قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية فرط الحب للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الحادي والعشرون

رواية فرط الحب للكاتبة دينا ابراهيم كاملة

رواية فرط الحب للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الحادي والعشرون

ارتفعت عيناها المذعورة نحو عيناه في صدمة من تلميحاته الواضحة كالشمس داخل حدقتيه المتسعة بشكل أكثر من اللازم مصرحة عن فداحة الوضع لكنها الحقيقة التي لا مفر منها، لم تجول ببالها مرة بأن حضور أحمد قد يكون له عواقبه الوخيمة ولكن كيف علم، قطع أفكارها صوته المنخفض كحشرجة حلقه:
-سكوتك ده صعب أوي يا ريم.

أسبلت جفونها في توتر ثم مررت لسانها فوق شفتيها هامسة في تلعثم بين أنفاسها المضطربة تحاول الهروب من أحضانه:
-ريان أنت فاهم غلط أكيد.
أومأ ريان رأسه عدة مرات قبل أن يطلق سراح شخصيته المظلمة، مانعًا هروبها وهو يدير جسدها ملصقًا ظهرها في صدره هامسًا في أذنها:
-بتهربي مني ليه، مخبية أيه عني؟

أغمضت ريم جفونها واستسلمت لدموعها قائلة في نبرة معترضة لكنها خرجت ضعيفة مهتزة:
-أنا مش مخبية عنك حاجة واللي في دماغك ده غلط تفكر فيه، انت بعمل ليه كده؟
-غلط، طيب قوليلي أيه الصح؟
رفع ذراعه من أمام صدرها ليداعب في حنو زائف مقدمه عنقها قائلًا في صدق:
-قوليلي لما واحد يقف يقولي انه كان في بيتي مع مراتي لوحدهم المفروض اتصرف ازاي.

ظهرت الصدمة والاستنكار على وجهها قبل ان تهز راسها رافضة التصديق هاتفه:
-أحمد عمره ما يعمل كده.
دفعها عنه صارخًا في نبرة عنيفة تعكس الزوابع الضارية داخل صدره:
-اخرسي متنطقيش إسمه تاني، ولو بينك وبين نفسك حتى!
سندت ريم على الفراش تمنع سقوطها لا تصدق انه خرج عن طور صوابه، حاصرها ريان بجسده الضخم من جديد يرهبها أكثر مع كل حرف ينطقه.
-انت بتقرب مني ليه كده؟!

سألت فلطالما كانت غيرته المفرطة تخيفها ففيها طاقة مدمرة وفقدان سيطرة وقسوة ترعبها، أقترب ريان يحدقها بعيونه السوداء الغامضة الخاوية التي لا تعكس ما يدور في رأسه ليلاعبها بكلماته رافضًا ان يهتز بخوفها وعيونها المتسعة قائلًا في إصرار:
-أيه، مش عايزاني أقربلك؟
اندفع كالوحش غير مبالي بارتعاشها الباكي يحملها ويجبر ساقيها التي ترتعد تحت أصابعه على الالتفاف حول جسده مستقرًا بجسديهما فوق الفراش، فخرج صوت الريم التي كانت تصك اسنانها في قوة تمنع ارتطامها في بعضها مستنكرة في صوت مرتعش:
-ريان بتخوفني ليه؟
انت مخوفني عشان خاطري ما تخوفنيش!

أمسكت عيونها الباكية التائهة بعيونه العازمة على الاستمرار في أفعالة الغامضة قبل يميل بجسدها القوي فوق جسدها دافعًا بها أكثر في الفراش ليزيد انتباها للفروقات بين جسدها الصغير وضعفه وبين جسده الصخم الذي يفوق قوه عنها كثيرًا، متعمدًا أن يترك لعقلها الصغير الغوص في سيناريوهات مرعبة فيرتعش قلبها بأسوأ التخيلات، لكنه عاد وسرق انتباهها من مخاوفها وهو يهسهس في خفوت:
-ششش ششش مالك مش طايقة لمستي ليه، مانعة قربك مني ليه؟

تحرك وجهه في ابتسامه تحمل معاني قبيحة رغم وسامة وجهه بينما يخبرها في غموض:
-حاسبي لأفتكرك عايزة لمسة حد غيري!
-اسكت، اسكت كفاية جنان حرام عليك، متقوليش الكلام ده مش هسمحلك تهني كده.
ضربت يدها في صدره بضعف لكنه اوقفها بدفعهما جوار وجهها مزمجرًا:
-جنان، كلامي وجعك؟
شكي فيكي قاتلك؟

ثبت ركبتيه حول ساقيها واندفع فوق جسدها بنصف أستقامه قبل أن يمد ذراعيه يعدل جلستها هي الاخرى بجذبه لمقدمه ملابسها بلا مراعاة لجسدها الرقيق حتى صارت تلامس صدرها بصدره صارخًا بصوت قوي وكأنه يقحم درسً صامت داخل عقلها:
-ادخلي جوا عقلي وشوفي معنى الجنون، ادخلي شوفي الوجع والشك وشوفي كلام أحمد الفارس المغوار عامل فيا أيه ...!
-أنا مش فاهمة حاجة؟

هزت رأسها منفجرة في بكاءها المتواصل بصوت عالي، ضيق ريان عينيه رافضًا التراجع الآن وشياطينه ترفض الانصياع فأستكمل وهو يمرر إبهامه فوق شفتيها يضع تركيزه الوهمي فوق احمرارها:
-عايزة تفهمي أيه أكتر، عايزة أفهمك اني عرفت ان أحمد هو اللي أخد جوابي من الظرف اللي بعتهولك واني واجهته فرماني بكلام زي السم يروح فيه رقاب، ولا عايزة أفهمك أني حيوان أناني وشكاك وبتهم الفارس بتاعك بالزور؟

ظلت تطالعه في صمت فقط انفاسها المتلاحقة واهتزاز جسدها الطفيف يعبر عن مدى صدمتها وقهرها، ارتفع حاجبيه محدثًا صوت يشبه الضحكة متحاملًا على مشاعره التي تدفعه دفعًا لاحتضانها والإفصاح عما بداخله دفعة واحدة.
زاد تشنجه وهو يضغط على وجنتيها بين أصابعه يتأكد بأن عيونها تواجهه وتجلس صف أول لمشاهدة الغضب الهادر داخل حدقتيه:
-أحمد أخد الجواب عشان متعرفيش انك على ذمتي ويقدر يخطبك، ومش عارف هعمل أيه لو خدعتي نفسك عشان تدفعي عنه لأنه لما قالي انه بيجي البيت ليكي، أكيد مكنش من كرم أخلاقه؟

حاولت هز رأسها بالرفض وعدم تصديق حياتها التي تنهار تحت قدميها تشعر بالحزن والرهبة بل أسوأ تشعر كالملعونة التي لا يبقى لها حبيب لكن ضغط ريان فوق فكها منع حركت رأسها وجعل قلبها يثب بين ذعر واستسلام في صدرها خاصة عندما مال يستقر بشفتيه فوق شفتيها المذمومة قائلًا في جفاء:
-إياكي إياكي يا ريم تفكري في مبرر لأفعاله أنا بيني وبين الجنون شعره.
-أنت عمرك ما هتتغير، هتفضل تشك فيا من غير ما تسمعني.
-تستحقي؟
أنتي تستحقي اسمعك وانتي مفضلة راجل تاني عليا؟

وضعت كفيها فوق عيونها ورمت جسدها للخلف تستلقى بظهرها فوق الفراش كأنها تختبأ منه ثم قالت بشفاه مرتعشة في قهر لا تقدر على تحمل المزيد:
-أنا مفضلتش حد عليك، ولو مش مصدق خلاص أعمل اللي عايز تعمله فيا ريح نفسك وريحني معاك.
قالت جملتها بصوت عالي بين شهقات بكاءها تشعر باقتراب النهائية والانهيار وقلبها الصغير يتلوى في صدرها لا يتحمل وجسدها ينتفض وينتفض في كل ثانية.
ساد الصمت ثوان ولم يتحرك ريان الجاثي فوقها لا بضمها ولا بالابتعاد عنها فظل يقيدها بقربه البعيد ويمزق قلبها ببطء.

كان قلبه يعتصر داخل صدره يصرخ في اعتراض يريده أن ينتهي الأمر شفقتًا ورحمة بها وكاد يتخاذل وينصاع له بضمها لصدره واخبارها بانه يثق بها ولكن يجب عليه إنهاء الدرس بالطريقة الصعبة وإلا فلا نهاية للعقبات في حياتهما.
بعد دقائق طويلة توقفت فيها عقارب الساعة تضامنًا مع حزنها، تحرك ريان ليجلس جوارها قبل ان يفاجئها بجذبه لجسدها ك يعدل جلستها.

اتسعت عيناه لم تتوقع حده حركته تلك ثم هزت رأسها بتلقائية دون تفكير عندما وضع إصبعه فوق شفيه قائلًا بصوته الخشن من فرط انفعالاته:
-اقفلي بؤك نهائي، مش عايز أسمع صوتك... نفسك اللي هتاخدي مش عايزة يطلع ... سمعاني؟
وضعت كلا كفيها فوق فمها تمنع موجة جديدة من البكاء في حسرة ثم ارتفعت عيناها للهاتف الذي كان في قبضه يده ولم تنتبه بوجوده متعجبة عندما عبث بأزراره قبل أن يفتح المكبر ويرمقها بنظرات جليدية محذرة من افتعال أي صوت:
-عايز أيه؟

انعقدت تلك المنطقة في جبينها بين حاجبيها تتساءل لماذا يتصل بأحمد ولكن ريان لم يعطها وقت كبير للتفكير فتكلم بنبرة هادئة:
-عايز اقولك أنك كداب، ريم قالتلي كل حاجة...
يا جبان ده أنت مكنتش بتدخل بيتي حتى...
كانت كلماته التي تخرج نبرة هادئة بلمحة من السخرية تتنافي مع الغضب والجمود المنبثق من عينيه، ولكن ما سرق أنفاسها قبل انتباهها غن تفاصيل ريان هو صوت ضحكات أحمد القاسية قبل كلماته المرعبة التي حطمت قلبها لأشلاء:
-طبعا وأنت أكيد صدقتها ... مش قولتلك مغفل...

-عايز توصلي أيه، ولا نسيت إنك عاجز وتلميحاتك دي مستحيلة؟
-وهي بردو اللي قالتلك كده؟
سأل أحمد الساخر، فساد الصمت وريم باقية التمثال تستمع في صدمه للحقد المقطر من نبرة صديقها من اعتبرته كل عائلتها خاصة حين أستكمل في حقارة:
-يبقى أنت اللي عاجز لأن مش انا مراتي مرافقه غيري وراضي.
-أحمد...!

صرخت ريم مستنكره لاتهاماته المقززة، لا تصدق كيف وصل به الدناءة لأن يتهمها في حقارة وقسوة دون أن يفكر بعواقب افعاله بل أسوأ دون أن يفكر بعواقب أفعال زوجها الذي ستكون هي ضحيتها ما أن يستمع لتلك الكلمات المهينة لشرفها.
-ريم...
خرج أسمها بحروف مبعثرة متقطعة تعبر عن الاضطراب الذي تملكه وقد أكتشف خدعة ريان الذي تدخل أخيرًا بقوله الحازم:
-ادعي ربنا إنك متجيش تحت إيدي عشان وقتها مش هرحمك.

أغلق ريان الهاتف يواجه ريم بعيونها الواسعة المتسعة يتابع انفعالاتها المتلاحقة ودموعها التي تتسابق فوق وجنتيها قبل ان تخبره في صوت باكي مقهور:
-كداب والله العظيم كداب يا ريان، صدقني.
مد أصابعه يلامس كتفها رغم ارتجافه جسدها في خوف من حركته المفاجئة وكأنها تظنه سينقض عليها في أي لحظة، ثم أخبرها في ثبات تام وصدق:
-أنا مصدقك يا ريم.
-مصدقني؟

رفعت عيناها تنظر لعينيه في حيرة ثم سألت بنبرة لا تثق حتى في صوتها ولا في ما تسمعه من فمه ليخبرها ريان مؤكدًا وهو يقربها منه قائلًا بجدية:
-أنا لو كنت شكيت فيكي لحظة صدقيني مكنتيش هتبقي عايشة وبتكلميني دلوقتي.
انكمشت ملامحها في حزن وخوف وكلماته مبهمة غير واضحة لها، أهذه الكلام لمطمئنتها أم للتهديد!
مسحت وجنتها لتعلن عما يدور في عقلها من إرهاق وغيظ:
-أنا مش فاهمة حاجة، اومال بتعمل فيا ليه كده؟

أبعد يدها عن وجهها وامسك بذقنها متعمدً النظر في عيناها المرتبكة قائلًا في صدق:
-أنا معملتش حاجة صدقيني ده ولا حاجة من اللي كنت هعمله لو كنت سمعت الكلام ده وعلاقتنا لسه متوترة، ده ولا حاجة من اللي ممكن راجل يعمله في مراته لو سمع الكلام ده.
هز رأسه يبعد عيناه عنها كي لا ترى المشاعر المخيفة التي تسيطر عليه وهو يهمس:
-صدقيني مش عايزة تعرفي أنا كنت هعمل أيه فيكي وفيه يا ريم ومن غير حتى ما أسمعك، وبحمد ربنا ألف مرة اني وصلت لان ثقتي فيكي تفوق ثقتي في كلام أي حد في الدنيا.

تسمرت ريم تتابعه في صمت قبل ترتمي فوق بين أحضانه تحتضنه بذراع والاخر تتقابل قبضته في ضعف فوق صدره، تتهمه بفم مائل للأسفل متفوهه ببكاء واتهام مزق قلبه:
-يعني أيه مصدقني بجد أومال بتخوفني كده ليه من الأول، ليه يا ريان وجعت قلبي كده ؟!
أعتصرها ريان نحوه يوقف قبضتها بأصابعه ويرفعها يقبلها في شغف مؤكدًا في إصرار:
-عشان تفهمي أن اللي حصل مش سهل دي مصيبة وان وجود المريض النفسي ده في حياتنا هو أكبر مصيبة ومكنتيش هتصدقيني لو كلمتك بعقل.

حركت رأسها برفض لا تزال تصرخ في بكاء تخرج الآلام قلبها فوق صدره ثم قالت في ذهول بين أنفاسها المتقطعة:
-أنا مش مصدقة انه عمل كده فيا يا ريان ده كان زي أخويا.
أبعدها ريان قليلًا ممسكًا بوجهها بين كفيه كي يقحم كلماته داخل رأسها، قائلًا في جدية:
-لو ده مش اللي هيبعد أحمد عننا يبقى مش عارف ايه اللي ممكن يبعده، لو فضل جواكي ولو أمل انه يكون حياتك تاني، يبقى حياتنا كزوجين هتدمر.

صمت يتابع ملامحها الحزينة قبل ان يستكمل في قوة:
-فاهمة يا ريم هنتدمر انا مستحيل اتعايش مع فكرة وجوده جنبك ابدًا ومستحيل اسامحك لو اتنازلتي وسامحتي المجنون ده.
قاومت ريم ذراعيه التي تصر على كشف وجهها له ترغب في الاحتماء بين ذراعيه كي تخفي وجهها ونفسها عن العالم أجمع بين صدره هامسة في ألم:
-مش هسامحه ابدًا، مش هسامحه ابدًا يا ريان.

أغمض جفونه يحاول غسل الغضب المكبوت داخلة بكلماتها تلك، سمح لها بالارتماء بين ذراعيه وزاد من ضمه لها ليهمس بين خصلاتها المبعثرة:
-أنا بحبك يا ريم، بحبك بجد وهفضل طول العمر بندم على السنة اللي سيبنا بعض فيها.
-وانا بحبك والله العظيم بحبك وعمري ما اتخيل نفسي مع حد غيرك.
-وانا مش هديكي الفرصة تتخيلي انك تكوني لحد غيري، احنا هننسى اللي فات ونبدأ حياتنا من جديد ماشي يا ريم.

هزت رأسها في موافقة وهي تزيد من لف ذراعيها حوله تشعر وكأنه الخيط الأخير وكل ما تملكه في حياتها فقد خسرت جميع من كان في حياتها وجميعهم خذلوها، حتى هو خذلها من قبل ولكنه يحارب من أجلها لأجل حبها ولأجل بقاء أسرتهما وهو الأمر الذي لم يفعله أحد من أجلها من قبل.
الجميع يمكنه الذهاب والتخلي عنها هي لا تهتم وقادرة على البدء من جديد فقط غياب ريان أو ابتعاده عنها قادر على ارباك حياتها وكسر قلبها مكللًا حياتها بالخسارة الكبرى.

-بحبك يا ريان والله بحبك...
كررت همساتها الخافتة التي تكاد تكون غير مسموعة ولكن حواسه المتأهبة نحوها التقطت كل حرف محمل بحبها وعذاب آلامها فقابلها بقبلات أعلى رأسها وأنامله الخشنة تربت بنعومة فوق جسدها الصغير وخصلات شعرها ...
دون أن ينتبه كلاهما لتلك الفناة القابعة خلف بابهم تشاركهم البكاء بقلب مفطور على ما آل إليه الوضع بين ريان وريم بسببها...

وضعت ليان يدها فوق فمها تمنع صوت بكاءها بقلب مزق وهي تستمع لبكاء ريم يعلو وينخفض وشقيقها المرعب الذي أخافها حد الجنون قد هدأت نبرته وعادت محبة من جديد.
حمدت الله انهما غافلان عنها وابتعدت عدة خطوات عائدة نحو غرفة عمر التي وعدت شقيقها بيجاد بالبقاء داخلها حتى يرضى الرحيل مع وسام وعمر مصرة على ان بقاؤها أمرًا ضروريًا في حالة وقوع مكروه وخروج الوضع عن السيطرة بين ريان وريم.

وقد انصاع لها بيجاد لأنه يعلم بمدى ظلام شخصية شقيقه السابقة ويعلم بأن وجود ليان لن يغضبه كما سيغضبه وجوده هو.
ولكن بيجاد لا يعلم أن شقيقهم الأكبر وجد الملاذ والراحة أخيرًا بين ذراعي ريم.
اتجهت تجلس فوق فراش الصغير بقلب يدق بتلاحق تخونها مشاعرها بين غضب وبغض على الذات وغضب على أحمد لا تصدق أنه وصل لتلك المرحلة من الخساسة فيطعن في شرف ريم.

هزت رأسها بعدم تصديق ترفض التفكير ببحة الألم التي خرجت من فمه باسم ريم عندما انكشف خدعة ريان، وداخلها اعتقاد يدمرها بأن لزيارتها الاخيرة دخل بالتحول المرعب في شخصية أحمد.
ضربت قبضتها في ساقها بقوة متسائلة:
أي آلم وأي فعل يبرر أسوأ ما في المرء بتلك الطريقة؟

ما فعله أحمد لا يغتفر ابدًا داخل مجتمعهم الشرقي بل لا يغتفر ابدًا في عرف أي رجل عاشق لزوجته وكان من الممكن ان يكون سبب في أذى كبير لريم.
شحب وجهها وهي تفكر بل كان يمكن ان يجن جنون شقيقها ويقتلها كما يفعل ضعفاء النفوس من الرجال في مواجهه تلك الشكوك البشعة التي كان يبثها أحمد كالأفعى على مسامعه.
كان يمكن أن تخسر شقيقها من جديد وحينئذً ستكون الخسارة أبدية، عاد لذهنها صوت أخيها المرهق والألم الذي حملته نبرته وهو يخبر زوجته بأن أحمد سيبقى العقبة الوحيدة في علاقته بزوجته.

-المجرم الجبان لا يمكن أسيبه ابدًا.
مسحت عبراتها وتسللت في خفة للخارج لكن فضول قلبها القلق دفعها للاطمئنان مرة أخيرة على القابعين في غرفتهم محملين بالآسي، اقتربت تستمع لهم فوصلتها همسات ريم الخافتة:
-دماغي بتوجعني أوي يا ريان.
-اجبلك برشام صداع؟

سأل ريان في خفوت وسمعت ليان خربشات تعلن عن رغبته في التحرك لكن صوت ريم المعترض اوقفه:
-لا عايزة انام في حضنك، متسبنيش.
عاد ريان يحتويها بين ذراعيه في حنان هامسًا في حب:
-نامي ومتقلقيش عمري ما هسيبك
ارتعشت شفاه ليان وكادت تبكي شاكرة الله بأن الأمور انتهت على خير عكس المتوقع والفتت تتسلل للخارج عازمة على الذهاب للمتوحش المجنون الذي يحاول سلب شقيقها من حياته.

جلس أحمد في الظلام داخل مخزن متجره كالصنم لا يزال في حالة من الصدمة والحزن ليس بسبب الخذل الذي سمعه من صوت ريم الغير مصدق لحقارته ولا بسبب انتهاء علاقتهم المتوقع بشكل تام فقط.
بل اكثر ما يمزق أحشاءه انه تحول لأنسان بلا مشاعر ولا قيم، شخص عماه الانتقام فصار ينبش كالمجنون فيمن حول لا يفرق بين عدو وحبيب، هو ذاته يشعر بالخذل وللأسف لم يخذله أحد بل هو من خذل نفسه.

كان انسان سلبي ضعيف ترك نفسه غارقه في الاستسلام والكره والحقد راضيًا بكل الضربات التي تتلاحق في حياته، وحين تأتيه ضربة من نيران صديقه خاطئة يتحول لقنبلة من الحقارة والدناءة.
لقد نشأ حياته يتجرع المرارة والقسوة والخذلان دون أن يشتكي مرة...مرة واحدة حتى... لم يفعل...
كان كشخص أعور مشلول يحركه والده لتلبية رغباته دون التفكير في توابع افعاله والآن شب ذلك الشخص ليصبح كالضباع إذا أتيحت لها الفرصة ستنهش في لحم قطيعها.

علا صوت هاتفه فنظر بكره إلي رقم والده الذي يرفض تسجيله على هاتفه فلا يجد داخله القدرة على كتابة كلمة "أبى" ولو على شاشة افتراضية بل يرفض في اعتراض ان يعطيه قيمة داخل حياته المنكوسة.
امتدت اصابعه في حزم ولأول مرة في حياته يتمرد ويغلق الخط في وجهه.
ألقى الهاتف في الأرض بجوار علبة الدواء التي تداعب عيناه أمامه حيث يتربع في الأرض ويستند بإرهاق على الحائط، يشعر بالوحشية وعدم الانسانية ويشعر بالكره والنقم على الذات.
ماذا يفعل في هذه الحياة وماذا أخذ منها ليبقى فيها؟

قطع تفكيره البائس صوت دقات متتالية فوق الباب الصاج الذي يغلف الباب الزجاجي للمتجر وأول ظن جال في تفكيره أن والده بالخارج فارتبكت ضربات قلبه المتسارعة لكنه جلس صامتًا يرفض الإجابة على الطرقات المتلاحقة بإصرار.
سمع صوت محاولات لفتح الباب الحديدي فسب بألفاظ نائية إصرار الطارق الذي لا يبالي بالباب الحديدي الشبة منغلق كما أمر دعاء بأن تغلقه للمنتصف وهو يطرد الجميع من أمامه.

حاول تجاهل الدقات المتعالية ولكنه كان يشعر بها داخل رأسه فجز على أسنانه قبل أن يثبت مستقيمًا متجهًا في غضب نحو الباب.
فتح الباب الزجاجي ومال بنصف جسده يرفع الباب المنغلق نوعًا إلى أعلى وما أن التقت عيناه بوجه ليان الغاضب حتى جز على اسنانه يعكس ضيقها وهو يفتح الباب هاتفًا:
-جايه عندي ليه؟
عايزة ايه تاني انتي واخوكي بعد اللي عمله فيا؟

-انت انسان وقح واناني وليك عين تتهم اخويا بعد اللي انت عملته!
هتفت ليان وهي تندفع للداخل في اتهام مدافعة عن أخيها، فابتعد أحمد للدخل متجاهلًا دخولها هاتفًا في حقد:
-لو جايه تشمتي فيا، فمتشكر يا ستي اقفلي الباب وراكي وانتي ماشية في داهية.
-انت ازاي بقيت كده، انا مش قادرة أصدق اللي عملته في ريم، انت عارف ريان عمل فيها ايه؟

تصلبت قدميه ثم التفت نحوها بأعين ضيقة خائفة وكانه يخشى نقل السؤال الذي يعذب أعماقه على لسانه فاندفعت ليان تخبره من بين أسنانها وهي تهز رأسها في خيبة أمل:
-اللي انت قولتله كان ممكن يدمر حياة ريم، كان ممكن يأذيها لكن حب أخويا أقوى من سمومك!
أبعد عن أخويا ومراته ومتفكرش انك هتقدر تفرق بينهم ابدًا وصدقني وقتها أنا اللي هخلص عليك بإيدي!
خرجت منه ابتسامه ساخرة دون ان يعير كلماتها أي اهتمام ثم اتجه إلى نهاية المتجر للاختباء بالمخزن المظلم الخالي من الإضاءة سوى من شعلة إضاءة خافته، قائلًا في لا مبالاة:
-اقفلي الباب وراكي.

-يا خسارة بجد، مش مصدقة اني فكرت فيك في يوم.
تصلب جسد أحمد الذي كان ينحني للجلوس ولكنه استكمل جلسته في صمت دون أن يلتفت لحديثها المريب، فاندفعت تجثو جواره هامسة ضاربة كتفه في قوة دون اهتمام برد فعله:
-اوعدني على الأقل إنك هتبعد عنهم.
-اطلعي برا وابعدي عن حياتي، وده أخر تحذير ليكي صدقيني.

دوى صوت صفعة مدوية كاسرة الصمت المجفل في المكان، شعر أحمد بألم طفيف بجانب وجهه ولم يشعر سوى بأنفاسه العالية قبل أن يمسك تلابيب ملابسها متشدقًا في قسوة تخفي الكثير:
-يمين بالله لو مشيتي من قدامي لكون مكسر جسمك!
هاجمته ليان العابسة التي قلدت قبضته بإمساك مقدمة قميصه تواجهه في عنف بينما تقذف كلماته في تحدي:
-اضربني مش هتكون أول مرة راجل يمد إيده عليا.

دفعها بعيدًا قبل ان يندلع ضوء هاتفه فيصرخ في غضب هادر مجنون وهو يمد أصابعه يسحب دوائه متغافل عن الهاتف لتسقط ليان للخلف في هلع من حركته المفاجئة وصوته الحاد ليوجه أحمد بعدها وجهه وصراخه نحوها في قوة:
-سيبيني في حالي، كلكم سبوني في حالي... اطلعي برا برا...
زحفت للخلف مرتين تتابع جنون انفعاله وهو يفتح الدواء وكأن فيه الخلاص يبتلع حبة منه قبل ان تعتدل وتتجه في رعب للخارج.

وقفت ليان على باب المتجر تلتقط أنفاسها لا تصدق الحالة التي رأت بها أحمد، ولا تصدق انه برغم حقدها وغضبها منه إلا إن قلبها يتألم ويصرخ لآلامه التي تظهر كالشمس في صراخة وداخل عيناه الحزينة.
صدق من قال لها يومًا بأن الحب لعنة وويل لمن تصيبه فهي لن تحله ولن تتركه ابدًا كالثأر.
-عايزة أيه؟
دلوقتي عرفتي تكلميني، سيبني في حالي انتي كمان.

انتفضت ليان ولوهلة نظرت خلفها وقد ظنت أن أحمد يختصها بصراخه ولكنه لا يزال في المخزن يحادث أحد ما في الهاتف على ما يبدو، مستكملًا في نبرة حاقدة محترقة:
-متقوليش أبوك، متقوليش الكلمة دي تاني، روحي قوليله ميتصلش بيا تاني واني مش عايز حاجة منه انا مش هتجوز حد عايز ياخد مني المحل والبيت يجي من بكره ياخد اللي عايزة بس ابعدوا عني وارحموني.

اختلطت جملته الأخيرة مع بكائه الحارق الذي استقر بشكل مباشر في صدرها فملئت الدموع عيناها تشعر بقلة حيلة وعدم فائدة.
-ارحموني، أنا تعبت ... تعبت...
كان يهمس في بكاء للا أحد بعد أن أغلق الهاتف فمال يحتضن رأسه بين كفيه في حزن يهز كيانه، تنفست ليان في ألم وتأوه ثم اقتربت ببطء منه تتابع جلوسه على الأرض غارق بين أحزانه ودموعه وآهاته الباكية تخالف خشونة وقسوة صوته الخشن.

كانت تلك التأوهات خارجة في صدق من احشاء قلبه مباشرة إلى قلبها الأحمق المريض بحب ذلك الابله الاكثر مرضًا منها...
انتفض أحمد عندما أحس بوجودها ثم مسح وجهه من عبراته بمعصمه قائلًا في ارهاق نفسي وقد خارت قواه نوعًا ما بفضل المهدئ ناطقًا أسمها التي نست فخامته من على لسانه:
-يا ليان ... يا ليان، ارحميني...

التقط ملامحها الباكية ونظراتها المشفقة فهز رأسه في رفض معترفًا في ضعف وهو يسند بجسده للحائط:
-أنا قذر واحقر بني آدم الدنيا ومستحقش منك دمعه، بتعيطي عشان مين عشاني انا ...
أنا مستحقش الشفقة اللي في عنيكي!
كانت ليان بقربه في خطوات بسيطة تضع يدها فوق كفيه المشبوكان فوق معدته لتنكمش ملامحه في رغبة صارخة بترك عبراته دون خجل فأنفجر في قهر:
-أنا أذيت ريم وخسرتها وخسرت نفسي معاها، انا حياتي ضايعة ومتدمرة من زمان هي متستحقش اني اعمل فيها كده.

ارتفعت أصابعها المرتعشة تحاوط وجهه رغم رفضه للمستها ورفضه أي نوع من المواساة فهو لا يرى أحقيته فيها، قررت تجاهل رفضه المغيظ لقربها وكلمات شقيقها التي تتهمه بالخلل النفسي تتلاحق في ذهنها ولكنها تتحلى بالكثير من العزيمة ولن تستسلم وستمضي في قرارها.
فهذا حق الجميع عليها وحق حبها لأحمد ايضًا والذي باعت قضيته مع أول عقبة دون أن تحارب من أجل حبها لا بل هو حق نفسها المسكينة التي كانت ضحية لقرارات خاطئة كثيرة لكنها ولأول مرة تتذوق الصواب في قرارها حتى وان كانت ستخوض متاهات مع اشقائها.
انتبهت لأحمد الذي يميل بجسده وكأنه يرغب في النوم فالنوم لطيف حتى يستيقظ ويدرك إنه لا يزال وحيدً بائسً، ضاقت عيناها في توتر متسائلة:
-مالك يا أحمد؟

-أنا تعبان ونفسي أنام ومش قادر انام...
بس أنا استاهل والله العظيم استاهل.
ارتعش قلبها في شفقة رغم غضبها عليه وعلى أفعالة البائسة لا تعلم كيف تحمل الشعور ونقيضه بين ضمه إليها وصفعة من جديد، لكنها جزت على اسنانها هامسة في حزم:
-تتجوزني؟
التفت نحوها في صدمة ثم أبعد أصابعها عن وجهه في حده وحاول التأني في فحص ملامحها قبل ان يخبرها في غضب:
-اسمه ايه ده كمان؟

ولا دي لعبة منك انتي واخوكي عشان تقعدوا سوا تضحكوا على أحمد المغفل مش كده...
-ده اسمه انقاذ، انت عارف ومتأكد ان ريان عمره ما هيسيب ريم وان ريم كانت فرصتك عشان تخلص من موضوع والدك.
كان أحمد يتابعها في صمت منذهل من معرفتها بأمر والده ولا يجد في داخله القدرة على الغضب من ريم لإفشائها كل أسراره لكنه سأل في خفوت:
-انتي عرفتي منين؟

-مش مهم عرفت منين، المهم اني بديك فرصة تعيد ترتيب حياتك.
ارتبكت عيناه وهو ينظر حوله بعقل بطيء يرفض الاستجابة لكلماتها لكنه نظر إلى وجهها يتفحصها لأول مرة منذ زمن فهي لا تزال تلك الفتاة الجميلة اليافعة بوجه طفولي وملامح حادة كأخيها، تتمتع بذقن مرفوع وشفاه غليظة وأخيرًا عيون سوداء حادة تتلبس القسوة رغم البراءة القديمة والضعف الجديد المختبئان خلف قناعاتها.

ضحك أحمد بينما يهز رأسه في تساؤل متعجب:
-وانتي هتستفادي أيه؟
-حاجتين مهمين أوي بس مش لازم تعرفهم دلوقتي ومتنساش ان كل واحد ولي شياطينه، قولت أيه تتجوزني وتتخلص من عقدة حياتك ولا تفضل تجري ورا ريم اللي ريان عمره ما هيتخلى عنها؟
نظر لأصابعها الممتدة بينهما ثم عض فمه من الداخل بازدراء على الذات لأنه على يقين من خطأ القبول، ولكنه يبلغ من الضعف والاستسلام الدرجة التي تجعله يمد أصابعه يقابل أصابعها في موافقة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة