رواية كبرياء رجل شرقي للكاتبة منال سالم الفصل الثاني
إنتبه قاسم إلى ذلك الصوت الأنثوي المرتفع والذي يأتي من خلفه، فرفع عينيه القاتمتين للأعلى، وإستدار برأسه بحذر للخلف قليلاً.
إزداد إنعقاد ما بين حاجبيه، وكذلك العبوس والتجهم على قسمات وجهه حينما رأى تلك الشابة أمامه.
كانت هيئتها ملفتة للغاية، ملابسها الصارخة، جسدها الفاضح. وغيرها من الأمور التي تسلب عقل أي رجل عاقل.
وضعت هالة يدها في منتصف خصرها، ومدت ساقها قليلاً للأمام، وحدجته بنظرات مهينة قبل أن تنطق بصوت قوي ب:
-أنا أحدثك، هل أنت أصم يا هذا؟
-ماذا تريدين؟
سألها قاسم بثوت حازم وقوي، وهو يحدجها بنظراته الحانقة.
بنبرة إزدراء، ونظرات مهينة أجابته ب:
-أريد صاحب هذا المكان الخرب لإتحدث معه؟
نفخ قاسم بغضب، وتحولت عينيه لجمرتين، ونظر لها بشراسة، وتحرك صوبها وهو يجيبها بصوت غاضب ب:
-أنا هو.
ثم أخفض صوته ليتابع بحنق من بين أسنانه وهو يتجه إليها ب:
-يا سليطة اللسان
فغرت هالة شفتيها في صدمة، ونظرت له بذهول، وأرخت ذراعها عن خصرها، وإنكمشت إلى حد ما في نفسها. وشعرت بقشعريرة تهاجم جسدها الساخن عقب صوته الصارم.
استجمعت شجاعتها قبل أن تفر منها، وقالت بصلابة:
-أريد منك خدمة
رمقها بنظرات ساخطة قبل أن يجيبها ببرود:
-أسف، لا يمكنني
اتسعت عينيها بصدمة، وهتفت معترضة:
-ولكني لم أقل لك آآآ.
قاطعها قاسم ببرود أشد وقد وقف قبالتها وحدجها بنظرات إشمئزاز:
-عفواً، لا يمكنني الحديث معك هنا!
ثم أشار بعينيه الداكنتين لجسدها، وهو يتابع بتأفف ب:
-وخاصة بسبب ملابسك تلك
ضيقت هي عينيها في حنق، وتملكها الغضب، ثم حدجته بنظرات شرسة وهي تهتف بإنفعال:
-ما بها ملابسي؟
أجابها قائلاً بصوت خافت ولكنه حاد في نفس الوقت:
-ألا ترين؟
كورت قبضت يدها، ورفعتها أمام وجهه وكأنها على وشك لكمه، وصرت على أسنانه وهي تعنفه ب:.
-يا لوقاحتك! كيف تجرؤ أن تتحدث هكذا معي؟!
أمسك هو بقبضتها التي إختفت بداخل راحته، وأنزلها عنوة للأسفل، ثم قرب رأسه منها، ونظر لها بقوة، ثم قال بتشنج:
-لولا أن اليوم عزاء والدي لتحدثت معكِ بأسلوب لا يليق إلا بأمثالك التافهين!
إتسعت مقلتيها أكثر، وكادت أن تخرجا من محجريهما، ثم إبتلعت ريقها في توجس، وحاولت أن تستفهم منه ما يقول، فخرج صوتها مضطرباً ومتلعثماً:
-م. ماذا؟ ع، عزاء والدك.
أجابها سريعاً دون تردد بحدة ب:
-نعم، ألا ترين؟ أم أنكِ أصبحت عمياء فجأة
دققت هي النظر خلف كتفه، فرأت سرادق العزاء، فإنفرج ثغرها مذهولاً للأسفل...
راقب عدد من المتواجدين بالسرادق ما يحدث بين قاسم وتلك المرأة الغريبة، وتملكهم الفضول لمعرفة تطورات الوضع معهما. فلو حدثت المشادة الكلامية في وقت ما غير هذا الظرف، لربما مر الأمر على خير، وتم توضيح سوء الفهم. ولكن قاسم في قمة أحزانه، ويصعب التنبؤ بحالته النفسية الآن. فمن المتوقع أن يتطور الوضع كثيراً.
أمسك قاسم بها من ذراعها، وضغط عليه قليلاً، ثم تحرك بها عنوة في اتجاه الباب الأمامي للمنزل وهو يأمرها بصوت رجولي خشن:
-تعالي معي
حاولت هالة أن تنتزع ذراعها من قبضته، ولكنها فشلت، فقالت بصوت حاد:
-أوه أنت تؤلمني
أرخى هو قبضته عنها، ونظر لها من طرف عينه بنظرة قوية، ثم قال بخفوت:
-أعتذر منك
جذبت هالة ذراعها بعيداً عنه، وضمته إلى صدرها، وسارت إلى جواره بحذر، وإلتفتت برأسها قليلاً ناحيته لتنظر له بتوجس.
إبتعلت ريقها مرة أخرى، وحاولت أن تبدأ معه أي حديث، لكن الكلمات هربت من على شفتيها، فإكتفت بالصمت.
توقف قاسم أمام باب منزله الرئيسي، ونظر إليها بإزدراء متأملاً هيئتها من رأسها لأخمص قدميها، ولم يكفْ لوهلة عن حدجها بنظرات متأففة، ثم سألها بجمود ب:
-ماذا تريدين؟
تنحنحت هي في خجل من نظراته التي فهمتها على الفور، وشبكت أصابع يديها معاً، ونظرت له بإرتباك ممزوج بالحيرة، فهي لم تعتدْ من قبل أن يتعامل أحد معها بقسوة وفظاظة.
نعم، فهي تلك المدللة معشوقة الرجال، تلك التي يسعى الجميع للتودد إليها، ونيل رضاها وإستحسانها.
واليوم ذاك الغريب يعاملها كما لو كانت نكرة، جمالها لا يغريه على الإطلاق، نظراته الحادة تشعرها بحقارتها، وأنها عارية أمامه.
صاح مجدداً فيها بصوت آمر حينما وجدها صامتة ب:
-أنتِ، ماذا تريدين مني؟
أفاقت هي من شرودها، وأجفلت عينيها للأسفل، وأجابته بتوتر ملحوظ في نبرة صوتها:
-أعتذر منك عن. عما. آآآ
رفع قاسم كف يده في وجهها ليقاطعها عن إكمال جملتها، وتابع بجمود:
-من فضلك أخبريني عن سبب تواجدك هنا وتطفلك عليّ في هذا الوقت الحرج
نكست رأسها للأسفل، وقوست فمها للجانب، ثم أجابته بخفوت ب:.
-لم. لم أقصد أن أتطفل، ولكن. ت. تعطلت سيارتي وآآ.
ثم رفعت عينيها لتنظر إليه بحذر. أرادت أن تكمل باقي عبارتها، ولكن شيء ما غريب جعلها تنظر إليه بتعجب، فهو ليس كبقية الرجال، فيه لمحة تفاخر. شيء من العزة والكرامة. صفة لم تجدها فيمن حولها.
راقبها قاسم دون أن يظهر عليه أي تأثير منها، فهو يزدري تلك النوعية من النساء الغير مباليات إلا بجمالهن، حاول قدر المستطاع أن يكون صبوراً معها.
تنهد في إنهاك بعد أن لاحظ طول صمتها، ثم سألها بصوت رخيم:
-أكملي! ماذا بعد تعطل سيارتك
تنحنحت بخفوت، وأجابته بنزق:
-إحم. معذرة، كنت أبحث عن. عن ورشة ما لإصلاح السيارة، و. وظننت أن منزلك هذا هو محطة للبنزين حينما مررت بسيارتي الحمراء من على هذا الطريق وآآ.
لمعت عيناه بالغضب بعد جملتها الأخيرة، وسألها بصرامة:
-هل تلك السيارة السريعة تخصك؟
هزت رأسها موافقة وهي تجيبه بصوت خافض ب:
-أها.
تعجبت هي من نظراته الغاضبة نحوها، وعجزت عن تبرير سبب حنقه عليها، فهزت كتفيها في عدم إهتمام، وقالت بنبرة غير مبالية:
-لقد علقت في هذا الطريق المظلم!
ثم صمتت للحظة قبل أن تتابع بصوت شبه منزعج ب:
-فلو كان الأمر بيدي لكنت طرت بها عائدة إلى القاهرة دون أن أنتظر للحظة هنا ساحقة كائن من كان بعجلاتها
وكأن كلماتها الأخيرة كانت كعود الثقاب الذي أشعل دلو البنزين. حيث زمجر بعنف في وجهها ب:.
-كفى، ألا تهتمين بأرواح الأبرياء؟ ألا يؤنبك ضميرك للحظة أنكِ ربما توشكين على زهق روح بريئة بسبب طيشك
-م. ماذا؟
-ألا يقلقك ان تتسببي في حزن عائلة بأسرها؟
-عن أي شيء تتكلم؟
-حمدلله إني أحافظ على أخر ذرة في صبري، كي لا أفعل ما أندم عليه لاحقاً
-أنا لم أقصد أن.
زفر غاضباً، ثم صر على أسنانه، وكافح للسيطرة على إنفعالاته الزائدة.
دفع باب منزله بيده، ثم أشار لها بكفه وهو يحدثها بهدوء حذر ب:.
-من فضلك، إصعدي للأعلى
نظرت هي له مشدوهة من تحوله الغريب قائلة:
-هاه
أجفل عينيه المحتقنتين للأسفل، وتابع بنبرة جافة:
-سوف أعود لكِ بعد أن أنتهي من عزاء أبي
-ماذا؟
لم يجبها قاسم بل تركها وإنصرف بخطوات أقرب للعدو مخلفاً ورائه غباراً هائلاً.
نظرت هالة له بعدم تصديق، فهي لم تفهم ما الذي فعلته أو قالته ليصبح بهذه الصورة الهائجة. ثم بعد لحظة يتحول لشخص وديع هاديء، وكأن شيئاً لم يحدث.
تناقض غريب أصابها بالفضول والحيرة، وحاولت أن تبرر هذا بسبب ظروف وفاة والده.
ثم شعرت بلسعة هواء باردة تضرب كتفيها ووجنتيها، ففركت ذراعيها لتدفئهما، ثم ولجت إلى داخل البناية...
بخطوات حذرة للغاية أمسكت بالدرابزون، وصعدت عليه متجهة للأعلى.
كان صوت المذياع يصدح عالياً بآيات الذكر الحكيم.
تنهدت في إرهاق وتسمرت للحظة - في مكانها – تفكر بتردد فيما ستفعله.
حدثت نفسها بتوتر قائلة:.
-كيف أصعد لمنزل لا أعرف من فيه؟ وماذا سيقول عني أصحابه؟
ثم أخفضت عينيها لتتأمل هيئتها، وهي تتابع بتفكير مشحون:
-وماذا عن لبسي هذا؟ إنه غير ملائم بالمرة.
مطت شفتيها في إستنكار وهي تضيف بتذمر:
-أوف، كان ينقصني هذا!
إستمرت هالة في الصعود على الدرج إلى أن وصلت إلى مدخل المنزل في الطابق العلوي.
وقفت مترددة على عتبته، واطرقت رأسها في خزي، وثنيت ساقها قليلاً.
حاولت أن تختلس النظرات إلى الداخل، فلمحت أطياف لعباءات وملابس لنساء تتشحن بالسواد.
نهضت إحداهن، وسارت نحوها، وتسائلت بصوت جدي رغم نبرة الحزن المسيطرة عليه:
-هل إنتِ هنا من أجل العزاء؟
رفعت هالة رأسها لتنظر لتلك السيدة بتمعن. كانت تبدو في العقد السادس من عمرها. فقد خط الزمن علاماته على وجهها الذي يمتليء بتجاعيد أسفل عينيها وحول فمها.
أما حجاب رأسها فقد كان محكماً عليها، يبرز فقط جزءاً صغيراً من وجنتيها، ومن جبينها.
بنبرة متلعثمة ونظرات مرتبكة أجابتها هي ب:
-آآ. في الحقيقة. أنا آآ...
قاطعتها تلك السيدة بصوت جاد وهي تشير بيدها:
-حسناً، يبدو أنكِ علمتِ بمسألة وفاته متأخراً، تفضلي بالدخول
إبتلعت ريقها بتوتر، ورسمت إبتسامة خجلة على ثغرها وهي تدلف للداخل قائلة:
-شكراً لكِ.
شعرت هالة بأنها محط أنظار الجميع، وأن الكل يتفحصها كما يتفحص الطبيب عينة ما أسفل مجهره الطبي...
بخطى متثاقلة ولجت هي إلى حيث أشارت تلك السيدة، وجلست على إستحياء، ووضعت حقيبتها على حجرها محاولة تغطية فخذيها البارزين من أسفل فستانها.
وتجنبت على قدر الإمكان أن تلتقي أعينها بأي واحدة.
مر الوقت بطيئاً عليها، فشعرت بالضجر المصحوب بالملل. ولكن ما بيدها أي حيلة. فهي مجبرة على المكوث حتى يصعد إليها صاحب المنزل وترى معه أي حل لمعضلتها.
-خالة نعيمة، أريدك هنا!
هتفت إحدى الجالسات بنبرة عالية لتنتبه لها تلك السيدة الوقور، وتتجه نحوها، وتتجاذب معها أطراف الحديث قبل أن تتركها وتعاود الجلوس في مكانها...
كانت معظم المتواجدات يقطن في قرية مقاربة من منزل السيد قاسم. ويعرفونه منذ زمن بسبب مروره على السوق الدائم على السوق التجاري هناك، وصلاته الطيبة بأزواجهن ومعارفهن. فأتين لتلبية واجب العزاء.
كانت هالة بين الحين والأخر تختلس النظرات إليهن محاولة تحديد مستواهن الإجتماعي.
ومن مظهرهن العام أدركت أنها تتعامل مع طبقة متوسطة الحال أو ربما فقيرة.
فملابسهن السوداء قديمة وغير زاهية. وطريقة إرتدائهن لها تدل على بساطتهن. ومع هذا كن يجلسن بشموخ يحمل الكبرياء والعفة.
وبالرغم من ثرائها البادي في فستانها والحلي التي ترتديها إلا أنها كانت تشعر بأنها عارية أمامهن.
فقد رأت نظرات الإزدراء والإحتقار لها.
تلك النظرات التي إعتادت أن تمرق بها من دُونها.
ولكنها اليوم اختبرت شعوراً جديداً عليها. بأنها أقل منهن بكثير.
إنتهى العزاء، وودع قاسم الجميع وشكرهم على حضورهم، والقيام بواجبهم نحو والده الراحل.
ثم إتجه صوب بنايته، وصعد إلى الطابق العلوي. حيث منزله.
تنحنح بصوت خشن وعالي قبل أن يدلف إلى الداخل.
وما إن رأته هالة حتى نهضت من مقعدها، وسارت بخطوات سريعة نحوه. ثم وقفت قبالته، وإنتظرت أن يبدأ الحديث معها. لكنه ظل صامتاً مما أثار حنقها.
ضيقت عينيها في ضجر، وسألته على مضض:
-هل رحل الجميع؟
أجابها بصوت جامد دون أن تطرف عينيه الحمراوتين:
-نعم.
ضيق عينيه هو الأخر ليرمقها بنظرات حادة قبل أن يتابع بصرامة:
-وأنتِ ستظلين هنا حتى الصباح
إتسعت مقلتيها في صدمة، وفغرت شفتيها في ذهول وهي تسأله:
-ماذا تقول؟
بدى صوته مرهقاً وهو يجيبها ب:
-لقد بات الوقت متأخراً للغاية، وأنا لا أستطيع مساعدتك الآن!
نظرت هالة حولها بنظرات قلقة، ثم هتفت بإعتراض:.
-ولكن. أنا. لا أستطيع أن أبقى هنا للحظة، لابد أن أعود إلى سيارتي، وآآ...