رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس عشر
اصدقاء!.
كم كان رائعاً ذلك الشعور الذي اخترق كيانها فجأة. تشعر بالراحة والسعادة وشعور غريب بالاطمئنان يغزوها كلما كان بجوارها في المنزل. وكم كرهت اوقات ذهابه للعمل. ولكن ليس بقدر تضجورها من تلك المكالمات الهاتفية التي كان يقضيها مع مايا! كل ماكانت تركز معه هو مكالماتهما التي تستمر بأوقات متقطعة طوال اليوم، لاسيما ان جلس لينجز عملاً ما على حاسوبه فأنه يقضي وقت عمله كله بمكالمتها ليتحدثا بخصوص ماينجزه! لاتعلم لماذا ولكنها فجأة بدأت تجد ان مايا مزعجة من قبل حتى ان تلتقي بها، مزعجة هي ومكالماتها الهاتفية!
كمكالمة اليوم وهو يجلس بجوارها يتحدث اليها عبر الهاتف، ادعت انشغالها بتصفح التلفاز رغم ان اذنيها تكاد تلتصقان بالهاتف من شدة تركيزها معه، نعم هي ادركت انها بدأت تكن له بعض المشاعر. ونعم هي لاتزال تعاند هذه المشاعر. يمكن اعتبار الامر خجل وكبرياء هذه المرة اكثر من كونه بدافع الكره وتاريخ الاسرتين العريق في الانتقام!.
رغم انزعاجها من هذه المكالمة ألا انها اسعدتها بشكل ما وهي تراه يحاول اقناعها بتحمل العمل غداً وحدها لأنه سيتغيب عنه، اي سيبقى طوال اليوم برفقتها في المنزل! شعور منحها راحة غريبة لم تعرف سببها!
اغلق هاتفه وهو يزفر براحة فقالت مدعية عدم المبالاة وهي تستمر بتقليب القنوات من دون ان تنظر اليه: اذاً. هل ستتغيب غداً عن عملك؟
اجل. واخيراً اقتنعت مايا.
قالت بأمتعاض حاولت قدر الامكان اخفائه ببرودها ونبرتها الهادئة:
ولما تحتاج موافقتها؟ أهي مديرتك ام ماذا؟
ليست مديرتي لكن نحن شريكان. وهذه الفترة عقدنا للشركة الكثير من الصفقات وهذا يعني عمل غير منتهي. وان تغيبت انا سيعني ذلك تحملها للعمل بشكل مضاعف. فعملي وعملها سيتراكم عليها فقط!
همهمت كأجابة من دون تعليق، الى ان قطع تركيزها بالتلفاز-الذي لم تكن اساساً تركز معه- صوته وهو يسألها: هل ستذهبين غداً؟
نظرت اليه وهي تسأله مستغربة: أذهب الى اين؟
التقت ابصارهما القريبة وهو يوضح: ألى منزل اسرتك، ألم تخبريني البارحة انك تودين زيارتهم اليوم؟
حدقت داخل عينيه لثواني من دون تعليق. نعم هي ارادت استغلال تواجده في العمل كي تزورهم حتى تقطع مللها بمفردها. ولكنه سيبقى. كيف عساها ان تذهب؟ هل تخبره انها-ولسبب لايمكنها فهمه بوضوح- لاتريد تفويت ساعة واحدة من يوم الغد بعيداً عن الشقة، لايهم ان قضت اليوم كله داخل الشقة. فهي كانت تستمتع بوجوده ومكتفية بذلك. مكتفية بمزاحاته المضحكة، مكتفية بنظراته العاشقة التي توصل اليها رسالة من دون ان ينطقها ان لاامرأة في الوجود تنافس وجودها بداخله. يحبها كما هي ولايطلب الكثير كي تمتلك قلبه. ان كانت غاضبة او هادئة. مرتبة او عبثية. صامتة او ثرثارة، يحبها كما هي ببساطة! شعور لم يمنحه لها اي شخص اخر، يجعلها تتأكد في كل لحظة تمر عليها انه مهما فعلت ومهما تفوهت بكلام غبي فلن يتخلى عنها ويمنحها مسامحة في ذروة غضبه منها! وكأنها صغيرته المدللة. وكأنها ابنته الوحيدة، وكأنها عشيقته المميزة. وكأنها، زوجته الحبيبة!
ريم؟ هل انتِ معي؟
اعادت ابصارها نحو التلفاز تحاول اخفاء تلعثمها وهي تفكر بعذر واهي تمنحه له كي تبقى غداً معه في المنزل من دون ان يستنتج غاية بقائها: أ. أنا سأنتظر قدوم نسرين اليهم كي اراها ايضاً. فأنا لم اراها منذ مدة كما تعلم.
ولكني اعتقدت انه لهذا السبب انتي ذاهبة لزيارتهم غداً؟ لأن نسرين هناك؟
خفق قلبها بقوة وهي تتذكر ان نسرين هناك بالفعل! تصاعدت الدماء الى وجهها وهي تشعر به لايزال يحدق بها. ومن دون ان تنظر اليه علمت ان هناك ابتسامة مرتسمة على وجهه لاسيما مع هذا الاحمرار الذي يغزو بشرتها البيضاء. فأدرك فوراً كذبتها، فسمعت همسته الدافئة وهو يقول:
لن يخدش كبريائك شيء ان قلتي لي انك تودين قضاء الغد برفقتي ولن تذهبي اليهم!
التفت اليه بتلعثم دفعة واحدة وكادت ان تنطق كلمات مزيفة كي تخفي خلفها مشاعرها ولكنها اصيبت بالخرس فجأة وهي تلتقي بعينيه الدافئتين المكسوتان بحزن يحمل خلفه خيبة امل! رأت الضيق بادياً على ملامح وجهه وهو يعيد ابصاره نحو التلفاز دون ان يعلق بشيء اخر، ارادت ان تنطق اي شيء، ان تخبره انه مخطئ. انها لاترغب بقضاء اليوم معه. هي متشوقة لترك الشقة، ولكنها لم تجرأ، قلبها المقبوض منعها من الكذب عليه!
اعادت رأسها ببساطة نحو التلفاز ليتابعانه كلاهما بصمت دون ان ينطق اي احد منهما حرف اخر.
ولكن بالطبع ادم ومزاحاته المستمرة قد عادت بعد ساعة واحدة فقط، رغم انها تشعر ان هناك انسان مهشم بداخله يبكي طوال الوقت ألا انه لايبين ذلك ابداً، يتقمص دائماً دور الممازح الضاحك الذي تنسى كل الآمها معه، متمنية لو ان بأستطاعتها فعل اي شيء كي يتناسى هو الآمه معها. ولكن كل ماتفعله هو الاستمرار بجرحه. وكل مايفعله هو الاستمرار بمسامحتها!
خلدت تلك الليلة الى الفراش ومئات الافكار تغزوها جعلتها لاتبقى مستلقية بثبات لأكثر من خمس دقائق وهي تتقلب تارة على يمينها وتارة على يسارها وتارة تحيط رأسها بنفاذ صبر وكأنها تتوسله ان يتوقف عن كل هذا التفكير بدل ان ينفجر!.
زفرت بضيق وهي تحول نظرها بأتجاه درج المنضدة المجاورة لسريرها وبعد تفكير يتراوح مابين العناد والضعف رفعت جسدها عن فراشها الدافئ وجلست لتفتح الدرج بتردد لتخرج كتاباً لم تكن مهتمة بقرائة محتواه. بل بأخراج القصاصة التي تستودعها بين صفحاته لسبب تجهله، ولكنها قررت الاحتفاظ بها فحسب!
(جذب نظري في المتجر. وكنت متأكد انه لن يليق بسواكِ، آدم).
لاتعلم لما يرتجف قلبها كلما قرأت هذه الكلمات البسيطة المبعثرة فوق هذه القصاصة! هي مزقت الفستان الذي يرافق القصاصة. بل ومزقت كل الفساتين وباقي المشتريات من دون تردد، ولكن قصاصة الورق الصغيرة هذه تعجز بشدة عن التخلص منها، ولاتمل ابداً من قرائة كلماتها التي حفظتها عن ظهر قلب!
ريم أتعرفين اين...
فجأة انتفضت من مكانها واقفة بفزع مسرعة بأخفاء القصاصة خلف ظهرها من دخول آدم المفاجئ الى غرفتها! بتر عبارته فوراً وقد جذب نظره مااخفته خلف ظهرها. بالطبع لم يتوقع ولو للحظة انها الرسالة التي كتبها اليها ووضعها مع الفستان. فهي اخبرته انها تخلصت من كل المشتريات فعل ستحتفظ بهذه القصاصة؟ ولكنه شك للحظة انها لربما عادت لتتناول المهدئات من دون علمه وان ماخلف ظهرها هو احدى ادويتها قد اخفتها عنه!
اقتضبت ملامحه وفتح الباب اكثر ليدخل وشكوكه تتفاقم لاسيما مع توترها وارتجاف اطرافها وهي تنظر اليه بأرتباك وتقول بتلعثم:
ل لما لم، لم تطرق الباب قبل دخولك؟
فأجابها ببرود وهو يتقدم نحوها خطوات ثابتة زادت من ارتباكها:
ليست المرة الاولى التي ادخل من دون ان اطرق الباب!
ثم اردف فوراً بنبرة هادئة تحمل بعض حرارة استيائه الذي لايريد فقدان السيطرة عليه قبل ان يتأكد من ظنونه:
ماذا اخفيتي خلف ظهرك؟
هزت رأسها نافية فوراً وهي تزيد من القبض على الورقة بين يديها:
ل لاشيء!
ارني.
فقالت بعصبية تحاول ادعائها لتخفي ارتباكها:
ألا ترى انك تتدخل فيما لايعنيك ياآدم؟
فأجابها بنبرة اعلى قليلاً استوضحت من خلالها مدى استيائه:
لا، انا ارى نفسي امنعك من هدم كل مابنيناه!
قطبت حاجبيها بعدم فهم ليكمل هو موضحاً بغضب:
هل تحملين حبوب مهدئ خلف ظهرك؟
فقالت بعصبية جادة هذه المرة من اتهامه:.
ماهذه السخافة؟ انت تعلم اني بدأت اقلع عن ادماني منذ اكثر من ثلاثة اسابيع والتزم بجدول الدواء الذي تحدده لي.
فهتف بها بنفس العصبية:
اذاً ماذا اخفيتي خلف ظهرك؟
لتزجره بحدة:
لاشأن لك!
فلما رأى عنادها وان النقاش معها عقيم تقدم نحوها خطوات سريعة عادت هي مثلها نحو الخلف ولكن المنضدة منعتها من التراجع اكثر لتتفاجئ بيداه تلتفان حولها وتسحبان القصاصة على غفلة من يديها. سحبها بيساره وامسك ريم بيمينه يمنعه من التقدم اكثر لتسحب القصاصة من بين يديه، لحظات لم يتجاوز فيها الوقت الثانيتان حتى انفرج جبين آدم المقتضب والتفت بذهول نحو ريم التي دفعت يده بعنف عنها وذهبت نحو سريرها تدعي انشغالها بترتيبه لتنام مجدداً وقالت بأقتضاب رغم خجلها الذي كاد ان يقتلها في مكانها:.
يمكنك اخذها فأنا كنت سأتخلص منها بأي حال، تفاجئت بها بين اشيائي. يبدو لم انتبه اليها مسبقاً!
لم تسمع تعليقه فوراً. يبدو انه لايزال داخل ذهول الصدمة! ثواني حتى شعرت بخطواته تقترب منها ليزداد قلبها انقباضاً اكثر. شعرت بصوته الدافئ على مقربة منها وهو يقول بهدوء:
ولكن. لقد قلتي انك تخلصتي من كل فساتينك. وانا متأكد اني وضعت هذه القصاصة مع احد الفساتين، فكيف تخلصتي من الفستان دون ان تنتبهي اليها حقاً؟
اغمضت عيناها بتألم وضعف. أتكذب وهي تعلم انها مهما كذبت فأن كذبتها ستكون واهية ولن تتمكن حتى هي من تصديقها؟ هل تقول الصدق؟ ولكن ماهو الصدق بالضبط؟ لما احتفظت بالقصاصة؟ هي ذاتاً لاتعرف فبماذا ستخبره؟
ريم؟
كان الطف صوت واحن صوت تسمعه ينطق اسمها منذ سنين، كان صوته مترجياً اكثر من كونه متسائلاً! نبرة تتوسلها ان تفصح عن شيء يخمد به نيرانه التي تحرقه، ولكنها كانت اضعف من ان تنقذه، لذلك هي تشاهده يتعذب ببساطة!
كست ملامحها بطبقة من البرود والغضب كي تخفي خلفها خجلها وارتباكها وهي تلتفت اليه.
قطبت حاجبيها وهي تواجه عينيه المتوسليتن والمترقبين لجوابها وقالت بنبرة تعمدت جعلها حادة كي تخفي ضعفها:.
آدم! كل ماتظنه هو مجرد وهم تقنع نف.
اخرست بقية حروفها فوراً وهي تنظر اليها بدهشة وهو يضع يده فوق فمها ليجعلها تسكت. حدقت داخل عينيه الباسمة من دون ان تتحرك مقدار انش واحد من الصدمة ويده لاتزال تغلق فمها يمنعها من الحديث ألا ان قال بدفئ وهدوء وابتسامة عذبة تزين ثغره:
دعيني اعيش في اوهامي اذاً، ولاتفسري لي اي شيء ارجوكِ!
ثم ابعد يده وهي لاتزال جافلة في مكانها من دون حركة تحدق بنقطة معينة في الجدار خلف كتفه وهي تشعر به ينحني بأتجاه سريرها يضع القصاصة بهدوء هناك ثم استقام ليتمعن في عينيها وهو يقول بذات النبرة العطوفة:
سأترك لكِ القصاصة لتتخلصي انتِ منها!
ثم تركها متسمرة في مكانها من دون حركة وخرج من الغرفة ليغلق الباب خلفه بهدوء كهدوء تلك الابتسامة التي تحتل ثغره ولكن مناقضة لضربات قلبه المجنونة! كان يعلم جيداً انها لن تتخلص من القصاصة، لذلك تركها لديها ببساطة ولم يبيقها عنده!
عاد الى غرفته والدهشة لاتزال تسيطر عليه كلياً. لم يستطع فعل شيء سوى الاستمرار بالابتسام وهو يتخيل انها احتفظت بالقصاصة طوال ذلك الوقت! وكلما تخيل ذلك كلما ركل قلبه قفصه الصدري بعنف اكبر!
اجل اجل. اعدك اني لن اتأخر، حسناً حسناً مايا.
ايقظها صوته المتنقل في ارجاء الشقة من نومها الصباحي العميق، فتحت جفنيها بتثاقل لترمق الساعة المنضدية بنظرة سريعة كي تعرف انها لم تتجاوز الثامنة والنصف بعد!
دعكت جفنيها بأصابعها وقامت بتكاسل كي تلبس مئزرها البيتي فوق منامتها وفتح باب الغرفة لتجده انهى المكالمة لتوه مع مايا وقد تهيأ للخروج الى العمل وهو مشغول بضبط رباط قميصه وجمع اشيائه بأستعجال.
صباح الخير!
التفت الى صوتها الناعس بينما يجمع الاوراق داخل ملف واحد وقال فوراً:
صباح الخير، اسف ان كنت قد ايقظتك بصوتي وحركتي!
هزت رأسها نفياً بينما تقترب منه وهي تضم يديها الى صدرها تدفئ نفسها من اجواء الشقة الباردة:
لابأس، ولكن أليس من المفترض انك لن تذهب للعمل لليوم؟
مط شفتيه بأمتعاض وهو يقول:
اجل. من المفترض ذلك! ولكن مستثمرين الشركة الاخرى الذين عقدنا صفقة معهم سيحضرون الى الشركة اليوم ومطالبين انا ومايا بحضور الاجتماع معهم.
شيء من الضيق تسلل الى صدرها وهي تدرك انه لن يبقى طوال اليوم معها ولكنها لم تبين ذلك وادعت البرود وهي تستمع اليه!
شاهدته يحاول اغلاق ازرار معصميه بأستعجال دون ان يملك السيطرة على اغلاقهن بشكل صحيح فتقدمت اليه بهدوء وسحبت يده ببساطة وهي تغلقهم من اجله. سلمها يده وهو يحدق بتفاصيل وجهها الهادئة بدهشة. خفق قلبه بجنون وهي تحوط معصمه بين يديها
وتتصرف ببساطة كما لو انه شيء اعتادت على فعله دائماً!
انتهت مما تفعله ورفعت بصرها اليه لتقول بهدوء:
هل أعد لك الافطار؟
تلعثمت كلماته يحاول استجماعها وتهرب منه الى ان قال واخيراً:
ل لا. سأتأخر ان تناولته هنا، مايا احضرت معها وجبتين من اجلنا سأتناوله هناك معها.
عصرت قبضتها كي تحافظ على ملامح وجهها جامدة لاتحمل اي ملامح تعكس مايعتمر بداخلها، استدارت عائدة نحو الغرفة وهي تقول بنبرة جعلتها هادئة وباردة قدر الامكان:
حسناً. سأعود للنوم اذاً!
دخلت الى الغرفة واغلقت بابها بهدوء وهو يحدق به بذهول، هل ماحصل قبل ثواني حقيقة؟ نعم هو شيء عادي بالنسبة لبقية الناس، ولكن بالنسبة له. هو شيء يدفعه للأبتسام طوال اليوم! هو شيء حوّل يومه الممل الى عالم وردي يحلق في سمائه بأجنحة يفردها على اوسعها!.
عادت للفراش. ارتمت فوق الوسادة. ولكن جفنيها يرفضان ان ينسدلا فوق ذلك البحر الازرق! بماذا تشعر بالضبط؟ لاتعلم! ولكن شيء بداخلها منقبض. بعض الضيق يبني عشّهُ داخل قفصها الصدري لاتعلم كي تنفضه. ولاتعرف سببه!
لاتريد ان تفتقده في غيابه. ولكنها تفعل!
لايهمها امر مايا. ولكن كل مايشغل بالها هو طبيعة العلاقة التي تربطهما!
لابأس ان لم يتحدث اليها. ولكنها تريد سماع صوته!
تناقضات عديدة كان صعب عليها ان تجعلها منطقية!
انتظرت خروجه من المنزل كي تخرج من الغرفة. فهي ادركت انها بجميع الاحوال لن تعود للنوم وتلك الافكار تزدحم داخل عقلها!
اعدت لنفسها الفطار وتناولته بملل هذا اليوم وقد توقعت بالامس انها ستتناوله برفقته، نعم قد لاتفسر ان مشاعرها حب اتجاهه ولكنها لايمكنها نكران ان مشاعر الارتياح اتجاهه تغزوها!
انهت فطارها ولم تجد شيئاً لتفعله. لارغبة لديها للخروج من المنزل لذلك قررت شغل نفسها بداخله، نعم هي لاتنكر ان شقته مرتبة وانيقة. ولكنها تفتقد للمسات انثوية، لمسات لم تضعها ريم على اي شيء منذ سنين وتلك الانثى التي بداخلها تستصرخها بالخروج من هذه العتمة التي تسجنها بها منذ لاتعرف متى؟
رفعت شعرها نحو الاعلى لتبدأ العمل الشاق!
كل شيء خضع لأعادة الترتيب حسب ذوقها. ولكنها بالطبع لم تجرؤ على دخول غرفته واكتفت بباقي اقسام الشقة!
ترتيب وترتيب. حملت هذا لتضعه هناك. وحملت ذاك لتضعه هنا. وتلك يجب ان تتوسط الصالة. وهذه يجب ان تتخذ ركناً، لتقف في النهاية عند مكتبة صغيرة ذات ادراج لم تفكر بفتحها سوى الان، اخرجت منها صندوق خشبي متوسط الحجم ذو شكل مميز لم تره مسبقاً، فتحته بفضول لتجد مجموعة من الصور قلبتهم بين يديها وعينيها تتجولان فوق معالم الصورة لتقبض قلبها اكثر، صور لذلك الطفل الصغير ذو الشعر الاشقر والضحكة البريئة. تارة يلعب كرة. تارة نائم. تارة يحمله طفلاً اخر كان يبدو اكبر منه سناً. بالتأكيد هذا اخيه. هذا واضح من الطريقة التي يعانقه فيها وهو يحمله وذلك الصغير يضحك، لم تستغرق وقتاً في التفكير لتعرف ان هذين هما مصطفى وآدم!
اغلقت فمها بيدها بقوة وسمحت لدموعها فقط بالافصاح عن نفسها وكتمت شهيقها جبراً!
تركت الصور جانباً لتتفحص باقي محتويات الصندوق. وجدت لعبة خشبية صغيرة رأت مصطفى يمسكها في احدى الصور، ولكن ماجعلها تنهار هو ذلك القميص المستكين في اخر الصندوق الذي يدل على نعومة صاحبه. قميص صغير الحجم رأت مصطفى يرتديه في اخر صورة له مع آدم!
ومن دون ارادة منها ضمت القميص اليها اكثر لتغزوه ببكائها وتشتكي اليه نيران الهبت روحها! نزف قلبها من اجله من دون ان تراه حتى او تستمع لضحكاته او تعش معه، فكيف بالذين عاشو معه؟
كيف لطفل بريء كهذا ان يكون ضحية حقد جدها من دون رحمة؟ كيف عسى آدم ان يحبها وجدها هو من تسبب بمقتل هذه الزهرة الناعمة المسماة ب مصطفى؟ كيف له ان ينظر في وجهها وجدها حرمه من ابيه!
مر وقت ليس بقليل وهي لاتكف عن اعادة النظر في الصور وبالاخص بذلك الصغير الذي يجبرك ان تقع في غرام ضحكته البريئة ويجعل روحك تتعذب وانت تتخيله بهذا العمر مغطى بدمائه ورصاصة قد اخترقت قلبه الصغير!
اعادت الصندوق حيث كان وقامت لتغسل وجهها من اثار دموعها الحارقة!
ساعتين او اقل حتى فتح آدم باب الشقة ودخل خطوة واحدة ونظر حوله بتعجب وهو يقول:
هل دخلت الشقة الخطأ؟
تبسمت ريم رغم مابداخلها من ألم وقالت وهي تتصفح التلفاز:
فكرت بأعادة ترتيبها، اتمنى ان لايزعجك هذا؟
رمى جسده بتعب على الاريكة بجوارها وقال:
بالتأكيد لا! الان فقط احسست بالحياة تدب في اركانها!
سكتت لثواني وهما يحدقان في التلفاز من دون كلمة اخرى الى ان قالت:
لقد تأخرت اليوم!
اطلق تنهيدة ضجر قبل ان يجيب:
اولئك الحمقى من الشركة الاخرى لايكفون عن طرح الاسئلة ومناقشة الافكار.
وهل تناولت غدائك؟
اجل. عندما تأخر الوقت اقترحو علينا انا ومايا اكمال الاجتماع بينما نتناول غدائنا.
كان اسم مايا كافياً ليجعلها تصمت غير راغبة في اكمال الحديث او التعليق بشيء!
ثواني حتى تصلب جسدها وارتجف قلبها وفتحت عينيها بدهشة وهي تشعر برأسه يستكين فوق كتفها.
أأ آد.
قاطعها بهدوء وعيناه مغمضتان بتعب:
أيمكنني ان ابقى هكذا لخمس دقائق فقط. ارجوك؟ ِ!
لم تعلق بشيء. ولكنها لم تعترض. فأدرك انها قد وافقت! رغم مشاعرها المتضاربة. رغم عدم معرفتها بماذا تشعر بالضبط. ألا انه شعور مريح. شعور جميل على نحو غريب!
مرت عليهما ثواني. دقائق. بل وتعدت الخمس دقائق دون ان يرفع رأسه ودون ان تطلب هي ذلك منه! شعرت انها واخيراً قد فعلت شيئاً يجعله يشعر بالراحة. فليبقى على كتفها اذاً قدر مايريد، فهي ايضاً قد رحبت بهذه الفكرة وذلك الضيق الذي سبّبه بذهابه للعمل قد تلاشى الان بألتجائه اليها بتعبه!
آدم؟
نطقتها بهدوء وتردد بعد عشر دقائق تقريباً فهمهم كأجابة من دون ان ينطق، سكتت هي لثواني اخرى قبل ان تقول وغصة تسد حنجرتها:.
لقد، لقد رأيت ذلك الصندوق الخشبي. الذي في درج المكتبة!
فتح عينيه يحدق حيثما وقع بصره وعقله ليس في هذا العالم على الاطلاق، مر عليه بعض الوقت من دون ان يتحرك او يرد بشيء لدرجة انها اعتقدت انه لن يجيبها الى ان قال بصوت اضعف من صوتها:
أحقاً؟
ومن دون توقعها او توقعه وجدت نفسها تستكين برأسها فوق رأسه ليشعر بقطرات المياه الحارة التي تنزل من عينها لتتخلخل بين خصلات شعره القصيرة وهي تقول بهدوء من وسط دموعها:.
اجل، رأيتك، ورأيته!
اغمض عينيه بقوة ودمعة ضعيفة تسقط من جفنه وحشر رأسه في كتفها اكثر وكأنه طفل صغير يلتاذ بأمه يشكو اليها ألمه بصمت!
بالكاد سيطرت على نبرتها المرتجفة وبكائها وهي تقول له بضعف:
أ. أسفة، آدم انا اسفة. أنا لا.
قاطعها:
لاتقوليها مرة اخرى، لست انتِ من فعلها.
ولكنه جدي!
رفع بصره اليها بتلك النظرات الدامعة والملامح المنقبضة:
اجل جدك، وليس انتِ! لايهمني من فعلها من اسرتكِ. مايهمني انه ليس انتِ!
لم تعلق بشيء. بل اكتفت ان ارتمت لتعانقه بقوة تبثه ندمها واسفها بطريقة اخرى. وكأنها تواسيه اكثر مما تواسي نفسها بهذا البكاء، تريد ان تعتذر ولاتعرف كيف. تريد ان تعبر عما بداخلها وتفشل. ولكنها ولسبب ما كانت مطمئنة من انه يفهمها تماماً. وكم احبت هذا الشعور! وكلما تخاطرت الى افكارها صورة مصطفى كلما ازداد بكائها. وكلما ازداد بكائها كلما مسح على شعرها برفق اكثر وهو يقول بعطف:.
كفي عن هذا البكاء، انا حقاً اكره رؤيتك تبكين!
منحها بعض الوقت لتفرغ دموعها فوق كتفيه الى ان هدأت وابتعدت عنه لتمسح دموعها بأناملها الرقيقة وهي تقول في اثناء ذلك:
اسفة لأني تحدثت معك بهذا الخصوص. اعلم كم هو مؤلم هذا الامر، فأنا قد جربته!
شاركها بمسح بدموعها بأبهامه بلطف وهو يقول:
ان نتشارك بشيء ما لهو شيء جميل بالفعل. حتى وان كان آلماً!
تبسمت رغم دموعها وقالت بعد صراعات داخلية وتردد:.
أ. أعتقد انه بأمكاننا ان نكون اصدقاء. يمكننا ذلك صحيح؟
اتسعت ابتسامته اكثر وهو يقول وابهامه لايزال فوق خدها:
وهل هذا شيء اجرؤ على رفضه؟
حتى بعد ان تتزوج، يمكننا ان نظل كذلك. ولاداعي ان ننهي صداقتنا. فما فعلته من اجلي لايمكنني رد جميله اليك مهما فعلت!
تلاشت ابتسامته تدريجياً وانقبض قلبه مع كلماتها الاخيرة، اذاً هي لاتكن له سوى مشاعر الصداقة والامتنان. ولن يكون اكثر من ذلك، ولن تسمح له ان يفكر بأبعد من ذلك او ان يطمع بكسب قلبها، ففكرة الزواج لاتزال تستكين بعقلها بأصرار!
سحب ابهامه بتردد من فوق وجهها وهو يبقي عينيه داخل عينيها، كيف لهما ان تمتلكا هذا المقدار من السحر لجعله يقع بغرامها بهذا الجنون وتدفعه للتمسك بها اكثر رغم ابتعادها عنه اكثر؟
تنهد بهدوء وابتسم بمرارة محاولاً اخفاء تضايقه عنها، فأن لم يكسب قلبها، لايريد خسارة صداقتها!
قام من مكانه يصارع من اجل ابقاء الكلمات في صدره لتحترق هناك ببطئ كباقي رفيقاتها كي لايجرح مشاعرها او يغضبها، منحها ابتسامة هادئة وهو يقول:
سأدخل لأستحم واغير ملابسي. ما رأيكِ ان تعدي لنا بعض القهوة كي نشربها سوية فصداعي يكاد يقتلني!
قامت من مكانها بأبتسامة وهي تقول:
حسناً. سأفعل.
ولكن لاتحرقيها.
آدم؟
ضحك رغم ألم قلبه وهو يقول:
حسناً حسناً لن اعلق بشيء...
ثم تركها ضاحكاً ودخل نحو غرفته، وياليته كان بأستطاعته الاستماع لنبضات قلبها المتراقصة والمتلهفة للجلوس معه. لكان قد تغير كل شيء، فحتى وان لم تدرك هي هذه المشاعر فكان هو سيصر على التمسك بها اكثر الى ان يجعلها تعترف بهذا!
وقفت امام الطباخ وابتسامة لاتعرف سببها ترتسم بهدوء فوق شفتيها!.
اطفأت الطباخ بعد عشر دقائق تقريباً واتجهت نحو الثلاجة لتخرج قنينة ماء لتشربها بينما دلف في هذه الاثناء آدم الى المطبخ يجفف شعره من قطرات المياه العالقة بخصلاته ويمسك هاتفه باليد الاخرى، ولكن بملامح جامدة ومتوجسة تحمل خلفها تردد. عكس الشخصية التي كانت بجوارها منذ دقائق، انزلت القنينة عن شفتيها وحدقت داخل عينيه المترقبة وقالت بأستغراب وهي تعرف انه يحمل بين طياته خبراً ما:
ماالامر؟
انزل المنشفة عن رأسه وبلل شفتيه بلسانه يستعد بنطق كلمات كان يعرف رد فعلها جيداً اتجاهها، كان يحاول قدر الامكان ابقائها مرتاحة وسعيدة، ولكن القدر يخطط عكس رغباته!
ريم، غداً.
وبتر عبارته وهو ينظر لعينيها فقالت تستحثه على المواصلة:
اجل،؟
نحن. انا وانتِ، مدعوين الى الغداء.
اين؟
سكت لفترة اطول هذه المرة الى ان قال بتردد:
في، في منزل جدي!
انتظرت لثواني بينما تستوعب كلماته. وماان فعلت حتى انقبض قلبها وارتخى جسدها لتنساب قنينة المياه من بين قبضتها لتترك ذلك الصدى فوق الارض وتتناثر المياه وقطع الزجاج معاً وهي تنظر اليه بصدمة، لتبدأ ثورة جديدة لم يخوضها مسبقاً مع ريم!