قصص و روايات - نوفيلا :

رواية كبرياء رجل شرقي للكاتبة منال سالم الفصل الأول

رواية كبرياء رجل شرقي للكاتبة منال سالم الفصل الأول

رواية كبرياء رجل شرقي للكاتبة منال سالم الفصل الأول

وقف شامخاً بجسده الرياضي - والذي إعتاد الإعتناء به لسنوات بحكم وظيفته العسكرية وولعه بالرياضة – يصافح الموجودين بفتور جلي. ولكن مع إختلاف كبير، فتلك المرة كانت ملامح وجهه السمراء و الهادئة التي عهدها الجميع منه إلى حد ما متجهمة وعابسة.
تلاشت الإبتسامة الصافية من على ثغره، وحل محلها تشنجات جلية برزت على ذقنه الحليقة. يبدو كمن كبر عشر سنوات للتو، فلم يعدْ يبدو في الثلاثينات من عمره.

كانت عيناه البنيتين حزينتان رغم تجمد العبرات بهما. فمن فقده ليس إلا أغلى ما عنده.
رفع هو أصابعه لمسح شيء ما قد علق بأهدابه الكثيفة، ثم مد يده ليصافح أحد الواقفين قبالته والذي مد يده له للتو.
-البقاء لله سيادة المقدم قاسم
بصوت رخيم وآسف أجابه دون أن ترمش عينيه التعيستين ب:
-شكراً لك.

ثم أشار له بكف يده ليدلف إلى داخل سرداق العزاء المقام في الجزء الخلفي من منزله المكون من طابقين، والموجود في منطقة صحراوية قريبة من مدينة العلمين الجديدة.
إستقبل الجميع خبر وفاة والد المقدم قاسم السمان بحزن بالغ، فقد عُرف عن هذا الرجل بمدى تواضعه وأخلاقه الكيسة، وحسن سيرته. فلم يدخر أي أحد وسعه في الحضور لسرادق العزاء، والقيام بواجبه رغم بعد المسافة عن العاصمة القاهرية.

حتى زملائه وقادته في الوحدة العسكرية المتواجد بها قد جاءوا أيضاً لمواساته ومشاطرته أحزانه...
رفع عينيه للأعلى، وأخذ نفساً عميقاً وحبسه بداخل صدره حتى يتمكن من ضبط إنفعالاته أمام المتواجدين.
لمح طيف سيارة حمراء – ذات ماركة شهيرة - مسرعة تخترق الطريق، فزفر أنفاسه الحبيسة غاضباً.

حيث تردد بآذانه سبب وفاة والده، حادث سير. حيث إرتطم جسده المنهك بسيارة طائشة يقودها سائق ثمل بسرعة جنونية، فلم يتمكن من تفادي أبيه.
كور قبضة يده بقسوة، وضيق عينيه الغاضبتين، وحدث نفسه بخفوت ب:
-سيطر على غضبك يا قاسم، فالعدالة إقتصت من قاتل أبيك، وسوف ينال جزائه.
صر على أسنانه في حنق، وهو يتابع حديث نفسه ب:
-ولكن هناك سائق أخر غير عابيء بأرواح الأبرياء يسارع لقتل شيخ ما، لعنة الله على أمثالهم.

نكس رأسه للأسفل، وضرب الأرض بقدمه، وجاهد ليصرف ذهنه عن التفكير في ذاك السائق.

كان قاسم ممتناً لقائده الذي أعطاه أجازة (شبه) مفتوحة حتى يتخطى تلك الأزمة بسلام، ففقدان والده وسنده ليس بالأمر الهين، خاصة وأنه قد تلقى خبر وفاته وهو في أحد تكليفاته.
استوعب الأمر بهدوء، وتواجد ليدفن أبيه بصلابة رغم العاصفة الهوجاء الدائرة بداخله، ورغبته في إقتلاع روح من قتله. وكيف لا يثور وهو والده الذي تولى رعايته منذ رحيل أمه وهو في عمر صغير. ولم يكفْ يوماً عن إغداقه بالعاطفة والحنان.

وها هو اليوم ينفذ وصيته الأخيرة له، والتي أوصاه بها عدة مرات، فحفظها عن ظهر قلب
((يا بني! إن متْ، فقم بدفني بجواري بيتي، لا تدفني بعيداً عن الأرض التي نشأت بها، فأنا أحب أن أكون إلى جوار أمك))
إبتلع ريقه بصورة بالغة، وبذل مجهوداً مضنياً ليكبح عبراته ويمنعها من الإنهمار حتى لا يبدو ضعيفاً أمام غيره، فكبرياؤه يمنعه أن يكون كأولئك الذين ينهارون فور فقدان عزيز لديهم.

تعجب معظم الحاضرين من حالة الجمود المسيطرة عليه، فالجميع يعرف بمدى إرتباطه الوثيق به، وبرر البعض حالته تلك ب:
-هذا من شيمه، أن يكون صلباً في أحلك المواقف
أضاف أخر بنبرة خافتة:
-ربما لا يريد أن يظهر حزنه أمامنا
أشار ثالث بعينيه وهو يتحدث بصوت هامس:
-دعونا من الأمر، هذه طبيعته
تسائل الأول بفضول وهو يقطب جبينه ب:
-وماذا ستظنه سيفعل بعد هذا؟
إنتبه أحدهم لمراقبة قاسم لهم، فنهرهم محذراً ب:.

-رجاءاً يكفي الحديث الآن عنه، فهو ينظر إلينا
عم الصمت بينهم بعدما تأكدوا من متابعة قاسم لهم، وخاصة حينما حدجهم بنظرات قوية محذرة.
إقترب شخص ما ذو ملابس عسكرية رسمية، ومن حوله بعد الحرس الخاص به، يرتدون نفس الزي ولكن برتب مختلفة.
مد ذلك القائد العسكري يده لمصافحة قاسم بقوة، وشرع حديثه بنبرة صارمة ب:
-عاهدناك صبوراً وقوياً يا قاسم، فهذه مشيئة الله
أومأ قاسم برأسه إيماءة خفيفة، وأردف بنبرة جادة ب:.

-أعلم هذا سيدي، فقط أمهلني يومان وسأعود لوحدتي العسكرية
ربت قائده العسكري على كتفه، ونظر له بحنو وهو يتابع ب:
-سأنتظرك.!
-بالطبع سيدي
ثم أضاف القائد بصوت جاد:
-تذكر أن كلنا راحلون
لم تتبدل تعابير وجهه الجامدة كثيراً، ولكن بصوت شبه مختنق أجابه ب:
-أعرف هذا.!
ثم أشار بيده بعد أن أطرق رأسه قليلاً للأسفل قائلاً:
-تفضل إلى الداخل سيدي.

علي الجانب الأخر من الطريق الصحراوي، تملكتها العصبية المفرطة وهي تحاول إدارة محرك السيارة الحمراء الذي تعطل بها دون سابق إنذار.
ضربت بيديها الناعمتين على المقود بإنفعال، وإلتفتت حولها بطريقة مريبة، وهتفت صارخة بضيق ب:
-هذا أسوأ يوم في حياتي!

نزعت المفتاح من مكانه، ثم ترجلت من السيارة لتظهر منها شابة جميلة في منتصف العشرينات من عمرها ذات بشرة خمرية لامعة ذات طول متوسط، وعينين عسليتين، وشعر معقوص للخلف كذيل حصان ما عدا بعض الخصلات المتروكة لتنسدل على وجنتيها.

كانت تلك الشابة ترتدي فستاناً أسود اللون مناسباً للسهرات المسائية يصل إلى ركبتيها ضيقاً من الأعلى، وينسدل بوسع قليل من الأسفل، ذو أكتاف عريضة، وفتحة صدر مثلثة كبيرة تبرز مفاتنها الأنثوية الطاغية. ووضعت حول عنقها عقداً فضياً به دلاية صغيرة، أما أذنيها فقد تجملتا بقرطين من نفس اللون الفضي ولكن على هيئة حلقات كبيرة مفرغة.

ركلت هالة الباب بعنف بقدمها الرقيقة ذات الحذاء ذو الكعب العالي، وتحركت في إتجاه مقدمة السيارة بغضب بادي على تعبيرات وجهها.
بقوة هائلة كافحت لتنزع الغطاء لتنظر إلى محرك السيارة.
سعلت لعدة مرات بسبب تصاعدة أدخنة ما كثيفة فور نزعها إياه. لذا تراجعت مبتعدة عن السيارة، ومالت بجسدها للأمام وإستندت بكفيها على ركبتيها، وحدثت نفسها بصوت مختنق ب:
-ما هذا الدخان؟ كح. كح. أكاد أختنق منه، كح كح.

ثم وضعت يدها على جبينها لتزيح خصلة إلتصقت به، ومررت إصبعيها على شفتيها الملونتين بأحمر الشفاه المميز لتمسح ذاك اللعاب الذي تجمع بزاوية فمها
إعتدلت هالة في وقفتها، وإلتفتت برأسها للخلف لتنظر إلى سيارتها بضيق، ثم أردفت بضجر:
-كيف سأعود الآن؟ لقد تعطلت السيارة في هذا الطريق النائي، فمن سيساعدني إذن؟
نظرت حولها بنظرات متفحصة محاولة إكتشاف المكان الذي تتواجد به.

كان الطريق الصحراوي شبه خاوي من السيارات، بالإضافة إلى أن أعمدة الإنارة لم تكن تعمل بشكل جيد. فبدى الطريق مظلماً موحشاً.
أدركت هي حقيقة مفروغ منها. أنها بالفعل بمفردها
فسرى في بدنها قشعريرة باردة و مفاجأة، لذا ضمت ذراعيها إلى صدرها، وتحسست بكف يدها عضدها الأيمن، ثم سارت عائدة إلى السيارة بخطوات أقرب إلى الركض.

فتحت بابها، وألقت بجسدها على المقعد، ثم تأكدت من غلق القفل الإلكتروني، واصبحت حبيسة سيارتها بإرادتها.
أمسكت هالة بحقيبة يدها الجلدية الموضوعة على المقعد المجاور، وفتشت بداخلها عن هاتفها المحمول، ولكن للأسف كانت بطاريته قد نفذت، فأصبح لا فائدة منه.
أطلقت هي سبة وهي تليقه من يدها بدون إكتراث...
أخذت نفساً عميقاً، وزفرته على عجالة، ثم حدثت نفسها بحيرة ب:
-ماذا سافعل الأن؟

نفخت مجدداً من الضيق، ودارت برأسها لتتأمل الطريق من داخل سيارتها، ثم أردفت بصوت منزعج ب:
-النحس يلازمني اليوم، لم أتمكن من حضور الحفل، وسيارتي تعطلت، وهاتفي لا يعمل، وفسدت مساحيق التجميل
ثم ضربت بقبضتيها على المقود، ولكن بعنف تلك المرة وهي تصرخ متذمرة ب:
-أي حظ تعس أكثر من هذا
تأوهت من الآلم، فقد كانت الضربة قوية، لذا فركت بأصابعها رسغيها، وعضت على شفتها السفلي، ثم هتفت بصوت محتقن:.

-لن أظل قابعة في مكاني هذا للأبد، على أن أجد حلاً سريعاً
ثم نظرت حولها بريبة وخوف، وحدثت نفسها بتوجس بدى واضحاً وهي تنطق ب:
-وإلا لن يعثر عليّ أي شخص في هذا المكان المقفر
فكرت للحظات فيما ستفعله، ثم طرأ ببالها فكرة ربما غير مناسبة، ولكنها كانت الحل الأمثل من وجهة نظرها حالياً، فصاحت متحمسة ب:
-عليّ أن أصل إلى محطة البنزين التي لمحتها في طريقي، ربما سأجد ميكانيكي بها يساعدني في إصلاح تلك الخردة العفنة.

وبالفعل جمعت متعلقاتها الشخصية المبعثرة في حقيبة يدها الصغيرة و باهظة الثمن، ثم ترجلت من السيارة، وتأكدت من غلقها، وعلقت السلسلة الفضية الخاصة بحقيبتها على كتفها. وسارت بخطوات قوية عكس الطريق في إتجاه ما ظنت أنها محطة تعبئة البنزين...

استأذن القائد العسكري بالإنصراف، فتبعه قاسم إلى سيارته الجيب، ووقف إلى جوار الباب، وسلط أنظاره عليه، وأصغى له بإنصات وهو يمليه أوامره ب:
-يا قاسم، أنت رجل المهام الصعبة، وأنا أعتمد عليك، فلا تخذلني
ظهر شبح إبتسامة مصطنعة على زاوية فم قاسم الذي تحدث قائلاً:
-إن شاء الله
-أدعك في حفظ الله
ثم ربت على كتف قاسم، وركب بداخل السيارة، وأشار لسائقه لكي ينطلق به.

في نفس التوقيت، وصلت هالة إلى مسافة قريبة من المكان المنشود. كانت حالة من الغضب والضيق تسيطر عليها تماماً.
فقدميها تؤلماها بسبب الحذاء العالي الذي إنتعلته، غير العرق الزائد الذي أفسد فستانها وجعله يلتصق أكثر بجسدها. فشعرت بعدم الإرتياح، والرغبة العارمة في الإنفجار في أي شخص يحدثها الآن...

تعثرت قدميها وهي تسير على الحصوات الصغيرة، فإنكفأت رأساً على عقب، وإلتصق جسدها بالأرض الخشنة، وتغبر فستانها المنمق بالرمال.
وكأن بركان ثائر قد إنفجر لتوه، حيث أصدرت زمجرة غاضبة وهي تكز بعنف على أسنانها، وكورت قبضتي يدها في حنق وضربت بها الأرض. وأصدرت أنيناً متشنجاً وهي تصرخ بإنفعال ب:
-إنه يوم أسود بحق، ألا يكفي ما مررت به ليتنهي بي الأم هكذا، لعنة الله على ذلك المكان.

أسندت مرفقيها على الرمال، وإعتدلت في جلستها، وأخذت تنفض عن ذراعيها وصدرها وكذلك عنقها الرمال التي إلتصقت بها.
مسحت بساعدها جبينها، ونفخت بغضب في الهواء، وحدثت نفسها بنبرة محتدة ب:
-لقد فسد كل شيء، حتى مظهري!
زفرت بصوت غاضب وهي تنهض عن الأرض، ثم مالت بجسدها للأمام لتنظف ركبتيها وكذلك أسفل فستانها.
ثارت ثائرتها مجدداً حينما وجدت كعب حذائها قد إنتزع، فهدرت عالياً بعصبية زائدة ب:.

-حتى الحذاء يأبى أن يكون في صفي اليوم
نزعت الفردة الأخرى من قدمها، وأمسكت بهما بيدها اليمني، وسارت تعرج قليلاً نحو المنزل البعيد.
صرت على أسنانها وهي تحدق في المكان الذي تتجه إليه بتوعد ب:
-أرجو أن يكون بهذه المحطة من يصلح السيارة، وإلا سأصب جام غضبي عليهم، فقد إكتفيت!

نفخت هالة غاضبة حينما رأت الواجهة الأمامية للمحطة بعد أن دققت النظر جيداً فيها، وأمعنت في تصاميم شرفتها البسيطة، وكذلك في التصميم العام للمبنى الصغير، ثم صرخت محتدة:
-هذه ليس محطة للبنزين، بل. بل منزل عتيق!
ضربت بقدميها العاريتين الأرض بعنف، فشعرت بأثر الآلم الموجع عليها، فتأوهت متألمة، ورفعت قدمها اليسرى للأعلى لتتحسس موضع الآلم، وأردفت بضيق جلي:
-آوه. كل شيء سيء، ومؤلم، ماذا أفعل؟

أنزلت ساقها على الأرض، وتلفتت حولها محاولة التفكير في حل ما. ولكن تجمد عقلها، وصارت غير قادرة على التصرف.
كانت على وشك الإنخراط في البكاء، ولكن منعها عن فعل هذا عنادها.
ثم إستمعت إلى صوت همهات رجولية تأتي من الخلف، فركزت حواسها لتحدد مصدر الصوت.
ثم حدثت نفسها بإصرار:
-عليّ أن أجد من يساعدني في تلك الورطة.

أعادت ترتيب هندامها مجدداً، وأمسكت بالحذاء في يدها، وعدلت من سلسلة حقيبتها على كتفها، وأزاحت بكف يدها الخصلات الملتصقة بوجنتيها لخلف أذنيها، ثم إنتصبت في وقفتها، وسارت بخيلاء إلى خلف المنزل...
لمحت طيف شخص ما ضخم البنية يرتدي حلة سوداء رسمية يسير أمامها، فأسرعت في خطاها، ولوحت بيدها في الهواء، وهي تصيح عالياً ب:
-يا هذا! إنتظر!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة