قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية فراشة أعلى الفرقاطة للكاتبة منال سالم الفصل العاشر

رواية فراشة أعلى الفرقاطة للكاتبة منال سالم الفصل العاشر

رواية فراشة أعلى الفرقاطة للكاتبة منال سالم الفصل العاشر

طوال طريق العودة إلى الميناء مرة أخرى ظلت فرح تفكر فيما قاله المقدم يزيد بشأن تلك المناورة التي ستشارك بها، فكيف لها أن تظل قابعة في وسط أمواج البحر لمدة أربعة أيام متواصلة وهي لديها رهاب منه، وحاولت قدر الإمكان في تلك الساعات المعدودة والمنصرمة ألا تظهر خوفها هذا أمام الجميع، ولكن كيف ستعتذر عما هي مقبلة عليه...

وصلت الفرقاطة إلى الميناء، وبدأ الجميع ينزل من على متنها، وكانت فرح من أوائل الذين لامست أقدامهم أرضية المرساة..
سارت فرح بخطوات سريعة ومرتبكة ناحية غرفتها الملحقة بالمبني السكني للضباط..
لمحها يزيد وهي تسير مبتعدة عن الجميع، ولكنه ظل على وضعه الهاديء والصارم في نفس الوقت، سار آدم إلى جواره ثم مد يده ليضعها على كتفه و...
-آدم بهدوء: حمدلله على السلامة يا يزيد باشا.

استدار يزيد برأسه استدارة خفيفة ليرى آدم و...
-يزيد بنبرة جادة، ونظرات ثابتة: الله يسلمك يا آدم باشا
-آدم متابعا بنفس الثبات الانفعالي: انت رايح فين الوقتي؟
-يزيد بنبرة جدية: راجع المكتب، وبعد كده طالع على القاعدة البحرية
-آدم وهو يمط شفتيه في تساؤل: ممم، هما عاوزينك في حاجة مهمة؟
-يزيد بنبرة رسمية: معرفش، هيبان لما أروح
-آدم وهو يوميء برأسه: خير إن شاء الله، أنا طالع أوضتي أرتاح شوية، أشوفك بعدين.

-يزيد مبتسما: بأمر الله، سلام.

أسرع يزيد في خطواته، في حين اتجه آدم ناحية المبنى السكني للضباط..

في مقر جريدة الضحى
كانت إيلين جالسة على مكتبها، وهي مستندة برأسها على راحة يدها، وتتنهد بحرارة..
لقد ظلت إيلين تفكر معظم وقتها في رفيقتها فرح، فالفضول يثيرها لكي تعرف أحوالها هناك، خشيت إيلين أن تتصل بها هاتفيا، فربما تكون في وسط عملها، وبالتالي تتسبب في إحداث مشكلة ما من لا شيء لها، لذا أثرت أن ترسل لها رسالة نصية كان فحواها (( ايه الاخبار؟ طمنيني يا فروووح ))..

حاولت إيلين أن تلتهي بأي شيء ريثما يصلها الرد على رسالتها، ولكن لا جديد...
في نفس الوقت دلف إلى داخل المكتب شخص شكله مألوف نوعا ما بعد أن طرق على الباب و...
-بركات بنبرة رخيمة: السلام عليكم يا بنتي، ممكن أدخل.

نهضت إيلين عن مكتبها، وحدقت في هذا الشخص بنظرات متفحصة و...
-إيلين بنبرة عادية، ونظرات فاحصة: اتفضل، بس مين حضرتك؟

أطرق بركات رأسه قليلا، ثم...
-بركات وهو يتنحنح: احم، آآ، أنا الأستاذ بركات، آآ، والد كريم الله يرحمه جوز فرح.

اتسعت حدقتي عين إيلين في إستغراب، واعترت الدهشة ملامحها و...
-إيلين بنبرة متلعثمة، ونظرات مصدومة: م، مين؟
-بركات بخفوت: أنا أبو كريم الله يرحمه، اومال فين فرح؟ مش، مش هي المفرض بتقعد هنا
-إيلين فاغرة شفتيها: هه..
-بركات مكملا بنفس الخفوت: أنا كنت عاوز أتكلم معاها شوية، هي فين؟

ابتلعت إيلين ريقها في توجس، ثم نظرت أمامها و...
-إيلين بنبرة متوترة: آآ، هي، م، مش موجودة، ومش هترجع الوقتي
-بركات متسائلا بعدم فهم: يعني هي مسافرة؟
-إيلين بنظرات ضيقة، ونبرة جادة: حاجة زي كده.

عبس وجه الأستاذ بركات أكثر، و...
-بركات متسائلا في حيرة: طب هي هترجع امتى؟
-إيلين بإيجاز: مش عارفة.

صمت بركات قليلا، في حين أردفت إيلين ب...
-إيلين بنبرة فضولية، ونظرات حائرة: لو في حاجة مهمة انت ممكن تقولهالي وأنا أبلغها
-بركات على مضض: لأ كتر خيرك.

وضع الأستاذ بركات يده على ذقنه يحكها قليلا، وهو يفكر في طريقة للوصول إلى فرح، فالموضوع هام ويحتاج إلى وجودها..
سار الأستاذ بركات في اتجاه باب الغرفة، ومازال عقله منشغلا بكيفية التواصل مع فرح، بينما ظلت إيلين تتابعه بتفحص شديد، وهي تحاول سبر أغوار عقله لمعرفة سبب وجوده هنا بعد كل تلك المدة، وإصراره على الحديث والتواصل مع فرح..

في الوحدة العسكرية
جلست فرح على طرف فراشها بعد أن بدلت ثيابها بأخرى رياضية مريحة من اللون الأزرق السماوي، ثم شردت فيما حدث اليوم، لقد مر بمخيلتها طائف يزيد وهو يبدي خوفه واهتمامه بها، ولكنها سريعا ما نفضت عن عقلها تلك الخيالات مذكرة نفسها بأنها عشات قصة حب وهمية مع من ظنت أنه أحبها بصدق، وكان وفيا لها..

تنهدت فرح بحرارة، ثم وضعت يدها في حقيبة يدها العملية لتخرج الكاميرا الخاصة بها، ثم فتحتها لتتفحصها..
حمدت فرح الله في نفسها أن الكاميرا لم يصيبها مكروه إثر سقطتها المفاجئة، ولكنها تذكرت أيضا لهفة يزيد عليها، فزفرت في انزعاج، فلم يمض على وجودها هنا يومين، وها هي مشغولة الفكر بذلك الفظ.
أخرجت فرح هاتفها المحمول هو الأخر من الحقيبة، ثم عبثت به لترى رسالة رفيقتها إيلين، ومكالمة فائتة من والدتها..

قررت فرح أن تهاتف والدتها لتطمئن على أحوالها، ثم من بعدها تهاتف إيلين لتثرثر معها..

في غرفة آدم بالمبني السكني
دلف آدم خارج المرحاض بعد أن اغتسل وبدل ثيابه ببنطال من القماش ذو لون رمادي، وتي شيرتا أبيض اللون، ثم مشط شعره بيده، وألقى بنفسه على الفراش، واستند بظهره للخلف، ثم أمسك بهاتفه المحمول ليتصل بزوجته شيماء ويطمئن عليها..
أجابت شيماء على اتصاله و..
-شيماء هاتفيا بنبرة متلهفة: حبيبي، وحشتني أوي
-آدم هاتفيا بنبرة دافئة: انتي اكتر يا بكيزة قلبي، ومارلين مونرو حبي.

-شيماء متسائلة بنبرة ناعمة، ونظرات اشتياق: هترجع امتى بقى؟
-آدم بهدوء: هو أنا لحقت، اديني أد اسبوعين ولا حاجة عقبال ما أعرف اخد أجازة تاني
-شيماء بإنزعاج: ياه، اسبوعين
-آدم بتوجس، ونظرات متعشمة: إدعي ربنا إنها ماتزدش عن كده، محدش عارف الظروف
-شيماء بتنهيدة حارة، ونظرات راجية: يا رب يجيبك بالسلامة، ويقصر المدة
-آدم متسائلا بصوت رخيم: اومال نانوسة عين أبوها فين؟
-شيماء بصوت ناعم: بتلعب أودامي.

-آدم بنبرة حانية، ونظرات هادئة: سلميلي عليها أوي، وبوسيهالي هي وأمها
-شيماء بخجل: حاضر، المهم طمني انت على أحوالك؟

وضع آدم يده خلف رأسه، ثم...
-آدم بنبرة جادة: الحمدلله تمام..
صمت آدم لثوان وكأنه تذكر شيئا ما و...
-آدم بنبرة حماسية: مش هتصدقي يا شيموو لما أحكيلك على اللي حصل مع يزيد من يومين
-شيماء متسائلة بفضول: في ايه؟

سرد آدم لزوجته بإيجاز عن لقاء يزيد الصادم مع فرح تلك الصحفية والمصورة في نفس الوقت، واشتباكه الدائم معها، وكيف تدخل هو من أجل تخفيف حدة الأجواء بينهما...
امتعض وجه شيماء، وشعرت بالغيرة و...
-شيماء بنبرة مغتاظة: واضح إن مش بس البت دي شقلبت كيان صاحبك
-آدم بجدية، وهو يغمز: وهو أنا بتاع كده برضوه يا شيموو؟

-شيماء بحنق: ده انت أبو كده نفسه، ما بتصدق تلاقي واحدة حلوة وعلى طول تلزقلها، وهاتك يا رغي وحكاوي وياها
-آدم ضاحكا: هههههههههه، يا بت ده مافيش في القلب اللي انتي
-شيماء بضيق زائف: وهي حلوة على كده؟
-آدم بنبرة مازحة: الصراحة، هي تقول للقمر قوم اقف وانت بتكلمني
-شيماء بنبرة حانقة: بقى كده، طيب يا آدم، أما أشوفك
-آدم بهدوء، وبنبرة عميقة: أموت وأشوف شكلك الوقتي، بحبك وانتي حتى متعصبة.

-شيماء بنبرة متعصبة: لأ ماتكولنيش بكلامك ده، أنا مش مصدقاك.

حاول آدم أن يتحكم في نفسه كي لا ينفجر ضاحكا من طريقة شيماء العصبية التي يتخيلها، ثم أخذ نفسا عميقا وزفره على مهل و..
-آدم بنبرة متمهلة: وهو أنا جابني على جدور رقبتي إلا حبك ليا..
ظل آدم يداعب زوجته بالكلام الطيب والمعسول حتى هدأت عن عصبيتها، وعادت إلى طبيعتها و...
-شيماء بدلال: انا مش عارفة انت ازاي بتضحك عليا بالشكل ده، وأنا زي الهبلة بصدقك
-آدم بمزاح: عشان أنا العربي سيطرة.

-شيماء بنبرة محذرة: والله
-آدم بتوجس: بهزر بهزر، المهم خدي بالك انتي من نفسك وملكيش دعوة بحد
-شيماء مبتسمة بعذوبة: حاضر يا حبيبي، وانت كمان خلي بالك على نفيك، وملكش دعوة بالبت دي
-آدم بنبرة جادة: لأ اطمني، أنا مش هاشيل عيني من عليها
-شيماء بنبرة حادة: آدم...!

في غرفة فرح بالسكن الخاص بالضباط
بعد أن أنهت فرح المكالمة الهاتفية مع والدتها، اتصلت بإيلين وسألت عن أحوالها، فأخبرتها إيلين خلال المكالمة عن زيارة الأستاذ بركات – والد كريم - المفاجئة لها في المكتب، قطبت فرح جبينها في استغراب، و...
-فرح متسائلة هاتفيا بإهتمام: طب هو مقالكيش كان عاوزني في ايه؟
-إيلين هاتفيا بإيجاز: لأ..
-فرح بنبرة متوجسة: طب جالي ليه الوقتي.

-إيلين وهي تمط شفتيها: مش عارفة، بس الواضح إنه موضوع مهم
-فرح على مضض: أنا بعد اللي حصل، معنتش حابة أعرف أي حاجة عن العيلة دي، هما ناسيين عملوا فيا ايه، ولا مش مكفيهم بهدلتهم ليا بعد حتى ما مات
-إيلين وهي تعض على شفتيها: مش يمكن يكون جاي يعتذر عن اللي مراته عملته معاكي
-فرح وهي تلوي فمها في تهكم: لأ معتقدش، هما مش من النوع ده..

صمتت فرح قليلا لتبتلع ريقها في مرارة خاصة بعد أن تذكرت ما حدث في منزل عائلة كريم و...
-فرح بنبرة مريرة: يا إيلي إنتي بنفسك شوفتي مامت كريم بهدلتني ازاي وحملتني ذنب موته رغم إنها عارفة كويس إن ده قضاء ربنا، دي بدل ما تطبطب عليا وتواسيني وخصوصا بعد ما عرفت الحقيقة، لأ شتمتني وطردتني..!
-إيلين بنبرة آسفة: معلش يا فرووح، بكرة أحسن.

-فرح بتهكم: بمناسبة بكرة، أنا عاوزة اقولك إن اللي اسمه المقدم يزيد ده ناوي يطلع عيني، وشكله ناويلي على نية فلة
-إيلين متسائلة وهي تعقد حاجبيها باستغراب، وبنبرة فضولية: مين المقدم يزيد ده كمان؟
-فرح بإقتضاب وخفوت: ده رئيسي في الوحدة
-إيلين بنبرة مهتمة، ونظرات مشرقة: لأ أنا عاوزة أعرف كل حاجة بالتفصيل، مش تكروتيني كده...

ظلت فرح تثرثر مع إيلين حول صدامها مع يزيد، وتسرد لها ما فعله ويفعله معها منذ أول لحظة لقاء بينهما..
تنهدت إيلين بحرارة وهي تصغي لما تقوله فرح و...
-إيلين غامزة، وبنبرة خبيثة: واضح كده إنك هاتطلعي بحاجة من الموضوع ده
-فرح بنبرة منزعجة وجادة: إيلين أنا مش بحب كده
-إيلين بهدوء حذر: خلاص يا فرووح، أنا مقصدش، ده أنا بهزر معاكي
-فرح بنبرة حازمة: انتي عارفة كويس يا إيلين إن أنا مش كده.

-إيلين بتوجس: أووف، طالما بتقوليلي إيلين يبقى انتي زعلانة مني بجد، سوري يا فروووح أنا مقصدش يا حبي، بليز سامحيني.

زفرت فرح في انزعاج، و..
-فرح بنبرة ضائقة: ربنا يسهل، أنا هاقفل بقى عشان عاوزة أنام
-إيلين بنبرة راجية: لالالا، مش قبل ما تقوليلي إنك سامحتيني
-فرح بإقتضاب: باي يا إيلين...!

أنهت فرح المكالمة مع إيلين، ثم ألقت بهاتفها على الفراش دون إكتراث، وظلت تزفر لأكثر من مرة بضيق، فتلميحات إيلين أثارت انزعاجها، وهي تخشى أن تتحول تلك التلميحات والشكوك لأمر واقعي، لذا عقدت فرح العزم على أن تكون جادة في تصرفاتها حتى لا تترك المجال ليزيد أو لغيره لكي يقتحم حياتها..

نهضت فرح عن الفراش، ثم سحبت المقعد البلاستيكي الموضوع أمام الطاولة الصغيرة، وجلست عليه، ومدت يدها في اتجاه حاسوبها المحمول لتفتحه، وتبدأ العمل الكتابي عليه، فهي تبحث عما يشغل بالها عن التفكير فيما أثارته إيلين بتلميحاتها..

انتهت فرح من كتابة الجزء الأول من تقريرها الصحفي، وأرادت أن تدعمه بالصور، فإستدارت برأسها للخلف لتبحث بعينيها عن الكاميرا الخاصة بها، ثم نهضت عن المقعد، وسارت في اتجاه الفراش، وأمسكت بالكاميرا، ثم أغلقتها لتسحب كارت الذاكرة الخاص بها، وتوصله بحاسوبها المحمول..

تفقدت فرح الصور التي التقطتها اليوم، وتفحصتهم بعناية من أجل إنتقاء الأفضل لترفقهم مع تقريرها الأول، ولكنها انتفضت فجأة فزعة في مكانها، حينما وجدت صورة واضحة لوجه يزيد تملأ شاشة حاسوبها..

عادت فرح بذاكرتها للوراء محاولة تذكر كيف التقطت تلك الصورة، وبالفعل تذكرت أنها التقطتها دون قصد حينما وقف أمامها فجأة وهي تصور العلم الذي كان يرفرف عاليا، فضغطت بيدها على زر التصوير فكان وجهه هو من حاز على تلك اللقطة المفاجئة..

توردت وجنتي فرح قليلا وهي محدقة في صورة يزيد المضيئة على شاشة حاسوبها، فقد كانت عينيه مسلطتين عليها، وكأنه بالفعل متجسد أمامها، فإرتبكت في جلستها، ومدت يدها مسرعة لتغلق الجهاز، ثم نهضت عن المقعد وركضت ناحية الفراش، لتلقي بنفسها عليه، وتتدثر كليا بالملاءة لتختبيء من صورته التي حفرت بذاكرتها رغما عنها...

في غرفة يزيد بالسكن
خاصم النوم جفني يزيد، وظل مستيقظا معظم الليل يفكر في تلك الفتاة الغامضة..

لم يكف عقله عن التفكير في سبب إدعائها أنها متزوجة، وكيف انها بحركاتها البسيطة العفوية قد بدأت تستحوذ على تفكيره الذي كان قد تحول لكتلة من الصخر المتحجر، وقلبه لقلعة حصينة حيث كان محظورا عليه أن يسمح لأي امرأة مهما كانت أن تلامس عقله، أو أن تثير قلبه، فكيف تجرأت تلك الفتاة أن تتسلل إلى عقله، ثم مجددا راودته ذكرياته مع هايدي الآليمة، وكيف أنها دمرت حياتهما معا رغم حبه الشديد لها...

نهض يزيد عن الفراش، وظل يتحرك بعصبية في أرجاء غرفته، ثم تمدد بجسده على الأرضية الصلبة ليمارس رياضة الضغط ليخرج طاقته الزائدة والمشحونة من عقله لعله يهدأ قليلا...
بعد عدة ضغطات سريعة ومتتالية، توقف يزيد عن الحركة، ثم نهض عن الأرضية، واعتدل في وقفته، وسار في اتجاه النافذة، ثم فتحها، ووقف يستنشق هواء الليل البارد ليبرد تلك النيران المتأججة في صدره..

بعد برهة شعر يزيد بأن هواء البحر قد خفف من حدة تلك الهموم المثقل بها صدره، فأغلق النافذة، ثم اتجه إلى الفراش ليتمدد عليه وهو واضع لكلا ذراعيه خلف صدره، ثم حدق بسقف غرفته، فتجسدت أمام عينيه صورة فرح، فابتسم عفويا، فطيفها يشبه البلسم الذي يداوي الجروح، استكان جسده وهو يتذكر لقائهما سويا منذ أول لحظة إلى الآن، فارتخت تعبيرات وجهه و...
-يزيد بخفوت شديد وهو مبتسم: فراشتي..!

ثم أغمض يزيد عينيه ليغفو بعد ذلك اليوم المرهق...

في صباح اليوم التالي
ومع صوت تلك الصافرة المزعجة، نهضت فرح مذعورة من فراشها، ثم نظرت إلى الساعة الموجودة بهاتفها المحمول فوجدت أنها الخامسة والنصف صباحا، فزفرت في انزعاج، هي مازالت مرهقة، ولم تنم جيدا بعد أن ظلت تفكر في كل ما حدث وما مرت به، وها هي الآن عليها أن تستعد لأيام مليئة بالمفاجآت..
نهضت فرح عن الفراش على عجالة، ثم دلفت إلى المرحاض، واغتسلت، وبدلت ثياب نومها الرياضية بملابس كاجوال..

ارتدت فرح بنطالا مصنوعا من الجينز، ذو لون أزرق داكن، ثم ارتدت كنزة قطنية مخططة تجمع بين اللونين الأبيض والكحلي على التوازي، وذات فتحة صدر دائرية، ومن فوق الكنزة ارتدت سترة ثقيلة من اللون الأبيض لكي تدفئها، ولفت حول عنقها وشاحا من اللون الكحلي..
مشطت فرح شعرها، ثم عقصته ذيل حصان، ووضعت على مقدمة رأسها شريطة شعر رفيعة من اللون الأبيض..

أخذت فرح نفسا عميقا، ثم زفرته على عجالة، وجمعت متعلقاتها في حقيبة يدها الجينز العملية، ثم ارتدت حذائها الرياضي الأبيض، وملأت حقيبة أخرى صغيرة بملابس تكفيها ليومين، وحاولت قدر الإمكان أن تجعل هناك قواسم مشتركة بين الثياب حتى لا تضطر لأخذ الكثير معها..

تناولت فرح على عجالة مشروبا منعشا، وبعض قطع البسكويت لكي تمدها بالطاقة، هي عادة لا تفطر، ولكنها لا تريد للجوع أن يسيطر عليها، فهي لا تعرف نوعية الطعام الذي سيقدم لها هناك على متن الفرقاطة..
وضعت فرح هويتها الخاصة حول عنقها، ثم جابت ببصرها الغرفة لتتأكد من أنها لم تنس أي شيء، ثم توجهت ناحية باب الغرفة، ومن ثم دلفت إلى الخارج...

سارت فرح بخطوات سريعة في الرواق حتى تتجه إلى الدرج الجانبي الموجود في نهايته..
تسمرت فرح في مكانها حينما وجدت يزيد ينزل على الدرج من الطابق العلوي ويقف في مواجهتها، ومسلطا لبصره عليها..
اكتست وجنتيها سريعا بحمرة الخجل، وتراجعت خطوة للخلف لتفسح له المجال لكي يمر أولا حتى تتجنب أن تحديقه المستمر بها..
وقف يزيد في مكانه، واعتلت زاوية فمه ابتسامة هادئة و..
-يزيد بصوت رجولي عميق: واضح انك هتخيبي ظني فيكي.

رمشت فرح بعينيها في عدم فهم وحيرة، وظلت متسمرة في مكانها و...
-فرح متسائلة بنبرة متحشرجة: آآ، قصدك ايه؟

وقف يزيد في مواجهة فرح، ونظر إلى عينيها مباشرة بنظرات ثابتة وقوية، ثم...
-يزيد بنبرة واثقة: كنت مفكر إنك هتهربي.

فغرت فرح شفتيها في دهشة، ورمقته بنظرات استغراب و...
-فرح بنبرة حائرة: وأهرب ليه؟ ومن مين...؟
-يزيد بصوت أقرب للهمس: مني يا، يا آنسة فرح...!

ازداد اتساع حدقتي عين فرح البنيتين في ذهول تام، ولمعتا من الصدمة أمامه، وشعرت لوهلة أنها عاجزة عن التنفس، وفغرت شفتيها أكثر، ولم تجرؤ على التعقيب..
ترك يزيد فرح مصدومة في مكانها، ثم سبقها بخطواته، ونزل على الدرج..
هزأت فرح رأسها في عدم تصديق و...
-فرح لنفسها بنبرة مذهولة: آآ، انسة! طب، عرف إزاي!

أفاقت فرح من شرودها على صوت يزيد العالي بالأسفل وهو ينادي على آدم، فأغلقت فمها، وأخذت نفسا مطولا، ثم...
-فرح بتوجس: ربنا يستر...
نزلت فرح على الدرج بخطوات رشيقة، ثم سارت خلف بعض المجندين والضباط، وتوجهت إلى الميناء، ثم توقفت في مكانها لتنظر إلى الفرقاطة بنظرات متوترة، كما رأت فرح ارتفاع الأمواج عن الأمس، واضطراب حركة مياه البحر فتوجست خيفة في نفسها..

دعت فرح الله في نفسها أن يعينها على ما هي مقبلة عليه..
وضعت فرح يدها على ذراع حقيبتها العملية، وشدت عليه في قلق، ثم سارت بخطوات حذرة في اتجاه الممر المعدني الواصل بين الميناء والفرقاطة..

صعدت فرح على سطح الفرقاطة وهي مرتعدة نوعا ما، فاليوم ستبدأ مغامرة جديدة في حياتها، ربما ستقلب حياتها رأسا على عقب، بالإضافة إلى أنها ستواجه الكثير من التحديات والمخاوف، وعليها أن تتغلب على هذا كله..
لمح آدم فرح وهي تقف حائرة على أحد جوانب الفرقاطة، فتوجه ناحيتها، ثم ألقى عليها التحية، و..
-آدم بنبرة هادئة وهو يشير بيده: تعالي أوريكي هاتقعدي فين
-فرح متسائلة بارتباك: هو أنا المفروض هبات هنا فين؟

-آدم مبتسما، ونظرات ثابتة: أكيد مش على السطح يعني، بصي في أماكن مخصصة تحت للعنابر، ولغرف الماكينات، وكابين خاصة بالنوم، وآآ...
في تلك اللحظة إنضم يزيد إليهما، و..
-يزيد مقاطعا بحسم: آدم باشا، روح شوف شغلك، وسيبلي فرح.

انتبهت فرح لعبارة يزيد الأخيرة، لقد نطق بإسمها دون أي ألقاب، وكأنه رفع التكليف بينهما، وألغى الرسميات..
انصرف آدم من أمامهما، في حين سلط يزيد بصره على فرح، وظل يتفحصها بتمهل و...
-يزيد بجدية، ونظرات إعجاب: برافو، مش جايبة معاكي حاجات كتير.

تعمدت فرح ألا تنظر في اتجاه يزيد، وتركز في أي نقطة أخرى أمامها و..
-فرح بنبرة حرجة ومتلعثمة: احم، أنا، أنا مش بأجيب غير الضروري وبس.

صمتت فرح في ارتباك ملحوظ، بينما ظل يزيد حادقا بها، ومتمعنا في كل إيماءة و حركة تقوم بها، ولاحظ توترها البادي على قسمات وجهها، فابتسم ابتسامة خفيفة، ثم أراد أن يخفف حدة التوتر و...
-يزيد بنبرة هادئة ورخيمة: طب تعالي معايا.

سار يزيد عدة خطوات للأمام، بينما سارت فرح خطوة واحدة و..
-فرح متسائلة بنبرة مرتعدة نسبيا: على فين؟

استدار يزيد برأسه قليلا بعد أن توقف عن الحركة و..
-يزيد بنظرات واثقة، وبصوت آجش ومغتر: ماتخفيش طول ما انتي معايا...!

ابتلعت فرح ريقها في خجل، وشعرت أن هناك حرارة ما تنبعث من وجنتيها، فلمح يزيد ارتباكها الزائد عن الحد، فاستدار برأسه حتى لا يوترها أكثر، وسار للأمام..
لحقت فرح به وهي تحاول جاهدة أن تبدو طبيعية، فهي لا تعرف ما الذي أصابها..
أوصل يزيد فرح لقمرتها التي ستمكث بها طوال فترة إقامتها على متن الفرقاطة..

وأوضح لها كيفية التحرك والتنقل بداخل الفرقاطة، وما الذي يجب عليها فعله لتنهي عملها، وما الذي يجب عليها تجنبه حتى تظل آمنة..
أومأت فرح برأسها، ثم وقف يزيد أمام باب قمرة النوم و...
-يزيد بجدية وهو ينظر في ساعة يده: معاكي ربع ساعة تكوني حطتي حاجتك هنا، وبعدها هستناكي فوق عشان تعرفي النظام هيبقى ازاي خلال المناورة
-فرح بخفوت: اوكي..
انصرف يزيد من أمام فرح، في حين جابت هي ببصرها القمرة، وظلت تتأملها..

كانت القمرة من نفس لون الفرقاطة، أي أنها رمادية لامعة، ولكن بدرجة أفتح، أما حجم القمرة فكان صغيرا، ويوجد بداخلها فراش معدني مثبت وموضوع عليه بطانية بنية اللون، بالإضافة إلى خزانة معدنية صغيرة، وفي أحد الأركان يوجد مرحاض صغير، وعلى الحائط المجاور للباب يوجد عدة أرفف معدنية..

تنهدت فرح في توتر، ثم وضعت حقيبتها الصغيرة الخاصة بملابسها بداخل الخزانة، ثم أسندت على الفراش المعدني حقيبة يدها العملية، و مدت يدها بداخلها لتخرج منها الكاميرا، وهاتفها المحمول..
أغلقت فرح الحقيبة، ثم سارت في اتجاه باب القمرة، ومن ثم دلفت للخارج، واتجهت ناحية سطح الفرقاطة...
شعرت فرح بإهتزاز بدن الفرقاطة، فأيقنت أنها قد بدأت تتحرك بالفعل، وهنا بدأت رهبة الخوف تجتاحها تدريجيا..

حاولت فرح جاهدة أن تقنع نفسها أن كل شيء سيسير على ما يرام، عليها فقط أن تظل هادئة، وتصرف تفكيرها عن رهبتها من البحر، وتلهي نفسها بأي شيء أخر، وخاصة التصوير..
صعدت فرح على سطح الفرقاطة، وبالفعل رأتها وهي تتحرك مبتعدة عن الميناء، وتتجه إلى عرض البحر..
أخذت فرح أنفاسا سريعة وثابتة، وزفرتها بهدوء حذر..

إزدادت سرعة الفرقاطة وهي تخترق مياه البحر المضطربة، وشعرت فرح بإزدياد السرعة - خاصة عن الأمس، فقد كانت حركتها هادئة إلى حد ما بالأمس القريب، ولكن اليوم الفرقاطة تسير كما لو كانت في سباق مع الزمن...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة