رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الرابع عشر
حقيقة مؤلمة..
لاتحكم، قبل ان تسأل!
لاتنستنتج، قبل ان تستفسر!
ولاتمنح الكره، قبل ان تمنح الحب!
لابأس ان نبض قلبك. فلهذا السبب الرب قد اودعه داخل صدرك، كي ينبض! كي يحب! كي يشعر! انت انسان، فتصرف على هذا الاساس لوسمحت!
انشغلت ريم بالحديث مع ميسم الوقت الكافي الذي يجعلها تنسى تفقد آدم وسامي في الحديقة، خرجت من المطبخ بعد نصف ساعة تقريباً وهي تجفف يديها بمنديل قطني ولكنها لم تجلس. بل اقتربت من النافذة لتراقبهما، توسعت حدقتيها تدريجياً وهي تجول ببصرها في جميع ارجاء الحديقة الخالية من آدم وسامي، هل رحل؟
التفتت نحو ميسم التي جلست لتوها على آريكة الصالة تتصفح احدى المجلات
ميسم؟
اجل عزيزتي؟
اين آدم، اعني، سامي وآدم؟
رفعت ميسم رأسها من فوق صفحة المجلة وقالت ببساطة: لقد خرجا، اخذه آدم كي يشتري له ذلك القطار الذي يصدع سامي رأسي به منذ البارحة!
عندها انقبض قلب ريم فوراً مثلما اقتضب وجهها وقطبت حاجبيها وهي تقول بنبرة عصبية: ماذا؟ خرجا؟، جعلته يذهب مع آدم؟
فقالت ميسم بعدم فهم: اجل. ماالمشكلة؟
فضربت ريم المنديل بغضب فوق الارض وهي تهتف بها بصراخ مجنون: ماالمشكلة؟ هل فقدتي عقلكِ ياميسم؟ تسلمين ابنكِ له؟ ومطمئنة ان يعود ابنكِ لكِ؟ هل عاد زوجكِ عندما ذهب اليهم؟ كيف سمحتي لنفسكِ ان تفعلي شيئاً كهذا؟
نطقت عبارتها الاخيرة بصرخة اعلى فقامت ميسم من فوق الاريكة وحاولت قدر الامكان ان تحافظ على اعصابها امام هذا البركان الهائج: ريم! آدم لم يأخذه نحو منزل اسرته لأخاف عليه، لقد اخذه نحو المركز التجاري فحسب!
اوه حقاً؟ وانتِ مطمئنة انه سيأخذه الى هناك من دون ان يؤذيه لينتقم منا؟
فأجابت ميسم بثقة:
اجل مطمئنة!
ولماذا؟
لأنكِ منذ اكثر من شهر تعيشين معه ولاارى ان آدم قد آذاك! ِ.
فصرخت بها ريم بصوت اعلى لدرجة ان وجهها يكاد ينفجر من الدماء التي تصاعدت اليه:
لأن دائرة الانتقام تدور حول الرجال فقط ياحمقاء!
اجل الرجال، وليس الاطفال!
ذلك لم يكن صوت ميسم، كان صوته!
التفتت ريم اليه دفعة واحدة وصدرها يرتفع وينخفض بجنون من شدة غضبها ولمحت سامي يقف خلفه يحمل بين يديه ذاك القطار الذي اراده، منذ متى وهو هنا؟ ماذا سمع؟ مع اي مقطع وصل؟
اقترب آدم منها بوجه تراه منه للمرة الاولى. وجه يحمل هذا المقدار من الغضب والاستياء. والحقد!
وقف امامها مباشرة لاتفصلهما سوى خطوة او اقل وهمس لها بعصبية ممزوجة بخيبة امل منها: رغم ماعانيته من الانتقام ولكني لم ادخل دائرته يوماً ولم الوث يداي بدم احدهم. ثم في النهاية الوث يداي بدم طفل بريء؟ هل تريني حقير ووحش لهذه الدرجة ياريم؟ أأنا مجرم ودنيء لهذا الحد بنظركِ؟
ثم اقترب اكثر ليهمس في اذنها قائلاً بنبرة مخيفة تحمل خلفها نيران كان طوال الوقت يحاول اخمادها: ولو فكرت يوماً ان انتقم، فجدك هو الاول والوحيد الذي لن اتردد ولو للحظة في قتله وليس سامي!
ثم نظر نحو عينيها بنظرة اخترقت قلبها لأول مرة، لتشعر بالذنب لأول مرة! وبعدها استدار ورحل عن المنزل تاركاً اياها متسمرة في مكانها لتقوده قدماه الغاضبة نحو الخارج. ولكنها لم تبقى متسمرة في مكانها لوقت اطول بل ومن دون توقعها وتوقع الجميع وجدت نفسها تتبعه!
خرجت مسرعة من الباب تسير خلفه تهتف بأسمه ولكنه لم يلتفت اليها وخرج من البوابة الحديدية نحو سيارته التي يركنها امام المنزل. استطاعت اللحاق به قبل ان يفتح بابه لتسرع اليه وتقول بأنفعال تدافع عن موقفها:
ماذا كنت تتوقع مني ان افعل وسامي معك؟ انه اخر ماتبقى لدي من هزيم. أتريدني ان اتهاون بأمره ببساطة؟ ضع نفسك في مكاني ولو لمرة!
عند كلمتها الاخيرة هذه التفت اليها بعصبية وهو يهتف بها بنفاذ صبر من تكرار نفس الجملة على مسامعه:
اتمنى لوكنت مكانك! ولكني في مكان اسوأ منكِ، ان كان للجحيم وجود فما اعيشه هو الجحيم بحد ذاته. ولكنك لاتريني، لاتستطيعين رؤيتي ياريم! كل مايعميكِ هو الانتقام والكره فلم تعودي قادرة على رؤية من حولكِ!
ثم اقترب منها بخطوات سريعة وقبض على يدها بقوة وقال بغضب:.
أتحبين ان تري اين اقف انا بين دائرة الانتقام هذه؟ تعالي لأريكِ اذاً!
ثم سحبها بقوة غير آبهاً بأعتراضاتها وتألم يدها تحت قبضته القاسية، فتح باب المقعد المجاور له وادخلها بقوة الى السيارة واغلق بابها بعنف ثم استدار نحو مقعده وانطلق بالسيارة بسرعة جنونية يقودها لأول مرة في حياته!
الى اين نذهب؟
تجاهل سؤالها وهو يركز بصره المشتعل بالنيران على الطريق امامه ويعصر المقود بقوة بين قبضتيه يكاد يهشمه، ولأول مرة ايضاً تخاف منه لهذا الحد!
تفاجئت بالطريق الذي يسلكانه، انه طريق المقبرة! التفتت اليه بأقتضاب تخفي خلفه خوفها واستغرابها:
اين تأخذني؟
لم يعلق ايضاً! اوقف السيارة ونزل منها ولكنها بقيت في مقعدها الى ان فتح بابها وسحبها من يدها جبراً فحاولت ان تنتزع نفسها من بين يديه وهي تقول بعصبية وترجي:.
آدم انت تؤذيني!
لم يبدو ان آدم كان يستمع لأي شيء تقوله في هذه اللحظة واستمر بسحبها خلفه الى ان اوقفها امام قبرين وافلت يدها ليلتفت اليها وترى الجحيم اشتعل بوجهه وهو يقول:
ماهو اسمي ياريم؟
فصاحت بوجهه بينما تدلك يدها المتألمة من قبضته:
هل فقدت عقلك؟ ماالذي اصابك؟
فقبض على كتفيها بقوة اكبر وهزها بعصبية ليزجرها قائلاً:
انطقيه!
انتفض جسدها برعب ولم تملك الجرئة في لحظتها لتعانده فقالت بتلكأ:.
آدم، آدم رامز مراد!
فوجدت بعض الدموع تلمع فوق حدقتيه قبل ان يقول بصوت اضعف من نبرته العالية قبل ثواني:
اقرأي القبور ياريم!
ازدردت ريقها بتوتر وانقبض قلبها بشدة. ترجت الرب بيأس في لحظتها ان لايكون ماتتوقعه صحيح. استدار رأسها من دون ارادة منها نحو القبر لتتوسع عينيها بصدمة وهي تقرأ المكتوب، رامز مراد. مصطفى رامز مراد.
لحظات صمت مرت على المكان لاتسمع فيه ريم شيئاً سوى انفاسها ودقات قلبها التي تنقبض للحظة وتنبض بقوة في اللحظة التالية!
اعادت انظارها بتردد نحو صوته الذي اضعفه بكائه وحدقت بصدمة داخل عيونه ودموعه وهو يقول لها:.
كان ذلك قبل خمسة عشر عاماً، في الخامس من اغسطس. الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر، خرج ابي مع اخي الصغير مصطفى الذي بالكاد بلغ عمره الثالث. كنا سنحتفل بعيد ميلاده بعد يومين، اخذه نحو المركز التجاري القريب من منزلنا ليشتري له البوضة، ولكن كلاهما لم يعودا! كلاهما حصل على رصاصة في قلبه، ابي كان قتله متعمداً. ولكن اخي قتل عن طريق الخطأ في محاولتهم لقتل ابي.
ثم تقدم نحوها خطوة وشرارات الغضب والحقد تعود لعيناه وهو يقول:
أتعلمين من قتله؟
بقيت تحدق داخل عيناه بضياع تعجز عن النطق بحرف وتعجز حتى عن ايقاف دموعها فقال لها وهو يقبض على زندها بقوة:
كان جدكِ!
عند هذه النقطة توسعت عيناها بصدمة اكبر ليكمل آدم:.
جدكِ هو من بدأ دائرة الانتقام ياريم! اراد ان ينتقم لموت اخيه توفيق الذي أكدت الشرطة والادلة وحتى كاميرات المراقبة ان توفيق هو من قطع اشارة المرور تلك وتسبب بذلك الحادث الذي جمع بينه وبين سيارة ابي. ولكن جدك بقي مصراً ان ابي هو من قتله، لذلك قرر ان ينتقم، فقتل ابي، وقتل اخي الصغير ياريم!
شهقت بفزع وهي تضع يدها على فمها تكتم صرختها غير مستوعبة ما تسمعه فأكمل آدم بغضب اشد:.
انتِ لم تتحملي فراق هزيم وانتي كنت شابة بالغة ورأيتي ان حياتكِ تحطمت بسببنا. ولكن انا كنت مجرد طفل ياريم! طفل وجد نفسه بين ليلة وضحاها امام أم مدمنة لم تتقبل حقيقة ان زوجها وصغيرها ماتا، امام اخت صغيرة لاتعرف حتى كيف تربط شريط حذائها، وجدت نفسي قد كبرت فجأة وانا اتحمل مسؤولية عائلة كاملة. وجدت نفسي اصبح الام والاب والاخ في الوقت ذاته!
ثم قبض على يدها بقوة اكبر وهو يقول:.
أتدركين كم كان صعباً مامررت به؟ ان افقد امي وابي واخي في الوقت ذاته؟ فأمي بالكاد كانت تسمى حية من كمية المهدئات التي تتناولها بل وانها ذات مرة كادت ان تودي بحياتها بسبب جرعة مفرطة، ابعدوها عنا لشهور داخل مركز اعادة التأهيل لنعش انا واختي الصغيرة في منزل جدي، لقد ضاعت طفولتي. ضاع مني ابي. ضاع اخي. وكنت عاجزاً عن مساعدة امي.
وعاد ليهزها بعنف اكبر وهو يقول:
وجدكِ هو من فعل بي هذا!
وبعدها عاد خطوتين الى الوراء ليعود صوت بكائه ليضعفه مرة اخرى وهو يقول بنبرة ادركت ريم كم تحمل بداخلها من حزن وآلم:
لكني لم ابالي بكونكِ حفيدته. لم اسُمعك في يوم كلمة تجرحك، فأن كان ياسين مجرم فليس لكِ ذنب بمافعله هو!.
ثم رفع زاوية فمه بأبتسامة يسخر بها من نفسه وهو يكمل:
بل حتى اني وقعت بغرامكِ وانتي حفيدته. ولم يهمني ذلك ولست نادم عليه ولااتهرب من مشاعري هذه اتجاهكِ!
حدق داخل عينيها قليلاً قبل ان يردف:
سألتني في تلك المرة في المحكمة لو ان احد افراد اسرتك قد قتل عزيز على فهل كنت سأطيق النظر اليكِ؟ نعم سأطيق النظر اليكِ ياريم، بل وحتى عندما قتلو عزيزان على وضيعو طفولتي لازلت اطيق النظر اليكِ...
ثم زفر بضيق وهو ينظر الى السماء ليسيطر الغضب على نبرته من جديد وهو يقول:
ولكن انتِ!
وعاد لينزل ابصاره نحوها ليكمل:.
انتِ رغم هذا تتقززين حتى من ذكر اسمي وتريني مجرماً حقيراً فقط كوني انتمي لتلك العائلة!
ثم اقترب منها ليقول بغيظ:
ان كنتِ تريني بكل الحالات اني مجرم وانه على ان اتحمل ذنب مافعله غيري فأنتي مجرمة ايضاً ريم، وان كنتِ تريني قد قتلت اخاكِ رغم اني لم افعل. فأنتي ايضاً قتلتي اخي وابي حتى وان لم تفعلي، لذلك اظن اننا متعادلان!
ثم تركها ومر بجانبها فتضاربت اكتافهما وهو يسير بغضب بأتجاه سيارته فجعل هذا توازنها يختل وتعود بضعف خطوتين نحو الوراء وهي لاتزال تحدق بصدمة امامها تعجز عن ايقاف تلك الدموع، وتعجز عن ايقاف نزيف قلبها، لقد خسرته، فأدركت انها احبته!.
سمعت صوت محرك سيارته يخترق هدوء الاجواء ولكن من دون ان ينطلق. فأدركت انه بأنتظارها! سحبت قدميها رغماً عنهما الى السيارة وفتحت الباب بجسد خامل وكأنه يسير بلا روح! جلست بجواره على المقعد فأنطلقت السيارة بذات السرعة. ولكن هذه المرة بأتجاه شقتهما!
طوال الطريق كانت تحدق بيديها المتشابكة على حجرها رغم ان عقلها لم يكن مع يديها على الاطلاق، كان مع كل الكلمات الجارحة التي نطقتها بحقه دون ان يجرحها بالمقابل. مع كل اتهاماتها التي رمته بها من دون ان يدافع عن نفسه في الوقت الذي كان بأمكانه ذلك! ولاتعلم لماذا ولكن عقلها كله كان مع يوم المحكمة ذاك وهي تتذكر غضبه المفاجئ وطلبه منها ان تغلق الموضوع مع انه كان بأمكانه اشعارها بالذنب وهو يخبرها بحقيقة جدها، كان بأمكانه خوض الطريق السهل ليكسب ودها ومشاعرها. فلما فضل الطريق الصعب وهو يبقي نفسه المذنب دائماً امامها؟
انقضى الطريق بصمت وكل واحد فيهما مشغول بعالم منفصل وماضي مؤلم!
اوقف السيارة عند اسفل البناية من دون ان يطفئ المحرك، التفتت اليه بتردد وهي تقول بنبرة ضعيفة اقرب الى الهمس:
ألن تنزل؟
منحها اجابة سريعة ومقتضبة من دون ان يلتفت اليها:
لا!
آدم م.
ريم! انزلي لو سمحتي!
نبرته المستائة وملامحه المنقبضة كانت كفيلة بأخراسها!
فتحت الباب ونزلت واول مااغلقته انطلق بالسيارة بعيداً عنها وهي تراقبه بصمت لايكسره سوى دموعها!
صعدت الى الشقة وهي تشعر بالوحدة لأول مرة بعيداً عنه وتكره تلك الاجواء الصامتة التي تكتنف المكان من دون صوته أو طيفه!
اغلقت الباب ليكسر صوته الاجواء وتقدمت بخطوات مجهدة نحو اريكة الصالة لترمي ثقل جسدها عليها لتتسمر هناك من دون حركة تحدق بشاشة التلفاز المطفئة امامها وكأنها تعرض لها سلسلة احداث تبقيها داخل الصدمة لأطول فترة ممكنة!
كيف واجه الامر؟، امه، ابيه، واخيه الصغير! وكلما تذكرت ذلك الطفل كلما افرزت عينيها المزيد من الدمع وهي تتخيل طفلاً صغيراً بالكاد يتمكن من نطق بضع حروف قد اغتالته رصاصة الانتقام، كيف عساه ان يقع بغرامها؟ كيف عساه انه احبها؟ اي قلب غريب يمتلكه داخل صدره؟
ومع هذه الفكرة انتفضت من مكانها لتتجه نحو غرفتها وتجلس فوق سريرها تكمل بكائها وانهيارها بصوت مسموع ولاشيء يقتلها سوى تخيل ذلك الصغير مقتول وصورة امه رزان!
كرهت نفسها بشدة كونها تنتمي لأسرة كهذه. وكرهت نفسها اكثر لأنها لم تمنحه مسامحة قد منحها ذاتها!
نزل الليل بظلامه ووحشته على الشقة. رغم انوارها ألا انها خانقة بالنسبة لها! خرجت من الغرفة لتجد باب غرفته لايزال مفتوحاً ولكنها خالية منه! تنهدت بضيق وذهبت نحو الحمام لتغسل وجهها ولتنشط عينيها المتورمتين من البكاء!
خرجت من الحمام تجفف وجهها دون ان تبعد نظرها عن غرفته. تتمنى لو انه هناك! تتمنى لو انه يجلس على الاريكة كعادته ليعبث بحاسوبه وينطلق تذمره من كثرة العمل بين فترة واخرى! زفرت بيأس واتجهت نحو المطبخ لتعد العشاء لعله يحضر في موعده!
ارتدت مريلة المطبخ التي تُشد فوق الخصر فقط وبدأت بتقطيع البطاطا.
توقفت السكين فوق اللوح الخشبي فجأة وارتجف قلبها بتوتر وهي تسمع انفتاح باب الشقة وخطواته الهادئة بأتجاه غرفته!
ازدردت ريقها بأرتباك واخذت نفساً عميقاً لتبث جسدها ببعض الثبات ثم قررت واخيراً وهي تترك السكين من يدها وتخرج من المطبخ!
اتجهت نحو غرفته التي لايزال بابها مفتوحاً وشاهدته جالساً على طرف السرير ينزع حذائه بنفس ملامحه الصباحية المقتضبة ولكنه بدا اكثر هدوئاً!
اتكأت على حافة الباب وهي تجفف يديها بطرف المريلة وقالت بهدوء:
مرحباً!
اخذ نفساً عميقاً قبل ان يمنحها نظرة خاطفة ليجيب:
مرحباً.
هل أعد لك الطعام؟
لا.
لكنك لم تأكل شيئاً منذ الصباح!
وهل اكلتي انتِ؟
لا.
اذاً لاداعي لتحاسبيني.
صمتت من دون تعليق بينما يقف هو لينزع عنه ساعته. فقالت بعد تردد وصراع داخلي:
لما لم تخبرني؟
صمت هو من دون تعليق هذه المرة وتوقفت اصابعه عن نزع الساعة بينما يحدق امامه ثم التفت اليها ليقول ببرود:
هل كان سيفرق؟
فقالت بتألم:
الكثير!
اذاً جيد اني لم اخبركِ.
فحركت عينيها داخل عينيه بعدم فهم ليكمل هو بنفس بروده:.
لقد احببتك لذاتك ولم يهمني سواكِ انتي. ولم يهمني لأي اسرة تنتمين، وودت لو انكِ تفعلين الشيء ذاته معي، ولكن لم يكن يبدو ان هذا ممكنا! ً.
فقالت بتألم بينما بضع دمعات تفلت من بين عينيها:
ليس كل الناس مثلك ياآدم وليس كل الناس تفكر بطريقة تفكيرك! انت عشت معي واعتنيت بي رغم اني حفيدته. ولكن كان صعباً على ان اتقبل فكرة ان ابادلك اللطف ذاته وانت ابنهم! لم اكن ادرك حينها مافعلته اسرتي لك آدم!
فلم يعلق بشيء ونزع عنه ساعته ليبدأ بفتح ازرار معصم قميصه فهتفت به بعصبية:
آدم انا اتحدث اليك فلا تتجاهلني!
فألتفت اليها بنفس العصبية ليرد:
ألا يتجاهلك الجميع؟ فلما لاافعل انا ايضاً؟
نظرت داخل عينيه بعدم تصديق وهي تراه يقسو عليها للمرة الاولى بالكلام! لكنها نوعاً ماقد عذرته، فهي اليوم قد فتحت عليه تقطيب جروح الماضي! ولكن في نفس الوقت استنكرت قسوته، لاتريده ان يكون مثل الجميع. فهو مختلف بالنسبة لها!
عضت على شفتها السفلية تحاول منع نفسها من التعليق كي لاتجرحه بكلمة وهزت رأسها بتفهم وهي تشغل نفسها بتجفيف يدها بالمريلة وتمتمت بحزن:
صحيح، انت محق!
ثم تركته وعادت نحو المطبخ ليلعن نفسه مئة مرة لأنه جرحها بهذه الكلمة في الوقت الذي كانت تحاول فيه تهدئة نيرانه وامتصاص غضبه!
زفر بضيق وهو يمسح وجهه بأصابعه وكأنه يزيل تعبه. وندمه!
غير ملابسه بأخرى مريحة وخرج نحو المطبخ. لاحظ فوراً يدها الى ارتفعت الى وجهها تمسح بقايا دموعها فشعر بضربة قوية تدمي قلبه وهو يشعر انه هو سبب الدموع هذه المرة!
وقف خلف الكرسي المقابل لها واتكأ على قمته بمرفقيه وراقبها وهي تقطع الخضار من دون ان ترفع بصرها اليه. كان يبدو كالطفل المذنب الذي اتى ليلتمس الصفح من والدته، فقال بنبرة لاحظت مدى الهدوء واللطف فيها:
ماذا تعدين على العشاء؟
فأجابته بنفس الهدوء وهي تستمر بما تفعله:
حساء الخضار والمعكرونة بقطع اللحم!
احب هذا الصنف.
اعلم. لذلك اعددته!
صمت لوقت قليل ثم قال بندم:
اسف عما قلته، لم اكن اقصد.
فأغمضت عيناها بأستياء وهي تزفر بضيق ثم نظرت اليه بنظرة حادة فقال فوراً بتوجس:
ماذا؟ انا اعتذر فحسب!
كف ان تصبح فيه اللطيف دائماً في الوقت الذي انا فيه مخطئة، فهذا يجعلني اشعر بكوني حقيرة بالفعل!
تبسم وهو مستمر بالنظر اليها بينما تعود لتقطيع الخضار الى ان قالت بأحراج من نظراته المعلقة بها:
توقف عن ذلك!
فأدعى البرائة وهو يقول:
أتوقف عن ماذا؟.
فزجرته بضيق بينما كانت بالكاد تكتم ابتسامتها:
آدم!
فضحك بشدة وهو يشيح بوجهه جانباً. ياللهي! هذا الرجل بالفعل يملك ميزة ان يصبح الطف رجل في العالم، هل مايخفق داخل صدرها الان هو قلب؟ لما ينبض بهذه القوة وهي تنظر اليه؟ لما تراه وسيماً هكذا هذه المرة؟ لطالما كان وسيماً. ولكن هكذا؟ ابداً!
توقفي عن التحديق بي!
انتفضت بفزع مع نبرته الساخرة هذه وهي تدرك لتوها انها بالفعل كانت تحدق به ببلاهة من دون ان تدرك! فأنزلت ابصارها بخجل لتكمل تقطيع الخضار ووجها يكاد ينفجر من الاحمرار، بينما هو عاد ببساطة ليستمر بالتحديق داخل وجهها بكل عشق متناسياً الثورة الحربية التي خاضاها هذا اليوم! انهما بالفعل ثنائي غريب!