قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية قد زارني الحب للكاتبة سارة ح ش الفصل العاشر

رواية قد زارني الحب للكاتبة سارة ح ش الفصل العاشر

رواية قد زارني الحب للكاتبة سارة ح ش الفصل العاشر

لمسة حب..
لا بأس ان تكون مستغفلاً في بعض الاحيان لتكون بخير فمرارة الحقيقة ليست هينة ليتجرعها أي أحد. فبعض المرارة قد تقتلك. قد تعزلك عما يحيطك الى أن تتلاشى من بينهم دون أن يشعروا!
كل شيء هين. ولكن علاج الخيبة بأحدهم صعب جداً!
ليلة اخرى تمر عليها وهي تتعمد السهر لوقت متأخر تداري حزنها بعيداً عنهم. فقد تحملوا بسببها ما يكفي ولا ينقصهم بكائها ايضاً!

كانت تجلس في المطبخ تتستر داخل الظلام وتتعذر بشرب كوب من الحليب قبل النوم فقط لتهرب أطول وقت ممكن لوحدها.
اخترق الضوء فجأة عينيها وكشف ملامحها الباكية فرفعت رأسها لتجده رامي يدعك عينيه الناعسة وينظر نحوها باستغراب!
مسحت عينيها على عجل واتخذت نبرتها المكسورة مسار ثاني وهي تحاول ان تقول باعتيادية: - لم أظنك مستيقظ!
قال بينما يبعثر شعره ويتقدم بنعاس: - لست كذلك. استيقظت لتوي لأشرب الماء.

ثم نظر نحو ساعة المطبخ الجدارية ليجدها تشير نحو الثالثة وخمس وثلاثون دقيقة فعاد لينظر نحوها بتعجب: - ما الذي أيقظكِ لهذا الوقت؟!
- شعرت بالارق ففكرت بشرب كوب من الحليب.
تقدم نحوها بصمت واحتضن الكوب بيده دون أن يرفعه
فوجده خالياً من أي دفئ وهذا يعني أنه هنا منذ وقت طويل دون أن ترتشف منه شيء. أي أنه مجرد عذر!

سحب الكرسي المقابل لها وضم يديه الى صدره واتكئ بمرفقيه على المنضدة التي تفصل بينهما وقال: - حسناً. تحدثي!
طرفت برموشها المبللة من أثر الدموع وقالت بتردد: - أتحدث عن ماذا؟!
- عمّا تكتميه في صدركِ منذ ايام ولم تبوحي به!
سقطت دمعة على حين غفلة منها. كانت مشاعرها شفافة وضعيفة لدرجة أن اي شيء سيمسها ستنكسر وتكسرها أكثر.
فقال بتعاطف:.

- مرام. لن يخبركِ أحد ابداً أن ما تمرين به سهل وسيمضي بسهولة. لا. ستعانين، ستنكسرين، ستبكين. ولكن في النهاية ستنجين. عليكِ ذلك!
فقال بنبرة مهزوزة:.

- أنجو الى أين يا رامي؟ كنت أعيش حالة حلم تافه وأنا أتخيل بكل ليلة رد فعل أمي حين تعرف أن أخوتي هم من فعلوا ذلك. أتخيل كيف ستحميني وكيف ستقلب الدنيا رأساً على عقب فوق رؤسهم من أجل ما فعلوه بي. ثم أكتشف أنها قد عرفت كل شيء منهم ومع ذلك لم تقلب الدنيا على رؤوسهم ولم تقدم شكوى ضدهم للشرطة؟ ما الذي يحصل بحق السماء؟!

- مرام. فكري بمنطقية. ما الذي ستسفيده بتقديمها شكوى للشرطة ضدهم؟ أنها لا تنوي معاقبتهم بقدر ما تنوي انقاذكِ والعثور عليكِ. ودام أنهم قد اعترفو لها بكل شيء وطمنوها أنكِ غير ميتة فهنا هي لا تملك أي خيار آخر سوى مجاراتهم لحين العثور عليكِ.

زفرت بحيرة وهل لا تجد ما ترد به على ما قاله ثم مررت اصبعها على حافة الكوب تضيع به الوقت ثم رفعت زاوية فمها بابتسامة حزينة وقالت: - كنت ادرك أن لادعاء السعادة ثمن. ولكن لم أتوقعه ان يكون باهضاً هكذا!
- ماذا تعنين؟!

- كل شيء في حياتي جاء عكس التيار. لم أحصل في يوم على ما اريده فعلاً وكنت دائماً ارضى بالحلول البديلة وأقول من يعلم؟ ربما هي أفضل لي. ولكنها لم تكن يوماً افضل لي. وكنت أدرك ذلك وبالرغم من هذا كنت اجبر نفسي على الشعور بالسعادة!
قال بتهكم: - واحدة مثلكِ، الابنة الوحيدة لعادل سيف الدين، ما الذي قد تريده ولا تحصل عليه؟!

نظرت له بحسرة وقالت دون ان يجزم بالذي تعنيه بالفعل وسط تلك الابتسامة المريرة: - وما أدراك! فبعض الاشياء راقبتها لسنين طويلة دون ان اجرؤ على الاقتراب منها. الى الان على الاقل!

حدق داخل عينيها بذهول وشيء في قلبه قد ادرك لِما تلمح بالفعل فلم تشأ جعل مشاعرها أضحوكة له أو محل استحقار فنهضت على الفور تحمل كوبها لترمي ما يحتويه داخل حوض المغسلة وتبدأ بجليه. استغرق هو ثواني قليلة جالساً في مكانه يحدق نحوها بشيء من التشوش. شعرت بنهوضه وصوت انفاسه المتهيء لقول شيء ما مما زاد من نبضات قلبها متمنية لو أنه يتجاهل ما صرّحت به والرجوع الى غرفته. ولكنه لم يفعل!
- مرام؟!

قالت مدعية الاعتيادية من غير أن تلتفت نحوه: - أجل؟!
تلعثم لسانه متردداً ثم حسم أمره وقال: -في تلك الليلة التي اخذكِ أحمد فيها. قلتِ شيئاً ما.
توقفت يداها عن التحرك تحت مياه الصنبور الباردة وازدردت ريقها بصعوبة وهي ترد: - قلت اشياء كثيرة أنا حينها.
- طوال الخمس سنوات التي عرفتك بها دون أن تعرفني بها...
سكت لثواني ثم استأنف:
- ما الذي كنتِ تقصدينه؟!

اغلقت المياه وحاولت استجماع قوتها ثم التفتت اليه بينما تجفف يديها ببعضهما وهي ترد بنبرة يشوبها بعض الارتجاف:
- أعني كنت أتذكرك ولكنك نسيت امري.
اكمل جملتها المقتبسة من تلك الليلة:
- كنت أظنك مختلف عن البقية.
واستأنف كلامه:
- لا أظنها تعني مجرد هذا.
حدقت بعينه المشككة. حدق بعينيها الخائفة.
أضعفتها تلك العيون القاسية. جذبت انتباهه تلك العيون العسلية.
هل يموت الحب؟ هل يولد الحب بعد كره؟!

وكأن تلك الافكار التي تدور بعقل كليهما امتزجت مع بعضها في لحظة صمت ساكنة وسط عتمة الليل لتتعرى المشاعر وتُستباح فيخفق قلب للمرة الاولى. وآخر للمرة الالف!
لم تنطق في لحظتها شيء. ولم يطلب منها ان تفعل. فذلك التشوش كان كافياً ليجعلهما يتهربان من بعضهما الاخر وتهرب هي نحو غرفتها وتغلق بابها بأحكام وكأنها تحاول أن تحجز قلبها وخفقانه داخل هذه الجدران بدل أن تقتلع الباب وتصل لمسامعه.

نامت على سريرها تحدق في السقف بعيون واسعة. وفي اللحظة التي كانت تظن بأنها ستبدأ بالهدوء زلزل قلبها من جديد صوت منبه الرسائل بهاتفها الذي أيقظ رزان وهي تقول بانزعاج طفولي:
- صنعوا وضع الصامت لتستخدميه حين يكون أحد نائم بقربكِ يا كتلة الازعاج المتحركة!
ضحكت على منظرها وقالت:
- حسناً فقط اغلقي فمكِ. سأحوله صامت!
فتحت الرسالة لتجدها من رامي:
- الشيء الاول. أنا لا أعض بالمناسبة لتهربي بهذا الشكل.

تبسمت رغم ارتجاف اصابعها وهي تتحرك على لوحة المفاتيح ترد له الرسالة باخرى:
- والشيء الثاني؟!
- تخلصي من (الانقاض) الوهمية التي بنيتها بداخلكِ طوال هذه الخمس سنوات لتخلقي (ركام) سيهدم لكِ حياتكِ واختاري أساس آخر تبني نفسكِ عليه. لا تتركِ حديقة مليئة بالزهور وتمتد يدكِ على صبّار. فلن تحصلي على شيء سيسعدكِ سوى على جروح تدفعكِ للتذمر من طبيعته القاسية التي لم يكن له الخيار بخلقها.

كانت تقرأ رسالته وغصة قوية دفعتها للبكاء على الفور وهي تدرك لِما يلمح، هو قد فهم أنها معجبة بها. لا. قد أدرك أنها احبته. والان يطلب منها التراجع وعدم الاستمرار بهذه المشاعر التي ستؤذيها لأنها لن تحصل على شيء بالمقابل. ما كانت تخشاه قبل قليل قد حصل فعلاَ. هو قد استحقر مشاعرها وبقوة!

رمت الهاتف بعصبية بجانبها وغطت رأسها تحت ملائتها لتداري خيبة املها ونامت تلك الليلة دون أن ترد عليه برسالة بقي ينتظرها لوقت طويل!
استيقظت في اليوم التالي بملامح باردة خالية من أي تعبير وحاولت قدر الأمكان ان تتصرف بأعتيادية وكأنها غير مهتمة برسالة ليلة البارحة.
كان يصادف يوم الجمعة وكالعادة كانوا يتناولون فطور متأخر وبعدها يتجه رامي نحو المسجد لتنشغل ندى ورزان بالتنظيف وهذه المرة أنضمت لهما مرام.

وكّلت لها ندى مهمة ازالة الغبار عن أثاث المنزل فكان هذا يشمل جميع غرف المنزل. ومن ضمنها غرفته هو!
دخلت لتمسح مكتبه وترتب اوراقه المبعثرة من عمله الحديث عليها فهو لم يكن يبدو من النوع العبثي، عكسها هي، .
لاحظت من بين الاوراق مجموعة من الرسوم الغير مكتملة. اغلبها كانت تعود لعيون امرأة ذات نظرة حادة وجادة عكس نظراتها هي.
جسد امرأة تدير ظهرها وترفع شعرها ليكشف عن مدى طول عنقها.

يد رجل يمسك بين اصابعه سيجارة قد أحرق نصفها.
قمر يختبئ معظمه خلف السحاب.
كل رسوماته كانت دقيقة وخلابة بشكل ما مما دفعها لتناسي نفسها والجلوس على الكرسي خلف مكتبه وتصفح كراسة الرسم الخاصة به بأعجاب شديد.
- أنها مجرد مسودات.
نهضت بفزع على صوته وهو يقف عند باب غرفته ينظر نحوها بابتسامة خبيثة وكأنه عثر عليها بالجرم المشهود. وضعت الكراسة بارتباك فوق المكتب وعادت لتمسحه من جديد وهي تقول بتلعثم:.

-والدتك طلبت مني تنظيف الاثاث.
فقال بتهكم:
- وتفتيش الاوراق من ضمن اختصاص الاثاث؟!
تورد وجهها بخجل وقالت من خلف قناع العصبية الذي يداري على أحراجها:
- لم أكن أفتش بأوراقك. انا مجرد جذبتني الرسومات.
تبسم على منظرها وتقدم نحو المكتب ليفتح أحد أدراجه ويخرج كراسة رسم أكبر وقدمها نحوها وهو يقول:
- كنت أمزح فقط. يسعدني أن يعطيني أحدهم رأيه برسوماتي.

خففت جملته الاخيرة حدّة توترها قليلاً ومدت يدها نحو الكراسة لتأخذها وتبدأ تصفحها بأعجاب اشد فالرسومات هنا كن أكثر واقعية وأشد دقة.
تصفحت وتصفحت حتى نست أمر الليلة الماضية تماماً. ونسي هو أمر أنه يكرهها. كان يركز بملامحها القريبة بتمعن شديد. لا يعلم هل تعجبه ملامحها؟ أم أنه يحاول حفظها فقط ليرسمها كما برر لنفسه؟
نظرت نحو عينيه بابتسامة بريئة وهي تقول بثناء:
- لأول مرة أشاهد رجل يتقن الرسم بهذا الشكل.

قوّس حاجبيه متهكماً وهو يقول:
- وبخصوص بيكاسيو ودافنشي ماذا يكونان؟ امرأة متحولة مثلاً؟
ضحكت بقوة لتخفي اسنانها الناصعة خلف أصابعها الرقيقة وهي ترد:
- كنت أقصد شباب الجيل الحالي يا متحاذق! أغلب من يمارسن الرسم هن الفتيات فغالباً ما يكون الشباب مهتمين بالشعر
سحب الكراس من يدها وقال:
-لو أردت أن أعد الذين يرسمون من الشباب فهم أكثر مما تتوقعين يا ذكية!
ضيقت عيناها بشك وهي تقول:
- متأكد أن الكلمة هي ذكية؟!

- لا. أنها المعنى المعاكس للذي سمعته!
تمتمت بينما تمر بجانبه:
- غليظ!
ضحك قبل أن يستوقفها بجدية قائلاً وكأنه تذكر للتو رغم ان الموضوع لم يبارح عقله:
- بالمناسبة مرام.
التفتت اليه باعتيادية فقال بتردد:
- بخصوص ليلة البارحة.
هنا تغيرت ملامحها فوراً حين تذكرت وقالت مقاطعة حديثه:
- اوه اجل على ذكر ذلك.
ثم تقدمت نحوه وقالت:.

- أنت كنت مخطئ تماماً رامي بتفسيرك لقصدي. أنا لا أحبك على الاطلاق ولا أكن لك المشاعر. نعم كنت أفكر بك طوال الخمس سنوات هذه وأراقب اخبارك ولكن لا يعني أبداً إني أفعل هذا من منطلق الحب.
طوال ما كانت تتكلم كان يحاول ضم شفتيه بصعوبة كي لا يضحك واول ما سكتت قال:
- انتهبتِ؟!
-أجل تفضل...
تقدم خطوة نحوها وهو يقول:
- اولاً. أنا لم اجيء أبداً على ذكر الحب في رسالتي او في مقصدي.

وسعت عينيها بارتباك وتأتأت بتلعثم تحاول دحر ما يحاول اتهامها به فرفع سبابته أمام شفتيها دون أن يلمسها وقال:
- ثانياً. أدرك أنكِ لستِ بلهاء لهذا الحد كي تقعي بغرام شخص لم تقابليه سوى مرة واحدة ثم اكتفيتِ بمراقبته لخمس سنوات وأعلم ان مراقبتكِ لي كانت تأنيب ضمير لا غير اتجاه ما فعلته اسرتكِ بي.
ثم تنهد وكأنه تعب من الشرح ليكمل:.

- ثالثاً. ما كنت أقصده أنكِ لا تضيعي حياتكِ بمراقبتي وتصبي اهتمامكِ على فقط متناسية ان تضعي الاساس لحياتك الشخصية. لم أكن أقصد من ناحية الحب بل من ناحية الاهتمام يا. ذكية!
كانت عبارة عن شعلة نار هائجة تكاد أن تلتهمه وهو يضعها بهذا الموقف المحرج للمرة الثانية ولو لم ينجو بنفسه ويخرج من الغرفة لكادت ان تفترسه بين اسنانها المتراصة بغضب فوق بعضها.

خرجت من غرفته بخطوات سريعة فاستقبلتها رزان قريب الباب وهي تملأ فمها بالحلوى وتقدم كيس آخر يحتوي على ذات الاصناف التي تأكلها وقالت:
- أحضر رامي لكِ هذا.
فقالت بسخط بينما تتوجه نحو غرفتها:
- ليأكلها هو.
نظرت رزان ببلاهة نحو الباب وهو ينغلق بوجهها ثم نظرت نحو رامي الذي يشغل التلفاز ويطالع برامجه من غير تركيز فعلي وهو بالكاد يخفي ابتسامته تحت ملامحه الجادة.

جلست رزان بجواره وهي تقول بينما تهم بفتح كيس مرام:
- لقد تنازلت عنه من أجلي وأصرت على أن آكله.
سحب الكيس منها وقال:
- اوه حقاً؟ لِما سمعتها تقول دعي رامي يتناوله؟!
- هذا لأنها لا تزال تخطأ بأسمينا عزيزي. كانت تقصدني. وثانياً تحدثت بصيغة الضمير ولم تذكر أي أسم.
- وهل ضميرك هو أم هي؟!
- أن كنت سأحصل على الحلوى ف هو.
خبأ الكيس داخل جيب بنطاله وقال:
-انسي أمره.
- ماذا أن غسلت لك ملابسك لمدة شهر كامل؟

- أنتِ ذاتاً تغسليها من دون مقابل يا غبية.
- حسناً سأتوقف عن ذلك. ومقابل الكيس سأعود لغسلها.
دفعها من وجهها وقال:
- اغربي عن وجهي.
تصارعت مع يده تحاول الوصول نحو الكيس وتفشل وصوت ضحكه يتعالى لتغتاظ تلك المختبئة في الغرفة أكثر. فجأة قطع مزاحهما صوت هاتفه يعلن عن اتصال قلب له ملامح وجهه على الفور فأدركت رزان هوية المتصل. نظرت نحوه بأسى وهو يرفض الاتصال فقالت بجدية:
- والى متى اخي؟!

لاحظت ذلك الشريان في جبينه الذي يبرز حين ينتابه الغضب واتحدت حاجبيه مع بعضهما وهو يقول بصوت يشوبه الكثير من الغضب:
- الى أن يرأف الله بحالي ويأخذ روح أحدنا.
فردت رزان بعصبية:
- هذا ليس حل!
فاشار نحو المطبخ قاصداً والدته وهو يقول:
- وها تركت لي أي حل يا رزان؟!
عاد هاتفه ليعلن عن اتصال آخر فأخذه هذه المرة وخرج نحو الشرفة ليرد هناك.

نهضت رزان نحو المطبخ لتنظر نحو والدتها بسخط وانفاس مسموعة من الغضب لترد الاخرى فوراً:
-أعوذ بالله من غضب الله. ما بال هذه النظرات يا بنت؟!
لتقول الاخرى بانفعال:
- سلامتك امي. أنا فقط قلبي محترق على أخي. كيف حال قلبكِ انتِ؟!
ادركت لِما تلمح فمطت شفتيها بملل وهي تقول بينما تكمل ترتيب الصحون:
- قلبي بأحسن حال والحمدلله لأن أخيكِ كبير وواعي ومسؤول عن قراراته ولستِ أنا أو أنتِ من نقرر حياته.

- اوه حقاً؟ ألم تقرري حياته؟!
وضعت الصحن بانفعال على رخام الطاولة وتزامن هذا مع خروج مرام من الغرفة لتراهما يتشاجران امامها وتسمع من غير قصد ما يدور بينهما فقالت ندى:
- كل شيء جاء لكِ على طبق من ذهب وهو كان عليه القيام بتضحيات يا رزان. لو لا تلك التضحيات ما وصلنا للذي نحن عليه اليوم. رغم إني لا اراها تلك التضحيات التي تستحق كل هذه التعاسة التي تظنين أنه يعيشها!

تنحنحت مرام لتنبههما على دخولها خشية ان يكون موضوع خاص لا تودان مناقشته امامها ولكنهما رغم ذلك استمرتا بالحديث وبالاخص رزان التي قالت بذات نبرة الانفعال:
- ليس لأنه لا يبين لكِ كم هو تعيس تعتقدين أنه سعيد. التعاسة احياناً تبدو على هيئة ضحكة يا أمي او سعادة كاذبة. أنتِ لا تعرفين كم هو صعب هذا الشعور أن يبدو كما لو كان بخير وكل شيء في جسده هالك.
- أنتِ تبالغين كعادتكِ في وصف الاشياء.

وقبل أن ترد كان صوت رامي هو من جذب مسامعهن وهو يصرخ بعصبية من الشرفة:
- كفى لقد قلت كفى كفى.
وفجأة انفتح باب الشرفة وانغلق بقوة ثم باب الشقة ليخرج منها بشكل نهائي ويغلقه من بعده بذات العصبية فرفعت رزان حاجبها بحدة وهي تقول بتهكم:
-اوه أجل. أبالغ بشدة!

ثم خرجت بذات الغضب من المطبخ لتنكسر فجأة ملامح ندى. هي تدرك جيداً التعاسة التي يعيشها رامي ولكنها تكابر عن الاعتراف بذلك. فما فائدة الندم بعد فوات الاوان؟!
كانت مرام محتارة بالذي عليها قوله وهي تشاهد ندى تجلس بضعف فوق كرسي المطبخ حيث كانت تجلس هي ليلة البارحة وتبدأ بمسح دموعها باطراف اصابعها المجعدة. لم تمضي الكثير من الوقت في الغرفة ولكنها ما ان خرجت حتى وجدت أن الامور قد انقلبت رأساً على عقب.

جلست بتردد على الكرسي الاخر وهي تسحبه لجوار ندى وتطبطب على فخذها بمواساة وتقول بشفقة:
- كل شيء سيكون بخير يا خالة. لا تحزني!
اومأت ندى برضا ولكن بعدم اقتناع ثم قالت تفصح عن مكنون قلبها المكتوم:
- حين مات والدهم كانوا لا يزالون يافعين جداً على تحمل المسؤولية. تغيرت أوضاعهم من الرخاء نحو الشدة بين ليلة وضحاها. الجميع أصبح اعداء لنا بين ليلة وضحاها. وغدا رامي رجلاً كهلاً بين ليلة وضحاها ايضاً.

تثاقلت عينيها بدموع أكثر وهي تكمل:.

- في تلك الليلة التي مات فيها عصام رأيت شخص آخر بادخل رامي. لم يكن هو. شعرت بملامحه تجعدت رغم شبابها وبرأسه قد شاب رغم سواده. شعرت بنظراته الكثير من الكره والألم والحزن اتجاه كل شيء. وكأن حتى هذا الهواء الذي يدخل الى صدره يؤذيه فيحقد عليه. فجأة تحوّل من ذاك الشاب الذي يعيش حر وبرفاهية الى رجل يتحمل مسؤولية أمه وأخته بعدما كان يجهل كيف يتحمل مسؤولية نفسه، في الوقت الذي كنا أنا ورزان مشغولين بالحزن فقط هو كان مشغول بالحزن وصعوبة الحياة وانتقام ابيه. تحول أبني الحساس والعطوف الى كتلة شوك مؤذية سيهدم كل شيء رأساً على عقب من غير سبب. حياتنا تحولت نحو الاسوأ والاسوأ في كل يوم يمر علينا دون أن يتحسن وضعنا. فما كان بيدنا أي خيار سوى الرضوخ لحياة لا نريدخا فقط لننجو.

ثم ندرت نحو بعيون منكسرة وهي تكمل بنبرة مهزوزة:
- أو بالاصح. كان على أحدنا أن يفعل ذلك!
فقالت مرام وقد فهمت المقصد:
- وهذا ال أحد كان رامي.
- كان عليه ذلك.
-ما الذي حصل؟!
قبل أن ترد ندى كان صوت رزان انطلق من الصالة وهي تقول:
- لا شيء سوى أنها أشعرته بتأنيب الضمير لدرجة ذهب ورمى نفسه بالتهلكة.
وهنا انفتح باب الشقة مرة آخرى لتسمع مرام صوت رامي يقول بعصبية:.

-صوتكِ يصل للبناية بأكملها انسة رزان. اغلقي فمكِ والموضوع!
ثم جاء نحو المطبخ لتقع عينيه الحادة نحو تلك العيون البريئة التي تتطلع به. عيون يحاول بقوة تجاهلها ولكنه تجذبه نحوها في كل مرة.
اشاح بصره عنها ونظر نحو أمه وهو يحاول جعل نبرته أكثر ليناً:
-ماذا يا سيدة ندى. هل سنحصل غلى الغداء اليوم؟ أم أذهب للتسول عند اشارة مرور الحي؟!
تبسمت ندى رغم دموعها ونهضت وهي تشير نحو عينيها قائلة:.

- من عيوني يا حبيب أمك.
لترد تلك الاخرى بغضب طفولي من الصالة:
- نتيجة DNA ستظهر بعد شهر واحد وسأثبت لكم إني لست ابنتها لتصدقوني!
ضحكت مرام وقالت في محاولة لرفع معنوياتها:
- يا حظ فادي بكِ.
ليكمل رامي:
- أجل بالله. قرد مجاني عنده في المنزل يقوم بترفيهه طوال اليوم. أي حظ يريد أكثر من هذا؟!

ثم اتجه نحو الصالة ليقوم بمشاكستها بضربها أو سحبها من شعرها بينما مرام تضحك على منظرهما بينما تساعد ندى بأعداد الغداء ولا تنكر وجود تلك الغصة داخل صدرها. فهي لم تعش هذه اللحظات العائلية مع أحد. لطالما كانت وحيدة مع أمها في الشقة. فهل يعقل ان الله جعلها تمر بكل هذا فقط ليمنحها هذا الشعور؟ هل كان على الله منحها هذا الشعور بهذه الطريقة الصعبة والمؤذية؟!

في هذا الوقت بالتحديد كانت سعاد تجلس على الاريكة ويجاورها زيد وعلاء ويقوم علاء بتشغيل حاسوبه الشخصي ليعرض قرص مدمج وسعاد تراقب بوجه مقتضب لا تدرك ما يحتويه الى أن انفتح تسجيل كاميرا لمدخل البناية فقالت سعاد بعدم فهم:
- هذه بنايتنا. ماذا نفعل بتسجيلها؟!
فقال زيد:
- ستفهمين يا سعاد.
وبدأ بتقديم الوقت الى ان ظهر أحمد ومرام يدخلون البناية فقالت سعاد:
-اليس هذين.
فقاطعها علاء:.

- هما بحد ذاتهما. لقد شك زيد بأمرهما منذ البداية ولكنه لم يتوقعهما هكذا!
- ماذا تعني؟!
استمر زيد بتقديم الوقت الى ان نزلا من المصعد مرة آخرى وأحمد يتحدث بانفعال لمرام حينها قام زيد بابطاء اللقطة وقال:
- ركزي جيداً سعاد.
وبسبب سيرهما السريع قام النقاب بالانزياح قليلاً عن وجه مرام لاجزاء الثانية قبل أن يعود ليغطي لها وجهها مرة اخرى ولكن زيد قام بإيقاف اللقطة فوراً وقربها على وجه مرام ليقول بتهكم:.

- هل تبدو لكِ مألوفة؟!
لتشهق سعاد بفزع:
- مرام؟!
فقال زيد:
- اعتقدت لربما أنهما شخصين قامت مرام بأرسالهما. لم أتوقعها بهذه الشجاعة لتحضر بنفسها.
- وأين هي الان؟!
- عرفت قبل قليل معلومات الشاب. أسمه أحمد ويعمل طبيب في مستشفى المدينة
- هذا يعني أن هناك من عالجها. هذا يعني أنها ذهبت للمستشفى. فكيف لم يتواجد اسمها او مواصفات تطابقها في كل المستشفيات؟!
ليرد علاء:
- إلا أذا تمت معالجتها في المنزل أو بشكل سري.

نظرت سعاد بذات اقتضابها نحو الشاشة وهي تقول وكأنها تحدث نفسها:
- لنقل أنها كانت خائفة منكما ولم تتحدث. لماذا لم تعد بعدها؟ لماذا لم تترك أي أشارة لتنبيهي؟!
حينها قال زيد:
- لربما اكتشفت أمركِ أنتِ ايضاً يا سعاد. وليس أمرنا فقط!
هنا توسعت عينا سعاد على أقصاها ونهضت بعصبية من الاريكة وهي تقول بنبرة حادة:
- حينها سأجعله اليوم الاخير في حياة كلاكما أنتما الاثنين. فبسبب تهوركما وصلنا لِما نحن عليه اليوم.

ثم رفعت أصبعها بوجهه بتهديد وهي تقول:
- ولا تعتقد للحظة إني سأتغاضى عمّا فعلته بها. ما أن تعود سالمة لي سأعرف كيف أتصرف معك حينها وأجعلك تدفع ثمن كل خدش في جسدها!
ثم اغلقت الحاسوب بعنف وتركتهما واتجهت نحو المطبخ تفرغ غيضها هناك بأي شيء كان وهي تشعر أن الدائرة بدأت تضيق عليها شيء فشيء بعد سنين طويلة كانت هي خارجها تماماً.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة