قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل السادس

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل السادس

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل السادس

احاسيس متضاربة..

فتحت ريم عيناها بتثاقل تأبى ان تصحو الان بشكل تام! لايزال النوم يلتصق بجسدها والخدر يدب في اوصالها ولكن رغم هذا اجبرت نفسها ان تقوم من سريرها، رمقت ساعتها المنضدية بنظرة خاطفة لتدرك انها الساعة الثانية بعد الظهر! دعكت عيناها بقوة فتنشطتا قليلاً لتتمكن من رؤية طريقها بوضوح وهي تخرج من الغرفة، فتحت الباب وخرجت خطوة خارجها لتجد الشقة تدخل في سكون تام! ماتعلمه ان آدم في اجازة من عمله هذه الايام ونادراً مايخرج من المنزل. وتيقنت انه لم يخرج عندما لمحت هاتفه ملقى على الاريكة بجوار حاسوبه الشخصي! التفتت بأتجاه الحمام فوجدت بابه مفتوح. والمطبخ كذلك! اين هو؟ فأكمل بصرها استادرته في الارجاء الى ان وقع على باب الغرفة المجاورة لغرفتها. وها هو آدم! كان باب غرفته مفتوح وهو مستلقي على وجهه فوق سريره يغط بنوم عميق، حدقت فيه لثواني لتبدأ من دون وعي منها ابتسامة خفيفة بالظهور فوق شفتيها، هكذا كان ينام هزيم بالضبط!

كان يشبهه نوعاً ما، بهيئته. بمزاحه الدائم وتعليقه على كل شيء، كان يشبهه في غضبه المفاجئ الذي يحوله من انسان هادئ ولطيف من لحظة الى بركان هائج واعصار في اللحظة التالية! بين آدم وهزيم شيء متشابه لاتعرف ماهو ولكنه يبث الشعور ذاته في داخلها!
وفجأة انتبهت على نفسها وعلى تحديقها الابله به الذي استمر من الثواني الى الدقائق وهي بعالم اخر وقد نست امر الكره الذي يربطهما ببعضهما!

عاد حاجبيها ليلتحما مجدداً وعاد وجهها للانقباض وهي تتركه وترحل بأتجاه الحمام تقتل بذلك كل خلية تعاطف تنبض بداخلها اتجاهه!

رشقت وجهها بالماء لتبعد النعاس عنها ثم رفعت بصرها بأتجاه المرآة التي امامها، لم تكن المرآة تعكس صورة فتاة شابة، كانت تعكس صورة شبح! ذلك الوجه الشاحب. تلك العيون الذابلة. وتلك الهالات السوداء، لاشيء من هذا ينتمي لعالم الفتيات الذي نسته منذ سنين! لأول مرة تحدق في وجهها بهذا العمق وتدرك بالفعل انها بحالة مزرية! ومن دون ان تدرك لماذا وجدت عبارة آدم المستهزئة من شجارهما الاخير تصدح في عقلها. ولو عرضو على الامر لم اكن سأوافق ابداً، فأنتي لاتتناسبين ابداً مع المواصفات التي اريدها،.

فأشاحت وجهها بغضب عن المرآة فوراً وزفرت بضيق، فليذهب للجحيم هو رأيه! فهي لن تبالي ولن تغير نفسها من اجل ان تناسب ذوق حفيد مراد!
عادت نحو غرفتها وحرصت على ان تكون خطواتها هادئة كي لاتوقظه. ليس بالطبع انها لاتريد ان تقلق نومه! ولكنها لاتريد ان تقابله او ان تخوض اي حديث معه!
دخلت نحو غرفتها وغيرت ملابسها وحرصت على تخبئة حبوبها جيداً كي لايجدهم.

خرجت بهدوء من الغرفة ثم فتحت باب الشقة وخرجت بنفس الهدوء دون ان تترك رسالة او ان توقظه وتخبره بخروجها.
وبالطبع اول مكان توجهت اليه كان قبر اخيها هزيم، ومثلما اعتادت فأنها تقضي كل الوقت بالبكاء والصراخ وكأن هزيم قد مات لتوه! لايزال جرحها من دون التئام، كلما حاولت ان تستوعب انه فارق الحياة كلما رفض عقلها تصديق الامر بشدة لدرجة تكاد تفقد صوابها!

ذلك المنظر الاخير الذي رأته لايمكنها نسيانه ابداً، تحت ذلك المطر وفي ذلك الظلام. هزيم قد فارق حياته! وقاتله يقف على بضع خطوات منها ولكن الظلام ستره عنها ومنعها من رؤيته بوضوح! ولم تركض خلفه لتراه. فجسدها يرفض ان يبتعد عن توأمها ويداها ترفضان افلات يديه لدرجة عانى الاطباء بصعوبة كي يبعدوها عنه ولم تفعل ذلك ألا بحقنة مهدئ، وتلك كانت بداية ادمانها!.

عادت الى المنزل لتجد اسرتها مشغولين كلاً بنفسه فألتجئت الى المهدئ مجدداً، استيقظت صباح اليوم التالي لتدرك ان ماعاشته في الامس لم يكن مجرد كابوس. بل كان واقع عليها ان تتقبله. فلم تفعل. والتجئت الى النوم كي تهرب من هذا الواقع عن طريق المهدئات ايضاٍ، ويوم بعد يوم. وشهر بعد شهر. لم تجد ريم نفسها ألا وقد اصبحت مدمنة لايمكنها عيش يوم واحد من دون تلك الحبوب!

مرت عليها ساعة وربما اكثر من ذلك وهي لاتزال جالسة عند القبر تتمنى لو انها تقضي يومها كله هناك دون حتى ان تشعر بالملل او التعب. ولكن ليس كلما يتمناه المرء يناله!

ودعت قبر اخيها وذهبت نحو منزل اسرتها من اجل رؤية سامي، دخلت بسيارتها من البوابة الحديدية الضخمة وسارت في الممر الحجري فلاحظت سامي يلعب في الحديقة بمفرده. يمسك السيف الورقي ويرفعه عالياً ويطعن الهواء ليرديه قتيلاً ثم يطلق ضحكة انتصاره الشريرة كما كان يسميها! نزلت تضحك من السيارة على منظره هذا وماان رآها حتى رمى سيفه جانباً وركض اليها بسرعة فتلقته بين يديها ورفعته عالياً لتدور بضع دورات حول نفسها ثم قبلته قبلة طويلة وضمته اليها بقوة وهو يتشبث برقبتها بأشتياق، ابعدت وجهها قليلاً كي تتمكن من رؤية عينيه وقالت بأبتسامة رغم دموعها:.

كيف حال اميري الصغير؟
فقبّلها فوق خدها قبل ان يقول:
بخير! وقد اشتقت لكِ جداً عمتي!
ضمته اليها مرة اخرى وهي تقول بحنان:
ياحبيبي المدلل الصغير وانا قد اشتقت اليك اكثر!
ألم يأتي العم آدم معكِ؟
فتحت عينيها بحدة فوراً وتمنت لو انها تمحي ذاكرته كلها كي ينسى هذا الاسم! زفرت بضيق ولكنها ابقت نبرتها هادئة وهي تجيبه. فلاتريد ان تدخل افكار الانتقام والكره منذ الان في عقل هذا الصغير: لاحبيبي. لم يأتي، انه نائم!.

فأجابها ببرائة: وهل سيأتي عندما يستيقظ؟
لاتعلم لما كل ذلك الغضب ينفجر بداخلها كلما ذكرو اسمه امامها رغم انهم ومنذ ارتباطهم والى اليوم لم ترى منه سوى حسن المعاملة!.
تجاهلت سؤال سامي مدعية انها لم تسمعه كي لايلاحظ استيائها وقالت: ماالذي يفعله حبيبي وحده في الحديقة؟ لما لاتلعب هيلين معك؟
لقد ذهبو هذا الصباح، لقد عاد العم ادهم من سفره ورحلت العمة نسرين نحو منزلها!
ريم؟

التفتت ريم نحو نبرة ميسم المتفاجئة وهي تتقدم اليها فأنزلت سامي من بين يديها لتحتضنها ميسم فوراً بشوق وهي تقول: آه يااللهي حبيبتي لقد اشتقت لكِ كثيراً!
بادلتها ريم عناقها وهي تقول: وانا كذلك عزيزتي، لقد اشتقت لكِ كثيراً.
فأبتعدت ميسم ونظرت خلفها بتوجس ثم قالت بتردد: هل، اتيتي وحدكِ؟
اجل!
فأمسكتها ميسم من يدها وقالت:
تعالي لندخل اذاً بدل وقوفنا هنا!

دخل الثلاثة ليجلسو في الصالة بمفردهم. فبلقيس كانت في مشوار وسيف كالعادة في الشركة واما نسرين فكما قال سامي قد عادت نحو منزلها بعد عودة زوجها ادهم.
تبادلن بعض الحديث وتمازحن مع سامي ثم وبعد دقائق طلبت ميسم من سامي ان يكمل لعبه في الحديقة. فأدركت ريم فوراً انها تريد قول شيء ما!
ماان ابتعد سامي حتى التفتت اليها ميسم بأهتمام وهي تقول:
اذاً؟
فأجابت ريم:
اذاً ماذا؟
كيف هي امورك مع آدم؟

فرفعت ريم كتفيها ببرود وهي تجيب:
لاشيء مهم!
ماذا يعني لاشيء مهم؟ هل يحسن معاملتك؟ هل يعاملكِ ببرود او بعدم اهتمام او انه.
وقبل ان تكمل وجدت ريم نفسها تجيب تلقائياً من دون وعي منها:
انه لطيف!
فتوقفت ميسم عن الكلام فوراً وهي ترى ذلك الحزن يعتصر بعينا ريم وهي تنطق عبارة لم تتوقع ابداً ان تصدر منها، ولكنها عبارة اراحت ميسم وطمأنتها بشكل ما من ان ريم تتلقى حسن معاملة!
تنهدت ميسم بأرتياح ثم قالت:.

هذا جيد. أليس كذلك؟
نظرت لها ريم بعيون دامعة وتائهة وكأنها في عالم اخر ثم قالت بضعف:
لا، ليس جيداً ميسم، هذا يجعلني اشعر بعدم ارتياح على الدوام.
ولماذا؟

انه لطيف، لطيف جداً! وهو يحسن معاملتي ويتركني اتصرف بحريتي. بل حتى اني وجدته قد جهز لي غرفة خاصة لوحدي واحترم خصوصيتي، ولكن رغم هذا انا لااطيقه! اكرهه بشدة، مهما بدا لطيفاً فهذا لايغير اي شيء بداخلي من شعوري اتجاهه بل ويزيدني كرهاً، وهذا مايجعلني اشعر بعدم الارتياح معه، ليس من المفترض ان يكون لطيفاً معي وانا اعامله بهذا الجفاء! اريده ان يبادلني برودي وجفائي ذاته...

كي لايجبركِ اسلوبه ان تغيري نظرتكِ اليه، أليس كذلك؟
قالتها ميسم بعطف بينما نظرت اليها ريم بضياع فأكملت ميسم بأبتسامة دافئة:
كي لاتتغير مشاعركِ في يوم ما اتجاه احد افراد اسرة مراد. تظنين انكِ بهذا ستخونين ذكرى اخيكِ ومقتله أذ تعاملتي بلطف وود مع احد افراد اسرة مراد، صحيح؟
عند هذه اللحظة بكت ريم ولم تعد تتحمل ادعاء التماسك اكثر! فميسم قد نطقت ماحاولت هي انكاره!

فأحتضنت ميسم وجه ريم بين كفيها وقالت بحنان:.

عزيزتي، ان اصبحتِ لطيفة معه فهذا لايعني انك قد سامحتي قاتل اخيك، فآدم لم يفعلها ياريم ولاذنب له بمافعله غيره، انا لااعرفه جيداً ولم اراه سوى لمرتين فقط، ولكن بأمكاني ان احكم على الشخص من النظرة الاولى، وانا رأيت تلك النظرات التي تجتمع في عينا آدم في يوم زواجكما عندما ظننا انكِ هربتي، رأيت ذلك القلق والخوف عليكِ فيه اكثر من البقية، لذلك اظن انه شخص جيد. واظنه الشخص الذي سيسعدك، انا اقول هذا في حق احفاد مراد. ولكن لايعني اني قد سامحت تلك الاسرة عما فعلوه. ولايعني اني نسيت ذكرى زوجي!

فنظرت لها ريم وهي تقول:
وماادراني انه لم يقتله ياميسم؟، فنحن لم نعرف من قتله منهم؟
مسحت ميسم برفق فوق يدها وهي تكمل بهدوء:
الذي بأمكانه ان يقتل. فبأمكانه ان يكون قاسياً، أليس كذلك؟، ولكن آدم ليس قاسياً معكِ على الاطلاق، وحتى لوكان هو. فنحن لسنا متأكدين من ذلك، ربما هو. وربما ليس هو، فلما نعامله على انه القاتل؟ لما لانعامله على انه ليس كذلك؟
ماالذي تحاولين الوصول اليه بالضبط ياميسم؟

احاول الوصول لحمايتكِ ياعزيزتي، انتي الان وسط تلك العائلة، عائلة دامت عداوتنا معها لمدة خمسة عشر عاماً. وليس عداء عادي، انها عداوة دماء ياريم! مثلما هم قتلو عزيز علينا فبعض افرادنا بالتأكيد قد قتلو عزيز عليهم لذلك ان كان آدم قد عاملكِ بلطف ولم ينظر اليكِ على انكِ ابنة اعدائه فقد لايفعل البقية هذا، ونحن لانعرف ماالذي قادرين البقية على فعله، وآدم الشخص الوحيد الان الذي بجانبك...

ثم شددت على قبضتها اكثر وهي تكمل:.

ريم، اسفة لما سأقوله ولكن تذكري ان اسرتك تحبكِ ولكن رغم حبهم ورغم كونكِ ابنتهم ألا ان هذا لم يمنعهم من التخلي عنكِ وترككِ وحيدة في الوقت الذي احتجتي فيه لأي احد بسبب انعزالكِ وانطوائكِ. لقد خسرتي ثلاث سنين من حياتكِ. وخسرتي نفسكِ. وخسرتي ايام من المفترض ان تكون اجمل ايام حياتكِ. لذلك لاتخسري ماتبقى من ايام شبابكِ وعيشي حياتكِ. لن اطلب منكِ ان تحبي آدم فأنا اعلم كم هذا صعب عليكِ في الوقت الحالي، ولكن اعطيه فرصة كي يكون مثل صديقكِ على الاقل! لاتخسري الشخص الذي يستمر بأغداقكِ وابل من الاهتمام واللطف رغم انه بالكاد يعرفكِ ورغم اسلوبكِ معه، فحياتكِ شبه ابدية معه ولابد ان تحتاجي لمساندته في يوم ما، لذلك لاتخسريه الان، فسيأتي يوم لتحتاجيه ولن تجديه...

زفرت ريم بضيق ثم قالت:
ميسم، كلامك يبدو منطقياً. ولكن هذا هو مااعنيه بالضبط.
فقطبت ميسم حاجبيها بأستغراب وهي تقول:
لم افهم.
فقامت ريم فوراً من مكانها وبدأ شيء من العصبية يظهر على نبرة صوتها وتحركات جسدها وهي تقول:.

هذا مايجعلني اشعر بعدم الارتياح ياميسم، هو لطيف معي. هو لم يؤذني. هو لم يسمعني كلمة جارحة مثل الكلمات التي اسمعها له. من المفترض ان ابادله احترامه، نعم كل هذه اشياء منطقية ومن الطبيعي ان يفعلها كل شخص. ولكن ليس انا!.
ثم ارتفعت نبرة صوتها اكثر وقد سمحت لبضع دمعات ان تفلت من بين جفونها وهي تكمل:.

كلما كان لطيفاً كلما كرهته اكثر، نعم كلامك صحيح، انا اكرهه لأني مرعوبة من فكرة ان احبه او ان استلطفه في يوم ما بسبب معاملته معي، ولكن لايمكنني فعل شيء بخصوص هذا الامر، لايمكنني الكف عن كرهه. لايمكنني ان استلطفه ابداً. وكأنني مصابة بلعنة ما ياميسم تجعلني اكره كل البشر وابتعد عن كل البشر. سواء ان كانو من عائلة مراد او من غيرهم.
فقامت ميسم من مكانها وضمتها اليها قائلة:.

لابأس ياحبيبتي! انها مجرد فترة سيئة ستنسيها في يوم ما، انها ايام لن تعود وستصبح مجرد ذكريات قد لاتخطر على بالنا مجدداً بعد ان يمنحنا القدر السعادة، لننتظر فقط!

كلمات بسيطة وجميلة جعلت براكين ريم تهدأ فوراً وتركت نفسها بين احضان ميسم لتنساب هذه الطمأنينة اليها، كم ترى الحياة جميلة ومليئة بالامل وهي تستمع لكلمات ميسم تلك! ولكن سرعان مايخيم الظلام وينقشع التفاؤل ماان تبتعد ميسم عنها وماان تعود لتبقى بمفردها!

دقائق اخرى استمرت على وجودها حتى عادت امها، حسناً. لن اصف اللقاء والحديث. فاللقاء من جانب ريم كان بارداً وعادياً لم تبالي بترحيب امها وفرحتها بقدومها، فأمها لم تكن تبالي في الماضي بوجودها او عدمه، لاتعلم هل ابنتها مستيقظة ام نائمة؟، تناولت طعامها او لا؟ خرجت من غرفتها ام لاتزال حبيستها؟، ولاتزال ريم تلاحظ عدم الاكتراث هذا من خلال اسئلة والدتها لها التي تنوعت مابين السؤال عن آدم وما بين اسرته وهل زارها احداً من اسرته ثم اغدقت عليها وابل من النصائح في كيفية تعاملها مع آدم ويجب ان لاتغضبه وتعصي اوامره كي لاينفصل عنها وتعود العداوة بين الاسرتين وان عليها ان تتحمل و و و و، الخ.

كلمات ونصائح واحاديث جعلت ريم تصاب بالاختناق من الجلوس اكثر فقامت لتودعهم وترحل، ولأول مرة يتملكها هذا الاحساس. الاحساس بالانتماء لمنزل آدم!.
ارادت الهروب من هنا، ارادت الرجوع نحو آدم وشقته. شعورها بالراحة والامان هناك اكثر من منزل اسرتها الذي خنقها وارادت الخروج منه، الخروج منه لتعود اليه!

لم تعد نحو الشقة بأجبار، لم ترحل عن منزلها وهي متمسكة به تود البقاء اكثر، بل نهضت بأرادتها، وخرجت بأرادتها، وعادت نحو آدم بأرادتها دون ان تشعر انها مضطرة لذلك، بل احتاجت لذلك!.
كانت الساعة تشارف ان تصبح السابعة مساءاً عندما وصلت ريم نحو الشقة، وبالتأكيد لم تكن تملك مفاتيح لذلك اضطرت لطرق الباب...

ربما ثواني او ربما اقل من ذلك حتى انفتح الباب بقوة يحمل خلفه غضب آدم مما اجفل ريم فوراً من انفتاح الباب بهذا الشكل ومنظر آدم الثائر من خلفه!
جعلها تدخل حتى اغلق الباب بعنف وهو يهتف بوجهها:
اين كنتِ بحق السماء؟ ولما لاتردين على اتصالاتي؟ ولماذا لم تقولي انكِ ستخرجي من الاساس؟
تلعثمت الحروف فوق شفاهها وهي تنظر بأرتباك واستغراب نحو كتلة القلق هذه التي تحتل تقاسيم وجهه ونبرة صوته فقالت:.

انت. لقد كنت نائماً. وهاتفي من الاساس تركته هنا ولم أخذه معي.
فهتف بها بعصبية اكبر:
ولما لم توقظيني لتخبريني؟
ثم اردف فوراً بنفس الانفعال قبل ان يترك لها الفرصة لتجيب:
واين كنتِ؟
فنظرت له بتردد وترقب وهي تنطق عبارتها. فهي لاتعلم بعد ردة فعله ورأيه بهذا الامر الذي ربما لن يسمح لها به مجدداً:
لقد. لقد ذهبت لزيارة اخي. ومن ثم ذهبت لرؤية عائلتي. لم اظن انك ستمانع.

عند هذه النقطة لاحظت ملامحه تبهت فجأة وكل براكين غضبه تهدأ ليقول لها بنبرة خالية من اي انفعال فوراً:
أنا اسف. بالطبع لن امانع هذا من حقك لكن ياليتكِ اخبرتني قبل خروجك. لقد كدت افقد عقلي عندما لم اجدكِ ولم تردي على اتصالاتي.
عندها انسابت بعض الطمأنينة الممزوجة بسعادة الى قلبها من انه لن يعارض امر زيارة قبر اخيها متى شائت او ان تذهب نحو اسرتها...
صمت آدم للحظات وهو يتنهد بقوة ثم قال:.

ريم، انا لن امانع خروجكِ من المنزل ولكن ارجوكِ اعطني علم قبل خروجكِ كي لااقلق. وان حصل مثل اليوم ووجدتني نائماً فأيقظيني او ارسلي رسالة على هاتفي اقرأها عندما استيقظ او اذا اردتي هناك دفتر ملاحظات صغير في المطبخ ذو اوراق لاصقة قومي بكتابة ملاحظة لي وعلقيها على باب الثلاجة كي اقرأها.
مرت من جانبه بأتجاه غرفتها وهي تقول ببرود وعدم مبالاة:
حسناً.

ثم دخلت نحو غرفتها فجذب نظرها هاتفها الموضوع فوق المنضدة فتملكها فضول ان تعرف كم عدد المرات التي اتصل فيها آدم. اضائت شاشته لتتوسع عيناها بدهشة، 130مكالمة لم يرد عليها و6 رسائل!.
فتحت الرسائل بفضول اشد لتقرأ محتواها.
(مرحبا ريم. اين انتِ؟ )
(لمالاتردين على الاتصال؟ )
(متى ستعودين؟ )
(لقد تأخرتي. هل انتي بخير؟ )
(ابقي في مشوارك لاامانع ولكن فقط ردي على الاتصال او اجيبيني برسالة لأطمئن. ).

(ريم اجيبي الاتصال بحق السماء لقد بدأت افقد اعصابي بالفعل! )
رفعت حاجبيها مع هذا القدر من الاهتمام. لما عليه ان يقلق عليها بهذا الشكل؟ فهي بالتأكيد ليست صغيرة ولن تضيع ان خرجت بمفردها!
دقائق اخرى حتى سمعت طرقاته الخفيفة فوق الباب ثم صوته وهو يقول:
هل بأمكاني الدخول؟
فأعادت الهاتف فوق المنضدة فوراً مدعية عدم رؤية رسائله واتصالاته وتنحنحت لتخرج صوتها بارداً كالعادة وهي تجيبه بهدوء:
تفضل.

فتح الباب وهو يحمل بيده صحن يحتوي على شطيرة فدخل ووضعه على المنضدة مجاوراً لهاتفها ثم نظر لها وقال:
وجهكِ شاحب. بالتأكيد لم تأكلي شيئاً منذ الصباح لذلك كُلي هذه.

نظرت نحو الصحن مدعية عدم المبالاة رغم ان مابداخلها مشاعر تغلي واحاسيس متضاربة! فهذه الجملة وهذا التصرف رغم بساطته تمنت لو انه صدر من امها عند زيارتهم لها بدل ان تغدق عليها تلك النصائح السخيفة! تمنت ان تسألها عن صحتها وهل تنام جيداً؟ هل تأكل جيداً؟ هل هي سعيدة؟ ولكن بدل هذا كله هي اكدت لها ضرورة تحملها للتعاسة في سبيل حماية اسرتها الى الابد!
رفعت بصرها اليه وهو يستدير راحلاً فأستوقفته عبارتها:.

كف عن ذلك رجاءاً!
التفت اليها بأستغراب ليجد دموعها تصارع من اجل البقاء داخل عينيها فقال بعدم فهم:
اكف عن ماذا بالضبط؟
منحت نفسها ثواني من الصمت كي تستجمع ثباتها ثم قالت بحزم وهدوء:.

انا منذ ثلاث سنوات معتادة على الاهمال دون ان يهتم بي احد، لذلك صدقني ان اهملتني او لم تبالي بوجودي فلن يشكل هذا فارقاً بالنسبة لي. بالعكس تماماً، سيجعلني اشعر اني لاازال اعيش وسط اسرتي، لذلك لست مضطراً ان تتصرف تصرفات هكذا معي. فهذا لن يغير شيء بيننا ابداً...
رفع كتفيه وانزلهما بعدم مبالاة ثم قال ببساطة:.

لقد اخبرتكِ مسبقاً اني لاافعل هذا كي انال رضاكِ أو اني مجبور على ذلك، انا افعل هذا لأني اريد هذا ولأن هذا مايجب فعله.
ثم اشار نحو الصحن بذقنه وهو يكمل بذات الهدوء:.

فالطعام على سبيل المثال، لم احضّره لكِ وانا مجبور على هذا بل حضّرته بأرادتي، فلايجوز ان ادرك انكِ لم تأكلي شيئاً واترككِ من دون طعام لاسيما وانا اعرف انك على استعداد كي تبقي جائعة ولن تخرجي لتأكلي شيئاً، لذلك انا احضرته ببساطة، الامر ليس بذلك التعقيد ولايحتاج ان تغضبي او تحزني منه. فهو امر اعتيادي بنظري.
ثم تقدم خطوتين نحوها وهو يجعل نبرته اكثر جدية:.

واخبرتكِ ايضاً مسبقاً. ان كانو هم سلبو حقكِ فليس شرط ان افعل هذا انا ايضاً ذلك، ان هم اهملوكِ وتركوكِ وحيدة فلست مضطراً ان افعل مثلهم.
فتقدمت هي خطوتين نحوه ايضاً ولم يعد يفصلهما عن بعضهما سوى خطوة واحدة فقالت بحدة وهي تقطب حاجبيها بغضب. فكلماته قد حركت شيئاً بداخلها قامت بأغتياله فوراً بغضبها:
مهما فعلت. ومهما كنت لطيفاً فلن يتغير كرهي لك ابداً...
فتبسم بهدوء وهو يجيبها:.

ان كان كرهكِ لي سيجعلكِ تشعرين بشعور افضل، فأستمري بكرهي لابأس، المهم ان تكوني دائماً مرتاحة وبخير!
ثم استدار راحلاً عن الغرفة ولكنه توقف عند بابها والتفت اليها قائلاً:
ان انهيتي طعامكِ ولم تشعري بالنعاس او التعب فأخرجي نحو الصالة كي تشاهدي التلفاز بدل ان تحبسي نفسكِ دائماً هنا، فبالتأكيد انتي تشعرين ببعض الملل. ولاتقلقي. انا لن اكون موجوداً هناك. سأدخل نحو غرفتي لأنجز عملي فيها.

وقبل ان تجيبه خرج مغلقاً الباب خلفه! خرج لتخرج هي دموعها ايضاً من داخل سجنها! لما تم اهمالها طوال هذه السنين ومن ثم عندما تجد الذي يهتم بها يكون اكثر شخص تكرهه؟

جلست فوق سريرها واغمضت عيناها لثواني وكأنها تحاول ان تنضم طريقة تنفسها المضطربة! فتحت عيناها ببطئ نحو الصحن ومدت يدها بتردد لتأخذ الشطيرة، فمهما بلغ كبريائها لايمكنها ان تقاوم صراخ معدتها من الجوع. فأخر شطيرة اكلتها كانت في الامس وقد اعدها لها آدم ايضاً واول مااستيقظت هذا اليوم خرجت من دون ان تأكل شيئاً وقد اتعبها البكاء والنحيب بجوار قبر اخيها ومن ثم زيارتها لمنزل اسرتها. لذلك بعد هذا اليوم الطويل كانت تحتاج بالفعل الى طعام! ولو عرف آدم انها لم تأكل شيء طوال هذا الوقت لأعد لها مائدة وليس شطيرة فحسب ولكنه استنتج انه بالتأكيد قد اكلت وجبة ما مع اسرتها ولكن ربما لم تأكل بشكل كافي لذلك اعد لها هذه. لم يعرف ان امها لم تنتبه على شحوب وجهها مثله ولم يهمها ان كانت جائعة او لا. فالاهم هو تشجع ريم على التحمل والتحمل اكثر واكثر. وكأن فراق هزيم لم يكن كافياً وحده يحتاج من ريم طاقة تحمل لم تعد تملكها!.

مرت ساعة اخرى على وجودها في الغرفة وقررت ان تستمع لنصيحة آدم وتخرج لتشاهد التلفاز قليلاً.

جلست على الاريكة المقابلة للتلفاز وتناولت جهاز التحكم من فوق المنضدة لتشغيله، حدقت فيه لثواني بشعور غريب، هي لاتتذكر متى كانت اخر مرة جلست فيها تشاهد تلفاز، هل كان هذا قبل ثمانية اشهر؟ بل وربما اكثر! ولم تجلس لتطالع برنامجاً ما او لتقضي وقتها. فوقت فراغها كانت تفضل ان تقضيه اما مع سامي او بجوار قبر اخيها او في الرسم. وتلك المرة التي جلست لتشاهد التلفاز جلست مع سامي وهو يطالع احدى برامجه الكارتونية!

ولازالت تشاهد التلفاز وشعور غريب يكتنفها. وكأنها ادركت للتو ان العالم كله كان مستيقظ وهي الوحيدة من كانت تغط بنوم عميق! اكتشفت ان الوقت قد مر، الساعات مضت. والايام انقضت. والسنين فاتت، كل شيء يسير مع الوقت، فلما وقتها هي لايزال واقفاً؟، لما تشعر ان حياتها كلها متوقفة ولما تتقدم ثانية واحدة؟ لاتزال تحت ذلك المطر. مغطاة بتلك الدماء! ومع هذه الفكرة انتفضت من مكانها واطفأت التلفاز وهي تحوط رأسها بيديها المرتجفتين، فكلما خطرت ذكرى ذلك اليوم على عقلها كلما ارتجف جسدها برعب وكأنها تعيشها الان، وكأن القدر لايسمح لها ان تعش دقيقة واحدة بهدوء وراحة!.

اسرعت نحو غرفتها بدموع صامتة ودخلت واقفلت الباب بأحكام لتتجه من فورها نحو علبة دوائها لتتناول منها تلك الحبوب التي تبعدها عن هذا الواقع المشؤوم!.

دخلت الى الغرفة دون ان تدرك تلك العيون الفيروزية التي كانت تراقب حالتها بتأسي. غير مدركة نبضات ذلك القلب الذي يعتصر بقوة ويتمزق كلما نزلت من بين جفونها دمعة! دمعة تجعله يفقد صوابه ويود فعل اي شيء ويضحي بأي شيء فقط من اجل مسح هذه الدموع ورسم ابتسامة بدلاً منها، ولكن ماتملكه هذه الفتاة بداخلها من جبال حزن من الصعب ان يهدمها بهذه السرعة، ولكنه لن يستسلم ابداً. سيتقدم خطوة خطوة معها دون ان يبالي مهما طال الطريق، فالمهم لديه انه معها!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة