قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية لخبايا القلوب حكايا للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع عشر

رواية لخبايا القلوب حكايا للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع عشر

رواية لخبايا القلوب حكايا للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع عشر

ما أن دلف عيسى من باب المنزل حتى إندفعت كارما نحوه، تدس نفسها بأحضانه بقلبٍ تمرغ في وحل الخوف من الفقدان وعذاب الانتظار.

ربت عيسى على خصلاتها وهو يتنهد متمتمًا بخفوت يطمئنها: -اديني رجعت اهوه ياستي ومحصلش حاجة شوفتي.
رفعت رأسها نحوه مرددة بارتياح، ولمحة من العناد: -الحمدلله، بس ربنا سترها معاك بسبب دعواتي على فكره.
رفع حاجباه معًا وهو يصيح بنبرة درامية: -سبحاااانه.
رمقته كارما بنظرات متأججة غضبًا، فرسم شبه ابتسامة وهو يقرص وجنتاها بخفة قائلًا ليتلاشى فقرة النكد التالية: -متجوز الشيخة رابعة العدوية ياخواتي.

ثم تركها وتخطاها متجهًا نحو الغرفة، ورغم مزاحه إلا أنها أحست أن ثمة شيء غريب به، ربما هي لمعة عينيه المنطفئة!

تحركت نحوه على الفور، وجدته جالس على الفراش، واضعًا رأسه بين كفيه، وكأنه يحمل كل هموم العالم فوق عاتقه، جلست جواره ثم سألته متوجسة: -في إيه مالك؟
ابتسامة زائفة صاحبت ثغره وهو يرد: -مليش مُرهق شوية بس.
ضيقت عينيها وهي تميل برأسها متمتمة بتحذير: -عيسى.
-كارما.

تمتم بنفس نبرتها بقليلٍ من التهكم، ثم تنهد وأجاب بخفوت دون مواربة: -ماعرفتش أخد الحاجة اللي معاهم، وأكيد إيهاب هياخد حذره ومش هعرف أخدهم خلاص، ومابقاش قدامي غير السجن لإني عمري ما هديهم ارضك.

أردفت بشيء من الهلع الذي افترش قسمات وجهها: -لا طبعًا سجن إيه، في ستين داهية الأرض المهم أنت.
هز رأسه نافيًا وأخبرها بهدوء: -هستحقر نفسي لو عملت كده، دي حاجة والدك سايبهالك عشان يأمن مستقبلك اقوم أنا اخدها منك؟!

أمسكت كفيه بيديها تتشبث بهما كما تتشبث بوجوده في حياتها التي كانت قاحلة قبله، واسترسلت بنبرة عذبة تفيض حبًا: -مستقبلي عمره ما هيكون أمان من غيرك، أنت أماني.
انحنى عيسى ببطء ثم طبع قبلة مطولة على ظاهر يدها، قبلة حملت حبًا وامتنانًا فاض وارتشح من قلبه الهائم بها.

ثم دون كلام وضع رأسه على فخذيها، وأحاط بها بيديه، تلقائيًا تحركت يدها لتداعب خصلات شعره الغزيرة بحنو.

وصدح صوته المتسرب من عمق مخاوفه السوداء التي يأبى ازالة الستار عنها: -تفتكري ده عقاب ربنا ليا عشان كنت شغال معاهم؟
ومن ثم تابع وكأنه يجيب نفسه: -بس أنا توبت، توبت وبعدت عنهم ومارجعتلهمش إلا لما اضطريت ومكنش معايا فلوس أنقذ أخويا من الموت!

تسلل له الدفء حين تحسست بيديها وجنتيه برقة، هامسة وهي تحاول بث الثبات في صوتها الذي ارتعش وهنًا وقلقًا: -أنا متأكدة إن دي محنة وابتلاء من ربنا وهيعدي، مش عقاب، اكيد مش عقاب لأن ربنا شايف إنك بعدت وتوبت.

اومأ مؤكدًا برأسه دون كلام، وبعد دقائق معدودة من الصمت، كان يستسلم لسُبات عميق امتن له لأنه خلّصه ولو مؤقتًا من صراع نفسي وخوف ينهش احشاؤوه!

بينما خالد كان يجلس على الكرسي أمام مكتب فارس في منزله بعد أن استدعاه، كان فارس يملأ الكرسي بجسده بثقة لطالما كانت درعه الصلب في ساحة أعماله.

والاخر كان كورقة في مهب ريح مخاوفه التي أوشكت أطرافها على ملامسة أرض الواقع الحية!

-أشرب قهوتك يا خالد.
هتف فارس بهدوء تام، فهز خالد رأسه ثم مد يده وتناول قهوته بالفعل وهو يقول بهدوء مماثل: -تمام، ياريت تقولي إيه الموضوع عشان مستعجل ورايا كام حاجة محتاج أعملهم.
-إيه هتسافر ولا إيه؟
سأله فارس بنبرة ثعلبية لمس بها الاخر سخرية طفيفة لم تعجبه، لذا باغته بسخرية مماثلة: -ده لو مش هيزعجك طبعًا يا فارس بيه.

هز فارس رأسه نافيًا ببساطة تحلَّت بنفس الثقة التي بدأ يكرهها خالد في تلك اللحظات: -لا خالص، أنا بس طلبت إنك تيجي عشان نخلص كلام وننهي الموضوع اللي مانتهاش.
سأله خالد وهو يرسم لوحة زائفة من عدم الفهم: -موضوع إيه؟
أجاب فارس بثبات: -موضوع حق فيروز وأهلها اللي المفروض يرجعلهم.
هز الاخر كتفيه بلامبالاة: -أعتقد إني وضحت إن الموضوع ده انتهى فعلًا بالنسبالي، أنا حاولت وهما رفضوا، نقطة!

صدرت تأتأة بطيئة نافية من فارس وهو يهز رأسه، مؤكدًا من بين أسنانه بحروف ثلجية: -الموضوع مش بالسهولة دي، تدمير حياة الناس مش بسهولة يا خالد.
نفى مُصرًا: -أنا ما دمرتش حياة حد.
ضم فارس شفتيه وضاقت عيناه وكأنه يدرس ترتيب حروفه التالية التي تعرف اتجاهها بدقة: -يعني أنا لو فضيت شراكتي معاك، وأنت كل فلوسك في شغل دلوقتي، والشغل ده وقع طبعًا، هبقى كده دمرت حياتك ولا لأ؟

ضغط خالد على أسنانه بعنف حتى أصدرت صكيكًا عاليًا، اللعنة على فيروز التي صارت وصمة سوداء تأبى مفارقة جبينه!

رفع أنظاره المحترقة نحو فارس الذي تابع بهدوء أقرب للبرود وكأنه لم يهدده للتو: -أنا بس حابب أعرف مقياسك لتدمير حياة إنسان.
سأله خالد مباشرةً بكلمات كالسكاكين تتصادم ببعضها: -أنت عايز إيه يا فارس، قول على طول، أنت كنت دايمًا Direct.
اومأ فارس مؤكدًا: -تمام، أنا لسه Direct زي ما أنا، أنا عايزك تديهم نصيبهم وتكفر عن ذنبك تجاههم، وإلا ماقبلش إني أكون شريك مع واحد فلوسه حرام.

سأل خالد بقليلٍ من التشكيك في صحة ما يقول: -يعني أنت كل اللي عاوزه إني أديهم اللي أخدته، وهتفضل كل حاجة زي ما هي؟
أكد فارس بإيماءة خفيفة من رأسه، ثم استطرد محاولًا تخفيف ثقل كتلة التهديد عن عاتق خالد العنيد: -اعتبره Deal شغل، ودي شروطي، لو موافق عليه اوكيه، مش موافق برضو اوكيه.

نهض خالد، محمولاً بالغضب والقهر الذي يعتمل بين ضلوعه جاعلًا إياه كجمرة مشتعلة تود إحراق من يقابلها، ولكنها تعود في النهاية لتنغرس بالطين منطفئة دون حيلة!

ثم أردف بصوت أجش فظ بعض الشيء: -هفكر في شروطك وأرد عليك.
هز فارس رأسه دون اكتراث، متيقنًا داخله أن الانتظار التالي مجرد جسر للوصول لقمة ما يريد: -تمام، بس ياريت ماتطولش، أنت عارفني بحب الإنجاز والسرعة.
لم يرد الاخر بشيء بل إنطلق مغادرًا كالسهم من قوس مشتعل، بينما فارس ينظر في اثاره بشبح ابتسامة راضية واثقة.

بعد فترة.
بدأ عيسى يطرق على الباب بعنف ينم عن غضب جم كجيش قادر على الهدم في التو واللحظة.
فُتح له الباب بعد أقل من دقيقة، ليهجم عيسى على الماثل امامه والذي كان في عمر يقارب عمره تقريبًا، أمسكه من ملابسه يدفعه للداخل بعنف وهو يزمجر فيه متسائلًا بشراسة: -بعتني لإيهاب بكام يا ياسر؟!

وعلى عكس التوقعات، لم يهتاج ياسر ولم ينفعل دفاعًا عن نفسه، بل بدا ساكنًا وكأنه احترق وصار رمادًا فلم تعد تؤثر به أي نيران اخرى!

فقط هز رأسه نافيًا وهو يجيب بشيء من التبلد: -أنا مابعتكش يا عيسى.
لوى عيسى شفتاه والتهكم ينضح من حروفه: -امال إيهاب عرف منين إن أنا روحت هناك عشان أخد حاجتي.
هز كتفاه بقلة حيلة حقيقية: -معرفش، بس أنا ماقولتلهوش حاجة، أنت عارف إيهاب مش سهل.
ثم تقهقر بخطواته للخلف وارتمى جسده على الأريكة كمن لم يعد يملك سيطرة عليه او قوة.

وردد بصوت أجوف بعيد، قارب أن يصبح هذيان: -كنت عارف إنه مش سهل بس ماكنتش أعرف إنه سفاح.
عقد عيسى ما بين حاجبيه والخوف يضرب ضلوعه بعنف مطالبًا باحتلال قلبه الذي إنقبض، واقترب منه متسائلًا في توجس: -سفاح! ليه؟ عمل إيه؟
رفع عيناه له فكانتا خاويتان. ميتتان وجنازتهما تقام في كلماته السوداء التالية: -عاقبني، عرف إني أنا اللي ساعدتك وعاقبني، قتل بنتي الوحيدة.

إتسعت مقلتا عيسى بعدم استيعاب حقيقي، والصدمة هذه المرة سببت فجوة لا تُغلق في عقله!

إيهاب سارق. محتال. ومؤذي. ولكن قاتل أطفال؟!
لم يتوقعه دنيء لهذه الدرجة ابدًا، او ربما هو الذي رأى الشياطين بعين نقية.
إهتزت شفتا عيسى وهما تحاولان الزج بالحروف التي كانت ثقيلة جدًا: -أنا مش عارف أقولك إيه أنا...
قاطعه ياسر الذي نهض وهو يخبره بخشونة: -ماتقولش، أنا لما ساعدتك، ساعدتك عشان كان بينا عيش وملح، وأنا خونت العيش والملح ده لما كنت شايفهم بيورطوك في جريمة قتل أنت ملكش علاقة بيها وسكت.

لم يهتم بصدمة عيسى الذي لم يكن يعلم، بل جل اهتمامه كان بالشق الثاني من حديثه: -أنا هخليك تخلص من إيهاب خالص وأنا هخلص منه، وهتطلع من القضية.
استفسر عيسى وقد بدأ ذكاؤه يخونه للمرة الاولى، ربما إثر الصدمات التي تطرق عقله تباعًا: -هتعمل إيه يعني؟

أخرج هاتفه من جيب بنطاله وهو يقول ماسحًا الدمعة التي كادت تفر من عينيه التي تفوح بالقهر والغدر: -أنا كنت براقبلهم الجو في اليوم اللي قتل فيه جاد، وصورت له فيديو وهو بيقتل جاد بمطوتك بعد ما اتخانق معاه، كنت شايله عشان أضمن نفسي لإني عارف إيهاب ملهوش أمان وغدار، هديه للبوليس وهعترف إني شوفته بنفسي ولو الحكومة ماجابتليش حق بنتي هجيبه بإيدي.

رغم نفسه التي أعربت عن رضا داخلي كامل، إلا أن ضميره ألح عليه طرح سؤاله: -أنت متأكد من قرارك ده؟ أنت كده ممكن تتدمر.
هز كتفاه بلامبالاة نتجت عن قلبه الذي إقتلعه إيهاب دون شفقة تاركًا إياه ينزف طيلة الحياة. دون موت!
-أنا خلاص كده كده إتدمرت، بنتي كانت الحاجة الوحيدة النضيفة في حياتي، واهي راحت، حياتي مبقتش مهمة.

بعد فترة...
كان فارس في مكتبه في منزله، منهمك في أعماله التي لا تنتهي، خاصةً وهو قد بدأ يعد عدته للإنفصال بأعماله بشكل تام عن خالد بعد أن يُعيد لفيروز وأهلها حقوقهم، فهو لم ولن يكن جزء من مثلث الشر والظلم!

أتاه إتصال هاتفي من شخص بمثابة عين له في الشركة المنافسة له، اجاب بهدوء: -ايوه يا ناصر.
-ايوه يا فارس بيه، حصلت حاجة مهمة وقولت حضرتك لازم تعرفها.
-حصل إيه؟
-في ورق يخص حضرتك وصلهم هنا.
الخبر جعله يترك كل ما بيده ويعيره كافة انتباهه متسائلًا في توجس: -ورق إيه؟
-ورق صفقة ال اللي حضرتك شغال عليها.
إتسعت حدقتا فارس بعدم تصديق، كيف لهذا الورق أن يصل لهم!
كيف والنسخة الوحيدة هنا. في منزله!

ناقوس الخطر دق في عقله دون توقف، والذاكرة أشعلت ساحة عقله مذكرة إياه أن ذلك الورق لم يصل ليد احد سوى، فيروز!

تعالت أنفاسه ولم يعد يستوعب شيء، لماذا تترك الورق بإرادتها في مكانه بعد أن ظن أنها أخذته، والان تعطه للشركة المعادية؟!

تراها انتظرت الوقت المناسب لتعطيهم ورقة رابحة ضده في الوقت المناسب تمامًا، حيث من المفترض أن يظن أن الفاعل خالد ليؤدبه، ولكنها لا تعلم أن ذلك الورق لم يذهب للشركة بتاتًا ولا يمكن أن يصل لخالد!

احتدت أنفاسه وبدأ سعير الغضب يزداد، فنهض على الفور مناديًا أسمها والغضب في تصاعد مستمر كالبركان مع كل ثانية: -فيروز،!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة