قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية فرط الحب للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الثالث والعشرون

رواية فرط الحب للكاتبة دينا ابراهيم كاملة

رواية فرط الحب للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الثالث والعشرون

وضعت ليان يدها فوق وجهها غارقة في بكائها الصامت تشعر بالذنب أكثر مما كانت تفعل مسبقًا ولكنها خير العالمين بأن الوضع سيتطلب منها مجهودات كبيرة قبل أن يستقر فلا يجب عليها التذمر الآن.
لم يتحرك أحمد الواجم من المقعد المقابل لها وقد شهد مكالمتها في تأني يحاول معرفة لماذا تزوجته من الأساس إذا كانت ستواجه الطوفان مع أشقاءها.

تابع حركت معصمها فوق وجهها في اعجاب خفي بأفعالها وهي تحاول مسح عبراتها في اعتراض تناشد القوة داخلها ولوهلة شعر بأنه يحسدها لقوتها واردتها، تلك الصغيرة التي لا تتعدى كتفه تجلس بكل شموخ تلملم ذاتها وتواجه المشكلات في حياتها بإصرار لم يلمحه ولو بالخطأ في قاموسه حتى.
فهو مستمر في عزلته بين خنوع وخضوع بلا حول له ولا قوة فحتى بعد زواجه منها واخباره لوالده وارساله بصور الأوراق الرسمية ليؤكد له زواجه واتمامه لدوره في الاتفاق، لم يستجيب والده لمطالبة بعقود ملكية متجره ومنزله والذي اجبره والده منذ زمن على توثيقهما باسمه.

تذكر أحمد في حقد متأكد من أن والده كان يخطط للسيطرة على شخصه بهذا الوضع فيسلب منه شقاه كما سلب منه نفسه ورجولته من قبل ساحبًا منه في قسوة فرصته للانفلات من براثن رحمته والاستقلال عنه.
وماذا الآن ها هو يجلس كالذليل منتظر اتصال والده الذي تأخر كثيرًا في إرسال تنفيذ دوره من الاتفاقية السوداء بينهما.

زفر في غضب وهو يناظر هاتفه قبل ان يناظر ليان التي تنظر إليه في جمود وخواء، شعر بالشفقة عليها فهي برغم قوة شخصيتها إلا أن ملامحها الحزينة تفصح على مكنوناتها المتأججة وشعر بفضول كبير نحوها.
-معاك سجاير.
حرك جفنيه قليلًا يحاول التأكد من أنه استمع لكلماتها بشكل صحيح، قائلًا بصوت مبحوح نابع من صمته طوال النهار:
-سجاير؟ انتي بتشربي سجاير؟

عقدت حاجبيها في مدافعه وكأنها تتوقع منه الاشمئزاز أو الاعتراض لتخبره في ثقة وكأنها لا تسمح لأحد بان يحاسبها على أفعالها حتى الخاطئة منها:
-كنت بشرب وبطلت بس عايزة سجاره دلوقتي في مشكلة؟
رفضت اخباره بأنها توقفت عن تلك العادة عندما أبرحها نادر ضرًبا وحفزها على الاستمرار عودتها بين اخوتها الذين كانوا سيقتلعون عينيها ان علموا بتدخينها.
حرك كتفيه وشفتيه بلا مبالاة ثم أخرج من جيبه علبته يرميها نحوها في إهمال، سحبت ليان احداها عنوة واشعلتها وهي تنظر لعيونه المعلقة بها في نظرات غامضة وكأنها تتحداه قائلة:
-متشكرة.

-العفو بس متتعوديش على كده مش هديكي تاني.
ارتفع حاجبها في تعجب ولكنها شعرت بشعاع أمل وتمني داخلها بأنه ربما يخشى عليها أو حتى غاضب لانه في اعماقه يعترف بها زوجه له حتى وان كان يظهر لها العكس بإهماله ولا مبالاته نحوها منذ دلفا منزله سويًا كزوج وزوجة.
كادت تضحك بصوت عالي على سخافتها كفاها احلامًا سخيفة بالطبع هو لا يبالي بها ليس وكأن زواجهما زواجًا طبيعيًا لقد كان الزواج مجرد أداة لتحقيق أهداف ولكنها لن تكون ليان قوية الارادة إن قبلت بأقل من امتلاك قلبه وحواسه كليًا.

فليظن ما يظن بها أو بالقادم فهي لن تخرج من حياته ابدًا ليس بعد ما شعرت به من رضا وسعادة لم تتوقعها حين تزوجا رغم خوفها وتوترها مما ستكون شكل الحياة بينهما لأنها بالتأكيد لن تكون سهلة اعتيادية ولكن منذ متى كان الزمن متساهلًا معها...
ارتفع جانب وجهها في تحدي يعطي رونق خاص لعظام فكها البارزة مفكرة بل منذ متى وهي تحب الاعتيادية والرتابة ليقطع خيالها الجامح صوت أحمد المتعجب:
-بتضحكي على أيه؟

حركت كتفيها دون اجابه ثم نظرت لنصف السيجارة بين أصابعها في اشمئزاز لم تتوقع مرارة مذاقها بعد أن كانت لا تطيق الابتعاد عنها لتطفئها في غيظ، تابعها أحمد بحاجب مرفوع يحاول تحليل تلك الجالسة امامة فذكرياته عنها هي الفتاة اللطيفة البريئة التي كانت تهيم به لساعات دون مل وبدون أي محاولة صريحة للاقتراب منه.
ربما لم يعترف وقتها لأنه تعمد عدم الاهتمام بكل ما هو مؤنث إلا أنه كان سعيدًا بزياراتها لريم فقد كانت تتحدث دون توقف تنعش جميع من حولها، لا يزال يتذكر لمعة عيناها الحالمة وهي تتنقل في حكاياتها مع شقيقيها ومع زملاءها في سلاسة ودون فلترة حتى بات يعلم عنها الكثير ولكنها خالفت تحليلاته ورؤيته عنها.

كانت لطيفة مرتبكة ومتخبطة لكنها تضيف راحة نفسية وسرور على المكان وعلى قلبه كلما طلت حتى وان فضل إنكار إعجابه بشخصها مكتفيًا بريم كصديقته وعائلته الوحيدة، ولكنه شعر بصدمة قوية بشكل خيالي حين اخبرته ريم عن فعلتها وانها كانت السبب الرئيسي في طلاق ريم...
ضاقت عيناه يتفحصها بتأني ف ليان تلك لغز او احجية تتطلب الكثير من التركيز والانتباه لحلها، لا يستطيع معرفة دواخلها بشكل واضح أو نواياها لذلك سأل في فضول بينما ينظر لهاتفه للمرة الألف:
-انا عايز أعرف اتجوزتيني ليه وانتي عارفة ان اخواتك مش هيعدوها على خير؟

صمتت ليان تجمع أفكارها قبل ان تقرر أخباره بنصف الحقيقة لا ترى داعي من المداهنة فقالت في نبرة صادقة:
-اتجوزتك لسببين هقولك على واحد منهم.
-والتاني؟
خرج سؤاله ساخرًا فأجابته بابتسامه لم تصل لعيناها بنفس السخرية:
-لا التاني مش دلوقتي، لما يجي وقته هقولك.
-اتفقنا...

أخبرها وهو يتقدم منها ساحبًا علبة سجائره من بين اصابعها ثم عاد يخبئها بين ثنايا ملابسه جالسًا في مكانه وجزء مغمور داخله يخشى أن تسحر بسردها فتلجأ لاحداها فر راحة واهية، لكنها تجاهلت حركته وردت عليه بتلقائية:
-عشان أبعدك عن ريم.
تعجب لصراحتها الفظة وضاقت عيناه في صمت لكن السؤال داخل مقلتيه كان واضحًا فأكملت دون تطويل:
-سبق وقولتلك كل واحد وعنده شياطينه، وأنا شيطاني ذنب كبير مش قادرة أسامح نفسي عليه إلا لو عملت حاجة قوية تقنعني اني كفيت المدة.

-وليه حاسه بالذنب ريم وريان كان هيجي يوم ويتطلقوا انا مش مقتنع ان اخوكي بيحبها.
تجاهلت اتهامه لشقيقها واستكملت حديثها وهي تعتدل في جلستها مؤكدة بحاجب مرفوع بثقة:
-لأني متأكدة ان لولا اللي عملته مع ريان وريم مكنتش هديك الفرصة تدخل ما بينهم من الأساس وان حياتهم كانت هتفضل مستقرة.
-والمفروض أصدقك انك مضحية اوي كده؟

سأل أحمد وهو يرمقها بنظرات غامضة ثابتة لكنها لا تخفي تقليله من شأنها فحافظت على شموخها لتخبره في نبرة قوية:
-لا أنا اقوى من اني ابقي ضحية، أنا طموحة وعندي هدف ومش هرتاح غير لما اوصله.
-وايه هو الهدف ده؟
قال مستغلًا اسهابها في الحديث بينما ينظر إلى شاشة هاتفه لتتأفف ليان متعمدة الهاءه عنها متسائلة في حنق:
-انت مستني مكالمة من حد؟
طالعها بنظرة صامته دون ان يرضي فضولها فاستطردت في ذكاء:
-مستني مكالمة من باباك مش كده.
-ايوة، ارتاحتي.

-طيب طالما انت هتتجنن كده، ما تتصل أنت.
رمش عدة مرات بتفكير لما لا يتصل هو بالفعل لما عليه دومًا انتظار الهجوم لا المهاجمة، طالع عيون ليان المتحفزة وشعر وكأنه يستمد طاقة وقوة خفية من عينيها السوداء فهمس بصوت منخفض دون قصد:
-عنيكي فيها عناد اخوكي.
أسبلت جفنيها في مكر أنثوي قبل ان تضع ساق على الأخرى مؤكدة في جراءة:
-لو ركزت في عيوني أكتر هتلاقي حاجات اكتر من عناد أخويا.

طرفت عيناه مره قبل أن يبلل شفتيه ويسعل بخفة مغيرًا محور الحديث ولكن تلك الإنارة الطفيفة داخل عيونه البنية تؤكد لها بان سقوطه في فخها ليس بعيدًا:
-هكلمه فعلًا.
رفع الهاتف يتصل على والده بقلب يدق في ترقب لديه إحساس كبير بأن تلك المكالمة لن تمر على خير فاتاه صوت والده القاسي الرخيم:
-أحمد ... غريبة مش متعود على اتصالك كل يومين.

انكشفت نبرته الخبيثة وكأنه يعبث على اوتار اعصابه يذكره بضعفه وخضوعه لهيمنته، فابتلع احمد ريقه قبل أن يخبره بصوت خالي من المشاعر:
-حضرتك مبعتش العقود فقولت اطمن.
-عقود؟
ااه قصدك عقود الشقة والمحل لا مش هبعتها.
مرت ثوان صامتة قبل ان يسأل احمد في خفوت مريب:
-يعني أيه؟
مش ده كان اتفقنا انا اتجوز وانت تعملي تنازل على العقود!

-وكان اتفقنا بردو انك تتجوز قدام عنيه متفقناش انك تروح تتجوز واحدة من الشارع من غير فرح حتى.
وقف أحمد في حدة ليعلو صوته في ذهول من حقارة والده أثناء تحركه في تشنج لليسار واليمين:
-اومال ضحكت عليا ليه من الأول طالما معندكش النية تديني الورق.

جز أحمد على أسنانه غير قادر على ايجاد رد مناسب يشعر كحيوان حبيس غير قادر على نطق مشاعره فاتاه صوت والده الخفيف في اريحيه وكأنه لا يدمر حياته:
-ومين قال معنديش النية، انت اللي غيرت الاتفاق وانا كمان ليا الحق اغيره والورق هدهولك لكن لما تجيبلي حفيدي.
علت انافس أحمد الصاخبة وبدا من حركة الصدرية السريعة وكأنه يواجه مشاكل تنفسية وانه يجذب أنفاسه في صعوبة، وللحظة ظنت ليان بانه يدخل في نوبة نفسية من نوع ما فانتفضت ليان غير مبالية برد فعل كلاهما وجذبت الهاتف مغلقة المكالمة والخط بشكل نهائي قائلة في ارتباك:
-اهدى يا أحمد.

-انتي قفلتي السكة في وشه كده هيتلكك ومش هيديني حاجة خالص.
أخبرها أحمد المصدوم لفعلتها تلك فقالت في حدة واصرار:
-سوري يعني في اللفظ ان شاء الله عنه ما اداك حاجة، ما تتحرق الدنيا اللي تخليك تنتفض كده انت مش شايف وشك بقى احمر ازاي من العصبية.
تجاهلها أحمد وصار يجوب المكان يضرب كف على الأخر في جنون وتفكير لا يصدق ما يحدث في حياته، ولكن جزء منه ممتن بان ليان أغلقت الهاتف فقد كان يشعر بانه على وشك الاختناق لا يصدق ان من يحول حياته الي جحيم هو والده.
اتجهت ليان نحوه تحيط كفه بكفها وتجذبه نحو الأريكة تدفعه في خفة للجلوس

قد ذهب معها في سلاسة يتتبع توجيهاتها وسط ذهوله من تصرفاتها وكأنها تمتلك المكان بل وكأنها تمتلكه هو، طوال ايام ثلاثة كانت تتعامل وكأنها قضت معه عمره بالكامل تتنقل وتعبث في اغراضه دون خجل او حرج وكأن معها حق مكتسب بفعل ما تريد معه.
أما هو فقد اكتفى بالاستسلام كعادته يتعمد الابتعاد عن مسارها منشغلًا بكوابيسه الحائرة الجديدة التي صارت تزيد من حيرته متعجبًا من ذلك الباب المغلق عدا من سنتيمترات صغيرة فيداعب عيونه الفضولية بسبب تلك الإنارة الخافتة وسط الظلام ولكنه كلما اقترب يختفي ويتبخر تاركًا الساحة لماضيه المظلم للهجوم وامتلاكه كليًا.

-ممكن تقعد وتهدى انت متعود تتنفض كده لما تتعصب؟
حرك رأسه بالنفي لا يريد اخبارها بأنه يفعل فقط عندما يشعر بالغضب من تصرفات والده فلا يجد من سبيل للاعتراض سوى بالصمت الذي يترجم فوق جسده كالذبذبات الحارقة، لكنه لم يستطع منع كلماته الصريحة:
-حياتي انتهت..
طالعته ليان ببلاهة قبل ان ترفع شفتها العلوية في اشمئزاز واضح كارهة استسلامه قائلة في حده وحنق:
-انتهت عشان شقة ومحل!

في أيه يا أحمد ما تتحرق العقود على الشقة على المحل.
صاح احمد في غضب هادر موبخًا استهتارها بحياته وأهدافه كارهًا شجاعتها والأمل في رؤيتها:
-يعني ايه يتحرق، انتي مش فاهمه حاجة انا واحد على قد حالي معنديش حاجة اتسند عليها في الدنيا، والمحل كان الحاجة الوحيدة اللي بنيتها بنفسي وابويا اتدخل واخدها مني غصب، أنا مش عايز غير شقايا وحقي اللي خده مني.
-ومين هيرجعلك حق عمرك اللي بيضيع منك وانت مقضية في ذل.

اتسعت عيناه في غضب وقد ضربته كلماتها في مقتل فهتف مستنكرًا:
-متدخليش في حياتي... انتي مش عارفة حاجة، متفتكريش عشان اتجوزنا يومين بقيتي خلاص فاهمة حياتي.
جزت ليان على اسنانها تواجه صراخه بصراخ أشد منه:
-لا للأسف انا فاهمه حياتك جدًا، بس انت اللي مش فاهم انك راجل بصحتك ولسه في عز شبابك مش مشلول عشان تسيب حد يتحكم فيك كده!
وضع أحمد رأسه بين كفوفه في حيرة يرفض الانسياق خلف كلماتها التي توقظ داخله وحش جائع يتغذى على كلماتها المشجعة، فهي تغير صورة الضروريات التي دمغها في رأسه فصارت على لسانها بلا أي قيمة.

جثت أمامه رافضة انعزاله عنها ثم لامست كفيه تبعدها عن وجهه المضطرب بمشاعره ممسكة بعيونه التائه في شجاعة محفزة:
-صدقني نفسك اهم من ماديات الدنيا، لو نفسك ضاعت منك مش هتستمتع ولو معاك ملايين، اخسر شقاك دلوقتي واتعب واشقى تاني وابني ذاتك من جديد، عشان نفسك لو ضاعت منك مش هتعرف تعوضها بأي تمن.

بثت كلماتها القوية بقلب يدق يوازي دقات قلبه العالية متفائلة بعينيه المتعلقة بها وكأنه يستمد منها الشجاعة مرت دقائق غريبة لا تستطيع تفسير سبب طولها لكنها شعرت بدفء حين هز رأسه دون وعي وكأنه منتشي بكلماتها ومن شجاعتها فهمس في خفوت مظلم:
-هاتي التلفون.

شدت على ساقه في تشجيع وركضت تعطيه الهاتف متخذه مهمة إعادة الاتصال بوالده دون اعتراض من أحمد الجالس يتابعها تعبث بالأرقام في حماس وحماسها ذاك اندفع عنوة مستقرًا داخل صدره، لا يصدق انه مقدم على المواجهة هكذا دون تخطيط أو تحذير كان دومًا يتمنى تلك اللحظة ويجلس يفكر عن موعد اللحظة الحاسمة التي يواجه فيها مخاوفه وينهيها للأبد، علت انفاسه وقد ارتفع الأدرينالين في جسده وسط تساؤلاته المتلاحقة داخل عقله المظلم:
هل سيسقط حكم والده الاستبدادي اليوم؟
هل سينجح في الابتعاد عن براثن قسوته دون مقاومه باسلة منه؟
والسؤال الأقوى هل تبقى داخله أي قوة تكفي للمواجهة؟

صدح صوت والده الغاضب يعنفه دون اهتمام بمشاعره فنظر لليان نظرة أخيرة قبل أن يستقيم في حدة هادرًا وسط انفاسه المجنونة التي تعلى وتعلى مع علو كلماته:
-أنا مش عايز عقودك مش عايز البيت ولا عايز المحل، انا عايزك تبعد عن حياتي مش عايز اعرف انت كرهتني في نفسي، انا... انا... بكرهك وبكره قسوتك وتحكمك فيا ومش هسمح انك تتحكم فيا تاني عايز تمنع أمي واختي مش مهم انا مش عايز اعرف حد فيكم محدش بقى عليا عشان ابقى عليه.

علا صوت والده الصارخ ولكن أحمد كان كالرصاصة المنطلقة لم بتوقف ولم يبالي بأحد مستمرًا في رص كلماته مخرجًا مشاعره القبيحة التي اقحمها والده داخل صدره لفترة طويلة للغاية، كان يتحرك حول الغرفة ويصرخ بكلماته وكأنه يريد للعالم أجمع ان يشهد على انتصاره.
كان كمن عاش في غرفة مظلمة مخيفة حتى فقد الأمل في الفرار ليفاجئه القدر بباب النجاة وهو صارع يدفعه في جنون يتابع انفتاحه في هدوء حتى انفتح على مصرعيه.

لم يشعر كيف لم ينتبه ومتى أغلق والده الهاتف في وجهه ولكنه لم يتوقف حتى احتضنت ليان الباكية جسده ترغب في السيطرة على انفعالاته المتخبطة وحركته المجنونة، كانت تعلم انه مضطرب داخليًا ولكنها لم تتوقع أن يكون الأمر بهذا السوء.

شعرت بصدمه في البداية عندما احاطها أحمد بذراعيه يضمها نحوه في قوة متقبلًا مساندتها بينما يحاول هو الأخر السيطرة على جسده المرتعش بقسوة انفعالاته حتى بدئت أنفاسه تهدأ تدريجيًا ورأسه مختبأ في عنقها، شعر بساقه ترتخي وتضعف ومن حسن حظه استقر جسده للخلف فوق الأريكة فاتبعته ليان دون تفكير جاثية بين ركبتيه تزيد من عناقه رغم ارتخاء جسده وذراعيه من حولها إلا انها شعرت بترحيبه بقربها في تلك اللحظات عندما رفضت ذراعيه المرتخية الابتعاد عنها.

دلفت وسام إلى المنزل مغلقة الباب خلفها هي وزوجها الغاضب قبل أن تلومه في نبرة معاتبة:
-ينفع اللي قولته لريم وريان ده.
-خلاص بلاش تقطيم فيا، قولتلك مكنتش أقصد ولما كلنا نهدى هبقى اعتذر.

-يا حبيبي أنا مش بأنبك انا عايزاك تتمالك نفسك ومش عايزاك ترجع لعصبيتك الزايدة من تاني، والصراحة في حاجة عايزة احكيلك عنها بس خايفة تتعصب أكتر!
التفت نحوها عاقدًا ذراعيه أمام صدره يحثها بعينيه على الحديث فزفرت قبل ان تخبره في توتر وعيناها ترفض الاستقرار فوق عينيه:
-ريم فعلًا ملهاش ذنب، ليان هو اللي بتحب أحمد حتى من قبل ما تتجوز نادر.
-وانتي عرفتي منين؟

سأل من بين أسنانه يمنع غضبه لأنها أخفت تلك المصيبة عنه فهمست في خجل:
-اصل هي لما رجعت من السفر حصل حاجة وهي راحت عنده المحل مرة، ولما رجعت كانت متضايقة اوي فأنا ضغطت عليها لحد ما اعترفت انها بتحبه من زمان بس وعدتها اني مش هقولك.
ضرب بيجاد قبضته في الهواء وكأنه يتخيل جسد أحمد امامه ليسب ويلعن شقيقته مستنكرًا:
-وانتي صغيرة مش عارفة امتى تقولي السر وامتى تحتفظي بيه!

-أنا مالي يا أحمد هي مكنتش عايزة حد يعرف وانا خفت تتعصب عليها وتعمل حاجة تندم عليها بعدين!
-طول عمرها مدوخه نفسها ومدوخانه وراها.
قال بيجاد في حده ثم زفر بعنف مستغفرًا الله، فاقتربت منه وسام المرتبكة تحاول تهدئته بتدليك كتفيه المشنجان قائلة بنبرة هادئة في ثقة:
-اللي حصل حصل يا بيجاد، ليان مش صغيرة وهي اختارت وأكيد ليها مبررها، حاول أنت بس تديها مساحتها وأكيد كل حاجة هتتصلح وهيجي يوم وتسامحها.

ضحك بيجاد ساخرًا وهو يلتف نحوها مؤكدًا ما يخشاه:
-مش مهم أسامحها أنا المهم ريان يقدر يعملها، ليان كسرت لمتنا بعد ما حسينا بقيمة العيلة والاخوة اللي بينا هي هدتها بحركة واحدة.
أسبلت جفونها في خيبة امل تتفهمه تمامًا لكنها ردت في إصرار:
-ربنا يخليك انت واخوك لبعض، وميقطع لمتكم ابدًا، وأنا من جوايا متأكدة ان الموضوع ده هينتهي على خير، بس كل وقت وله أدانه...
أومأ بيجاد الواجم رأسه وعقله يدور في حيرة وغيظ يحاول إيجاد سبب مقنع كافي ليسامح ليان على ذلك المأزق التي اوقعتهم فيه ولكنه للأسف لا يجد.

لا تعلم كم مر عليهما من وقت ولكنها رغبت لو تتوقف الساعة نهائيًا وتبقى في وضعها ذلك بين أحضانه الدافئة مدى العمر، تشعر داخلها بالاحتواء رغم انه لم يُظهر لها ابدًا أي طيف من أي نوع من المشاعر قد يكنها نحوها.
تنهدت متعجبة أنها تشعر بالاستقرار والأمان معه وهو أمر لم تشعره إلا بين يديه المضطربة، ربما تلك الفتاة المراهقة الأنانية هي مْن تتململ داخلها في رضا بنشوة امتلاكه، لأنها شخصيًا لم تشعر بالأمان حتى وقت زواجها مع نادر، تنهدت تبعد افكارها عن ذلك الحقير قبل ان تومأ برأسها للأعلى تتابع ملامحه الهادئة سائلة:
-أنت كويس؟
-ايوة..

اجابها في خفوت يشعر بأن قواه خائره كمن انهى معركته للتو ولكنه يعلم بأن الحرب لم تنتهي بعد، أغمض جفونه ولكنه يستقبل ذلك الشعور بالانتصار وسينتشي به مستمدًا قوتها منه فإما الانتصار النهائي أو الموت.

شعر بليان تستقر فوق فخديه بشكل أكثر اريحيه في احضانه ثم شعر بشفتيها تقابل باطن كفيه في توالي وسط دهشته من فعلتها ومن الحنو البالغ التي تبثه به، حنان بالغ لا يتذكر إنه تلاقاه سوى من والدته حين كان صغيرًا تداوى جروحه بقبلاته، ولكنه سرعان ما حرم منها بأمر من والده الذي عاقب والدته في قسوة لأنها تدلل الفتى متهمًا إياها بأنها ستفقده رجولته حتى صار يختبأ كلما جرح دون أخبار من حوله او انتظار الاهتمام يخشى على والدته من العقاب، الهاه عن الغوص في تلك الذكريات صورة البسمة المتألقة فوق فم ليان التي اخبرته في فخر:
-احنا هنبدأ من الصفر انا ليا صحاب كتير في الخليج، إحنا ممكن نسافر لو ملقناش شغل هنا.

نظر لها مطولًا في حيرة قبل ان تظهر ابتسامه خفيفة على شفتيه متسائلًا في تعجب لأنها ترغب في الاستمرار معه:
-احنا... هو احنا مكملين يا ليان؟
ضاقت عيون ليان الصامتة في تحدي وغيط قبل ان تؤكد بنبرة قوية تعبر عن فرط تمسكها به:
-انا محطتش نفسي في مطحنه مع اخواتي عشان تسأل سؤال زي ده، مكملين طبعًا وبالذوق أو بالعافية هنعيش حياتنا ونبنيها سوا.
ابتسم متعجبًا من تلك البسالة المشعة من عينيها وذلك التمسك الغير مبرر بوجوده في حياتها وهو الأمر الذي لم يعهده من أحد قبلًا ولكنه يضفي دفء رائع داخل صدره ويخطف منه نبضات ارجعها للمسة السعادة التي غمرته برغبتها، ضغط على اصابعها مردفًا في صدق لا يصدق جنون كلماته:
-وأنا موافق..

ظهرت اسنانها كاملة معبرة عن وسع ابتسامتها الراضية قبل ان تلقي بجسدها نحوه تعتصره بين أحضانها من جديد، هاجمته تلك المشاعر المخيفة التي تداهمه منذ دخلت حياته بشكل مفاجئ مُصرة على الإمساك بدفة القيادة دون انتظار لموافقة.
تحول العناق البريء إلي أخر أشد حرارة وأحس بصعوبة في السيطرة على مشاعره أو انفعالاته المنفلتة من قوقعته فرفعت ليان رأسها تناظر عيناه بعيون مسبلة في عشق صامت وكأنها تتوسل إليه بأن يفعل أمر يخشى الدخول فيه.

وكعادتها فاقدة الصبر اندفعت بوجهها مستقرة بفمها فوق فمه في تعنت وحرارة تشنج لها أحمد في تخبط يخشى تلك النيران التي تهاجم اوصاله فدفعها في رفض بأنفاس لاهثة قبل أن يستقيم مبتعدًا عنها فقالت في حده متهمة:
-ايه مش عجباك، ولا تكونش بتحب ريم بجد ؟!

حدقها بنظرة غامضة ليتقمص لامبالاته من جديد قائلًا:
-انا بحب ريم فعلًا ومحدش هيفهم اللي بيني وبينها بس ربنا وحده عالم انها زي اختي لبنى بالظبط.
شدت على خصلاتها في غيظ لرفضه إياها ثم تقدمت منه، تؤكد كلماتها الغاضبة:
-أنا مش هسيبك غير لما تفهمني في ايه؟
أنا عايزة ابقى زوجة ليك ومش بالاسم بس.
التفت كي يغادر متجاهلًا إياها رافضًا المفاوضة حول ذلك المطلب الذي يعتبره خط أحمر، فاندفعت خلفه صائحة في اعتراض:
-أيه مشكلتك فهمني!

لا يدري ما جعله يعترف بتلك الكلمات لها، ربما لأنها شاهدت تسلسل تمرده منذ البداية او ربما هي ساحرة تسحره فتخرج منه أقبح أسراره ولكنه انفعل في غضب ملتفتًا نحوها ليرد على زمجرتها في وجهها:
-المشكلة أن عندي مشكلة ارتاحتي، انا عندي مشكلة ومش هعرف اكون الزوج اللي انتي عايزاه.
نظرت له ببلاهة تتفحصه من أعلاه لأسفله قبل ان تخبره في سخرية:
-انت فاكرني عيلة صغيرة بتاخدها على قد عقلها، ولا أنت ناسي اني كنت متجوزة قبل كده، يعني انا لما ابقى في حضن راجل صدقني هعرف ان كات بيستجيب ليا ولا عنده مشكلة...

ضغطت على حروفها الاخيرة في سخرية، فشعر باختناق من ضغطها المتواصل عليه لا تدري ان بكلماتها تلك وضعت فوق اكتافه ضغوط المقارنة التي سيفشل فيها لا محال.
أخذ منه الإرهاق الذهني والنفسي الكثير فلم يجيب وحاول الابتعاد لكنها وقفت أمامه قائلة في تطلب:
-أحمد انت استجبت وأنا في حضنك دلوقتي وانا حسيت بيك ليه بتبعد عني؟
-عشان مش دي المشكلة، مش مشكلتي اني استجيب المشكلة اني...

صمت مفكرًا بأن المشكلة تنبع من عجز داخله لا يعرف منبعه، فمشكلته ليست في الاستجابة ولكن في الاهانة التي ستعقبها وسيتعرض لها أمامها ما أن يخذلها..
هو أضعف من أن يكرر تلك التجربة، أضعف من أن يجرح رجولته مرارًا وتكرارًا، بل هو أضعف من ان يعترف بأنه يخشى فقدان ما قد يملكه من احترام داخل عينيها المحاربة...

يكفيه إنه سقط من انظاره كرجل ويخشى التعري والسقوط كليًا من أنظارها هي أيضًا، أن فشل في أبسط الأمور بديهية بين زوج وزوجة.
اندفع تاركًا إياها غير قادر على المواجهة يكفيه ما واجهه بالفعل، اغلق باب غرفته في ضعف واتجه كالمُسير نحو فراشه يستلقي فوقه في تعب، بلل شفتيه الجافة ثم رمش عندما التقى بعلبه دواءه بجوار السرير فمد أصابعه يتحسس ملمسها متسائلًا هل يكفيه الوهن الذي اصاب جسده كي يسرقه النوم ام انها سيحتاج "حبة" من الزجاجة كزيادة تأكيد.

انتفض في ذعر عندما فتحت ليان الباب تقتحم خلوته في غيظ، بحثت عنه بعينها لتزداد غضبًا حين رأته ممسك بالدواء فتقدمت منه في اتهام مشيره نحو العلبة البلاستيكية:
-انا بقالي يومين ساكته عن الزفت ده، قولي انت مدمن ولا ايه بالظبط؟
وضع الدواء في مكانه لا يجد داخله القدرة على المشاجرة أو التبرير، فتقلب فوق الفراش يتأوه في ألم غير مبالي بوجودها هامسًا:
-تعبان طفي النور.

جزت على اسنانها ولكن شفقتها تصاعدت وهي تتابع جفونه تنغلق كأنه غير قادر على البقاء صاحيًا فأخذت أنفاس عميقة تسيطر على انفعالاتها الغاضبة قبل ان تتجه للخارج مغلقة الإنارة والباب خلفها، تاركة عقلها يفكر في تفسير منطقي لما يحدث مع احمد وعدم رغبته في الاقتراب منها لأن جسده بالتأكيد ليس عاجزًا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة