رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع عشر
نبضات..
كيف تعرف انك وقعت بالغرام؟ لاتتفائلو بالمعرفة. لاتتحمسو للأجابة، فأنتم لن تعرفو ابداً! وان عرفتم فوراً ففي الحقيقة انتم لستم واقعين في الغرام بالفعل!
ستجد نفسك تعيش داخل تناقضات تجعلك متوتر ومشدود الاعصاب بشكل غريب، ستضحك لسبب تافه. ولكن ستبكي لسبب اكثر تفاهة. هذا ماسيراه الناس. دون ان يعرفو ان ذكراه دفعتك للأبتسام والشوق اجبرك على البكاء!
ان نقع في الغرام هو ان نهتم بتفاصيل تافهة لانهتم بها مع سواه، ان تغضبنا اشياء لاتستحق وتفرحنا اشياء بدون معنى!
ستلتقي اعيننا لتوصل احاديث مكتومة نخشى الافصاح عنها. لذلك من يتجنب النظر اليك اعلم انه واقع بغرامك بشدة ويخشى من عيناه ان تفضحاه! ستجده شديد. ولكنه يصبح ضعيف امامك! عنيد. ولكنه يطيعك! يحب الصمت. ولكنه سيعشق الثرثرة بجوارك! الحب عبارة عن تناقضات جميلة ومشاعر غريبة تجتاحنا ليعصف بداخلنا شيء نختبره للمرة الاولى، نبضات!
(نزلت ميسم من سلم البناية المتواجدة فيها شقتها. بناية لطيفة. ولكن ليست فخمة بكل تأكيد! بناية تعكس بوضوح الحالة الاجتماعية المضطهدة التي يعيشها اصحابه!
انشغلت بوضع اشيائها الاخيرة داخل الحقيبة لتحكم اغلاقها جيداً قبل ان تنطلق مسرعة بأتجاه المتجر قبل ان تتأخر وتنال ثرثرة ليست بحاجة اليها من مديرتها منذ هذا الصباح الباكر!
صباح الخير!
التفتت دفعة واحدة بأتجاه هزيم الذي يقف بجوار سيارته امام بناية شقتها. رغم نبضات قلبها التي تسارعت بمجرد رؤيته ألا انها لم تتفاجئ بهذا الظهور. فهي معتادة على ظهوره فجأة امامها كل يوم على مدار شهر كامل. في مركز التبضع، في معرض الفنون الاخر، في الساحة العامة، هذا من غير ظهوره اليومي في المتجر!
مطت شفتيها بملل ثم زفرت بتضايق وهي تكتف يديها لصدرها وتقول: انت بالفعل عنيد. أليس كذلك؟
اقترب منها وهو يدس يديه داخل جيوبه وقال بأبتسامته العذبة وهو يغوص داخل عينيها بشوق وكأنه لم يراها منذ سنة وليس وكأن اخر لقاء جمعهما كان في الامس!
قال بعد ان وصل اليها: لقد حذرتكِ من اني اكثر انسان عنيد ستقابليه في حياتك!
قاومت بشدة تلك المشاعر ورفضت ان تسيطر عليها بأي شكل من الاشكال لذلك ابقت ملامحها جامدة خالية من اي ابتسامة وقالت بنبرة تحمل بعض الاستياء: سيد هزيم. وانا اخبرتك منذ البداية ان الطريق الذي تسير فيه لانهاية له وانك ستتعب كثيراً. لذلك انصحك بالاستسلام والبحث عن غيري.
في الحقيقة حاولت. ولكن القياسات قد نفذت!
فقالت بنبرة اكثر حدة:
هزيم انا جادة!
ندمت فوراً على فقدان اعصابها وهي تشاهد ابتسامته تتوسع اكثر ليقول:
واخيراً لفظتي اسمي من دون سيد! يااللهي! اول مرة ادرك ان اسمي جميل هكذا! من الان فصاعداً سأسعى دائماً لأغضابك لأسمعه منكِ!
اشاحت وجهها جانباً لتتحكم بأرتباكها قليلاً ثم اعادت بصرها اليه وقد شاهد بعض الالم داخل عينيها وهي تقول بترجي:
سيد هزيم، انا اتوسل اليك ان تتركني وشأني.
سكت هو لثواني هذه المرة لتشاهد انعكاس آلمها داخل عينيه ايضاً وهو يجيبها بنبرة لاتحمل اي نوع من المزاح:
أتظنيني لم احاول؟
صمتت تاركة المجال له ليتحدث من دون ان تقاطعه. فقال بأبتسامة يسخر بها من نفسه:
حاولت ذات مرة، اردت ان اتأكد من طبيعة مشاعري نحوك. ربما هي مجرد اعجاب. ربما لااحمل لكِ هذا الحب الذي اتخيله والذي لااعرف مصدره ولاسببه.
ثم اقترب خطوة اخرى منها يقلب عينيه داخل عينيها ليكمل بهدوء:.
هذا الحب الذي لم يصيبني طوال حياتي. والذي لم اتوقع ان له وجود في الواقع. لم اتخيل ان النظرة اكثر من كافية لتجعلني اغرق فيكِ اكثر!
تحولت نظراته لدفئ اكثر وهو يرفع يده ببطئ نحو وجهها ولكنه اوقف اصابعه على مقربة من خدها ولم يلمسها. عصر قبضته بقوة واعاد لينزل يده غير سامحاً لضعف مشاعره ان تغضبها. فأكمل:.
لذلك. حاولت شغل نفسي في العمل لمدة يوم كامل. حاولت بشدة ان لااراكِ، ولكني لم استطع، هناك شيء ماينقصني اذ لم اراكِ. اشعر بفقدان شيء. اشعر ان يومي غير مكتمل.
لم يتسطع اخفاء الحزن بنبرته وهو يكمل:
انا اكره هذا الضعف فهو يؤذيني، يؤذيني لأني اعرف انكِ لاتبادليني هذه المشاعر وان نهاية الامر قد تكون مؤلمة جداً لي. ولكني ببساطة لااستطيع ترككِ فحسب!
ارتجف فكها السفلي يخفي خلفه عبرة مكتومة وقالت بصوت مهزوز:.
رائع، من اي كتاب بالضبط حفظت هذا الكلام واتيت لتلقيه على مسامعي؟
فقال بأستنكار:
عفواً؟
فأجابت بغضب شاهده يكتسحها للمرة الاولى:
سيد هزيم انظر حولك، انظر للحي الذي اسكنه. للبناية التي اقطنها. انظر بتمعن واخبرني ماذا ترى؟
اجابها بحزم:
انا لاارى سواكِ.
ولكن مجتمعك سيرى! ويوماً ما انت سترى ايضاً! سترى تلك الفتاة من الطبقة الفقيرة التي تقبض راتباً شهرياً ربما يعادل مصارفيك الاسبوعية! انا وانت غير مناسبين لبعضنا ابداً، لأني اعرف انك في الحقيقة لاتحبني!
فهتف بها بحدة:
ماذا؟
لتجيبه بحدة اكبر:
هذه هي الحقيقة حتى وان انكرتها بل وحتى وان لم تدركها، ماتحمله نحوي هو مجرد كبرياء رجل ثري لم يتحمل رفض فتاة له. ستفعل المستحيل لتكسب حبي فقط من اجل ارضاء غرورك.
لو انك فقط تكفين عن مشاهدة الافلام لكنا بخير الان اقسم لكِ!
ومن دون ارادة منها وجدت ضحكة تنطلق وسط هذا الغضب كتمتها فوراً وهي تضم شفتيها لبعضهما وتشيح وجهها جانباً، تحكمت في نفسها قليلاً ثم عادت تنظر اليه مدعية الثبات وهي تقول:
سيد هزيم انت ف.
انا احبكِ!
بترت عبارتها فوراً بمقاطعته هذه. ازدردت ريقها بصعوبة وهي تشعر بقلبها يسد لها حنجرتها! تحركت شفتاها تريد نطق كلمات تجعلها تدعي الثبات وعدم تأثرها بهذه الكلمات التي سمعتها عشرات المرات من غيره من دون ان تتأثر ابداً ولكن صوتها خانها عن الخروج! اقترب خطوة اخرى منها وهو يكمل:
لا، انا اعشقكِ، لاتسأليني كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟، انا لااعرف، انا احبكِ فحسب، احبكِ بجنون!
قالت بتلعثم وصوت مرتجف:.
ك ك كف عن. عن هذه السخافة!
فأجابها بثقة:
ميسم، هل تحبيني؟
ب ب بالتأكيد لس.
وقبل ان تكمل قاطعها وهو يضع يده برفق على فمها، ثواني وانزل يده ليقول:
لااريد سماع اجابتك الان. فأنا متأكد انك ذاتاً لاتعرفين طبيعة مشاعركِ نحوي.
ادخل يديه مرة اخرى في جيبيه ليتنهد ويقول:
ربما سنة كافية لجعلك تفهمين طبيعة مشاعركِ نحوي!
قطبت حاجبيها بعدم فهم ليكمل بأسى:.
بعد اسبوع سأسافر لأدرس معهد ادارة الاعمال خارج البلاد. لذلك سنة كاملة لن تريني فيها. وبالتأكيد ستعرفين طبيعة مشاعرك في هذا الوقت.
لايمكنها ان تنكر الالم الذي احست به يعتصر قلبها وهي تتخيل ان سنة كاملة ستمر من دون ان تراه! قلبت عينيها في الارجاء بعيداً عنه كي لايشاهد خيبة الامل تلك التي سيطرت عليها وقالت بهدوء:
هل، هل ستدرس لمدة سنة؟
في الحقيقة انهما سنتين!
فألتفت اليه دفعة واحدة يغلف الاستنكار ملامحها، استنكار دفعه للأبتسام فوراً وادرك ماتحاوله هذه الفتاة نكرانه، قال لها موضحاً:
ستمر سنة وسأعود لأسألكِ ذات السؤال، وحينها فقط يمكنني ان اعرف. هل ستكونين برفقتي بسنتي الدراسية الثانية ام سأكون وحدي!
سكتت وهي تنكس رأسها بحزن تحاول قدر الامكان اخفائه وتفشل!
ميسم؟!
رفعت رأسها اليه ليقول بأبتسامة:.
أيمكنك قبول دعوتي لأحتساء كوب قهوة معاً، اعتبريها هدية وداعي قبل السفر! لقد تواعدت انا واختي ريم في الالتقاء باحدى المقاهي بعد نصف ساعة. مارأيك ان تنضمي لنا؟!
لاتعلم كيف سيطرت على دموعها، ولاتعلم كيف خدعتها ابتسامتها وارتسمت فوق محياها تعلن ضعفها التام له هكذا ببساطة!
قالت بأسف صادق:
اتمنى منحك هذه الهدية سيد هزيم. ولكن عليك ان تعذرني فسوف اتأخر عن عملي.
حدق داخل عينيها قليلاً ليردف بنبرة مترجية:.
ألا. ألايمكنك التغيب عنه اليوم فقط؟
شعرت بالضياع داخل عينيها وكل شيء بداخلها يتوسلها ان تقبل. ولكن عقلها كان اكثر عناداً.
أنا. لا.
ثم بترت عبارتها وهي تشاهد خيبة الامل تغطي له وجهه فأعتصر قلبها بقوة متحدياً عقلها، لتعاند المنطق لأول مرة في حياتها وتفعل شيئاً هي غير مقتنعة به. ولكن قلبها يريد ذلك بشدة. يريد ان يستغل كل دقيقة وكل ثانية برؤيته قبل رحيله!
تبسمت وهي تقول:
حسناً، لاارى ضرر من تغيبي اليوم!
رفع حاجبيه بدهشة ليهتف بأبتسامة تشبه ابتسامة طفل قررت اسرته اخذه نحو والت ديزني فجأة:
أأنتِ جادة؟
استدارت تكتم ابتسامتها وسارت بضع خطوات وهي تقول:
حسناً ان لم تصدقني فلتنسى الامر!
ركض ليقف امامها ويوقفها قائلاً:
لالالا اصدق، اقسم لكِ اني اصدق!
لايعلم كيف قاد السيارة طوال الطريق. بل وكيف سارت السيارة من الاساس فوق الطريق بدل ان تحلق عالياً من شدة سعادته!
جلسا في المقهى متقابلين وميسم تحاول شغل نفسها بشرب القهوة كي تتهرب من نظراتها التي تتعمق داخل وجهها تكاد تتعلق به الى الابد، مرت دقيقة. ساعة، وساعات. دون ان يشعر احدهما بالوقت حتى!
الاحمق هنا يعيش جو رومانسي وانا انتظر تحت الشمس!
التفت كلاهما نحو ذلك الشاب الذي اخترق صمتهما فجأة وهو يقف بجانب الطاولة يسند يديه فوق خصريه متأهباً لقتل هزيم، ومن غيره صاحب التعليقات الساخرة، ادم!
التفت اليه هزيم بفزع ثم حول نظراته بسرعة مابينه مابين ميسم يحاول تنبيه ان يكون لبقاً بوجودها، فقال وهو يكز على اسنانه بغيظ:
ماالذي تفعله هنا يامفسد اللحظات؟
فسحب ادم كرسياً وجلس عليه من دون سابق انذار وهو يقول:
ألم نتفق اليوم على الذهاب نحو المركز الرياضي يااحمق؟
رفع هزيم عينيه نحو الاعلى يحاول التذكر ثم نظر نحو ادم وقال:
أهو اليوم؟
مط ادم شفتيه بسخرية وهو يقول:
لا بعد شهر يامدلل امك الصغير.
ضربه هزيم فوق قدمه من تحت الطاولة سراً يحاول تنبيهه لميسم التي تجلس معهم تراقب لقائهما الغريب هذا فألتفت ادم نحوها وهو يقول ليوقع هزيم في مشكلة:
اهاا. فهمت الان لما ضربتني، وهذه اي واحدة منهن بالضبط؟ أهي سكرتيرتك أم ابنة شريك ابيك ام تلك التي ستسافر معك؟ اووه لالا تذكرت هذه هي حبيبتك من النادي. صحيح؟
بقي هزيم يدير وجهه مابين ادم ومابين ميسم التي تنظر نحو هزيم بأستنكار تكاد تقلب الطاولة فوقهم وتخرج فهتف بأدم فوراً بتلعثم:
عن ماذا تتحدث انت يااحمق؟
ثم نظر الى ميسم ليكمل:
اقسم لكِ لاشيء مما قاله صحيح!
فقهقه ادم ضاحكاً وهو يقول:
كنت امزح فقط! اردت ان انتقم من هذا المزعج بسبب وقوفي في الشمس طوال تلك المدة، انتِ ميسم صحيح؟
تبسمت ميسم بأرتياح وهي تجيبه بلطف:
اجل.
وانا صديقه الجميل واللطيف والرائع ادم!
فأرتكز هزيم بمرفقيه على الطاولة وقال بأبتسامة:
ثواني قليلة وستصبح ذو الوجه المشوه ادم ان لم تضبط لسانك!
فنظر نحوه مدعياً البرائة:
ماذا؟ ماذا قلت انا الان؟
هزيم؟
نظر الثلاثة نحو الصوت الانثوي الذي اخترقهم هذه المرة. جميعهم نظرو بأعتيادية. عدا واحد فقط تعلقت ابصاره بتلك العيون الزرقاء. بذلك البحر الذي اغرقه من دون رحمة، وكانت تلك هي المرة الاولى التي التقيا بها ريم وادم، ورغم انها لم تنظر اليه سوى نظرة خاطفة ألا انه تعلق بملامحها بشدة! ترك المكان وخرج اول ماجلست كي لاتكتشف ان اخيها لديه صداقة مع احد افراد اسرة مراد. ترك المكان بسرعة ولكن ملامحها لم تترك مخيلته بذات السرعة ابداً. ).
كانت ليلة عاصفة بشدة. هطلت الامطار من دون توقف طوال الليلة المنصرمة مما دفع ريم للبقاء مستيقظة فترة اطول. فما ان تغفو عينيها لدقائق حتى يوقظها صوت الرعد القوي يدفعها للفزع من فراشها بقوة ولكنها تكتم صوت شهيقها المرتعب كي لايكشف ادم وجودها. دون ان تعلم ان جفنيه لم تغمض ولو لدقيقة واحدة وهو يشاهد هذا الخوف الذي يحتلها. تمنى ان يجلس ليطمأنها ولكنه خشي من رد فعلها وعنادها من ان تترك غرفته وتخرج لتبقى مرعوبة وحدها في غرفتها. لذلك اكتفى بالصمت وادعاء النوم ألى ان غلبها النعاس لتنام وعندها فقط تمكن هو من النوم!
لذلك وبسبب الارق الذي اصابها بالامس نامت بعمق في الصباح ولم تستيقظ على خروجه والذي تعمد ان يجعله هادئاً كي لايزعجها!
فتحت عيناها بتثاقل وانتقلت ببصرها في الارجاء. احتاجت لثواني قليلة حتى استوعبت اين هي؟! ولما هي هنا؟ قامت بفزع من فراشها لتجد فراشه خالي. اغرقت وجهها بوسادتها بحرج وهي توبخ نفسها وتلومها:
غبية غبية، جبانة غبية وحمقاء!
ثم حملت غطائها ووسادتها وخرجت من الغرفة واطراف الخجل والاحراج تتبعها! دعت الرب بكل جوارحها ان تكون الليلة الفائتة هي اخر ليلة سيهطل فيها المطر، ولكن الرب رفض عنادها هذا!
غيرت ملابسها وتناولت فطارها تحاول قضاء ملل الصباح لحين عودة آدم، قطع عليها هدوئها طرقات ضعيفة فوق باب الشقة فقامت بأستغراب وهي غير معتادة ابداً على استقبال الزوار في وقت خروج ادم من المنزل!
مضغت مابفمها من طعام واسرعت نحو الباب لفتحه، اول ماالتقت عينيها بعين الزائر غير المتوقع توسعت حدقتيها بذهول واقتضبت ملامح وجهها رغم ملامحه الهادئة، تمتمت من بين اسنانها بغيظ:
مراد؟
تقدم مراد خطوتين ليدخل حدود الشقة وعكازه الخشبي يتقدمه ليبقيه ثابتاً، وقف امامها مباشرة وحياها بلطف وادب:
مرحباً!
لتجيبه ببرود وحدة:.
كيف تجرؤ على القدوم هكذا ببساطة؟ وماالذي تفعله من الاساس هنا وانت تعلم ان ادم في العمل في هذا الوقت؟
دخل الشقة وهو يجيبها بثقة:
أما عن جرئتي في الحضور فلا اظن ان هناك شيء يمنعني من زيارة منزل حفيدي...
ثم التفت اليها ليكمل بحزم:
أما عن سبب زيارتي فهي ليست من اجل ادم. لقد اتيت لأتحدث اليكِ انتِ!
اغلقت الباب بعنف لتجيبه بحدة:
أنا وانت لن تجمعنا احاديث. هل فهمت؟، مايجمعنا هو الثأر فقط!
في تلك اللحظة فقط ادركت من اين ورث ادم هدوئه وصبره معها وهي تشاهد مراد يتجه بخطوات رجل عجوز نحو اريكة الصالة ليحتلها بجسده وهو يقول بهدوء:
مارأيك ان نتحدث بتفاهم انا وانتِ لمرة واحدة؟ فكما تعلمين عجوز مثلي لاقدرة له من الان فصاعداً لخوض الشجارات!
بقيت تحدق به بجمود تقلب الفكرة برأسها مابين عناد وقبول ألا ان تبسم مراد بلطف وهو يقول:
مارأيك ان تعدي من اجلنا بعض القهوة كي نكمل حديثنا بعدها؟
زفرت بضيق واتجهت للمطبخ على مضض. ليس من اجل مراد بالطبع ولكنها لم تشأ تخييب ظن آدم ان تجاوزت حدودها مع جده. لذلك خضعت للأمر أكراهاً!
غلت القهوة فوق الطباخ وقلبها يغلي معها. انه امر اصعب من ان تطيق تحمله. مراد هو الخط الاحمر الذي لن تقبل يوماً النقاش بأمره ابداً!
حملت القهوة له وجلست على الاريكة المقابلة لأريكته تضع ساقاً فوق اخرى وتكتف يديها الى صدرها في وضع التحفز والتهيأ لحديثه الذي اتى من اجله، مد يده الى الفنجان بينما الاخرى تستكين فوق العكاز وقال بينما يقرب الفنجان من شفتيه:
أتمنى انكِ لم تضعي فيه السم؟
فأجابته بملامح مقتضبة:
ولماذا أمنحك الراحة واحرم عنك هذا الجحيم الذي اعيشه؟
تنهد من دون جواب واكتفى بشرب القهوة بصمت. كسر السكون من جديد صوت الفنجان وهو يستقر داخل صحنه ليعيد مراد كلتا يديه فوق عكازه وهو يتنهد بحسرة، صمت لثواني يرتب كلماته وريم تراقبه من دون اي رد فعل او تحثه على الحديث ألى ان قال:
أتظنين ان هذا هو التصرف الصحيح؟
قطبت حاجبيها بتساؤل وهي تقول:
اي تصرف؟
ان تحملي كل هذا الكره لنا؟
استفزتها هذه الكلمة كثيراً لتقول له بحدة:.
عندما افقد اخي الوحيد. فنعم هذا التصرف صحيح!
اومئ برأسه متفهماً قبل ان يردف بضعف خلفه غصة دموع يكتمها:
أتفهم شعوركِ هذا.
ثم نظر لها بانكسار ليكمل:
ولكن هل بأمكانك انتِ ان تتفهمي مشاعر من فقد ابنه البكر وحفيده الصغير؟
فجأة انقبضت معدتها وهي تتخيل صورة مصطفى وتفجرت الدموع داخل عينيها من دون ارادة منها لينكسر كل حصن منيع بنته حولها مدعية به القوة. فقال لها فوراً:.
انا اقدم اعتذاراتي. لم اقصد اذيتك بكلامي ولااشعارك بالذنب، ولكن اردتك ان تعرفي ان هاوية الثأر سحبت من كلانا اعزاء على قلوبنا، سحبتهم من بيننا ونحن نقف نتفرج ولانتعظ!
مسحت دموعها بأطراف اكمامها وقالت بصوت مهزوز:
لايمكنني التخلص من تلك النيران التي تجتاحني بفراقه، انت لايمكنك ان تدرك ماكانه يعنيه هزيم لي!
بل اعرف ايتها الشابة، اعرف جيداً! وموت هزيم كسرنا بقدر ماكسركِ ياابنتي.
نظرت اليه بأستغراب وهو يتنهد وذكريات من الماضي تتخاطر على عقله ليكمل:
ذلك الشاب من الاشخاص الذين تخلدو بقلبي قبل ذاكرتي!
فقالت ريم بعدم فهم:
لحظة. أكنت تعرفه؟ أعني معرفة شخصية؟
استمر بالنظر اليها لثواني قبل ان يجيب:
هزيم كان الشاب الوحيد من اسرة ياسين الذي كانت تربطنا به صداقة قوية، وهذه الصداقة كان الفضل لهزيم بتكوينها لرغبته الشديدة في انهاء الدم بين الاسرتين!
فهزت رأسها بعدم تصديق وهي تقول:.
هذا مستحيل. مستحيل ان تربطه صداقة بكم. لكنت عرفت بذلك قبل الجميع!
بالعكس تماماً. انتي اكثر الاشخاص الذين اصر هزيم ان لاتعرف بشأن دخوله الى منزلنا وعلاقته بأفرادنا!
قطبت حاجبيها بأستغراب ليكمل موضحاً:.
هو كان يدرك جيداً قلقك عليه. وان عرفتي بهذا الامر فمن المستحيل ان تسمحي بأن يستمر بلقائه بنا تخشين عليه من الاذية وان اقتضى الامر ستخبرين الجميع كي يمنعوه وبذلك سيتهدم كل مابناه. ومن اجل هذا اخفى الامر عنكِ. كي يحقق هدفه!
قلبت بصرها فوق الارض لثواني قبل ان ترفعه نحوه بحدة لتقول:
هل تقول هذا فقط كي تثبت برائتك من قتله؟ أتظنني سأصدقك؟
ايتها الشابة انا لاانوي اثبات شيء. وبرائتي تم اثباتها امام الشرطة ولست احتاج اثبات شيء اخر وكل ماافعله الان هو فقط من اجل اخيكِ. فهذا الكره الذي يغلي بداخلكِ اتجاهنا يؤذيكِ اكثر مما يؤذينا!
ثم اخرج صورة من جيبه ووضعها فوق الطاولة ليردف:
عرفت انكِ لن تصدقي، ربما هذه ستكون كفيلة لتجعلكِ تصدقين!
سحبت الصورة فوراً وتوسعت عينيها بصدمة وهي تشاهد هزيم يجلس بين رباب ومراد وخلفه بعض افراد اسرة مراد، صورة عكست ابتسامتهم العريضة واجواء السعادة التي تحيطهم. كتمت فمها بيدها ودموعها تنزل من غير رحمة وهي تشاهد صورة جديدة لهزيم. وكأنه حي ولكن في مكان اخر. وكأنها في الامس فقط قد فقدته، لاتزال ابتسامته تلك مطبوعة في ذاكرتها لم يستطع شيء محيها ابداً، تلك البلوزة التي اهدتها لها لاتعرف اخر مرة رأته فيه يرتديها! تصفيفة شعره المميزة. عينيه العطوفة. كل شيء في قد افتقدته بشدة ووجدت غايتها بهذه الصورة!
ضمت الصورة بقوة اليها واحنت صدرها فوق فخذيها لتجهش ببكاء اقوى وهي تتمتم بأسم اخيها.
رق قلب مراد لها فقام من مكانه ليجاورها وهو يمسح على شعرها بلطف ويقول بألم:
يختار الثأر اعزائنا ليأخذهم منا ويتركنا شبه احياء من بعدهم!
فقالت من وسط نحيبها:.
سأدفع اي شيء مقابل رؤيته ولو لدقيقة واحدة، لضمه إلى لثانية من الزمن، اريد ان استيقظ لأجد ان كل هذا مجرد كابوس مزعج وسينتهي، اذهب الى قبره في كل مرة متمنية ان اقرأ الاسم بالخطأ واكتشف ان القبر لايحوي جثمان اخي الشاب الذي سلبه الموت مني جبراً! انا اشتاق اليه، اشتاق اليه بشدة!
اطلق تنهيدة تعكس نيرانه المستعرة وهو يقول:
اراد بشدة اصلاح الامور بين الاسرتين. وكاد ان ينجح، ولكن الموت اغتاله قبل هذا!
رفعت رأسها اليه ونظرت نحوه من وسط دموعها وهي تقول:
من قتله؟ ارجوك اخبرني. انا اتوسل اليك!
هز رأسه بيأس وهو يجيبها:.
اقسم لكِ اني لااعرف ياابنتي، ولااحد يعرف ماحصل في تلك الليلة بالضبط، انا لااحاول نفي الادانة عن افراد اسرتي بالعكس. نحن نجهل الحقيقة جميعنا، قد يكون احد افراد اسرتي من فعلها وقد لايكون. وربما هو مجرد قاتل غريب لايمت للأسرتين بأي صلة وقرابة. وربما نعرفه، جميع الاستنتاجات مرتبطة ب ربما، فلا احد يعرف الحقيقة ومازال موت هزيم يحير عقولنا ونريد ان نعرف من هو الذي له مصلحة بقتله، فبالتأكيد من فعل ذلك لم يشأ ان تنتهي دائرة الانتقام وهزيم كان يوشك على اصلاح كل شيء بين الاسرتين، لذلك تخلصو منه!
شهقت بجزع وكتمت فمها بيدها ليزداد بكائها قوة فأكمل مراد بعطف:
لذلك حاولت انا ان اكمل حلم اخيكِ. حلم اخيكِ بتوحيد الاسرتين معاً، لذلك اصررت على اختيار الدية امرأة بعد حادثة اغتيال ابني معتز ولم اطلب مال او نقوم بعملية اغتيال مماثلة، وجدتها فرصة لتحقيق ماكان يتمناه هزيم بكف الدماء بين الاسرتين. لعلي سأحقق رغبته الاخيرة. لعلي بهذا اشكره عما فعله ولااجعل تضحيته تذهب سدى!
عاد ليمسح على رأسها بعطف وهو يقول:
نحن نعرف كم كان هزيم يحبكِ لذلك ياابنتي انتي امانته التي لدينا. ونحن لانريد ان نشاهد امانته هذه التي استودعها لدينا تتعذب دون ان فعل شيء!
صمتت وهي تمسح دموعها وتحاول التماسك وتهدئة روعها قليلاً ثم نظرت له بترجي وقالت:
أيمكنني الاحتفاظ بهذه الصورة؟
تبسم وهو يجيبها:
بالطبع يمكنك ذلك!
فقالت بأمتنان:
شكراً لك!
وفي هذه الاثناء فُتح باب الشقة ودخل ادم ليتفاجئ برؤية جده هنا! القى التحية دون ان ينجح في اخفاء استغرابه من حضوره غير المتوقع. ادار بصره نحو ريم ليشاهد تورم عينيها من البكاء لينقبض قلبه بقوة ويعتصر بقسوة، فهذه القطرات الفضية هي نقطة ضعفه من دون منازع غيرها!
قال بعد ان احتل الاريكة المقابلة لهما:
متى اتيت جدي؟
فأجاب مراد:
قبل نصف ساعة تقريباً!
ولايزال كلاكما على قيد الحياة؟
رغم الحالة السيئة التي كانت تسيطر على ريم ألا انها لم تستطع منع نفسها من الابتسام من تعليقاته الساخرة التي لايكف عنها ابداً. فقال مراد يبادله مزاحه:
كنت انوي الان قتلها ولكنك حضرت في اللحظات الاخيرة!
فضرب ادم يديه ببعضهما مدعياً الاسف وهو يقول:
تباً للحظ، لو اني تأخرت خمس دقائق فقط!
ضحك مراد ونهض من مكانه قائلاً:
حسناً تولى انت هذا الامر، انا سأذهب!
ثم نظر نحو ريم بأبتسامة ليكمل:.
اتمنى ان يكون لقائنا القادم قريب.
اومأت بأبتسامة لطيفة من دون ان تعلق فودعها واوصله ادم نحو الباب ليودعه هناك ثم عاد نحو ريم التي تجلس على الاريكة وجاورها قائلاً بلطف:
أأنتِ بخير؟
وقعت دمعتان من مقلتيها وهي ترفع رأسها اليه لتومئ بأبتسامة ضعيفة:
اجل، افضل بكثير!
تبسم وهو يمسح خدها بطرف ابهامه برقة ويقول:
سعيد بهذا!
ومن دون توقعها كالعادة او توقعه وجدت نفسها تستكين برأسها فوق صدره وتلف يديها حول خصره وقالت بضعف:
أيمكنني ان ابقى هكذا قليلاً؟ انا بالفعل احتاج لهذا الان!
ضمها اليه بقوة ليهمس لها قائلاً:
ياليتك لو تبقين العمر كله هكذا!
لاتعلم لما فعلت هذا. ولاتعرف طبيعة المشاعر التي تسيطر عليها في لحظتها، ولكن كل ماتعرفه انها تحتاج احداً ما بجوارها، تحتاج ادم بالاخص اكثر من اي شخص اخر!