قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الثالث عشر

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الثالث عشر

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الثالث عشر

سوية..
استيقظت في صباح اليوم التالي وشعرت بجسدها قد ارتاح فعلاً وصداعها قد اختفى تماماً، نظرت الى ساعتها المنضدية بتململ ثم فتحت عينيها بدهشة. انها التاسعة والنصف! انها المرة الاولى التي تستيقظ مبكراً هكذا وهي تشعر انها قد اخذت كفايتها من النوم!.

دلكت عينيها وهي تنهض من السرير ثم رفعت شعرها وخرجت من باب غرفتها لتشرق على وجه ادم الذي كان يجلس في الصالة. لم يكن تفاجئه بأقل منها وهو يشاهدها تستيقظ مبكراً. رفع ابصاره من فوق شاشة حاسوبه وهو يقول بدهشة:
واااو. ريم سيف ياسين تستيقظ صباحاً!

كل يوم تراه. كل يوم تسمع صوته. كل يوم يمازحها. ولكن اليوم كان الامر مختلفاً. رؤيته سببت لها شحنات كهربائية صعقتها في جميع انحاء جسدها وشعرت بالنيران تنبعث من وجهها ولاتعلم هل اصبح شديد الاحمرار ام شديد الاصفرار؟ كلما حاولت ان تنطق شيئاً اغلق شيء ما مخارجها الصوتية وهي تتذكر اعترافه الهامس لها. ذلك الاعتراف الذي لم يظن ولو للحظة انها قد سمعته!

قطبت حاجبيها كالعادة وادعت البرود وعدم الاهتمام وهي تجيبه رغم ان كل مابداخلها يرتجف وينتفض:
رب. ربما لأني نمت مبكراً بالامس.
فضيق عينيه بمكر وهو يقول لها بأبتسامته الممازحة المعتادة:
او ربما انكِ غطيتي بنوم عميق ومريح لأني كنت بجانبك ولم تصابي بالارق ككل يوم...

توقع ان ترفع حاجبيها بحدة. ان تهتف به بحنق كالعادة من مزاحه الذي يستفزها، لم يظن ولو للحظة ان وجهها سيصبح شديد الاحمرار، وهذه المرة لم يكن احمرار غضب او استياء، بل خجل، وليس هذا فقط بل خجل يصاحبه ارتباك ثم تهربها من نظراته نحو الحمام...

بقي يحدق في باب الحمام ببلاهة وهي تغلقه وتختفي خلفه. هل يعقل انها قد شعرت بالخجل؟ حسناً اعزائنا المشاهدين. هنا قناة البي البي سي تبثكم اخر انبائها العاجلة والمهمة، ريم سيف ياسين اصبحت تتصرف كالفتيات، تم الاكتشاف ان ريم يمكنها ان تخجل!

عاد مرة اخرى ليهز رأسه رافضاً تلك الفكرة التي احتلت تفكيره. ريم من المستحيل ان تهتم لكلامه وتشعر بالخجل. فالذي لايهتم لنا لن يصيبه اقترابنا بتوتر او خجل بل سيكون غير مبالياً به، ربما هي فقط قد تجاهلت كلامه ولم تكن بمزاج يسمح لها بالتشاجر معه الان فهو يعلم ان مزاجها يكون متعكراً دائماً في الصباح. اجل. هذا هو الاستنتاج الاخير الذي توصل اليه ادم!.

اغلق شاشة حاسوبه واتجه نحو المطبخ ليعد فطاراً شهياً بهذه المناسبة المميزة. فريم ستشاركه الفطور لأول مرة فلما لاتكون مناسبة مميزة؟ وايضاً هو يعلم ان زوجته العزيزة حمقاء فيما يخص الطبخ لذلك هي بالتأكيد لن تجيد اعداد شيء رغم محاولاتها العديدة في الفترة الاخيرة من اجل تعلم الطبخ. كان يشجعها بكلمات حماسية وينهي صحنه كله من اجل دعم ثقتها بطبخها رغم ان طعم الاكل كان مقرفاً! لدرجة انها كانت تعترف بذلك ولاتنهي صحنها ولكنه كان يدعي تلذذه به. فهذا سيجعله يشاهدها كل يوم في المطبخ تعد الطعام من اجله، هناك شيء على الاقل تفعله من اجله. شيء ان فعلته قد يشغل ادم تفكيرها وهي تفعله. قد تفكر مثلاً (هل سيعجبه ام لا؟ هل سيمدحني ككل يوم؟ هل سينهي صحنه هذه المرة ام سيتنازل عن نصفه ولن يستسيغ طعمه؟ هل يحب هذا النوع من الطعام؟ ). وحتى لو تكن كذلك. حتى لو كانت مثلاً (سأضع الكثير من الملح كي اجعله يترك الغداء ويبقى جائعاً. سأنساه دون بهارات كي يكون من دون طعم حتى يعد طعامه بنفسه من الان فصاعداً او يحضره من المطعم). حتى لو كانت تفكر بهذه الطريقة فلابأس، المهم انه هو داخل تفكيرها، فكما يقول شيكسبير ان كنت تحبني او تكرهني فجميعها مفضلة لدي. ان كنت تكرهني سأكون دائماً في عقلك وان كنت تحبني فسأكون دائماً في قلبك، لايهم كيفية تفكيرها نحوه. المهم انها تفكر به. كان هذا كفيلاً ليمنحه جناحان يحلق بهما عالياً في سماء السعادة، فكلما وضعت الطعام امامه لم تكن تمد يدها الى صحنها قبل ان يأكل هو وتحدق فيه منتظرة رأيه. لايهم ان كان الطعم كثير الملوحة او خالي من الملح تماماً. لايهم ان كان محترقاً او ان اللحم لايزال نيئاً بعض الشيء. فما ان يرى تلك النظرة المرتقبة لرأيه داخل عينيها حتى يمنحها ابتسامة عريضة ويثني بكثرة على لذة طعامها رغم ان معدته توشك على طرحه خارجاً. عندها فقط كانت تطرح انفاسها براحة ورضا لأنه اعجب بطعامها، في تلك اللحظة بالذات تنمو له الجناحان. فهذا يعني ان رأيه مهم بالنسبة لها!.

خرجت من الحمام بعد دقائق وقد غسلت وجهها ونظفت اسنانها. وبالطبع نظفتهن ببطئ شديد كي تتأخر اطول فترة ممكنة داخل الحمام حتى تتهرب منه. ولكنها على الاقل في هذه الدقائق قد اعطت لنفسها درساً طويلاً وهي تحدث نفسها بالمرآة وتزجرها ان لاتضعف هكذا مجدداً وان تتخلص من تلك الشحنات الكهربائية الغبية التي تصعقها لأول مرة في حياتها. معجب بها؟ وان يكن؟ هل هو اول شاب يعجب بها؟ هناك الكثيرون من قبله ولم تبالي بأحد فيهم. وعليه ان يكون مثل الباقين. لا بل واسوأ منهم. فهو ابن اسرة مراد!.

شجعت نفسها ومدتها بالقوة ثم خرجت من الحمام وقد تخلصت بالفعل من تلك الشحنات الكهربائية وعادت لترتدي قناع البرود وعدم الاهتمام. وماان رأها ادم بهذا الشكل حتى تأكد من ظنونه. اجل. من المستحيل انها قد خجلت قبل قليل.

دخلت نحو الثلاجة وفتحتها لتخرج منها قنينة ماء وادم واقف امام الطباخ يرمي البيض بمهارة في الهواء ليتقلب وكأنه لاعب جمباز ثم يعود مجدداً ليرتمي في المقلاة. فقال في اثناء ما كانت ترتشف المياه: ريم؟ هلا جهزتي اكواب الشاي بينما انهي البيض.
فأكملت المياه واتجهت نحو الاكواب بصمت لتحضرهم فرن في هذا الاثناء هاتفه. اجاب عليه وهو لايزال يحضر بالبيض فأسنده بكتفه على اذنه وهو يقول: اهلاً مايا!

عند هذه الكلمة توقفت ريم لوهلة عن وضع السكر داخل الكوب وهي تشعر ان جميع حواسها مشدودة من دون سبب لتلك المكالمة. فأن ارادت ان تمنح جائزة الاكثر اتصالاً على ادم فبالتأكيد مايا من ستربحها. صحيح انهما شريكان في العمل ولكن لايعقل ان كل الشركاء الذين معهم يتصلون ببعضهم بهذا الشكل! انها حتى تتصل به اكثر من والدته واخته! لحظات تسمر فيها جسد ريم عن الحركة الى ان صرخ بها عقلها مذكراً اياها بالمحاضرة الطويلة التي كانت تلقيها على نفسها قبل الدقائق في الحمام فجذبت حواسها جبراً عنه لتعود لأكمال ما كانت تفعله رغم انها لم تمتلك السيطرة والقوة الكافية كي تمنع اذنيها عن الاستماع لبقية حديثه ولكنها اجبرت نفسها ان تكون غير مهتمة.

اطفئ ادم نار الطباخ وهو يكمل حديثه: انا بخير كيف حالكِ انتِ؟.
اطلق ضحكة خفيفة قبل ان يعود ليكمل: دعكِ من الدراما الكلاسيكية المبتذلة فهي لن تنطلي علي...
عاد ليضحك مجدداً ثم سكت لأجزاء الثانية مستمعاً لها وبعدها قال: نخرج الى اين؟

وعادت لتتوقف مرة اخرى وتتسمر في مكانها الى ان كرهت انتباهها المشدود اليه من دون سبب واضح فأخذت الاكواب وخرجت من المطبخ تماماً هاربة منه ومن تلك الشحنات التي على مايبدو ان التيار الكهربائي قد عاد لها مجدداً!
حضّرت المائدة بوجه مقتضب لحين قدوم ادم من المطبخ يحمل بيديه صحون البيض. بالطبع لم يستنتج سبب اقتضاب وجهها فهي طوال الوقت بهذا الشكل، بل ولاحتى هي ادركت سبب هذا المزاج السيء فجأة!

جلست ببرود تتناول طعامها دون ان ترفع بصرها اليه او تتبادل معه اي حديث، قطع هذا السكون واخيراً صوت ادم وهو يسألها بأهتمام:
متى اخر مرة زرتِ فيها قبر هزيم؟
رفعت بصرها اليه بأستغراب فأكمل فوراً:
لاحظت منذ قدومكِ الى هنا انكِ في كل يوم خميس تذهبين لزيارة قبره. ولكن البارحة كان الخميس ولم تذهبي.
بقيت تحدق فيه بذهول وهو يتكلم...
انه يحفظ مواعيد ذهابها رغم انه لايرافقها!

يوم واحد مضى على موعدها فأنتبه فوراً لعدم ذهابها!
والاهم من ذلك. لم يكن يمانع او يتضجور من ذهابها بل يبدو غير راضياً الان لأنها تخلفت عن موعدها!
لما لايستطيع بحق السماء ان يعاملها كحفيدة ياسين كما تعامله هي كحفيد مراد غير مبالية ابداً بشخصيته الحقيقة وماهو عليه فعلاً؟.

بقيت تتطلع فيه لثواني وقد نسيت تماماً امر الطعام الذي في فمها والذي لم تمضغه بعد، استوعبت ذلك بعد فترة فأبتلعته وهي تستجمع حروفها لتنطقها دون ان تنتبه حقاً الى ما تقول. فعقلها ارسل اليها الاجابة فأخرجتها فوراً من فمها من دون تدقيق وتنقيح. فكل انتباهها لايزال داخل عينيه وهي تحدق بداخلهما:.

أ. ألبارحة اتصلت نسرين. وقالت انها ستأتي لرؤيتي. ولكنها اتصلت بي في الليل لتتعذر لي عن قدومها ف. فلم استطع الذهاب بعدها.
اذاً ما رأيكِ ان نذهب اليوم لزيارته؟ وان لم تكوني تمانعي فأنا ارغب بمرافقتكِ.
هزت رأسها ببطئ بالنفي ثم قالت:
لابأس. يمكنك ذلك.

منحها ابتسامة امتنان عريضة وانزل انظاره نحو صحنه مجدداً كما فعلت هي، ثواني حتى غزا موضوع اخر عقلها فأقتضب وجهها مجدداً لتتخلص من ذلك الذهول الذي كان يسيطر عليها ورفعت ابصارها اليه وهي تقول بهدوء وبنبرة جافة:
ان لم اكن مخطئة. ألم تتحدث قبل قليل مع شريكتك تلك مايا حول خروج ما. فهل سترافقني وتتركها؟
اجاب بتلقائية وعدم اهتمام:
اجل. طلبت ذلك ولكني اعتذرت لها ولن اخرج.

انزل ابصاره مرة اخرى الى صحنه ليكمل تناول طعامه ولكنه فجأة هو من توقف عن المضغ هذه المرة ورفع نظره ببطئ اليها مفكراً بينما هي كانت مشغولة بالاكل غير منتبهة له، تلك النبرة. وتلك التعابير. وطريقة السؤال. أيعقل انها،! عاد ليهز رأسه بالنفي مرة اخرى طارداً فكرة غبية اخرى عن عقله وعاد ليكمل طعامه دون ان يلاحظ ان ذلك الاقتضاب الذي كان يحتل وجه ريم قد اختفى تماماً بعد جملته الاخيرة!.

انتهى الفطور وتولت ريم امر غسل الصحون ثم بدأت بتجهيز نفسها. وبالتأكيد قد اتشحت بالاسود بالكامل فحتى حذائها حرصت ان يكون لونه اسود. ارتدت بنطال طويل وقميص قد فتحت اول زر من ازراره لتبرز قلادتها الماسية بين عظمي رقبتها ورتبت شعرها ورفعته كله نحو الاعلى كعادتها.
خرج ادم في اللحظة ذاتها التي خرجت فيها من غرفتها فأصابه الشلل التام في كل انحاء جسده وهو ينظر اليها...

بكل حالاتها. وبأي شيء ترتديه. فلابد ان تأسر عقل ادم. هذه الفتاة لديها ميزة الجمال في كل شيء تلبسه! هي من تعطي للملابس جمالها وليست الملابس من تعطيها الجمال. فحتى وان ارتدت قطعة قماش ممزقة كانت ستبهره وستبدو فاتنة، فهي تستحوذ على تفكيره بأبسط افعالها واعظمها. بأناقتها تارة وبأهمالها لنفسها تارة اخرى، بهدوئها لحظة وغضبها فجأة في اللحظة التالية، بكل شيء فيها ادم مأسور. واقع بغرام ابسط تفاصيلها!

جلست على المقعد الامامي المجاور له وجلس هو خلف المقود لينطلقا بأتجاه المقبرة...
انقضى الطريق بصمت كالعادة الى ان وصلا بالقرب من قبر هزيم فوضعت ريم يدها على مقبض الباب تريد فتحه ولكنها توقفت فجأة وكأنها انتبهت للأمر لتوها والتفتت نحو ادم الذي اطفئ السيارة لتوه ويهم بأخراج المفتاح من مكانه ولكنه تجمد فجأة عن الحركة وابقى يده فوق المفتاح دون ان يسحبه وهي تسأله:.

ادم! كيف عرفت اين بالضبط قبر هزيم لتحضرني الى هنا مباشرةٍ دون ان ارشدك؟
حدق في وجهها بجمود قليلاً ويده لاتزال فوق المفتاح لم يسحبه حتى ثم اجاب بهدوء وملامح وجهه لاتزال ثابتة لاتحمل اي تعابيير:
لقد اتينا الى هنا انا وانتي مسبقاً لذلك بالتأكيد سأعرف مكانه.
وهذا مااسألك عنه! انا اسألك عن المرة الماضية. لقد كانت المرة الاولى التي احضرك فيها الى قبره فكيف عرفت مكانه من دون ان ارشدك؟

سكت قليلاً ثم اعتلت ابتسامة غريبة وجهه لم تفهم معناها وهو يجيبها بهدوء بينما يسحب المفتاح من مكانة:
لفد حالفني الحظ فحسب في التخمين.
ثم وضع نظارته الشمسية فوق عينيه وفتح بابه ونزل معلناً اختتام النقاش معها في هذا الموضوع. كما يفعل دائماً! زفرت بضيق ولم تشأ اعطاء الموضوع اهمية خاصة. فهي الى هذه اللحظة يرعبها ان تهتم بموضوع يكون ادم طرفاً فيه لذلك تجاهلته فحسب حتى وان كان فضولها سيقتلها...

فتحت الباب ونزلت من بعده واتجهت فوراً نحو قبر اخيها بينما هو بقي واقفاً بالقرب من السيارة يريد ان يمنحها بعض الخصوصية بمفردها لتتحدث بحرية مع قبر هزيم، وللغريب وجدت نفسها لاتصرخ هذه المرة. ولاتجهش ببكاء وكأن هزيم مات لتوه. بل انسابت دموع اشتياق دافئة بهدوء فوق وجهها وهي تمنحه ابتسامة بسيطة بينما تحدق في القطعة الرخامية التي نقش عليها اسمه وهمست له قائلة:.

مرحباً ياعزيزي. اعتذر لأني لم احضر الاسبوع الذي مضى. ولكن ذلك بسبب اختنا الكبرى الحمقاء!
ضحكت ضحكة بسيطة وهي تكمل وكأنه اجابها:
اجل لاتزال كعادتها تتأخر عن مواعيدها!
وقت اخر استغرقته في الصمت لاتفعل شيئاً سوى التحديق الى ان قالت بدفئ:
لقد، لقد بدأت اتخلص من ادماني اخي. اعني، ادم من بدأ يخلصني منه!
سكتت لثواني لاترغب في قول الجملة التالية. ولكنها مجبرة. فهي لاتخفي اي شيء عن اخيها!

أ. أنه لطيف معي، وهو نوعاً ما يذكرني بك! فلو كنت انت مكانه كنت ستفعل الشيء ذاته معي، ستفعل معي مالم يهتم الاخرون بفعله! لكن لاتتفائل لست واقعة بغرامه او ماشابه. أ. أنا فقط، فقط ممتنة له، ولن امنحه سوى الامتنان!

مرت عليها دقائق اخرى وهي تهمس بعباراتها التي تحملها موجات الهواء نحو قبر اخيها الى ان اسكتها خطوات آدم التي تقترب من القبر. سكتت عن الحديث من دون ان تلتف اليه الى ان اقترب عطره كثيراً منها وامتدت يده بباقة زهور التوليب المغلفة بأتقان ووضعها فوق القبر، تبسمت بدفئ وقالت له:
أتعلم، كان يحب هذه الزهور كثيراً!
قال لها بنبرة هادئة بينما يجلس قربها يحدق معها بشاهد القبر:
أحقاً؟
اومأت كأجابة ثم اردفت:.

ان اراد ان يهدي لأحدهم زهوراً فلم يكن يختار سوى هذه!
نظر نحوها آدم بنظرة دافئة دون ان يجد مايعلق به، هو اكتفى بالنظر الى تلك الملامح الهادئة والحزينة، تلك الملامح التي سيفعل اي شيء في سبيل ان يجدها تتبسم!
مضى بعض الوقت جلست امام القبر يجاورها آدم يتبادلان بعض الحديث من حين لأخر. كلمات تخفي خلفها جمل عديدة كلاهما يفهمانها من دون ان ينطقها الاخر!

ركبت السيارة بالمقعد المجاور له فسألها بينما يدير المفتاح ليشغلها:
أتودين الذهاب لرؤية سامي؟
تغير برودها الى تعجب فوراً قبل ان تغتال هذه الدهشة بأجابتها المرتبكة:
أ. أجل. اود ذلك!
تبسم بينما ينطلقا بالسيارة:
حسناً. سأخذكِ اليه.
تبسمت بدورها وهي تعود للتحديق من خلال نافذتها. ولكن هذه المرة لم تسحبها ذكرياتها نحو ماضيها. بل سحبتها نحو ذلك المليء بالمفاجأت الذي يجاورها!
ها قد وصلنا!

قالها آدم بعد ان اوقف سيارته امام بوابة منزل اسرتها الحديدية الضخمة ففتحت بابها وهمت بالنزول ولكنها اخرجت قدماً واحدة فقط بينما الاخرى لاتزال بداخل السيارة وهي تلتفت اليه بتساؤل بعد ان ادركت قراره بعدم النزول وهي لاتراه يطفئ محرك السيارة او يهم بالخروج مثلها بل كان يبدو انه ينتظر خروجها ليرحل.
ألن تنزل؟
قالتها بأستغراب فألتفت اليها رافعاً حاجبيه بتعجب:.

أاا، لااظن ان ذلك سيبدو جيداً. اعني. انك قد تحتاجين بعض الخصوصية مع اسرتك. لذلك سأذهب واعود لأخذكِ عندما تنتهين.
سألته بجمود:
هل ستذهب لمقابلتها؟
قطب حاجبيه بأستغراب:
مقابلة من؟
مايا!
بالكاد كبح ابتسامته وهو يقول مصطنعاً البرود والجدية بينما رغبة القفز بالارجاء من فرط السعادة تجتاح كيانه:
لست ذاهباً لمقابلة احد ريم! سأذهب نحو الشقة لأبقى هناك ومتى اردتي العودة فقط اتصلي بي وسأعود لأصطحابكِ.

حافظت على تعابيرها جامدة من دون غضب او فرحة، هدوء او توتر. كانت تنظر له ببرود وبساطة!
لاداعي ان تذهب ثم تعود، انا ذاتاً لن اتأخر اكثر من ساعة لذلك رافقني الى الداخل وسنعود سوية نحو الشقة!
هل سيرفض؟ بالتأكيد لا! فريم هي من طلبت. واوامر هذه الفتاة تأتي في الدرجة الاولى لايجرؤ على ان يرفض لها طلباً!

اطفئ المحرك ونزل من مقعده ليزيد اندهاشه وهو يراها تقف عند باب السيارة تنتظره ولم تتجاهله كالعادة وتتقدمه تاركة اياه خلفها، هل يعقل انه خلق خطوة جديدة ستقربها منه؟
فتحت البوابة ودخلت يسير آدم بجوارها ولكنه توقف في منتصف الطريق فجأة وهو يستوقفها قائلاً:
صدقيني لااظن ان هذه فكرة جيدة. قد تستاء الانسة ميسم لرؤيتي ولا اريد ان افسد فرحتهم بقدومكِ بزيارتي هذه!
تأفأفت بضيق وهي تقول:.

كف عن هذه الحساسية آدم! ميسم لاتفكر بهذا الشكل!
رفع كتفيه بأستسلام وهو يقول:
حسناً اذاً. ظننتهم يشبهون تفكيركِ.
اطلقت نظرة نارية نحو ابتسامته الساخرة ودفعت اقدامها جبراً لتسير بعيداً عنه، هل ماقاله مضحك؟ لا! لما هي اذاً تبتسم!

غريب ذلك الشعور الذي يدخل خلسة كاللص الى صدورنا ويجعلنا نرى اشياءاً كنا نتعمد غض البصر عنها او انها لم تكن تثير اي اهتمام لدينا. وفجأة نجدها محط انتباهنا الشديد. نركز بالنبرة. نتمعن بالكلمات. نحلل النظرات! معكم مركز شرطة الحب ياسادة!
طرقت الباب الداخلي عدة مرات حتى فتحت لها الخادمة التي رحبت بها بهدوء وبآدم الذي يدخل لمنزلهم لأول مرة بعد ان اخذ ريم قبل اكثر من شهر من هنا!

دخلت ريم قبله خطوات الى الداخل وهو يتبعها. هو يعرف شعوراً كهذا. انه شعور صعب قد لايتقبله اي احد. فهذه الاسرتين لم يحل التآلف بينهما بشكل كامل بعد ولايعرف كيف سيكون رد فعل الاغلبية من زيارته هذه!

قفز سامي من فوق الاريكة فور رؤيته لريم واتجه اليها راكضاً والتي بدورها جثت على ركبتيها فوراً تفتح ذراعيها على اوسعها لتستقبله بين احضانها وتغرقه بأشتياقها وحنينها له كما يفعل هو. وآدم يراقب بذهول شخصية ريم المرحة التي يراها لأول مرة، اذاً هذا الطفل هو الوحيد القادر على استخراج ريم القديمة من تحت الانقاض؟
احاطت ريم وجه سامي بين راحتي يديها وهي تقول بلهفة:
كيف حالك ايها الشقي الصغير؟

انا مشتاق لك جداً عمتي.
وانا اكثر يااميري العزيز!
ثم ادار بصره فجأة نحو آدم وانطلق اليه بحماس ووقف عند قدما آدم ورفع بصره اليه بأبتسامة وهو يقول:
مرحباً بك عم آدم. لقد انتظرتك في المرات السابقة ولكنك لم تأتي مع عمتي!
رفعه آدم من فوق الارض على غفلة فوق ذراعه وقبله بخفة فوق خده الوردي وقال:
وها قد اتيت هذه المرة من اجلك!
هل ستلعب معي؟ العم آدهم يلعب دائماً معي انا وهيلين!
أحقاً؟ ومن هو العم ادهم هذا؟

انه والد هيلين.
اهاا، ومن هيلين هذه؟
انها ابنة العمة نسرين.
اووه. ومن العمة نسرين؟
فحاولت ريم كتم ضحكتها على منظرهما الطفولي وهي تهدده قائلة:
آدم!
نظر نحوها مدعياً البرائة وهو يقول:
ماذا؟ انا اسأله فقط؟
اومأت مدعية الجدية:
اووه حقاً؟ وانت لاتعرف نسرين وهيلين؟
رجال يتحدثون مع بعضهم لما تستمر النساء بحشر انفسهم بهذه المواضيع؟

قطع عليهم مناقشاتهم اللامتناهية صوت بلقيس وهي تخرج من المطبخ وتجفف يديها وتقول بلهفة:
يااهلاً وسهلاً بكما!
صحيح انها تعجبت من زيارة ادم ولكن تعجبت بشكل مفرح. فمن منظر وقوفه مع ريم يبدو ان علاقتهما في تحسن! ولكن ليس هذا مااثار قمة دهشتها. بل كانت ابتسامة ريم وهي تلتفت اليها لتلقي عليها التحية! تلك الابتسامة التي لم تكن تمنحها لأحد سوى سامي وهبتها لأمها ببساطة وهي تقول بهدوء:
مرحباً امي!

تقدمت امها خطوات نحوها وضمتها اليها وهي تقول:
مرحباً بكِ صغيرتي. لم تزورينا منذ فترة!
رفعت ريم يديها بتردد واسكنتهما فوق ظهر والدتها وشعور دفئ غريب يتسلل الى داخلها، لاتعلم لماذا ولكن زيارتها لأسرتها تبدو مختلفة هذه المرة! ربما انها اشتاقت لهم بالفعل، او ربما بسبب ادم وتلك نسمات الدفئ والامان الهادئة التي يبثها بداخلها متى ما كانت بجواره، او ربما هم السببين معاً!

صافحت بلقيس آدم بأبتسامة والذي لم ينزل سامي بعد من بين ذراعيه، ولسبب غريب لم يفهمه الاغلبون وجدو ترابطاً غريباً يجمع مابين ادم وسامي، رابطاً كان لآدم الفضل في انشائه منذ زيارته تلك لريم قبل زواجهما!
خطوات فوق السلم جعلت الثلاثة يلتفتون بترقب، انها ميسم!

سينقبض وجهها ماان ترى آدم. ستقطب حاجبيها. ستمنحه نظرات نارية. ستلوم ريم على احضاره، هذه هي التوقعات التي خطرت ببال الثلاثة، توقعات ذهبت ادراج الرياح وهم يشاهدون ميسم تتقدم نحو آدم بأبتسامة وتمد يدها للمصافحة وهي تقول بلطف:
مرحباً بك آدم. جيد انك اتيت.
مد آدم يده وهو يحول نظرات الاستغراب مابين عينيها وعينا ريم التي لايقل استغرابها عنه!
صافحها بهدوء وهو يقول:
اهلاً بكِ مدام ميسم.

ارجوك! ميسم فقط. لاداعي لهذه الرسمية فأنت لست غريباً.
تبسم آدم وهو ينظر نحو ريم. ضحكة تعرفها ريم جيداً، سيبدأ المعلق الرياضي بأطلاق السخريات. ضيق مابين عينيه وهو يقول:
يااللهي ريم، من اين ورثتي انتِ اطباعكِ بالضبط؟
ضحكت ميسم وهي تلتفت نحو ريم وتقول:
مرحباً حبيبتي!.
عانقتها ريم وهي تعلق ابصارها المقتضبة بآدم وقالت:
اهلاً عزيزتي!

جلسو في الصالة يتبادلون الحديث والضحكات والجميع لاحظ الحيوية التي بدأت تعود شيئاً فشيئاً لجسد ريم بعد ان كانت دائمة الخمول والاقتضاب. صحيح لم تكن تضحك او تلقي النكات كما يفعل ادم وكانت تكتفي بالصمت اغلب الوقت ولكنها على الاقل كانت تبتسم بين الحين والاخر. ابتسامة لم تشاركها اياهم ابداً في الماضي، والجميع لاحظ تأثير آدم على ريم، الجميع عدا ريم نفسها!

مرت دقائق حتى اصر سامي على آدم ان يخرج معه الى الحديقة كي يلعبان رمي كرة البيسبول. بقيت ريم جالسة حيث هي. ولكن نظرها لم يكن حيث كان! ادارت رأسها بأتجاه نافذة الصالة تراقبهما، بل تراقبه! يملك بنية رياضية. ابتسامة مميزة. عيون فيروزية ساحرة. يملك شخصية تتناسب مع كل الشخصيات التي تحيطه، صغار او راشدين. معقدين مثلها او لطفاء مثل ميسم، لحظة، ميسم؟ لم تكن تطيق ادم بالسابق ولم تكن تخرج من غرفتها ان حضر. ولكن الان بدت لطيفة جداً معه ولم تمانع علاقته القوية هذه بسامي! التفتت ريم اليها بأستغراب حيث كانت تجلس على الاريكة المقابلة تتحدث مع بلقيس. اطالت لتحديق بها، تبدو مرتاحة ولاوجود للضيق ابداً على محياها. ريم تعرفها جيداً. فميسم ذات قرارات ثابتة نادراً ماكانت تتراجع عن قراراتها. وبالتأكيد هذا ال نادراً لم يكن يحصل سوى مع هزيم!

لم تهتم ريم كثيراً للأمر ووجدت راحة غريبة تغزوها من ان آدم انسجم بسرعة مع افراد اسرتها!
ميسم عزيزتي؟ أليس من الافضل ان تأخدي معطف سامي اليه بدل ان يصاب بالزكام مع هذا البرد القارص!
اجل. اظنك محقة عمتي!
قامت من مكانها لتخرج المعطف تلبسه لسامي بينما اتجهت ريم مع امها للطبخ تساعدها بأعداد وجبة خفيفة.
خرجت ميسم الى الحديقة واول ماشاهد سامي المعطف بين يديها تذمر بسخط وهو يقول:.

امي ارجوكِ! انها ليست بتلك البرودة!
تبسمت ميسم بينما تلبسه المعطف وتقول:
كف عن التذمر ايها المشاكس، اذهب لتلبس قفازاتك ايضاً.
ان لبست القفازات هل ستشترين لي ذلك القطار اليوم؟
يالك من فتى عنيد حقاً، اخبرتك اني سأشتريه ماان نذهب نحو المركز التجاري.
عبس وجهه وهو يقول:
ولكني اريده اليوم!
يمك. يمكنني اصطحابه ان لم تمانعي لأشتري القطار له.

نظرت ميسم بأبتسامة نحو آدم المتردد بطلبه. هل ستسلم ابنها لأحد افراد العائلة التي قتلت زوجها؟ نعم هي اكثر لطفاً من ريم في تعاملها معه ولكن لن يصل الامر الى سامي بالتأكيد س.
هذا لطف منك آدم شكراً لك.
رفع حاحبيه بتعجب وهو يقول:
ألا بأس بذلك؟ هل ستتركيه يذهب معي ببساطة؟
كتفت يديها امام صدرها وضيقت عينيها بمزاح وهي تقول:
ماذا؟ ألم تتوقع ان اوافق؟ لذلك مثلت دور الشهم والان تراجعت عندما اصبح الامر جدياً؟

فبادلها مزاحها وهو يحك ذقنه ويمط شفتيه ويقول:
علي ان افكر مستقبلاً قبل ان اتبرع بهذه التوصيلات المجانية واخسر اموالي على الالعاب!
فضحكت ونظرت نحو سامي وهي تقول:
اذهب بسرعة لتلبس قفازاتك قبل ان يغير العم آدم رأيه!
ومن دون تعليق ركض سامي الى الداخل فقال ادم:
يااللهي! يالكم من عائلة طماعة!

ضحكت ميسم ثم ابتعدت الضحكة رويداً رويداً عن وجهها الى ان تحولت الى ابتسامة دافئة وهي تحدق بآدم وبعدها قالت بنبرة ذات معنى:
سامي فتىٍ عنيد. انه يشبه اباه كثيراً بهذه الصفة. ان اراد شيئاً لابد ان يحققه. ألا توافقني الرأي آدم؟
نظر اليها وتلكأ في حديثه لتتبعثر الحروف فوق شفتاه من دون ان تصل لمسامع ميسم التي اكملت بأبتسامة اكثر دفئاً:
اذاً، مر وقت طويل ياادم!

عند هذه النقطة بدأ الارتباك يظهر بوضوح على تقاسيم وجهه ثم تبسم بأستسلام في النهاية وهو يقول:
اذاً. فقد تذكرتني!
في البداية لا! وبعدها شككت بأمرك، فأخرجت بعض صوره التي كان يحتفظ بهن في مكان خاص ووجدتك، وتذكرتك!
قلب بصره فوق الارض قليلاً وهو يعبث بالعشب بطرف حذائه وتمتم بتردد:
اذاً، هل ستخبريها؟
وبعدها نظر اليها بترجي ليردف:
اتمنى ان لاتفعلي!

لما لا؟، هذه ستكون نقطة لصالحك، اعلم انك تحبها بشدة وتود منها ان تبادلك احساسك هذا، ألن يكون هذا من جانبك؟
تبسم ابتسامته العاشقة وصورة ريم تتخاطر على عقله وهو يقول:.

نعم! ستسامحني. وربما ستحبني. ولكن لااريدها ان تحبني وانا الفتى الصالح. اريدها ان تحبني رغم ماتظن اني امتلكه من اخطاء وذنوب. اريد ان تحبني كما انا مثلما احببتها انا مثلما هي! ان احبتني وهي تراني الجحيم بحد ذاته. عندها سأطمن انها لن تتركني الى الابد!
تبسمت وهي تفهم مقصده لتقول:
تحبك وانت الفتى السيء لتتمسك بك اكثر عندما تكتشف انك الفتى الصالح!
ضحك وهو يقول:
شيء من هذا القبيل!

انفتح باب المنزل من جديد ليخرج منه سامي متدثراً بوشاحه حول رقبته وقفازيه الصوفيتين ونزل المدرجات ليتوجه نحو الحديقة حيث يقفان. اعادت ميسم بصرها بأتجاه آدم وقالت له قبل ان يرحل هو وسامي:.

ريم كالمحارة ياآدم، قد تبدو لك صلبة من الخارج، ولكن مابداخلها لاشيء سوى النقاء والبياض، قسوة الحياة معها هي من جعلتها ترتدي ذلك القناع الجليدي، لذلك لاتتخلى عنها ابداً ارجوك، اعطها فرصة فقط وانا متأكدة انها ستقع بغرامك عن قريب!
اتخلى عنها؟ هل جننتي ياميسم؟ بعد كل هذه السنين اتركها بهذه البساطة؟
تبسمت بأمتنان وهي تقول:
اعلم انك لن تفعل. واعلم انها لن تجد افضل منك!
انا جاهز عم آدم هل نذهب؟

اخترقهما صوت سامي فرفعه أدم فوق كتفيه وهو يقول:
هيا بنا اذاً جلالة الملك!
خرجا من البوابة وميسم تراقبهما بأبتسامة! رفعت يدها لتتلمس بأطراف اصابعها قلادتها التي تحتوي صورة هزيم، رفعت الميدالية نحو انفها وكأنها تستنشق رائحة هزيم من خلال صورته وهمست له بحب:
لقد اشتقت لك كثيراً ياحبيبي العنيد!

دخلت ميسم بأبتسامة خفيفة فوق ثغرها وذكريات هزيم عالقة في عقلها تشعل نار الاشتياق بقلبها طوال ايام حياتها من دونه!
دخلت نحو المطبخ تساعد ريم وبلقيس في مايفعلانه وهن في اثناء ذلك يتبادلن اطراف الحديث والابتسامات دون ان تدرك ريم برحيل آدم وسامي، ودون ان تدرك ميسم ان مافعلته بسماحها لآدم بأخد سامي سيغير حياة آدم وريم الى الابد!.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة