قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية لك وعدي للكاتبة مي علاء الفصل الرابع والعشرون

رواية لك وعدي للكاتبة مي علاء الفصل الرابع والعشرون

رواية لك وعدي للكاتبة مي علاء الفصل الرابع والعشرون

إتجه عمار للمكتب ليلقي بجسده على كرسيه، ظل ينظر لنيروز و هو صامت، لا حديث يقوله، بل هناك لكنه لا يعلم من اين يبدأ، هل يعتذر أولاً!، ظل حائراً، و ساد الصمت لدقائق وصلت لعشرة دقائق أو أكثر، فجأة قطع صوتها
هذا الصمت.

- أعتقد أنه يجب علي أن اعتذر، فقد ظلمتك سابقا و اتهمتك بشيء باطل، لم أكن أعلم أن هذه خطة لتفريقنا، أقصد لفساد زواجنا الذي لم يكن فعل صائب منذ البداية، أعتقد أن هذه إشارة من الله، يعلمنا بها أننا لسنا مقدران لبعضنا منذ البداية.

حدق بها بعدم تصديق لما تقوله، ما هذا الهراء الذي تتفوه به!، نهض ليتجه لها و يقف امامها حيث ينظر لها من فوق و هي جالسة على الأريكة تنظر للأرض بثبات، جثى على ركبتيه ليصبح بمستواها و لينظر لوجهها مباشرة و يقول رافضا موضحا
- كلامك ليس صحيح، هذه ليست إشارة، هذا اختبار من الله لنا و لقوة حبنا، يريد أن يرى كم و كيف سنواجه هذه الصعوبات
رفعت نظراتها لتنظر لوجهه و إبتسمت إبتسامة جانبية مستخفة باهتة و هي تقول.

- حبنا!، ما كان الحب متبادل بيننا يوماً، تذكر هذا، و ايضا نحن كنا نواجه بعضنا و ليس الصعاب، أي صعاب التي واجهناها معا!، هل تتذكر واحدة؟
- هل تنكرين أننا واجهنا بعض الصعاب في بداية علاقتنا!
هزت رأسها بخفة و هي تقول بحسرة
- هل تقول ان هذا الذي يقف أمامي هو نفسه الذي تتحدث عنه في بداية علاقتنا! أم انا التي كنت منخدعة بك؟ و هذا انت منذ البداية و انا قد كنت عمياء عن رؤية هذا.

عاتبها بنظراته، قبل ان يقول بصدق
- قد تكون تصرفاتي تغيرت لكن قلبي كما هو، مازال يعشقك
لمعت عينيها بالدموع و صمتت للحظات قبل ان تقول بخفوت
- حقا!، هل العاشق يسبب هذا القدر من الألم لمن يعشقه!، هل هذا مفهوم العشق لديك!
- أقر اني اخطأت، و اني انا المخطئ الوحيد الآن، لكن المحب يسامح، أليس كذلك؟
نهضت لتقف بعيدا عنه، و تعالت ضحكاتها المريرة، ثم قالت بإنفعال.

- عن أي محب و عاشق أنت تتحدث يا عمار!، هل تعتبر ما عشناه انا و انت حبا!، هل شرائك لي حبا!
نهض ليذهب لها مصححاً قولها
- انا لم اقم بشرائكِ، كل ما قيل لكِ خطأ، فأنتِ لا تعلمين ماذا حدث و ما الذي دفعني لأعطي لوالدك المال، فهو ما كان ليزوجني اياكِ إلا بعد أن يحصل على ما طلبه و هي النقود، لذا.

أعطيته اياها، و لم أرغب في ان اخبركِ بهذا لأني أعلم أن هذا سيحزنك و قد يجعلك تتراجعين عن الزواج مني، و انا لا استطيع ان أتقبل ذلك
فهمت قوله الاخير بطريقة خاطئة، لذا قالت بغضب
- ها انت تقول، لا تستطيع تقبل ذلك، لا تستطيع تقبل ضياع الفريسة من بين يدي قبل ان تستمتع بها
غضب لفهمها الخاطئ و ظنها السيء، لكنه تماسك، تقدم منها بضع خطوات ليقول بهدوء و هو يحدق في حدقتيها بعمق.

- أقصد اني كنت متعلق بكِ و قد أحببتك حينها، لذا لم يكن بمقدرتي أن أفرط بكِ
أشاحت بوجهها هرباً من عينيه التي تضعفها بصدقها، و التزمت الصمت، مسحت دمعتها التي سالت على وجنتها ثم بلعت لعابها لتقول
بثبات دون أن تحرك رأسها لتنظر له
- لا فائدة من الحديث الآن، فحديثنا لن يعيد شيء، لذا رجاءً لننهي كل شيء بهدوء.

صدم، و ظل محدقا بها لدقائق محاولا فهم كلماتها الواضحة، اضطرب قلبه ولسانه و امتلكه الخوف من فقدانها مجددا، اخرج حروفه بإضطراب و عدم انتظام
- لماذا؟، لا داعي لهذا، فكل شيء قد كشف، و لا يوجد سبب لأن نفترق مرة أخرى، الا ترين انه قد حان أن نعود لبعضنا!
- هل ترى هذا صائبا؟!
عادت لتنظر له و هي تسأله بوهن، فأجابها بلهفة
- نعم، بالطبع نعم
- و كيف هذا!، هل بعد ما سببناه لبعضنا من ألم تستطيع العودة؟

- نستطيع أن ننسى كل هذا
اجابها بتلقائية، يستطيع فعلها، فشعرت بالقهر، لذا قالت معاتبة اياه
- اذا تستطيع الان، مادمت تستطيع لماذا لم تفعل هذا سابقا! لماذا لم تتخلص من بغضك سابقا!، هل أصبحت قادر الآن على النسيان في حين كنت سابقا عاجز عن نسيان ما سببته انا لك من ألم!

صمت، لا يعلم بما يجيبها، فهي محقة، ما الذي تغير الآن!، هل سامحها!، أم لأنه استيقظ من حماقته!، فكر سريعا، إنها ليس لها ذنب في ما حدث له، فلماذا كان يحملها الذنب؟!، نصائح سارة و اقوالها قد سممت عقله، فقد كان يخضع لها بحماقة محرجة.
قال بإحراج و ندم
- لقد كنت أعمى، أسير دون أن أفكر بعقل شخص سليم، لذا اعذريني و لا تعقدي الأمور يا.

نيروز، فقد تخلصنا للتو من أكبر عقبة كانت بيننا و هي سارة، و قد أوضحت لكِ أمر والدك، فما الشيء الذي ظل بيننا الان؟
انهى سؤاله باستياء، فنقلت نظراتها فوق وجهه و قد كسى الحزن وجهها و هي تجيبه.

- هل تعتقد أن سارة فقط هي العقبة التي كانت بيننا!، إذ هكذا، فأود أن اخبرك أن اعتقادك خاطئ، فسارة قد كانت مساهمة في جزء من هذا لكن ليس الكل، فهناك أشياء انت فعلتها و ليست سارة، حتى إن كانت هي تتلاعب بعقلك، فأنت الذي كنت تتصرف و تنصاع لها، بل أعتقد أن هذا احتمال خاطئ، فأنت حقا تحمل الغضب في قلبك اتجاهي لما سببته لك من أذى، و انا ارى انك محق، لذا إذ كنت مكانك لكنت تخلصت من ألمي
استنكر قولها.

- كنت ستتخلصين!
تابع بذكاء
- حسنا، لماذا لم تتخلصي مني حتى الآن!، فأنا ألمك
اجابته بأنكسار
- الأمر بيننا مختلف، فأنا أحببتك بصدق، حتى عندما سببت لك الأذى و الألم لم يكن عن قصد، أما أنت فقد كنت تتعمد ايذائي، و كنت تتلذذ رؤيتي و انا اتألم
اسرع بقوله الصادق
- أقسم اني كنت اتألم لألمك لكن..
قاطعته ببكاء راجية اياه
- لا اريد تفسير رجاءً، اريد ان انهي هذا بهدوء و دون ندم، رجاءً.

تأثر بدموعها، فلمعت عينيه بالدموع، اسرع ليحيط خصرها بذراعه و يقربها منه و باليد
الأخرى يحتضن وجنتها، فهو قرر عدم تركها، سيتمسك بها، سيستمع لصوت قلبه الذي كان يصرخ دائما شوقا لها.
- هل تقصدين انكِ ستتركيني مجدداً!
- عودتي كانت خطأ منذ البداية
اجابته بصوت باكي، فأصبح يتوسلها و هو يكاد أن يبكي ايضا.

- ارجوكِ لا تفعلي، انا اسف، انا متأسف عن كل ألم سببته لكِ، اعدك اني لن أسبب لكِ المزيد، فقط ابقي معي، لا تفعلي كالمرة السابقة، تركتيني دون أن تسمعيني أو تفكري بي، فهل ستفعلين هذا في هذه المرة ايضا!
تمنت نيروز في هذه اللحظة أن حقيقة سارة لم تكشف، فقد كانت ستغادر بهدوء دون أن تكرر أحداث ما حدث منذ أعوام، تمنت ايضا ان تلبي طلبه و تبقى لكن لن تستطيع فعل ذلك، فهي
تعتقد أن هذه هي نهاية طريقهما.

- ستتخطاني كما فعلت سابقا، لا تقلق
استند جبينه على جبينها و اخذ يقول من بين انفاسه اللاهثة بخفوت
- و من قال لكِ ذلك!، فأنتِ كنتِ في عقلي دائما، كنت أحاول أن اتخطاك لكن زكرياتي معك تعيدني اليك، حتى هذه البلاد أصبحت فارغة من بعد رحيلك عني
تعالى نحيبها و هي تستمع لكلماته التي تؤلم قلبها بقسوة، لكن لا يجب أن تضعف، يجب أن تتمسك بقرارها، يجب أن تصبح قوية، يجب أن تدفعه بعيدا، تدفعه إلى اللاعود.

دفعته عنها بقوة مما سبب له الصدمة، صرخت به بهستيريا و بكاء مرير
- قلت لك ان ننهي هذا بهدوء، لماذا تفعل العكس؟، لماذا؟، انت تؤلمني هكذا، الا تريد
أن ترحمني؟، ألا تشفق علي؟، ألا ترى اني لا استطيع ان استقبل آلام أخرى منك!، لقد اكتفت منك و من حبك، حقا اكتفيت.

كانت صدمة عنيفة عليه، فهل هو حمل ثقيل عليها إلى هذا الحد!، تابعها بنظراته و هي تغادر الغرفة، بل تغادر حياته، أراد أن يلحق بها لكن سقوطه المفاجئ أثر الم قاتل في قدمه منعه، آلم لم يصاب بمثله من قبل.

خرجت نيروز من بوابة الفيلا و دموعها تنهمر على وجنتيها بلا توقف، ركضت على عمتها اسماء التي كانت في طريقها لعبور البوابة، و عانقتها و اخذت تجهش بالبكاء، فربتت على كتفها اسماء و هي تشعر بالقلق، بينما ترجل صفوان من سيارة الاجرة حين رأى نيروز بتلك الحالة.
- خذيني من هنا قبل ان اضعف، لا أريد أن
أعود للداخل، اسرعي و خذيني من هنا
أشفقت اسماء على نيروز، و تألمت من اجلها، تمتمت اسماء.

- كما تريدين يا عزيزتي، فقط كفي عن البكاء
ثم اصطحبتها لسيارة الأجرة، أتى صفوان أن يسأل عن سبب انهيار أخته هكذا فهو ايضا يشعر بالقلق عليها، لكن اسماء أشارت له بأن يلتزم الصمت الآن، ففعل.

بعد مرور أسبوع
في فرنسا، مساءً
كانت نيروز جالسة أمام المدفأة شاردة، تفكر بعمار، زكريات آخر لقاء بينهما لم يفارقها إلى هذه اللحظة، و يزداد ألمها في كل يوم يمر أكثر من الذي قبله، خائفة أن يكون القرار الذي اخذته خاطئ لكنها تحاول أن تطمئن نفسها بقولها انها هكذا ترحمه و ترحم نفسها من جراح أخرى.

تفكر أحيانا بحيرة، إذ لم يكنا مقدران لبعضهما منذ البداية، لماذا اجتمعا؟، هل ليتعذبان فقط!، تتساءل، أكانا يستحقان ما حدث لهما؟، ايستحقان كل ما أدى بداخلهم لخراب، خراب عميق لا يمكن تعميره مرة أخرى؟!، خراب لن يقبل بإجتماعهم مرة أخرى.
نظرت لهاتفها الذي يرن، و كانت ميساء، تنهدت بقوة و هي تعيد رأسها للخلف، فميساء يوميا تتصل بها و هي لا تجيب، لا تريد أن تجيب لانها تعلم ماذا ستقول لها الأخيرة.

اقبلت عليها اسماء التي سافرت معها و التي لم ترغب في ترك نيروز بمفردها، جلست بجانب الأخيرة و سألتها و هي تبتسم بهدوء
- بماذا تفكرين؟
تنهدت نيروز بعمق قبل ان تجيب
- لا شيء
ثم اردفت بهدوء
- غدا سأذهب للمستشفى لزيارة فكتوريا، تتذكرينها صحيح؟
- فكتوريا!، لا أتذكرها، من هذه؟ و لماذا هي في المستشفى؟
استفسرت اسماء، فأجابتها نيروز.

- كانت معي في العمل لكنها تركت العمل بعد زواجها و آلان هي قد أنجبت طفلها الأول، لذا سأذهب لأهنئها
همهمت اسماء ثم عرضت
- حسنا اذهبي، هل اذهب معكِ؟
- لا داعي لذلك، لكن إذ كنت ترغبين في المجيء لا أمانع
- إذا سأتي
قالتها اسماء بحماس، فإبتسمت نيروز و عادت لتنظر امامها و تشرد، لكن اسماء لم تسمح لها
بذلك فقد انهضتها ليتجها معا للمطبخ و يعدان العشاء.

غادر صفوان المنزل بعد كذبه على والدته بأنه سيذهب لمقابلة اصدقائه، فهو في الحقيقة ذاهب لفيلا صفا حيث عمله، و اضطر للكذب لأن والدته لن تسمح له بالمغادرة إذ علمت أن هذا مقصده، و ايضا لن ترحم رأسه، لذا كذب.
وصل لمقصده بعد نصف ساعة، و التقى مع صفا و تحدث معها قليلا، اخذت صفا تعتذر لما تعرض له من أذى و قدمت له ظرف يمتلأ بالنقود كتعويض لكنه رفضه بإصرار.

و قد قام بتغيير الموضوع حيث جاء بأمر يريد معرفته و بشده لكنه أظهره لها على أساس أنه في إطار العمل، حتى أنه وضع لقب
- و كيف السيدة عائشة الآن؟
تغيرت ملامح صفا للحزن قائلة بحيرة و إحباط
- لا أعلم إذ حالها الآن أفضل أم أسوء، فقد تغيرت تماما أصبحت هادئة لدرجة مقلقة و لا تتحدث كثير، إنها حتى لا تعنفني حين اعانقها أو أحدثها بلطف و انديها ببجعتي، أشعر أن بها شيء اجهله، أفكر أن أحضر لها طبيب نفسي.

استنكر صفوان
- هل قررتي هذا فقط لأنها هادئة!، هل تريدينها ان تنفر منك كما كانت سابقاً؟
- لم أقصد هذا، لكن هدوءها مقلق، حتى انت ستشعر بهذا إذ قابلتها، ستشعر انها جسد بلا روح، إنها ايضا تشرد كثيرا و لا تتحدث مع أحد و تتناول القليل من الطعام، و كأنها في عالم آخر
بدأ القلق يتملكه بعد ان وضحت له صفا حالة عائشة، لذا قرر أن يذهب ليرى بنفسه، و
سمحت له صفا.

طرق على باب غرفة عائشة بلطف ثم دخل، اغلق الباب خلفه و هو ينقل نظراته حوله باحثاً عنها، فالغرفة فارغة، ناداها
- عائشة، اين انتِ؟
تقدم للداخل و هو يناديها للمرة الثانية، إتجه للشرفة بخطوات سريعة قلقة حين سمع صوت زجاج ينكسر، توقف حين دلف للأخيرة و تنفس براحة حين وجدها سليمة، تمتم
- انتِ هنا إذا، ماذا تفعلين؟

تأكدت عائشة الآن أن من ناداها سابقا كان هو حقا و ليس صوت شبحه، و قد ارتجف جسدها حين فكرت فقط انه هو بلحمه موجود في غرفتها لذا سقط الكوب من يدها فتهشم، و تملكها التوتر و الإرتباك حين اخترقت كلماته مسامعها بقسوة، و حين شعرت به خلفها، و قد تسارعت دقات
قلبها خوفا من مقابلته، اخذت تنقل نظراتها امامها بضياع، ماذا ستفعل الآن؟، إنه خلفها.

عاد له القلق مرة أخرى حين لاحظ عدم استجابتها له، فتقدم ليقف امامها و يسألها بقلق ظاهر في نبرة صوته
- هل تسمعيني؟، عائشة انا احدثك
كانت تتحاشى أن تقع نظراتها عليه بقدر المستطاع، و ايضا لاحظ صفوان ذلك، جلس الأخير على الكرسي المقابل لكرسيها و حدق بها للحظات، ثم قال بمزاح
- ألا تريدين ان تنظري لي؟، هل أصبح مظهري سيء بعد ان خضعت للعملية، لقد فقدت بعض الوزن لكن هذا لا يهم، فأنا مازلت قوي.

كان متأملاً أن تبتسم على الأقل، لكنها لم تفعل، نظر لكفيها التي تضمهما لبعضهما بتوتر..
قال بأسف
- يبدو أن والدتك محقة، انتِ لست بطبيعية
ثم وضع كفه على كفيها المضمومين و سألها بحرص
- ماذا بك؟، هل تعانين من شيء؟، لماذا أصبحتِ هكذا بعد ان تخلصتِ من ذلك المكان و ذلك الرجل؟!، هل فعلوا بك شيء بعد ان فقدت الوعي؟

كرهت عائشة اهتمامه الذي شعرت به و هو يطرح عليها الأسئلة، فهو يهتم لأمرها و هي قد كادت أن تتسبب في قتله، سحبت يدها من أسفل كفه و فتحت شفتيها لتخرج صوتها الذي يكاد يسمع، أيضا دون أن تستقر حدقتيها عليه
- لا اريد ان اتحدث معك أو أراك، لذا غادر و لا تأتي مرة أخرى
اعتلته الدهشة من رغبتها، لذا سألها ببلاهه
- ماذا؟
ثم ادرك قولها فسألها مرة أخرى
- لماذا؟

لم تجيبه نهضت بإنفعال و عادت لداخل الغرفة، فلحق بها، وقف خلفها بمسافة قليلة، و قال بثبات
- اسف، لا استطيع ان ألبي رغبتك فأنا حارسك و المسؤل عنكِ
ثم اردف بإنزعاج و انفعال مفاجئ
- و بمناسبة اني حارسك، لماذا لم تأتي لزياتي و لو لمرة؟، ألست اعمل عندك و يجب أن تأتي لتطمأني على العاملين لديك!، أم انكِ تعرضين حياة الآخرين للخطر فقط.

كلماته الأخيرة كانت قاسية عليها، استدارت عائشة و تقابلت نظراتهم اخيرا، رأى في حدقتيها ظلام عميق يمتلأ بمشاعر متناقضة عن
ما كانت عليه سابقا، اين نظراتها الباردة ذهبت؟!، اختفى انفعاله حين قالت عائشة بفتور
- قد حذرتك وقتها و قلت لك ان تذهب لكنك لم تنصت لي
و تابعت بقهر
- و حاولت إنقاذك لكني لم استطع، برغم ذلك أعلم ان ما حدث كان خطأي و اعلم ان وجودي في أي مكان يسبب الأذى لمن حولي، و ها قد انت نلت الأذى.

فكر صفوان أثناء تحدثها، هل هي تشعر بالذنب و تحمل نفسها سبب ما حدث له!، لذا هي بهذه الحالة، تتجنب الجميع!، و تأكد من صحة تفكيره حين اردفت عائشة بصوت متحشرج حاولت جعله طبيعياً لكنها فشلت
- لذا ابقى بعيدا عني انت و الجميع حتى لا يصيبكم أي مكروه، و ايضا لكي لا أشعر بالذنب
إذ اصابكم شيء بسببي
حاول صفوان أن يخفف عنها و يطمأنها
- ما أصابني ليس بسببكِ، و انا لا أحملك ذنب ذلك
- لكن انا احمله لنفسي.

اجابته مع دموعها التي سالت على وجنتيها ببطء دون أراد منها، فتقدم بضع خطوات و هو يقول
- كانت إصابة عمل لا أكثر
- و عملك هو انا، مراقبتي انا و حراستي، لذا إصابة العمل يكون سببها انا
تأملها قليلا قبل ان يقول بهدوء و هو يرسم على شفتيه إبتسامة صغيرة
- الآن انا أفضل عائشة السابقة
لم تفهم مقصده فسألته مطالبة بتوضيح
- ماذا تقصد؟
- حالتك الان لا تليق بك، انتِ ولدتي بعقل كبير.

متكبر و ناضج لا يفكر بهذه الطريقة السخيفة، اين ذهب برودك و رزانتك!
إبتسمت بمرارة قائلة
- انا لست بذلك البرود الذي رأيتني به انت و الجميع
- مادمت لستِ بذلك البرود و الجفاء، أين جوهرك، ألم يحن ان تظهريه الآن؟، مشاعرك لوالدتك خاصةً
ما يطلبه صعب تنفيذه، و إن شرحت له لن يفهمها، لذا قررت ان تهرب منه و من الإجابة عن سؤاله، لكنه لم يسمح لها بذلك، اسرع ليمسك بذراعها قبل ان تستدير و قال.

- اكملي حديثك معي و لو لمرة
جذبت يدها بحدة و صرخت به بإنفعال
- بماذا تريد ان تتحدث مع فتاة معقدة مثلي، فتاة معقدة من الداخل لن تستطيع فهمها مهما حاولت!
اخذت تبكي و هي تتابع بقهر.

- لا أحد يستطيع أن يفهمني أو يراعي ما مررت به، فأنا قد عشت حياة مختلفة عن حياتكم التي عشتوها، من الصعب علي أن أتعامل و بكل بساطة أمام مشاعركم الحانية التي تلمس القلب، قد اتأثر لكني أعجز عن تقليدها، فما عشته و ما رأيته في حياتي لا يسمح لي بتقبل هذه المشاعر التي تجعل الشخص حي، حتى أني احتار و أكره نفسي الآن لأني بهذه الحالة و لأني أصبحت ذات مشاعر، كم هذا مؤلم بالنسبة لي، لست معتادة على ذلك، لذا لا تضعطوا علي اكثر.

أشارت عليه متابعة برجاء و هي تبكي
- و انت ابتعد عني، فكلما أراك اتألم و تعود لي زكريات ذلك اليوم و اشعر بالذنب
قطع المسافة المتبقية بينهما ليعانقها بيد و باليد الأخرى يمسح على شعرها بحنان بجانب صوته
الدافئ الذي بث الطمأنية داخلها.

- انا أستطيع أن أفهمك، و استطيع ان ارى انكِ مثلانا و حياتك ليست مختلفة عنا، انتِ فقط شهدتِ فترة سيئة جعلتكِ تعتقدين انكِ أصبحتِ مختلفة عنا، و انكِ بلا مشاعر، مع انكِ مازالتِ تشعرين و تتألمين، فقد كنتِ تحتاجين أن يحدث شيء ليظهر لكِ انكِ مازلتِ حية من الداخل، و مازال لديك قلب، لذا لا توهمي نفسك بأنكِ لا تستطيعين أن تبادلي من حولك مشاعرهم
و تلمس وجنتها بلطف و هو يبتسم و يردف.

- و للمرة الألف اخبركِ، انتِ ليس لكِ ذنب في ما حدث لي، لذا اهدئي و عودي كما كنت، أو كوني على طبيعتك، و لا تكوني بهذه الحالة المقلقة، فوالدتك قلقت عليكِ و انا أيضاً، حسنا؟
كانت عائشة تحدق به طيلة حديثه، و حين
انتهى إرتسمت على شفتيها إبتسامة تكاد ترى و هي تشعر بالحيرة، كيف جعلها تطمأن هكذا؟، كيف اقنعها بكلماته!، هل له أثر كبير عليها هكذا، اومأت برأسها بخضوع و هي سجينه عينيه، سألته بخفوت.

- هل جرحك بخير الآن؟
همهم بلطف و هو يومأ برأسه بالإيجاب، فظهرت إبتسامتها التي تظهر راحتها، شعر هو ايضا بالراحة بعد ان رأى إبتسامتها، أدرك انه قريب منها لحد كبير لذا حررها منه وابتعد، سألها قبل ان يغادر
- سأغادر الأن، هل تحتاجين لشيء؟
هزت رأسها بالنفي، فتمتم
- حسنا
و إتجه للباب و غادر، و بعد لحظات من مغادرته تلاشت إبتسامتها تدريجياً و هي تفكر..

هل هي تحبه؟، نعم، إنها كذلك، شعرت بالخوف من صراحتها مع نفسها، وما زادها خوفا افكارها سيئة الذي لم يحررها من جميعها، فهي لديها خوف الفقدان، خائفة من ان تفقده مثل ما فقدت والدها، لا تريد أن تشعر بذلك الشعور القاتل مرة أخرى.
لذا قررت شيء، ستكتم صوت قلبها، و ستبتعد بقدر المستطاع عنه و هذا لسلامته و سلامتها.

أما بالنسبة لوالدتها، فهي لم تسامحها بعد و لكن هذا لا يمنع محبتها لها، فإذ كانت عائشة تكرهها بحق ما كانت ضحت بنفسها من أجل حماية والدتها بالبعد عنها، لذا قررت القرار الثاني، إنها ستتعامل مع والدتها لكن بحرص، فلن تقترب و لن تبتعد، ستقف في الوسط.

في فرنسا
شعرت اسماء بالتعب لذا لم ترافق نيروز، فذهبت الأخيرة بمفردها لفكتوريا، انتهت نيروز سريعا من تهنئة فكتوريا و زوجها و استأذنت، فقد شعرت بالحسرة و الألم بعد ان رأت هذه العائلة السعيدة، لكن رغم ذلك تمنت لهم السعادة من قلبها.

سارت في الممر الطويل في نفس طابق الغرفة الذين يحتجزون بها فكتوريا، عبرت أمام أكثر من غرفتين، و بعد الغرفة الثالثة بقليل توقفت و هي تشعر أن صوت المرأة التي خرجت من الغرفة الاخيرة و التي تتحدث مع أحد الاطباء مألوف لها، أول من خطر على بالها هي غادة والدة عمار، فهذا يشبه صوتها تماما لكن من المستحيل أن تكون هنا، فماذا ستفعل غادة في.

فرنسا؟، و في المستشفى خاصةً!، تذكرت عمار و الجراحة الذي سيخضع لها، هل سيجريها هنا!، اضطربت دقات قلبها و هي تلتفت بحذر لترى إذ كان تخمينها صحيح أم لا، و قد اصابت، إنها غادة، حدقت لوهلة و قد تسارعت انفاسها ثم استدارت بعجلة و اسرعت لأقرب مكان يخفيها، لا تعلم لِما تهرب و تختبئ، فهذه صدفة، كم انها صدفة غريبة!، وضعت كفها على صدرها الذي يعلو و يهبط بتوتر و هي تحاول ان تستمع لحديث غادة مع الطبيب، فهي تريد أن تتأكد إذ صدق ظنها و أنه هنا، لكن لسوء حظها لم يتحدثا طويلا فقد عادت غادة للغرفة و الطبيب ذهب لعمله.

لكن من محادثة غادة القصيرة مع الطبيب علمت نيروز أن عمار هنا، داخل هذه الغرفة و قد أجرى العملية لكن نتائجها، لا تعلمها.
فزعت حين شعرت باهتزاز هاتفها، اخرجته و اجابت على أسماء بشرود
- نعم
- هل انتِ عائدة للمنزل؟
- نعم، لا، لا اعلم
قالتها نيروز بعدم تركيز و ضياع، فقالت أسماء بإستغراب
- لماذا انتِ ضائعة هكذا؟، هل حدث شيء؟
صمتت نيروز للحظات قبل ان تجيب بكذب
- لا، سأغلق الآن
اسرعت اسماء.

- انتظري، قبل ان تغلقي، و انتِ عائدة للمنزل لا تنسي أن تشتري الخبز، فقد نفذ لدينا
- حسنا، وداعاً
اغلقت نيروز الخط و نظرت للغرفة التي يحتجز بها عمار، ثم تنهدت بقوة و غادرت.

بعد غروب الشمس بقليل
كانت نيروز جالسة على الأريكة أمام التلفاز، تنظر له دون أن تتابع ما يعرض على شاشته، جلست بجانبها اسماء و سألتها بحماس و هي تنظر للتلفاز
- ماذا حدث في الفيلم؟، لماذا يضربون البطل؟
لم تسمعها نيروز، لذا لم تجيب، كررت اسماء السؤال أكثر من مرة و الاخرى كما هي، لا تجيب، فنظرت اسماء لنيروز و غمزتها بزراعها بلطف
- هل تسمعيني؟!
استيقظت نيروز من شرودها و نظرت لأسماء و قالت بتشتت
- ماذا؟

- انا احدثك عن الفيلم و انتِ لستِ هنا، ما الذي يشغل عقلك لهذه الدرجة؟
و اردفت
- منذ أن عدتي صباحا و انتِ هكذا، شاردة، هل حدث شيء؟
نفت نيروز بهدوء
- لا، لم يحدث شيء
ثم امسكت جبينها متعللة المرض
- فقط اشعر بصداع قوي منذ الصباح، لذا لا استطيع ان أركز في شيء
صدقت اسماء كذبة نيروز بسهولة، فقالت بتعاطف
- حسنا يا عزيزتي، اذهبي لغرفتك و خذي قسطاً من الراحة، لكن خذي دواء للصداع قبل ان تنضمي لفراشك.

اومأت نيروز برأسها و نهضت، قالت قبل ان تتجه لغرفتها
- طابت ليلتك
- و لكِ ايضا
تمتمت اسماء مع إبتسامة صغيرة و تابعتها بنظراتها إلى حين اختفت من امامها، تنهدت و عادت لتشاهد الفيلم.
تدثرت نيروز اسفل الغطاء و طبقت قبضة يدهت على اطراف الأخير و هي تنظر للفراغ و عادت لتفكيرها و شرودها.

هل هو بخير الآن؟!، هل نتائج الجراحة الذي خضع لها جيدة أم سيئة!، هل نجحت!، تتمنى أن تكون كذلك و تدعي الله أن يتعافى كليا و أن تعود قدمه كما كانت، و أن يكمل حياته براحة و سعادة و نجاح.

اليوم التالي
في فيلا صفا
لم ترغب صفا في ازعاج عائشة الليلة الماضية لذا لم تذهب لغرفتها بعد مغادرة صفوان الذي حدث صفا و نصحها بأن تترك عائشة على راحتها و لا تضغط عليها حتى تأتي لها برغبتها، فأخذت بنصيحته، و التزمت بهذا حتى هذه اللحظة.
فوجئت صفا حين رأت عائشة تدخل غرفة الطعام، تابعتها إلى حين جلست في مقعدها و طلبت من الخادمة ان تقدم لها الطعام.
- صباح الخير.

قالتها صفا بسعادة بجانب الإبتسامة الواسعة التي رسمت على شفتيها، فأجابتها عائشة بهدوء
- صباح النور
سعدت صفا أكثر و غمرتها السعادة، و أظهرت ذلك
- كم انا سعيدة لرؤيتك في بداية يومي، يا بجعتي الصغيرة
و اردفت بتفاؤل
- سنعود كما كنا في الماضي مع الوقت، خذي تناولي هذا أيضا، و هذا
قالت صفا كلماتها الأخيرة وهي تضع البعض من أصناف الطعام التي على السفر في طبق عائشة، اوقفتها الأخيرة
- يكفي هذا، لن اكل هذا كله.

اومأت صفا برأسها بعذوبة و لم تفارق الإبتسامة شفتيها، اعادت ظهرها للخلف و أصبحت تتأمل عائشة و هي تأكل، فشعرت الأخيرة بعدم الارتياح.

في فرنسا
تقف نيروز امام مبنى المستشفى تنظر للأخير بشرود، ما الذي أتى بها إلى هنا؟، هل تريد رؤيته؟!، لكن كل شيء انتهى بينهما، تريد أن تطمأن عليه!، ليس لها الحق في ذلك، إذا لماذا اتت مادام لديها أجوبة على حججها الفارغة!، كيف انصاعت لرغبتها المجنونة هذه!، رغبت في ان تستدير لتعود ادراجها لكن قدمها لا تخضع لرغبتها تلك و قلبها أيضاً.

غضبت من نفسها، ألم تنهي هي كل شيء!، كيف تعود هكذا، بل كيف تتجرأ!، إنها بتصرفاتها المتهورة هذه ستصعب الأمور عليها و لن تمضي في حياتها و ستعيق طريقه ايضا..
ألا تريد أن ترتاح!، أم أنها أصبحت تفضل ان تسبب لنفسها الألم!
قررت بعزم، ستسأل فقط عن حالته و ستغادر، لن تذهب لرؤيته، لن تحاول فعل ذلك حتى.

خطت خطواتها لداخل المستشفى و سارت في الرواق بتوتر حتى توقفت أمام موظف الاستقبال و ظلت صامتة، فقال لها الأخيرة
- اهلا سيدتي، هل تحتاجين لمساعدة؟
اجابته بتردد
- نعم، اريد ان أعلم نتائج عملية المريض عمار احمد فريد
- ماذا تقربين للمريض؟
ظلت نيروز صامتة للحظات تفكر بماذا تجيب، هل تقول انها زوجته!، هل مازال لها الحق في استخدام هذا اللقب؟!، أعلن لها موظف الاستقبال انه ينتظر جواب، و في نفس الوقت سمعت أحد.

يناديها من الخلف، إنها تعرف هذا صوت، إنه صوت ميساء!
استدارت لتتأكد و قد صدق حدسها، ارتبكت و بلعت لعابها و هي ترى ميساء تتقدم منها و على وجهها ملامح السعادة.
- يا للصدف، لقد التقيت بكِ
إبتسمت نيروز بتوتر و قالت بخفوت
- كيف حالك يا ميساء؟
تنهدت ميساء بحزن قبل ان تجيب
- أعتقد اني بخير
ثم اردفت معاتبة
- لماذا لا تجيبي على اتصالاتي!، لقد كنت أريد أن اخبركِ أننا في فرنسا.

فتحت نيروز شفتيها و قبل أن تخرج كلماتها اتى صوت موظف الاستقبال معتذراً
- اسف للمقاطعة، لكن سيدتي انتِ لم تجيبي
لأساعدك، ماذا تقربين للمريض عمار احمد فريد؟
نقلت ميساء نظراتها بين موظف الاستقبال و نيروز التي لعنت حظها و الموظف، فقد قام بفضحها.
- هل كنتِ تعلمين أن عمار هنا!
سألت ميساء بذهول، و تابعت
- لهذا اتيتي لتسألي عنه!

بلعت نيروز لعابها بتوتر و هي تزوغ بنظراتها بإرتباك، ماذا تقوله؟، صمتت ميساء لبرهه ثم عادت لتسأل بحيرة و ريبة
- لكن كيف، كيف عرفتِ بأمره؟، هل كنتِ تعلمين منذ البداية!
صمت نيروز و تحاشيها للنظر في عين ميساء أغضب الأخيرة و اتلف اعصابها و جعل عقلها يفكر بطريقة متناقضة عما يفكر دائما، لذا
عاتبتها بحدة.

- هل كنتِ تعلمين اذا بأمر قدمه و رغم معرفتك بهذا تركتيه!، تركتيه دون أن تقفي بجانبه!، تخليتِ عنه! هل انتِ هكذا حقا!
نظرت لها نيروز و دافعت عن نفسها.

- انا قد عرفت صدفة، لقد سمعت حديثكم في صباح أحد الأيام و علمت بأمر اصابته، لكن أقسم اني لم أكن أعلم بأنه سيجري العملية هنا، في فرنسا، و قد علمت بالأمس صدفة ايضا، فقد أتيت لرؤية صديقة لي و رأيت والدتك و علمت من حديثها مع الطبيب أن عمار هنا و قد خضع للعملية
و اردفت بفتور
- ايضا انا لم اتخلى عنه، فقط أردت أن اريحه
استنكرت ميساء بقسوة
- هل تعتقدين أن رحيلك اراحه!، كم انتِ غبية،.

فحالته قد ساءت اكثر بسبب رحيلك
و تهدج صوتها و هي تتابع بقهر
- فأنتِ قد دمرتي عمار، ما كنت أتوقع هذا منكِ يا نيروز
امتلأت مقلتي نيروز بالدموع و سالت سريعا على وجنتيها، و سألت بخوف
- كيف دمرته!، هل حدث له شيء؟، هل حالته سيئة؟، هل فشلت جراحته؟!
انفجرت ميساء باكية بدلا من أن تجيب نيروز ووضعت كفيها على وجهها، فأزداد خوف و قلق نيروز أكثر، اقتربت الأخيرة من ميساء و ترجتها.

- اخبريني، اجيبيني ارجوكِ، ماذا أصابه!
تماسكت ميساء و مسحت دموعها و قالت برجاء بصوتها الباكي
- لا تقتربي من أخي، ابقي بعيدة عنه بقدر
المستطاع، رجاءً
و تركتها واقفة بمفردها مع افكارها المتضاربة و خوفها و حيرتها بالإضافة إلى شعورها بالذنب، هل سببت له اذى اخر!، أصبحت لا تعلم ماذا تفعل، ففي بعدها و قربها تؤذيه، هل يجب أن تختفي من هذه الحياة ليعش حياة سليمة!

استدارت لتغادر و هي تسب و تلعن نفسها، كم تكره نفسها الآن، كم تشعر بأنها سيئة لا يجدر بها أن تعيش، كيف تعيش و هي تسبب الألم لأكثر من أحبت!
خرجت من المستشفى و وقفت تنظر للسيارات التي تأتي و تذهب، و قد راودتها في هذه اللحظة فكرة مجنونة و تخلصت منها سريعا، ليس خوفا من الموت بل خوفا من الله و جزاء ذلك.

مساءً
لم تستطع نيروز أن تتماسك أكثر أمام إلحاح اسماء لمعرفة سبب بكاء نيروز الذي لم يتوقف منذ أن عادت صباحا من مكان تجهله اسماء.
و بعد ان انتهت نيروز من سرد كل شيء، أمر إصابة عمار و صدفة معرفة أنه في فرنسا و قد خضع للعملية و اخيرا، حديثها مع ميساء، ساد الصمت حيث لم يكن هناك قول يقال، لكن صوت شهقات نيروز مازالت مستمرة.

- اريد ان اذهب لرؤيته و بشدة، اريد ان اذهب لاطمأن عليه، لن يرتاح قلبي دون أن أراه، أريد أن أجمعه مرة أخرى و اساعده لكي ارتاح قليلا، اريد أن أصلح ما افسدته به لكن كيف افعل هذا!، ألن تكون وقاحة مني اذ حاولت أن اقترب منه لأفعل ذلك!
إبتسمت اسماء و اجابت ببساطة.

- انتِ لستِ السبب في ما حدث له، لذا لا تحملي نفسك ذنب ذلك، و رغبتك في رؤيته ليست بوقاحة بل هذا حقك فأنتِ مازلتِ تحبينه و مازلتِ زوجته، و لا تأخذي بكلمات ميساء فهي حزينة و لا تقصد قول ذلك لكِ
- أعلم هذا
تمتمت نيروز و هي تمسح دموعها، فأردفت اسماء
- اذهبِ له، و اصلحي كل شيء، فهو يحتاجك و أنتِ تحتاجينه
امسكت اسماء بكف نيروز و تابعت.

- قفِ معه في أوقاته الصعبة حتى إن رفض، فأنتِ ليس امامك فرصة إلا هذه لتعودا كما كنتا، و لا تنسي أن تلقي بكل ما حدث في الماضي بالقمامة، و انظري لحاضركما و مستقبلكما
فقط
و إبتسمت و هي تتابع
- و عقلك هذا لا تفكري به، حسنا؟
إبتسمت نيروز و هي تشعر بالتفاؤل بعد سماعها لكلمات اسماء، فأصبح الآن امامها بصيص من الأمل حتى أن كان يكاد يرى.

قررت أن لا تجعل فكرها و ظلامها يقضى على هذا الأمل الذي ولد بداخلها، ستذهب له، و ستقف معه وستسانده، ستطلب منه أن يعودا لبعضهما و أن ينسا كل ما مرا بهما و يبدأ حياة جديدة، ستذهب غدا و تخبره بكل هذا.

في منزل عائلة نيروز
أقنع صفوان والدته بصعوبة بأمر عمله، ففي
البداية كانت رافضة تماما و لكن بعد محاولات منه، بل بعد ان رأت الغضب بدأ يتملكه هدأت هي و وافقت خوفا عليه، فالغضب قد يضره.
دخل صفوان غرفته و القى بجسده على الفراش ليأخذ نفسا عميقاً و هو يمرر أصابع من بين خصلات شعره، و شرد قليلاً.

تذكر عائشة، بل لم يتذكرها بإرادته فهي يومياً تهاجم مخيلته و تسكنها رغماً عنه، لكن اليوم و أمس كان تذكره لها مختلف عما سبق فخلال الاسبوع الذي مضى كان يتذكرها بسبب قلقه عليها و فضوله لرؤيتها ليطمئن عليها رغم أن زين كان قد طمأنه عليها لكن صفوان كان يحتاج أن يراها بعينيه ليهدأ.
أما الآن فهو يتذكرها لسبب مجهول، ليس مجهول بذلك المعنى بل هو يتجنب الإعتراف بذلك، و لا يعلم سبب تجنبه للاعتراف بمشاعره.

و ميوله إتجاهها.
لكن في هذه اللحظة، و بعد ان داهمته ذكريات معينة معها و شعر بقلبه الذي صرخ في شوق لها، أيقن تماما و اعترف، إنه وقع في حبها.

اشرقت شمس يوم جديد
في المستشفى
كانت نيروز تقف في الممر الطويل الذي سيوصلها لغرفة عمار، و خلفها تقف اسماء، حتثها اسماء على أن تكمل سيرها و أن لا تخف، حاولت أن تطمأنها بعد ان شعرت بخوف و توتر نيروز، تنفست نيروز بقوة ثم خطت خطواتها إتجاه غرفته و توقفت امامها، كورت قبضتها و رفعتها لتطرق على الباب لكنها لم.

تجرأ على فعل ذلك، فتنفست اسماء بنفاذ صبر و اتت ان تطرق هي على الباب نيابةً عنها لكن صوت غادة المنزعج اوقفها.
- ماذا تفعلون هنا؟
نقلا كلا من اسماء و نيروز نظراتهم لغادة التي تقدمت منهم و وقفت امامهم، اجابت اسماء ببساطة
- أتينا لنطمأن على عمار، كيف حاله؟
رمقتهم غادة بإستحقار و هي تقول لنيروز بلهجة لذعة
- يا لوقاحتك، بعد كل ما سببتيه له اتية و بكل بساطة لتطمأني عليه!

اخفضت نيروز رأسها بإحراج و لم تستطع أن تقول شيء، فقالت اسماء بعتاب حين رأت ذلك
- هل هكذا تستقبلين الأشخاص الذين من عائلتك!
اجابت غادة بحسم
- هي التي اخرجت نفسها من هذه العائلة، لذا الآن انتم غرباء
و اردفت بوقاحة
- و وجودكم غير مرغوب فيه، لذا غادروا
انزعجت اسماء من أسلوب غادة الوقح، فقالت بحزم
- نحن لن نغادر إلا بعد رؤيته، فهي زوجته و لها الحق في ذلك.

ارتفع صوت غادة و هي تقول بغضب و قهر بجانب دموعها التي بدأت تملأ مقلتيها
- عن أي زوجة تتحدثين!، زوجته التي تركته ملقى على الأرض و لم تكترث له!
رفعت نيروز رأسها و نظرت لغادة بإستغراب، عن ماذا تتحدث!، متى كان ملقى على الأرض و تركته!
- عن ماذا تتحدثين؟، و متى حدث ما تقولينه!
نظرت لها غادة و قالت ببغض
- لا تمثلي الآن انكِ لا تعلمين عن ماذا اتحدث، لا تنكري انكِ تركتيه و غادرتي بعد ان رأيتيه عاجز امامك.

- لا أفهم حقا ما تقولينه
بكت نيروز و هي تقول جملتها، فأشاحت غادة بوجهها و هي تقول
- غادري، فستسوء حالة عمار إذ راكِ
و تابعت و هي تعيد نظراتها لنيروز
- و إذ تحبينه حقا، ابتعدي عنه و بلا رجعة هذه المرة
هزت نيروز رأسها موافقة و هي تقول ببكاء
- حسنا سأفعل، لكن قولي لي كيف حالته، فقلبي يؤلمني و لن يرتاح إلا بعد أن اطمئن عليه
إبتسمت غادة بإنكسار و هي تقول بحرقة
- لقد دمرتيه، و انا لن اسامحك على هذا، و هو.

ايضا كذلك
فقدت نيروز صوابها، فصرخت بغادة
- كيف دمرته!، أخبروني كيف دمرته!، جميعكم تخبروني اني دمرته، ماذا فعلت له؟، أخبروني
قالت غادة بثبات
- لن اخبرك، لا أحد سيخبرك، سنجعلك تتألمين، و سنجعلك تحترقين هكذا، ببطء
قم استدارت لتضع كفها على قبضة الباب و قبل أن تبرمها قالت نيروز وهي تنتحب.

- أحبه، أقسم اني أحبه، لقد تركته، نعم أنا تركته لكني فعلت هذا لإراحته لا لأذيته، حاولت ان اتأقلم وان أكتم صوت قلبي لكني لم استطع، كنت ابكي كل ليلة لفراقه، العام و النصف لم يكنا هينين علي ابدا، فقد عانيت كما عانى هو، لقد تعذبنا نحن الاثنين، لذا ألم يحن ان نرتاح
قليلا!، ألم يحن وقت اجتماعنا!
تأثرت غادة بكلمات نيروز، التفتت و نظرت لنيروز و قالت بحزن و صوت متهدج.

- انه أحبك كثير، أحبك إلى حد الجنون، انتِ قد تركتيه دون أن تسمعي تبريره، و هذا دمره، اتعلمين، ما حدث لكما حدث بسببك انتِ، فإذ كنتِ اعطيتيه فرصة التوضيح ما كان كل هذا حدث
- نادمة، أقسم اني نادمة، و اريد ان أصلح كل شيء، فقط اعطيني هذه الفرصة
حدقت غادة بنيروز و قد أنهمرت دموعها، سألتها بعد لحظات
- هل ستبقين معه مهما كانت حالته؟، ألن تنفري منه بعد ان تدخلي و تريه الآن؟، ألن تتخلي عنه مهما حدث؟

- مهما كانت حالته، لن اتخلى عنه، لن اكرر
خطأي
إبتسمت نيروز وهي تردف بمشاعر حانية، صادقة
- أريد أن أعيشه، أريد أن استغل كل دقيقة تمر و انا معه، بجانبه، أريد أن تجتمع قلوبنا مرة أخرى
هزت غادة رأسها ثم قالت بشفافية
- سيكون هذا صعبا الآن، اصعب مما قبل، هل تستطيعين أن تتحملي قسوته!
- سأتحملها كما تحملها سابقاً
أتاحت غادة لنيروز الطريق، ثم قالت بأمل.

- اسمح لك الان ان تدخلي حياة بني مرة أخرى، لكن بشرط، أن تعيديه لي، تعيدي عمار السابق
اومأت نيروز برأسها و هي تمسح دموعها، اخذت نفسا عميقاً و هي تتمتم
- أعدك.

ثم استجمعت شجاعتها و برمت قبضة الباب، تركزت حدقتيها على عمار النائم على الفراش فتسارعت دقات قلبها، اغلقت الباب خلفها وتقدمت منه بقدمين مرتجفين بجانب شعورها بأن انفاسها التي تتردد في صدرها تكاد تنقطع، و أن قلبها يعتصر ألما لرؤيته بهذه الحالة، فقد كان وجهه شاحب و يبدو على ملامحه التعب و الإرهاق.

توقفت في اللحظة التي لمحت بها الفراغ الموجود أسفل الغطاء، و شهقت، وضعت كفها على فمها لتكتم صوت شهقتها المصدومة و التي اصطحبت معها دموعها حين ادركت بديهيا أن هذا الفراغ يعني ان قدمه قد بترت.
تململ عمار على الفراش بتعب و فتح جفونه ببطء، حرك رأسه قليلا و هو ينظراته حوله.

بتشتت حتى تركزت حدقتيه عليها، ظل صامتا و هادئاً و تدريجياً تحولت ملامحه و اصبح غاضبا و مصدوما حين ادرك وجودها و أنها تقف امامه فعلا، ماذا تفعل هنا!، لما اتت؟، ما كان يفضل مجيئها، لا ينتظر الشفقة منها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة