوب وكأنها دفوف، لمس بأبهامه شفتيها التي ارتعشت على أثر لمساته فكاد بالاقتراب منها ولكن سرعان ما دفعته بعيداً عنها وهي تردد في صدمةٍ:
يا نهار أسود، سما!.
ثم هرولت لخزانتها لتخرج ما يناسبها، وهي تخبره باستياءٍ:.

أنت السبب بتلخبط يومي كله، البت هتقتلني لسه قدامنا جلسات تنظيف للبشرة ومسكات وميكيب ودنيا تانية..
ثم جذبت المنشفة لتتجه لحمام الغرفة وهى تتمتم بضيقٍ:
طول ما انت شغالي في المحن والرومانسية وبتسبلي بعينك الحلوة دي مش هنسى التزماتي كبني آدمة شغالة ميكب ارتست وبس لا هنسى كل حاجة، أنت هتجيبه من برة ما انت طالع لابوك طول الليل والنهار بيسبل للولية وكأنهم عندهم عشرين سنة...

وأغلقت باب الحمام بقوةٍ والاخر يتابعها بعدم تصديق، القى بجسده على الفراش وهو يردد بابتسامةٍ واسعة:
مجنونة!.

اجتمع الشباب بغرفة آدم فالساعات المتبقية على الزفاف تعد من الأهم بالنسبة لمشاكستهم لوداع العزوبية، أخرج فارس هاتفه ليوصله بالسماعة فأنطلقت الأغاني الشعبية بالغرفةٍ، اخرج المدة من جيبه وهو يحركها يساراً ويميناً بتمايل على الانغام، شاركه مروان الرقص وهو يردد بمرحٍ مع الاغنية:
هتجوز وهشيل همي، لأخر نقطة في دمي..

حدجهما آدم بغضبٍ وهو يتابع حركتهم المستفزة، كبت ريان ضحكاته بصعوبةٍ وهو يرى الحملة المشكالة ضده من قبل المشاكسان، أخبرهما يوسف بسخريةٍ:
عقدتم الواد في الجواز الله يحرقكم، غيروا الاغنية الهم دي..
أومأ مروان رأسه وهو يشير لهما بابتسامةٍ خبيثة:
عنيا..
ثم دنا من السماعة ليبعد هاتف فارس ثم اوصل بهاتفه لتنتطلق أغنية اخري، رفع فارس و مروان ايديهم معاً وهما يتمايلون بخفةٍ ليردد كلاً منهما بمرحٍ:.

كجولووووه لوووه لوووه، روشنوووه...
التهبت عين آدم وهو يرى كلاً منهما يبذل قصارى جهده ليستثير غضبه، تعالت ضحكات ريان فقال بحزمٍ جاهد للتحلي به:
أخرج بره منك له أحسن ما أفلق دماغكم نصين..
جذب فارس هاتفه قائلاً بسخريةٍ:
ناس كئيبة مالكوش في الدلع والروشنة، بينا يا مروان نهيص باوضتنا ما كلها كام يوم ونبقى عرسان..
ردد آدم ساخراً:
الله يرحم لما كنا بنحوشكم عن بعض..
اضاف ريان باستهزاءٍ:.

ساعة واحدة وهتلاقي الحرب اندلعت ما بينهم تاني...
اجابه مروان بسخطٍ:
اقعدوا انتوا في جنب والامور هتبقى فلة..
وما ان أغلقوا الباب من خلفهما، حتى اشار يوسف لآدم قائلاً:
فكك منهم وركز معانا، اوعى عادات أميركا وستاتها تكون نسيتك عاداتنا كعرب!.
استرسل ريان بمشاكسةٍ بعدما وضع يدبه على كتفيه:
لا يا عم مش للدرجادي، هيبض وشنا ان شاء الله مش كده ولا أيه؟.
ابتعد عنهما وهو يردد بغضبٍ:.

حيلك أنت وهو، انتوا شايفني أيه قدامكم، لا أعقلوا الكلام لحسن بيسقط منكم..
ربت يوسف على كتفيه الاخر وهو يضيف بابتسامةٍ فخر:
كده اتطمنا عليك..
.
بالمشفى...
وجوده لجواره بالمشفى كان امراً مفاجئ بالنسبةٍ لاياد ولكنه لم يكن صادماً، فبالنهاية الأمور تصالحت بين شباب عائلة زيدان، جلست شجن جوار صباح تطمئن عليها وعلى الصغير فأنتبهوا معاً لصوت رحيم الذي تساءل:
حابب القعدة هنا ولا ترجع البيت؟.

تطلع له إياد وهو يردد بذهولٍ:
هو ينفع أني أخرج الدكتور كان بيقول ميتفعش!.
أعاد رحيم سؤاله مجدداً بصرامةٍ
أنت عايز ترجع البيت؟.
هز رأسه بتأكيدٍ، فحمل رحيم هاتفه ثم خرج ليجري مكالمة هامة ليمهد له سبيل الخروج الأمن للعودة للمنزل..

اجتمعت الفتيات بأكملهن بغرفة سما، تعاونا بمساعدةٍ حنين على تزينها، وبالرغم من الاجواء المرحة من حولها الا ان التوتر كان ينخر عظامها كالبرد القارص...

وقفت أمام ذاتها تتطلع لما ترتديه بنظراتٍ شاردة للغاية، فستانها الابيض الطويل جعلها تلامس فرحة غريبة، خمارها الأبيض الطويل الذي يخفي لمنتصف نصفها العلوي، تاجها الذي أعطاها رونق ملوكي، خفق قلبها سريعاً وكأنها تراه أمامه ويغمرها برومادية عينيها، دقائق مرت عليها كصبر أعوام من الأزمنة، دقات باب الغرفة بددت تلك الفرحة لتوترٍ أكبر وخاصة حينما رأت سليم يقف أمامها بابتسامة رجولية عميقة، يطالعها بسعادةٍ وهو يرى ابنته عروس تزف بالأبيض، تباطئت ذراعيه لتهبط لجواره للأسفل بخطواتٍ متهدجة حتى انتهى الدرج الطويل بلقائه الافتراضي، وجدته يتألق ببذلة أنيقة من اللون الأبيض، ابتسامة الاعجاب مرسومة على وجهه حينما رأها، انتهى الطريق القصير الفاصل بينهما حتى صارت تقف مقابله وجهاً لوجه، تمسك بيدها وهو يصغى لكلماتٍ سليم المحذرة:.

خد بالك منها، حطها جوه عنيك..
أجابه ونظراته مسلطة عليها:
دي جوا قلبي قبل ما تكون جوا عيوني..
هنا شعرت وكأنها تود رؤياه بوضوحٍ وخاصة عندما وجه تلك الكلمات التي مست عذرية قلبها، ليتها لم تختار ذاك القرار الذي جعلها كالاسيرة امامه، تصلب جسدها أمامه، قدميها لم تنصاع اليها وخاصة حينما طبع قبلة عميقة على جبينها وهو يهمس بعشقٍ:
مبروك يا روحي...

اكتفت برسم ابتسامة صغيرة على وجهها، شدد من ضغطه على يدها ليجبرها على التحرك للخارج ليصعد للمنصة المخصصة بهما..

استغلال لمناسبة هامة مثل التي ستقيم بقصور عائلة زيدان كأن أمر منمق علها تكون فرصة لرؤياها، لذا لم يضيع يامن فرصته واستعد لحضور الزفاف حتى يتمكن من التودد اليها لتغفر له ما فعل، بحث عنها بعينيه حتى تمكن من رؤياها بوضوحٍ، جالسة بسكونٍ عجيب لجوار زوجة أخيها، وجهه وكأنه كالشعلة التي انطفئت بفعل التيار، لم يتردد لثانية فأقترب بمسافةٍ قريبة لهما، ليشير برجاءٍ لسلمى بأن تتركه يتحدث معه بمفردها، منحته سلمى تلك الفرصة، فتركتها بمفردها، لم تشعر بها لشرودها العميق الذي يعيد على ذكراها معالم ما اختبرته بالماضٍ، عادت من بحورها الثائرة لتعيد الرؤيا بوضوح عن هذا الجانب الفارغ، جحظت عينيها في انزعاجٍ عظيم حينما رأته يجلس من أمامها، تقلصت ملامحها بعصبيةٍ بالغة، فجذبت حقيبة يدها الصغيرة ونهضت سريعاً، تركها تبعد قليلاً عن أجواء الحفل، فكادت بالوصول لقصرها، دفعها بقوةٍ فاجبرها على التنحي جانباً بعيداً عن الأنظار حتى وقف قبالتها، صرخت به بجنونٍ وكأنها لم تعد تمتلك طاقة لمجابهته: .

جاي هنا ليه أنت معندكش دم، حس بقا وسبني في حالي..
وقف مقابلها وهو يردد بحزنٍ:
فاطمة علشان خاطري اديني فرصة اصلح بيها غلطي..
ابتسمت بألمٍ كمن بلهجةٍ صوتها:
أنت شايفها غلطة!، أنت طعنتني في شرفي وكسرتي!، انت مكفكش اتهامك ليا أخدتني لدكتورة علشان تتأكد اذا كنت طاهرة ولا لا ويا عالم لو كانت غلطتك في تشخيصها لحالتي كنت انت عملت ايه فيا، كنت هتفضحني زي ما قولت..

انسدلت دمعة خائنة من عينيه وهو يستمع لشرحها لجرحها الذي لم تسعفه الكلمات لوصفه، التقطت انفاسها المتقطعة وهي تسترسل ما قالت:
صدقني لو كنت اقدر اديك فرصة مكنتش هتردد، لكن أنا مش هقدر، وجعي بيزيد لما بشوفك قدامي، مقدرش أجني على نفسي وأعاني طول ما انا شايفاك قدامي، لو لسه في بقلبك ذرة حب ليا واحترام للصداقة اللي كانت بينك وبين اخويا في يوم من الايام تطلقني..

أغلق عينيه بألمٍ وهو يحاول أن يحتمل ذاك الوجع النابع من خلف صدره القاسي، شرحت له بايجازٍ معاناتها حينما تراه، فحتى هو تألم لاجلها لذا نطق أخيراً بعد فترة صمت:
هطلقك يا فاطمة ...
واستدار ليغادر وهو يسترسل بدموعٍ لم تراها هي:
اديني 3أيام أجهز فيهم كل الاوراق المطلوبة..
وتركها وغادر من أمامها سربعاً قبل ان ترى ضعفه بدونها، ليتها تتسلل لداخله لتشعر بما يعانيه بدونها..

انتهت فقرات الزفاف المعتادة برقصهما على الاغاني الهادئة، كان كل ثنائي أختلى بزوجته بعيداً عن الحفل، حتى آدم لم يقضي بالحفل سوى ساعتين وصعد بعروسه للأعلى، فضل قضاء ما تبقى بحفل الزفاف بمفردهما بالأعلى، أما بالأسفل فشهدت منصة الرقص الفضية على رقص متناغم بين عصافير الغرام، الازواج المستقبلية وحسن ختام اقصوصة الغرام بعائلة زيدان، فارس و مروان وكأن كلاً منهما يحتفل بقرب موعد زفافه مع معشوقته..

ما أن صعدوا لغرفتهما وهو يشعر بارتباكها الملحوظ، كان يود أن تكون سعادتها تطغى على خوفها، كان يود رؤية الرغبة تملئ عينيها، كان يرغب في رؤية الشوق والاحتياج له تضرم شعلة عينيها، ولكن بتر الخوف تلك الاحاسيس فسيطر عليها بشكلٍ كلي، حزن آدم وانقلبت سعادته لتعاسة وهو يراها هكذا، بين اللحظة والاخرى تحكم مئزرها حول جسدها باحكامٍ، فحتى فستانها الابيض رفضت ان يعاونها هو بخلعه بل طلبت المساعدة من الخادمة عوضاً عنه، مرر عينيه عليها وهي تخفي خصلات شعرها الغجري تارة وتارة أخري تغطي ساقيها بروبها الأبيض كلما انكشف عنها، يعلم بأن الفتاة الشرقية مختلفة تماماً عن عادات الغرب ولكن ما يؤمن به بأن الحب يبدد، الخجل، الخوف، الحرج، كل تلك القيود، ارادها بقلبها وكيانها، لا خوف وترقب لما سيحدث، جلس آدم جوارها وهو يسألها بمرحٍ:.

ها يا بسيوني أيه رأيك باوضتي؟
حدجته بنظرةٍ غاضبة، فتعالت صوت ضحكاته المرحة وهو يشير لها بيديه بمنحه السماح:
خلاص متزعليش، كنت بحاول افكك شوية..
ثم خلع جاكيت بذلته البيضاء ليقرب طاولة الطعام المتحركة اليهما قائلاً:
اكيد جوعتي بعد الليلة دي، يلا نأكل لقمة..
وزعت نظراتها بينه وبين الطعام، فبللت شفتيها الجافة بلعابها وهي تخبره:
ماليش نفس..

وضع الملعقة من يديه، ثم اعتدل بجلسته مقابلها، فأمسك يدها بحركةٍ مفاجئة لها، جعلتها ترتعش بصورة ملحوظة، خرج عن صمته اللاحظي حينما قال:
سما مفيش حاجة هتحصل بينا طول ما أنتِ خايفة ومش جاهزة لده، حتى لو قعدنا سنة كاملة أنا معنديش مانع المهم أنك تكوني عايزة ده..
رفعت عينيها اليه بنظرة تعمقت بالتطلع له، بدت وكأنها مصدومة لما استمعت اليه، فأكد حديثه بابتسامة هادئة منحته طالة رجولية:.

عايزك تاخدي حريتك وتتصرفي عادي وانا اوعدك عمري ما هكسر كلامي ده غير لو أنتي اللي طلبتي..
ثم طبع قبلة رقيقة على أصابع يدها وهو يسترسل بعشقٍ:
المهم انك تكوني مرتاحة...
ابتسمت بفرحةٍ كبيرة، فاحتضنته بتلقائية دون أن تعي لرد فعلها، فقالت بسرورٍ:
أنا بحبك كل مدى أكتر من الاول..
رفع يديه ليمررها على خصرها ببطءٍ والفرحة التي غمرتها ظللت عليه، فهمس بأنفاسٍ حارقة: .
وأنا بعشقك يا سما..

عادت لأرض واقعها فابتعدت عنه بخجل، لتلهي ذاتها بالاشارة له على الطعام:
طيب يلا نأكل بقا لحسن انا واقعة من الجوع.
ابتسم وهو يراها تتناول طعامها بنهمٍ والسعادة قد أضاءت وجهها، حتى وان تألم لذلك ولكن رؤيتها سعيدة جعله سعيد هو الاخر، الحصول عليها يحتاج لمزيد من الوقت يعلم ذلك ويعلم أيضاً كونه صبوراً بدرجةٍ تجعله يترقب تلك الخطوة منها هي..

ثلاث أيام مدة كافية منحها لنفسه ولها بالتفكير، فحسم قراره الأخير وباليوم الرابع وصل لقصر جان زيدان بصحبة والده بعدما أعد الأوراق المطلوبة لأنهاء تلك الزيجة، جلسوا بباحة القصر الداخلية والحزن يخيم على الوجوه بداية من عباس صفوان حتى والدتها وزوجة اخيها.

أما بمكتب جان جلس يامن مقابله بعد أن أرسل له برسالة بانه يريد التحدث معه على انفرادٍ، الصمت كان سيد المكان بأكمله، فتمتع به يامن حرجاً من مواجهة صديقه، اما جان فكان يختار كلماته المناسبة التي يبدأ بها الحديث فيما بينهما، فقال بهدوءٍ وحكمة مختارة:.

طول عمرك وأنت جانبي، في اصعب اوقات أحتاجتك كنت جانبي فيها ورغم ان الكل كان ضدي انت ساندتني، مترددتش ثانية واحدة اني اديلك اختي رغم اني كنت شاكك انكم حبيتوا ترتبطوا ببعض علشان تردوا لأياد وصباح الضربة، ورغم كده وافقت لان عارف الفرق بينك وبين اختيارها الاول، بس اللي عملته فاق كل توقعاتي وخلاني مش قادر استوعب انك صاحب عمري اللي كان دهري وسندي..
قاطعه يامن بانكسارٍ:
جان أنا آآ..

اشارة يديه اوقفته عن استكمال ما يود قوله، ليستطرد جان بابتسامةٍ حزينة:
اللي عايزك تعرفه ان قرار الطلاق ده راجع ليها انا مضغطتش عليها ولا هضغط، وبرضه عايزك تعرف ان صداقتنا منتهتش، يمكن الموقف نفسه صعب ومهين بس أنا اديتك الف عذر وعذر علشان أقدر اسامحك ومخسركش زي ما خسرت خالد وفضلت لحد اليوم ده في ندم مالوش أول من أخر..

مع أخر كلماته تدفقت دمعة مؤلمة من عين يامن التي اعتادت البكاء كثيراً في أخر فترة من حياته التي قلبتها راساً على عقب، لم يحتمل جان رؤية صديقه هكذا فنهض عن مقعده ليترك الغرفة، نهض يامن هو الاخر وهو يقول بتردد:
عايز أشوف فاطمة على انفراد للمرة الاخيرة..

اومأ الاخير برأسه قبل ان يكمل طريقه دون ان يستدير، فهو بموقف لا يحسد عليه من جهة صديقه المقرب والجهة الاخرى شقيقته وكرمتها المهدورة، كان ذاك الطلب ثقيل على قلبها كحمل طن من الحديد الصلب، ولكن امام تحرر علاقتها وافقت على مضضٍ، التقطت نفساً طويل ثم زفرته على مهلٍ قبل ان تدلف لغرفة مكتب اخيها، تعجبت فاطمة حينما وجدتها خالية فما لبثت سوى ثواني حتى اهتز جسدها فزعاّ حينما استمعت لانغلاق الباب من خلفها، استدارت لتجده يغلق الباب بالمفتاح الموصود بالخلف، ابتلعت ريقها وهي تتساءل بتوترٍ:.

بتقفل الباب ليه؟.
اقترب ليقف أمامها ونظراته تتطوفها من رأسها لأخماص قدميها، حاول ان يتغاضى عن نظرات الكره بعينيها، وخاصة حينما نطقت بحدة:
طلبت تشوفني ليه!.
أجابها ويديه يمررها على طول ذراعيها:
لاني حابب أودعك للمرة الاخيرة..
ثم اقترب ليحتضنها من الخلف، فهمس جوار شحمة أذنيها:
أودعك وأنتي حلالي، عارف انك مش طايقاني بس ده وداع اخير يا فاطمة..

كلماته تلك جعلت قلبها ينقبض بصورةٍ مخيفة، أغلقت عينيها بقوةٍ وهي تجاهد شعورها الخائن لوجودها لجوارها، تماسكت لأصعب مدى وخاصة حينما ادارها لتقف أمام عينيه التي تصطنع القوة وتفضحها لؤلؤ حدقتيه، مرر يديه على خدها وهو يردد بابتسامةٍ تحمل وجع عالم بأكمله:.

القرار ده اخدته علشانك انتي، لاني بحبك مش هقبل أشوفك بتتعذبي قدامي، لاني بحبك مش هقدر أشوف الكره في عيونك ليا، لأني معترف بغلطتي اتحملت بعدك عني وحسرتي كعقاب ليا...
ثم احتضنها بقوةٍ كادت بان تمزق أربطة ذراعيها، ليعود ليسترسل حديثه المؤلم:.

عارف ان بعدك عني هيكون أصعب من الموت بس مستعد للاصعب من كده علشان أشوف ابتسامتك، وعارف اني بمجرد ما هديكي حريتك ممكن تكوني لغيري وده هيدبحني بسكينة تالمة بس راضي لو ده هيخليكي مبسوطة وسعيدة..

دقائق طالت باحتضانه لها، وحديثه المتواصل، دمعاته التي غمرت كتفيها ودمعاتها التي تخفيها بيديها حتى لا يشعر بها، ابتعد عنها ونظراته تحفظ كل انشن بوجهها، حتى ان أصابعه ارادت وداع أخير، فمررها برفقٍ على معالم وجهها، ليردد بدمعٍ جعل نبرة صوته مهتزة:
خليكي متأكدة اني محبتش ولا هحب غيرك يا فاطمة وأني بتمنالك من قلبي السعادة والعوض مع الانسان اللي هتكملي معاه..

وتركها وغادر على الفور قبل أن تعصف به غيرته فيرتكب أمراً مضاف للائحة حرجه المتزايد، خرج للباحة، ليجلس جوار ابيه بانتظار تجهيز الاوراق ليضع توقيعه ويغادر هذا المكان بسلام لن يعهده قط طوال حياته، أما بالداخل ما ان غادر من أمامها حتى مدت يدها تلامس الفراغ والدموع تنسدل دون توقف، اقتربت منها سلمى ببكاءٍ وهي تحثها على المضي قدماً للخروج حتى تضع توقيعها هي الاخرى على ميثاق طلاقها، جلست مقابل يامن وابيه، وعقلها شارد بملكوتٍ اخر، عصفت بها الذكريات وكأنها اشفقت على حالهما فطرحت من أمامها الذكريات الحسنة التي جمعتها به، وعلى رأسهما ما حدث باالاسكندرية حينما اعد لها إياد خندق ليوقع بها ببراثينه وخلصها يامن منه، ورغم حبكة الدور الممتازة الا ان يامن وثق بها ورفض تصديق ما رأته عينيه، رأت عدة مواقف جمعتها به وكلهن أثبت فيهما رجولته وحبه لها، حتى حينما حدثت بينهما هذة المعضلة لم يتهمها ببداية الامر الا بعد مرة والاخرى، وان يكن العذر يتملكه بنسبة عشرون على مئة، فغياب إياد بتلك الفترة بالتحديد، والعلاقة الغامضة التي ربطتهما بالبداية كانت لتثير الشكوك رغماً عن الجميع، نعم اهانها ومازال شرخ قلبها لم يترمم ولن يقوى على سد تلك الفجوة؛ ولكن الفراق بينهما امراً موجع لها، أفاقت فاطمة من بحور شرودها على صوت عباس صفوان وهو يقدم عقد الطلاق لابنه ويؤمره بحزنٍ:.

أمضي هنا يا ابني..
رفع يامن نظراته اليها ليتمعن بها قبل أن تحرم عليه، ثم جذب القلم من أبيه، وكأنه امسك بخنجر سنه مسنون، هرعت اليه فاطمة لتجذب منه الأوراق فصرخت وهي تمزقها ألف قطعة:
لأ، لأ...
نهض عن محله وهو يقف قبالتها يطالعها بنظراتٍ دهشةٍ، رفعت يدها لتهوي على وجهه بصفعاتٍ قوية ولكمات متفرقة على صدره وهي تردد بصراخ هيستري:
هونت عليك تتخلى عني بالسهولة دي، ازاي!.

بدى الجميع بحالة من الصدمةٍ، فحتى يامن وقف مقابلها بصلابة وهو يحتمل ضرباتها المؤلمة في سبيل سماعه لما تردد، وقلبه ينبض من جديدٍ، بكت فاطمة وهي تهمس بخفوتٍ:
أكيد في عقاب تاني ليك غير اننا نفترق أكيد في..
أمسكت بجبينها بألمٍ، لتبدو الرؤيا مشوشة من أمامها ومن ثم اظلمت لتهوى بثقل جسدها على صدره الصلب الذي ساندها ليحل بينها وبين الارض، وصوته يتحرر بفزعٍ:
فاطمة!..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة